المفاهيم المفتاحية للقرآن والمنهج الدلالي عند توشيهيكو إيزوتسو


فئة :  مقالات

المفاهيم المفتاحية للقرآن والمنهج الدلالي عند توشيهيكو إيزوتسو

المفاهيم المفتاحية للقرآن والمنهج الدلالي

عند توشيهيكو إيزوتسو*

من البيّن أنَّ التَّشديد على مسألة الموضوعيّة أثناء قراءة النَّصّ القُرآني في الدِّراسات الاستشراقيّة يقع في صميم البحث العلمي الذي وجب الالتزام بقواعده؛ وذلك ما سار على خُطاه المستشرق الياباني توشيهيكو إيزوتسو الذي تميَّز بمعرفته الرَّصينة للثَّقافة العربيّة الإسلاميّة، ودراسته لقضايا علم الكلام والتَّفسير والفلسفة الإسلاميَّة، كما أنَّه كان ملّما باللُّغة العربيّة والأدب العربي، وقد وجَّه جل اهتمامه نحو دراسة النَّصّ القرآني دراسةً تحليليَّةً دلاليةً من أجل تقديم مقاربةٍ جديدةٍ لفهم الدّين الإسلامي.

انطلق المستشرق الياباني إيزوتسو من علم اللغة الحديث وعلم الدَّلالة من أجل قراءة النَّصّ القرآني وتحليل المفاهيم المفتاحيّة في القُرآن. ويعد علم الدلالة في نظره "دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحيّة الخاصة بلغة ما، تتطلع للوصول في النهاية إلى إدراك المفهومين لـ "الرؤية إلى العالم" الخاصة بالناس الذين يستخدمون تلك اللغة كأداة ليس للكلام والتفكير فحسب، بل الأهم، كأداة لمفهمة العالم الذي يحيط بهم وتفسيره. إن علم الدلالة بهذا الفهم نوع من "علم الرؤية إلى العالم" أو دراسة لطبيعة رؤية العالم وبنيتها لأمّة ما، وهذه الدراسة تستهدي بوسائل التحليل المنهجي للمفاهيم الثقافيّة التي أنتجتها الأمّة لنفسها وتبلورت في المفاهيم المفتاحيَّة للغتها"([1]).

إن الهدف من دراسة المفاهيم القرآنيَّة دراسةً تحليليَّةً ومنهجيَّةً تكوين تصور شمولي للكون من خلال قراءةٍ أنطولوجيّةٍ لدلالة النَّصّ القرآني، ولا يقصد هنا بالأنطولوجيا (=مبحث الوجود) كتجربة تجريديّة نظاميّة سكونيّة يخوضها الفيلسوف أثناء تفكيره في المسائل الميتافزيقيَّة، بل إنها أنطولوجيا حركية حيّة وعيانيّة يُستهدف منها قراءة آيات القرآن من أجل فهم الكينونة والوجود أو تشكيل الرؤية القرآنية إلى الكون؛ ويوضح المستشرق إيزوتسو هذه الفكرة قائلاً([2]): "لابد لعلم دلالة القرآن أن يبحث، بشكل رئيس، في مسألة تبَنْيُن عالم الوجود في منظور هذا الكتاب الكريم، وما هي مكونات هذا العالم وكيف تتعالق في ما بينها".

أ -القراءة الدلالية للمفاهيم المفتاحيَّة في القرآن الكريم:

نقطة الانطلاق، في دراسة آيات القرآن عند المستشرق إيزوتسو، تدور في قطب مفاهيميّ ثنائي الأبعاد: "الكلمة- المركز" أو "الكل الموحد" أو "المعنى الأساسي" و"المعنى العلاقي"؛ وهما مفهومان منهجيان من المفاهيم الرئيسة لعلم الدلالة؛ فالأول عبارة عن عنصر دلالي ثابت أو كلمة مفتاحية مهمة تتشكل من حقل مفاهيمي متفرع الدلالات، ويؤدي دوراً مهمّاً وحقيقياً في تشكيل البنية المفهوميّة للرؤية القرآنيّة إلى العالم، ويسميها أيضا بـ "المصطلحات المفتاحيّة للقرآن". ومن بين هذه المفاهيم مثلاً: مفهوم الله، الإسلام، الإيمان، النَّبيّ... إلخ. أما البعد الثاني، فهو يُعنى بدراسة المعاني الإضافية للمفاهيم الأساسيّة ضمن شبكة علائقية مُنظمة مع المفاهيم التي تتفرع منها وترتبط بدلالتها. وعلى سبيل المثال: "إن كلمة "الكتاب" حالما تدخل في النظام المفهومي الإسلامي، ترتبط بعلاقة صميميّة مع كلمات قرآنية ذات أهمية كبرى مثل: "الله"، "الوحي"، "تنزيل"، "نبي"، "أهل" - في التركيب الخاص "أهل الكتاب"، وتعني الناس الذين لديهم كتاب موحى مثل المسيحيين اليهود"([3]).

كمَا يَتسم عمل إِيزوتسو بِكونه عمل على تَتبُّع التَّطَوُّر الدَّلاليِّ الذِي عرفته المصطلحات المفتاحيَّة لِلقرآن مِن خِلَال تقصِّي الوضع الثَّقافيِّ العام لِعَصر مَا قَبْل الإسلام؛ أي العصر الجاهليِّ وَتحلِيل دلالَات هَذِه المفاهيم خِلَال مُقارنتهَا بَين الفترتينِ معًا. ولَا يَكتَفِي إِيزوتسو بِهَذا التَّمييز فحسب، بل إِنَّه وضح أنَّ لُغَة القُرآن ومعاني ألفاظه قد شَهدَت تغيُّرًا دَلالِياً دَاخِل سَيرُورة تاريخيَّة استغرقت قُرَابَة خَمسَة وَعشرِين عامًا، وَمرَّت بِمرْحلتينِ مُختلفتينِ، هُمَا: المرحلة المكِّيَّة والمرحلة المدنيَّة. وَمِن أجل تدعيم هذا الموقف، يستدل قوله برأي المستشرق الألماني ثيودور نولدكه الذي وضح في كتابه "تاريخ القُرآن" أن لُغة الوحي شهدت تحولاً عَميقاً من الناحية الدلاليَّة بعد هجرة الرَّسُول إلى المدينة. زد على ذلك أنه منذ ظهُور الوحي الإسلَامي، بدأ استعمال نفس الشبكَة المفاهيميَّة التي كانت مُتداولة في العصر الجاهلي، ولكن بصيغة مختلفة؛ إذ، تغيرت دلالتها وسياقات استعمالها، ممَّا أدَّى إلى حُدوث تغير جذري في منظُومَة القيم الأخلاقيّة والدِّينيّة وبالتَّالي، تغير جوهري في رُؤية العرب إلى العالم وتَصورهم للوُجُود الإنساني.

هل ظل مفهوم الله القُرآني بنفس المعنى الذي كان مُتداولاً في العصر الجاهلي أم إنه تم القطع مع تلك الدلالات السابقة؟ ثُمَّ، هل كان ثمة بعض القواسم الجوهريَّة، وليس العرضيَّة، بين المفهومين يعبر عنها الاسم نفسه؟

يذهب ايزوتسو إلى تقسيم المعجم الدلالي العربي في تَاريخ الفكر الإسلَامي إلى ثَلاثة سطوحٍ دلاليَّةٍ هي: السطح الجاهلي (=السابق للقُرآن)، والسطح القُرآني، والسطح اللاحق للقُرآن (=العباسي خاصة)، وهي – ثلاثتُها – تُشكِّل حلقات تاريخيَّة تمر بها المفاهيم الدِّينيَّة. ويُخضع إيزوتسو مفهوم الله لهذا التقسيم الدَّلالي قائلاً([4]): "إن اسم الله على سبيل المثال، لم يكن مجهولاً بتاتاً لدى العرب الجاهليين؛ وذلك تؤكده حقيقة أن هذا الاسم لا يظهر في الشعر الجاهلي وفي أَسماء الأعلام المركبة فحسب، بل في النقوش القديمة أيضاً. وإنَّ بعض الناس أو بعض القبائل في الجَزيرةِ العربية على الأقل كانت تؤمن بإله يدعى "الله"، حتى إنهم كانوا يذهبون إلى حد الاعتراف بكونه خالق السماء والأرض، كما يظهر ذلك بسهولة من بعض الآيات القرآنية". وفي أوساط أناس من هذا النوع، فإن "الله" قد منح المرتبة العليا في التراتبية الإشراكية، أعني الأهلية ليكون "رب البيت"؛ أي الكعبة في مكة، بينما نظر إلى الآلهة الأخرى كعدد كبير من الوسطاء بين هذا الإله الأسمى وبين البشر، وينعكس هذا التصور للتراتبيَّة الإلهيَّة بوضوح في القرآن." إنَّ معنى هذا القول هو أن كلمة الله تحمل دلالتين مختلفتين حسب كل من المعجم الجاهلي والمعجم القرآني؛ فلدى الأول الله هو قطب رحى المَنظُومَة الدَّلاليّة للمفاهيم التي ترتَبِط بالكلمة- المركز، والتي تتشعب وتتفرع إلى نظم مفهوميَّة أصغر كالمفاهيم التي ترتبط بالقَضايا الدنيويَّة مثل الطلاق والزواج والإرث... إلخ كلها كلمات جزئية لها عَلَاقة مُبَاشرة مع مفهوم "الله"، في حين أنَّ المعجم الجاهلي لا يتضمن مُصطَلَحات مركزيَة عليا، ولا يشكل الله نواة الحقل الدلالي، بل إن مفهوم "الله" في العصر الجاهلي يوجد مع مفهوم "الآلهة" جنباَ إلى جنب. وهو خالق العالم ومنزل المطر، أي مانح الحياة لكل الموجودات على الأرض.

بقي مفهوم الله الكلمة – المركز يحتل مكانة معتبَرة في المعجم القرآني، وظلت المصطلحات المفتاحيّة للنصّ القرآني خاضعة للسلطة المطلقة لهذا المفهوم الأعلى. ورغم ذلك، فقد طرأ تغير عميق – في السطح الثالث - داخل حقل علم الكلام الإسلامي؛ حيث شهدت "إن بنية مفهوم الله في هذا النظام الجديد قد تحولت أولاً وأخيراً، بفعل دخُوله في عَلَاقة مَفهوميَّة مُباشرة مَع مَا سمي بـ "الأسمَاء الحُسنى التسعة والتسعين"([5]). بمَعنَى آخر، عمل علماء الدّين على البحث في طَبِيعة الذَّات الإلهيَّة وصِفاتها، خاصَّة بعد تأثرهم الكبير بالفَلسَفة الأرسطيّة التي ميزت بين الجواهر والأعراض.

يمكن الإفاضة والتوضيح، في هذا الباب، بسوْق مثالٍ آخر حَول التحليل الدَّلالي لكلمة "التقوى" بوصفها من أكثر المفاهيم القرآنيَّة نمُوذجيَّةً، وواحدة من الأعمدة التي يقوم عليها صرح الطاعة الإسلامي. فقد كانت في الجاهليَّة كَلمة عاديةً تماماً، وتعني بِبساطة، "نوعاً اعتيادياً جدّاً من وضع السلوك الحيواني للدفاع عن النفس مع ما يصاحبه من شعو بالخوف"([6]). لكنه في المعجم القرآني، ارتبط بالكريم أو الأكثر كرماً من بين كل الناس وهو يتخذ موقف التقوى تجاه الله، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"([7]). بعدما كان الكريم في النظام الجاهلي يعني "أصالة النسب – رجلاً نبيل المولد يعود إلى سلف شهير بنسب خالص."([8]) وقد امتدح الشعراء القُدامى هذه الخصلة الإنسانيَّة التي تفيد فضِيلة الشجاعة والبسالة في ساحة المعركة:

نُدافِع عَنْ أًحْسَابِنا بِلُحُومِهَا      +++   وأًلْبَانِها، إنَّ الكريمَ يُدافعُ([9])

لقد كان الكرم واحداً من الخصال الرئيسة التي يتصف بها العرب الجاهليّون، والتي تفيد، أيضاً، الكبرياء والرغبة في التظاهر بالكرم والبذخ. ويرفض النصّ القرآني هذا المعنى لهذه الفضيلة، معتبراً أن من ينفق ماله لمجرد متعة التظاهر والبذخ، ليس له إيمان لا باللّه ولا اليوم الآخر، ويتبين ذلك في قوله تعالى: "كَالذي يَنْفِق مَالَهُ رِياءِ النّاس ولاَ يُؤْمِنُ باللّه وَاليوْم الآخر"([10]). وفي موضع آخر يعلن بوضوح أن هؤلاء الذين يبذرون أموالهم بدافع التباهي، ليسوا غير "إخوان للشيطان": "وآت ذا القربي حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا"([11]).

وَإذَا كان مَفهُوم الكرِيم يُمثِّل المبدأ الأخلاقيّ الأمثل فِي النِّظَام الجاهليِّ، فَإِن المعنى الدَّلاليَّ الجدِيد لِهَذا المفهوم قد تَغيَّر فِي المُعجم الدَّلاليِّ الإسْلاميِّ؛ إِذ أصبح مفهوما التقوى والكرم يشكلان مبدأين أساسيّين من مبادئ المنظومة الأخلاقيّة للدّين الإسلامي؛ فالكريم هو "المؤمن الذي - بدلاً من أن ينفق ثروته بصورة عمياء وبلا تفكير، من أجل المباهاة حصراً- لا يتردد في إنفاقها من أجل هدف محدد ونبيل حقاً بالمفهوم الجديد، أعني في الصدقات: (في سبيل الله) ويكون حريصاً، دوماً، على بلوغ السعادة الوسطى بين الإسراف المحض والبخل المحض، وَهذَا مَا يَتَأتَّى مع الدَّافع الدِّينيِّ العمِيق الخاص بـ "التقوى"([12]).

يَتَبيَّن إِذن، مِن خِلَال مَا سبق، أنَّ مَنهَج عمل المستشرق إِيزوتسو، الذِي عَوَّل على نجاعَته فِي تَقدِيم مُقَاربَة عِلميَّة جَدِيدَة لِدراسة بِنيَة المفاهيم القرآنيَّة، هُو مَنهَج عمل مُحكم وموزون، يَعتَمِد على دِراسة تحليليَّة دَقِيقَة لِدلالات المفاهيم الدِّينيَّة مِن جِهة، والعَمل على إِخضاعهَا لِلمنهج التَّاريخيِّ المقارن، وَتَتبَّع كَيفِية تبلورهَا فِي التَّاريخ، أَثنَاء العصر الجاهليِّ، أي مَا قَبل الإسلام وَفِي الفترة الإسلاميَّة مِن جِهة ثَانِية.

ب - إشكالية الوحي عند إيزوتسو:

قَدَّم إِيزوتسو الخصائص البنيويَّة العامَّة لِلتَّواصل الإلَهيِّ كمدخل لِمناقشة مَسأَلة الوحي الإلَهيِّ، ويقسِّم هَذِه العلاقة التَّواصليَّة بَين الإنسان وَاللَّه فِي المنظور القرآنيِّ إِلى قِسمينِ اثنينِ، هُمَا: مِن اللَّه إِلى الإنسان، وَمِن الإنسان إِلى اللَّه.

وَيهمنَا، فِي هذَا المقام، أن نُبيِّن طَبِيعَة العلاقة التَّواصليَّة مِن اللَّه إِلى الإنسان لِمَا لِذَلك من أهمية في توضيح البنية الدلاليّة لحدث الوحي، والتساؤل عن كيفية تنزيل هذا النصّ القرآني باعتباره وحياً إلهياً إلى الإنسان "الرسول". ويقصد بفعل "التنزيل" في المعنى الاشتقاقي للكلمة "الانتقال من أعلى إلى أسفل"؛ أي جعل شيء ما يهبط وينزل"([13])؛ أي إن الوحي هو كلام إلهي منزل إلى الرسول. والحق أن المستشرق الياباني إيزوتسو لم يكتف بهذا المعنى الشائع والمتداول لمفهوم الوحي في الثقافة الإسلامية، وإنما أثار بَعْض القضايَا الممنوع التَّفكير فِيهَا دَاخِل هَذِه الثقافة، ومن أظهر هذه المسائل: طبيعة التواصل بين الله والرسول.

هل شَهِد مَفهُوم الوحي تغييرًا دَلالِيًّا بَين مَرحَلة العصر الجاهليِّ وَفترَة الإسلام؟ هل يُمكِن تَحقق فِعل التَّواصل اللُّغَويِّ بَين الموحي والموحى إِلَيه بالرَّغم مِن التَّفاوتِ الأنطولوجيِّ الذِي يَحكُم طبيعتهمَا؟ ثُمَّ مَا هِي شُرُوط التَّواصل بيْنهمَا؟

لكي نجيب عن هذه الإشكالات المؤرقة، سنحاول، في ما يلي، أن نقرأ الدراسة الفكرية لمسألة الوحي عند إيزوتسو من مدخلين أساسيين وفق المعجم الدلالي للمفهوم؛ هما:

أوّلها؛ تَعدُّد المعاني التِي يتضمَّنهَا الوحي فِي الوعي العرَبيِّ قَبل الإسلام، نظرًا إِلى ارتباطهَا بِظواهر كَانَت مُنتشرَة لَدى العرب الوثنيِّين، وسميت بـ "الشامانيَّة"، وتعني؛ "تلبس كائن ما غير مرئي خارق للطبيعة فجأة شخصاً ذا استعداد للانجذاب الوجدي، للحظات، ويتلفظ من خلاله بكلمات مشبوبة العاطفة، غالباً ما تكون على شكل أبيات لا يستطيع الإنسان تأليفها بنفسه أبداً في الأوقات الاعتيادية؛ أي التي لا يكون منجذباً فيها"([14]). وَيمكِن التَّنفيل فِي بَيَان الصلَة بَين ظَاهِرة الشَّامانيَّة والكاهن والشَّاعر؛ مِن طريق بَيَان أنَّ الشَّاعر كان يَشعُر بِنَوع مِن الإلهام الدَّاخليِّ أَثنَاء كِتابَته لأبياته الشعرية، وكأن وحياً ينزل عليه من أعلى، و"يصف حسان بن ثابت تجربته الشعرية بهذه الطريقة:

وقافية عجّت بليلٍ رزينةٍ     ++++ تلقّيت من جو السماء نزولَها"([15])

مَا مِن غَرابَة، إِذن، فِي أن تَسُود فِكرَة أنَّ النبِي مُحمَّد مُجرَّد شَاعِر مَجنُون عِند العرب الوثنيِّين، وَعدَم قُدرَة العرب على التَّمييز بَين الشَّاعر والنَّبيِّ، بدعوى أن ما يلهمهما بتلك الأبيات الشعرية هو الجني، خاصةً وأن مسألة الوحي كانت معروفة في العصر الجاهلي، لكنها لم تكتس صبغة التقديس والتبجيل كما الحال عليه في النظام الإسلامي. وفي هذا الصدد، يوضح إيزوتسو الفرق القائم بين الشاعر والنبي قائلاً([16]): الشاعر "أفاك" بطبيعته، وما يقوله "إفك" محض، وهي كلمة لا تعني بالضرورة "الكذب"، بل تعني شيئاً ليس له أساس من الحث أو الصدق (...). فِي حِين أنَّ مَا يقوله النبِي حَقِيقَة، وحق مُطلق، ولَا شَيء آخر غَيرِه. وعليه، على الرَّغم مِن التَّشابه الظَّاهريِّ بَين النُّبوَّة والشَّامانيَّة، إِنَّ هُنَاك اختلافًا جَوهرِيا دَاخِل بِنيَة كُلِّ مِنْهمَا.

ثانيها؛ يعرف إيزوتسو مسألة الوحي، تعريفاً دقيقاً بقوله([17]): "إنه سلوك كلامي عيانياً، وكلام يماثل le parole بمصطلحات علم اللغة الحديث. والكلام في المصطلح السوسوري، تواصل لغوي يحدث في موقف معين بين شخصين، واحد يؤدي دوراً فاعلاً، والآخر يؤدي دوراً منفعلاً (أ= ب)". يتبين من خلال هذا التعريف، أنَّ إيزوتسو اهتم بتحليل تجربة الوحي، ورام تقديم موقفين: يتمثل الموقف الأول - اعتماداً، على مجال اللسانيات عند فردينان دي سوسير الذي أسس علم اللغة الحديث- في دراسة ظاهرة الوحي باعتباره كلاماً إلهيّاً. والكلام (Parole)، في المصطلح السوسوري، تواصل يحدث في موقف معين بين شخصين، بمعنى أوضح، إن على (أ) أن يتكلم اللغة التي يمكن ل (ب) أن يفهمها، كي يكون هناك تواصل لغوي فعال(...). في الوحي القرآني، يكلم الله (أ) محمدا (ب) بلغة (ب) التي هي العربية"([18]). أما الموقف الثاني، فإنه يحيل إلى التفكير في التصور الأنطولوجي لطبيعة كل من الله والنّبيّ؛ فهما مختلفان ماهويًّا من ناحية نظام الوجود، لكن العلاقة بينهما علاقة عمودية؛ فاللّه يوجد في الأعلى ممثلًا في قمة سلم الوجود، والإنسان يوجد في الأسفل ممثلا لمستوى أدنى من الوجود.

قد يسأل سائل: كَيف يُمكِن لِعلاقة وُجودِيَّة غَير اعتياديَّة أن تتحقَّق تواصلاً لُغَويًّا بَين اللَّه والإنسان؟

للإجابة عن هذا الإشكال، استند إيزوتسو إلى تفسير الكرماني في كتاب "صحيح البخاري" لحسم الجدال في هذه القضية، ويوضح قائلاً([19]): "ثمة طريقان ممكنان: إما أن على السامع (ب) أن يخضع لتحوّل شخصي عميق تحت التأثير الساحق لقوة المتكلم (أ) الروحية، أو أن على المتكلم أن يتنازل ويكتسب خاصية السامع بطريقة ما". ويؤكد إيزوتسو أن حدث الوحي من أعقد المسائل الدينية بسبب ما يكتنفها من غُمُوض ومِن عَدِم قُدرة العقل الإنساني على تحلِيلها تَحلِيلاً علميًّا. ومن ثمة، لا يُمكن أَن نَتَحَدث عَن الوحي بوصفِه كَلَاماً مادياً شَأنه في ذلك شأن الكلام الإنساني. لذلك، يبين إيزوتسو أن هناك كائناً غامضاً بين الله ونبيه، ينزل الكلمات الإلهيَّة على قلبه. ويَستَشهِد بقوله تَعَالى: "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِمَه الله إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب أَوْ يُرسل رَسُولاً فَيُوحِي بِإذْنِهِ مَا يَشَاء"([20]). ومن هُنَا، يتوضح لنا أَنَّ هُناك ثَلاثة عَنَاصِر تحقق التواصل اللفظي هم: الله (أ)، جبريل (و)، النبي (ب). ودور جبريل كوسيط بين كلام الله والنَّبيّ، من خِلَال أَشكَال الوحي المختلفة، هي "تواصل غامض، نكلم من وَرَاء حجاب، إرسَال الرَّسول"([21]).

***

حظي عِلم الدَّلَالة بِمَكَانة مُعتَبَرة في فَلسفة المُستشرِق الياباني إيزوتسو؛ لأنه يعكس البنية الثَّقافيَّة التي يَعِيشها المُجتمع وكَيفِيَة تَطور المفَاهيم دَاخِل السيرورة الاجتِمَاعيَّة، والتي تُفضي – لامحالة- إلى تَشييد رُؤية خَاصَّة إلى العالم والكَينُونة. وقد اكتسب هذا العلم قِيمةً مُضافةً عند إيزوتسو أثناء دراسة النَّصّ القُرآني دراسةً دلاليَّةً تحليليةً لمفاهيمه الثقافيَّة المفتاحيَّة، وتقديم دلالاتها حسب السياق التاريخي الذي استعمل فيه المفهوم، مع عقد مقارنات بين معاني المصطلحات في كل من النظام الجاهلي والنظام الإسلامي، من أجل الكشف عن الرؤية الجَدِيدة التي كونها القُرآن الكريم عن زمنه. وليس من قبيل المُجازَفة القول إن معدل الجُرأة العالي الذي تحلى به إيزوتسو في دراسة النَّصّ القُرآني، من خلال منجزات علم اللغة الحديث بكل منهجياته وقواعده، هو دَعوة ضمنية إلى إعادة التَّفكير فِي النَّصّ القُرآني من خارج الدوائر الضيقة التي فَرضتها المدونة التَّفسيريَّة الإسلاميَّة الكلاسيكيَّة التي انجرفت وراء التأويلات السطحيَّة لهذا النَّصّ.

* توشيهيكو إيزوتسو: ولد في طوكيو سنة 1914 وتوفي في 1993، تخرج من جامعة كيو، طوكيو. ثم درّس فيها كأستاذ وكعضو في الأكاديمية اليابانية بين عامي 1954-1968، من أهم إنجازاته: ترجمة القرآن الكريم إلى اليابانية، ومن أهم أعماله: بينة المصطلحات الأخلاقية في القرآن الكريم، كتاب مفهوم الإيمان في الدّين الإسلامي، الله والإنسان في القرآن – علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، تاريخ الفكر الإسلامي.

([1]) توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة وتقديم: هلال محمد الجهاد (بيروت: المنظّمة العربيّة للتّرجمة؛ مركز دراسات الوحدة العربية، 2007)، ص 34

([2]) المصدر نفسه، ص 34

([3]) المصدر نفسه، ص 46

([4]) المصدر نفسه، ص 38

([5]) المصدر نفسه، ص 89

([6]) المصدر نفسه، ص 80

([7]) القرآن الكريم، "سورة الحجرات"، الآية 13

([8]) المصدر نفسه، ص 80

([9]) عن أبو علي أحمد بن محمد المرزوقي، شرح ديوان الحماسة، نشره أحمد أمين وعبد السلام هارون، 4 ج (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1951 – 1953)، القطعة 746، البيت 2، الشاعر المخضع القيسي. توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ص 82.

([10]) القرآن الكريم، "سورة البقرة"، الآية 264

([11]) القرآن الكريم، "سورة الإسراء"، الآيتان 26 – 27

([12]) توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ص ص 82-83

([13]) المصدر نفسه، ص 242

([14]) المصدر نفسه، ص 256

([15]) المصدر نفسه، ص 290

([16]) المصدر نفسه، ص 272

([17]) المصدر نفسه، ص 262

([18]) المصدر نفسه، ص 263

([19]) المصدر نفسه، ص262

([20]) القرآن الكريم، سورة الشورى، الآية 51

([21]) توشيهيكو إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ص 277.