الملاح: سكن يهود المغرب
فئة : مقالات
الملاح: سكن يهود المغرب
يمتاز المغرب بتنوعه الإثني والعرقي والديني، ما جعله يمتاز بغنى حضاري وتراثي ومعماري فريد؛ فقد تعايشت على أرضه ديانات مختلفة: يهودية ومسيحية وإسلامية، عاش أفرادها في تساكن وتعايش، تشاركوا الأفراح والأتراح، التقاليد والعادات بل حتى أحياءهم السكنية، إلا أن ما يميز يهود المغرب على مستوى السكن، عيشهم في أحياء خاصة بهم عرفت باسم الملاح أو الحي اليهودي، وهو موجود في غالبية المدن العتيقة المغربية؛ فاس ومكناس وسلا والرباط والصويرة ومراكش. فماذا نعني بالملاح؟ وما سبب تسميته والهدف من بنائه؟ وماهي خصوصياته؟ هل هو مجال لعزل اليهود أو مجرد إجراء فرضته ظروف أمنية؟ وما هو حاله اليوم؟
في تعريف الملاح وتسميته وأسباب إنشائه
سكن اليهود القدامى المدن الكبرى في وسط وجنوب المغرب وفي الواحات والقرى الجبلية، بينما استقر الوافدون من الأندلس في المدن الساحلية الكبرى في الأماكن التي كانت تشتهر بأنشطتها الاقتصادية خاصة في مجال التجارة الداخلية والخارجية مثل الرباط وطنجة، ثم انتقلوا إلى المدن الداخلية كفاس ومكناس، وكانت لليهود أحياء خاصة بهم هي الملاح.
الملاح، هو لفظة تعني الأحياء الخاصة باليهود، وهو عبارة عن تجمع سكاني تجاري وحرفي خاص باليهود، قد يكون حيًّا داخل المدينة العتيقة، أو دوارا بين دواوير قروية بالسهل والجبل. وتمركز اليهود في أحياء خاصة ظاهرة قديمة، تشهد عليها أنهم يعيشون في جل بلاد المشرق العربي والأندلس في العصر الوسيط في هيئة جماعات منفصلة عن باقي السكان المسلمين داخل أرباض أو دروب مغلقة. وتمتاز ملاحات المغرب، بوجودها في مكان منعزل بعيدا عن منازل المسلمين وقربها غالبا من القصر السلطاني، وهي عبارة عن قلعة محصنة بقلب المدينة العتيقة، ولها عدة أبواب تفتح نهارا وتغلق ليلا، ومنازلها أشبه بمنازل المسلمين في بنائها وهندستها ومواد بنائها.
واختلفت الآراء والروايات حول أسباب التسمية؛ فمنهم من أرجعها لكون بناء أول ملاح تم في مكان توجد فيه ملاحة، وآخرون أرجعوها لكون اليهود كانت تسند لهم مهمة تمليح رؤوس المعارضين والمتمردين من أعداء المخزن والسلطان، لتعليقها في أبواب المدن والأسواق الكبرى ردعا للأعداء، بينما أرجع آخرون أن الاسم مشتق من لفظ "لاح"؛ أي المرمى لأن اليهود قذف بهم البحر بعد الهجرة القسرية من الأندلس "الماء لاح" لتصبح الملاح.
هي مجرد روايات لم يتم الحسم في مدى صحتها، ليبقى لغز التسمية قائما.
أما أسباب إنشائه، فيمكن تلخيصها في نقطتين مهمتين:
- رغبة المخزن في حماية اليهود حسب ما تنص عليه الشريعة الإسلامية، وخدمة لبعض المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد تزايد النزاعات بين المسلمين واليهود الذين ازدادوا قوة بعد استقبال اليهود المهاجرين من الأندلس، ولزيادة الوعي الإسلامي في ظل حكم الأشراف المراهنين على حماية الإسلام.
- رغبة اليهود في السكن منعزلين عن المسلمين، ليتمكنوا من ممارسة شعائرهم الدينية دون إزعاج المسلمين.
وقد لعبت ملاحات اليهود دورا مهما في حماية الشخصية اليهودية، ومنحها استقلالا لتسيير شؤونها الدينية والاجتماعية.
ملاحات يهود المغرب: عزلة أم تعايش
ظهر أول ملاح بمدينة فاس في عهد الدولة المرينية، والذي تضاربت بخصوصه الروايات حول سبب عزل اليهود في حي خاص بهم، والتي انحصرت جلها في احتلال سبتة سنة 1415 من طرف البرتغاليين وتنامي العداء لغير المسلمين، ورأي آخر يرى أنه بسبب اكتشاف قبر المولى إدريس الثاني سنة 1438 وتحول فاس البالي إلى مكان لا يدخله سوى المسلمين. وقد وصف لنا روجي لوطورنو في كتابه "فاس قبل الحماية"، ملاح المدينة بقوله: ".. إن خرج من باب السمارين، وعبر باب الحي اليهودي (باب الملاح)، غادر أزقة ضيقة ملتوية مظلمة، محاطة بدور ذات طبقات عديدة، فتحت فيها نوافذ كثيرة مطلية باللون الأصفر أو الأزرق وأبواب مصبوغة بالأحمر القاني، فيتوهم أنه عالم آخر".
أما ملاح مراكش، فبني في عهد أحمد المنصور الذهبي بجوار قصره البديع، وعرف خلال القرن 19 بكثافته السكانية المرتفعة واكتظاظ اليهود به "تعيش أسرة من عشرة أفراد في نفس الغرفة، مقابل كراء سومة خمس فرنكات".
وبني ملاح الصويرة في عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الله، ويقع بجانب البحر، وعرفت المدينة باستقرار اليهود بها بأعداد كثيرة لأهميتها التجارية وانفتاحها على الخارج خصوصا بعد بناء مينائها.
كما سكن اليهود ملاح الرباط، الذي يطل على نهر أبي رقراق وعلى الشارع الرئيس لباب الديوانة، سكنه يهود الأندلس من أصحاب الحرف والتجارة والصناعة التقليدية التي تعلموها في إيبيريا، وعرفوا بانفتاحهم على التجارة الخارجية، خصوصا بعد انتقال الثقل الاقتصادي للمدينة.
إضافة إلى الملاحات التي عرفت بالمدن، سكن اليهود في القرى خصوصا في قصور الجنوب الشرقي، بل كانت قصورهم كقصر أمزرو بالقرب من زاكورة، وتسميات مجموعة من قصور درعة تدل على هذا الاستقرار كبني صبيح وبني حيون بواحة لكتاوة.
وهناك من يرى أن عزل اليهود المغاربة في أحياء خاصة بهم ينم عن غياب التعايش بينهم وبين المغاربة المسلمين، إلا أن الأكيد، والذي تثبته الوثائق التاريخية والروايات الشفوية، أنهم عاشوا في تساكن وانسجام وشاركوا بعضهم احتفالاتهم وأحزانهم وعاداتهم وتقاليدهم منذ غابر الأزمان، وفي مجالات جغرافية مختلفة من البلاد، وكانت لهم حظوة لدى سلاطين المغرب، وتقلدوا مناصب مخزنية مهمة. وتخصيص أحياء خاصة بهم، مرده لظرفية القرن 19 بالبلاد المتسمة بوضعية سياسية مضطربة واقتصادية صعبة، بفعل ضعف السلطة المركزية وتزايد الأطماع الأجنبية من أجل احتلال البلاد، وتنامي موجة الغلاء الشديد للمنتجات، وانتشار الفكر الوهابي بالمغرب وما صاحبه من اشتداد العداء لغير المسلمين، وهذا ما دفع بالمخزن المغربي إلى تجميع اليهود في أحياء خاصة بهم خصوصا في المدن الكبرى، لحمايتهم من جهة، ونشر وتسهيل أدائهم لمعتقداتهم الدينية تنفيذا لسياسة الإسلام القائمة على التسامح الديني في إطار أهل الذمة، وكذلك لتسهيل مراقبتهم من جهة أخرى.
هاجر اليهود وبقيت ملاحاتهم
هاجر يهود المغرب إلى خارج البلاد، تاركين ديارهم وملاحاتهم نحو فرنسا في الفترة من الحرب العالمية الأولى إلى الإنزال الأمريكي سنة1942، لتنشط في الفترة ما بين 1956-1942 على وقع تأسيس دولة إسرائيل وبمساعدة الحركة الصهيونية وبشكل سري، واستمرت حتى ستينيات القرن الماضي ولم تبق منهم إلا أعداد قليلة فضلت البقاء في المغرب.
هاجر اليهود الملاحات، بأزقتها الضيقة وشرفاتها القديمة وواجهات جدران منازلها المصبوغة، والتي تحفظ الذاكرة والإرث اليهودي بالمغرب. وأصبحت حيًّا يقطنه المسلمون، فدخل الملاح مرحلة جديدة سمتها التهميش واللامبالاة، بما يتوفر عليه من تراث معماري وذاكرة تحفظ التعايش والتسامح الديني في بلاد الإسلام.
نافلة القول، يعد الملاح أو الحي اليهودي جزءا من التراث المعماري للمدينة العتيقة المغربية، وملمحا من ملامح التعايش الديني بالمغرب. لذلك وجب إعادة الاعتبار للمدن العتيقة القديمة وما تتوفر عليه من ثراء حضاري ومعماري، كالملاحات عبر إصلاحها والتعريف بها وتثمينها، حفظا للذاكرة الجماعية للمغاربة بمختلف أجناسهم ودياناتهم.
المراجع المعتمدة
عبد الكريم بوفرة، مادة اليهود في المغرب، معلمة المغرب، الجزء22، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، سلا، 2005
أحمد سوالم، ومضات من تاريخ التعليم اليهودي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، متاح على الرابط: https://www.mominoun.com/articles/%D9%88%-3851 تاريخ الزيارة: 2020/5/15
محمد اللحية، حول ظروف تأسيس ملاح مدينة مكناس في عهد المولى إسماعيل (1727-1672)، مجلة هسبريس تمودا، LI (2) 2016
أحمد هوزالي، مادة الملاح، معلمة المغرب، الجزء21، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، سلا، 2005