المنصف بن عبد الجليل: الفكر الدّيني: الإصلاح والتّجديد والتّحديث (الجزء الثاني)
فئة : حوارات
د. نادر الحمّامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذ المنصف بن عبد الجليل، الذي نجدّد له شكرنا على قبوله أن يكون ضيفنا اليوم، لنفيد ممّا يقدّمه ونحاوره في مسائل قد تفتح المجال للباحثين لطرق العديد من القضايا التي هي في حاجة دائماً لإعادة النّظر والبحث. هذا الجزء الثّاني من الحوار ينطلق ممّا انتهينا إليه من مقولة الإصلاح، وهي مقولة كبرى تتعلّق بالإصلاح في بعده الشّامل؛ الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي ومن ضمنه الدّيني أيضاً. فهذه المجالات وإن بدت متباعدة أحياناً ومدار اختصاصات متعدّدة، فإنّها تتقاطع فيما بينها وتتكامل. وفي تقديري إنّ الفصل بينها كان أحد العوائق الكبرى أمام الحركات الإصلاحيّة التي بدأت منذ القرن التّاسع عشر، وظلّت تجزيئية وترميقيّة. وسنوجّه اهتمامنا في إطار هذا التّكامل نحو مسألة الإصلاح الدّيني، الذي يتّهمه البعض بأنّه نتاج مقولة غربيّة لا يمكن إسقاطها على المجال العربي الإسلامي، ويستعيضون عنه بمقولة "التّجديد الديني"، وهو ما يطرح نوعا من الالتباس بين التوجّه العلمي الأكاديمي والتوجّه التّديّني الإيماني. ألا تلاحظ أستاذ المنصف أنّنا عندما نتابع الخط الإصلاحي منذ بداية القرن العشرين مع محمد إقبال، ثمّ مع فضل الرّحمان وصولاً إلى محمد الطّالبي وعبد المجيد الشّرفي وعبد الكريم سروش، وغيرهم... أنّ هذا الخطّ يصل اليوم إلى منتهاه في مسألة الإصلاح الدّيني، وأنّه اقترب كثيراً من المنظومة الإيمانيّة ليبتعد تدريجيّا عن الدّرس العلمي الأكاديمي؟
د. المنصف بن عبد الجليل: الإجابة عن هذا السّؤال صعبة، ولعلّي أقدّم بعض عناصر الإجابة ولا أدّعي أنّني سأوفي المسألة حقّها. يستعمل الباحثون اليوم مصطلحات ثلاثة؛ هي "الإصلاح" و"التّجديد" و"التّحديث"، ولنبدأ بمقولة "التّجديد الدّيني"، فهي تنطلق من الحديث المنسوب إلى الرّسول (إن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لها دينها)، وأنا أشكّ في نسبته، فهو لم يرد سوى في سنن أبي داود (202 - 275هـ). والمقصود به أنّ الدّين كلّما خفتت جذوته وتأثيره، نجم من بين المسلمين من يمتلك آليات ووسائل تسمح له بإعادة إحيائه وتجديده من داخله. وأظنّ أنّ هذا الحديث قد وُضع ردّاً على الشّيعة، فلهم الإمام المنتظر، ولأهل السنّة المجدّد. وبما أنّ الإمام يمتلك علم الآخرة وعلم الدّنيا، وهو خازن علم الله، فإنّ المجدّد يكون في أدوار كلّ قرن، ناجماً نابعاً كأنّه المصطفى الذي يقيّضه الله ليهدي المؤمنين بعد أن فترت جذوة الدّين لديهم. ومسألة التّجديد بهذا المعنى ذات مرجعيّة إيمانيّة سنّيّة. أمّا المقولة الثّانية، فهي "مقولة الإصلاح"، وقد ظهرت في القرن التّاسع عشر على أيدي مؤمنين مسلمين ضاقوا بسيادة غيرهم، ورأوا كيف أنّ أمّتهم، هذه الأمّة الوسط المصطفاة المرموقة، أصبحت تعاني من كلّ أسباب التّأخر والتّخلّف، وتلك إشكاليّة مهمّة لأنّها دفعتهم إلى التّفكير في إصلاح هيئة المجتمع المسلم لا إصلاح الدّين، ونجدهم يعبّرون عن ذلك في أغلب مدوّناتهم بمفهوم "الاقتراض" بما يناسب الشّرع، وتلك لعبة ذكيّة أدّت إلى إعادة النّظر في المتن الدّيني، وأصبح التّفكير في المدوّنة الدّينية على غير ما سبق. لذلك نجد في "تفسير المنار" لمحمد رشيد رضا طرافة وجدّة لم تكن في المتون التّفسيريّة القديمة، ولذلك أيضاً، ظهرت في مقالات بعض المصلحين المناداة بتأويلات جديدة للدّين يتمّ بموجبها إصلاح الهيئة الاجتماعيّة. وهكذا لم يكن بمقدور المصلحين المسلمين الاكتفاء بالتّفاسير والتّأويلات الدّينية القديمة، في ظلّ التّأثير النّاجم الذي فرضته الحياة الجديدة الرّاقية لدى الأمم الأوربّاويّة؛ أي التّرجمة الظّاهرة الحسّيّة للحداثة.
د. نادر الحمّامي: أليست المسألة لا تعدو أن تكون، حتّى في ما سيأتي مع المصطلح الثّالث؛ أي التّحديث، سوى أسماء متعدّدة لاسم واحد قديم، هو لعبة المقاصد؟ ثمّ أليست هذه المصطلحات الثّلاثة التي تشير إليها (التّجديد والإصلاح والتّحديث) تنتهي إلى الوقوع في نزعة دفاعيّة عن النّص، سواء اشتغلت من داخل سياقات النّص أو من خارجها؟
د. المنصف بن عبد الجليل: عندما نتحدّث عن إصلاح من داخل المنظومة الدّينية بهذا الضّيق الذي يوضّحه ابتكار الحديث ووضعه وبكل ما يتبعه، فهذا يعني أنّ الجسم الإسلامي يدافع عن نفسه، ويبحث عن شرعيّة ما يكون لها أثر في الرّاهن، ويعتبر أنّ تلك الشّرعيّة لا بد أن تكون مشتقّة ممّا سبق، حيث لا يمكن أن ينقطع عن أصوله، ويكون بتلك الشّرعيّة منافساً وباعثاً نوعاً من المعنى الجديد لما هو بصدده في العصر الرّاهن. وفي كلّ الأحوال، فإنّ مسألة الشّرعيّة والدّفاع عن الذّات، إنّما هي مسألة احتمائيّة وتنافسيّة، تنضوي ضمن نوع من الجدل والخطاب والتّعامل مع المخالف، وتكتسي أهمّة بالغة، لأنّها تدفع المسلم إلى النّظر في وجوده في حيّز لم يعد يفهمه، جرّاء كثرة الاضطرابات وإحساسه بالتّراجع في وقت يتقدّم فيه غيره، ولعلّ النّزعة الإصلاحيّة هي بمثابة الصّرخة في وجه تلك الحيرة.
إن النّزعتين التديّنية والإصلاحيّة تمكّنان من بلوغ هذا التّرقّي وهذا النّجوم وهذه "النبوّة داخل النّبوّة"؛ بمعنى الظّهور داخل المجتمعات الموازية للمجتمعات العربيّة والإسلاميّة. وأظنّ أنّ إصلاحيّي القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين كانوا أذكى من إصلاحيّي الفترة الموالية، لأنّ الأفغاني وبيرم الخامس والطّهطاوي وخير الدّين التّونسي كانوا قد وصلوا بالآلة الممكنة وقتها إلى أوفر حدّ. وبودّي أن أعود إلى خير الدّين في أبحاث قادمة، لأنّني ما زلت أكتشف أسراراً عجيبة في ما يتعلّق بتفكيره، فحين نقرأ في "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" تلك الجملة ''وأصبح العالم بمثابة القرية''، نفهم أنّ الرّجل نظر حوله وسافر وعاين وشاهد، واستنتج أنّ العالم كلّه أصبح بمثابة القرية، وهذا في عهده وليس اليوم، وهو يقول أيضاً: ''إن الصّدق والصّحّة لا يقومان بالدّين والشّريعة، وإنّما يقومان بقيمتهما الإنسانيّة''، هذا الرجل فهم قيمة التّمدّن والرّقي، وفهم أنّ الفكر يمكن أن يكون مترقّيا بالنّاس بالضّرورة على غير الأصل الشّرعي أو الفقهي أو العقدي، وأنّ الإنسان يمكن أن تتحسّن أحواله بشيء آخر هو هذه العقلانيّة التي ظهر خير الدّين مترجماً لها، ولكن بما أنّه رجل دولة ومفكّر مسلم، فقد كان لا بدّ من أن يعود في مواطن أخرى إلى المسألة الشّرعية. لذلك أعتبر أنّ هذه الإصلاحيّة قد وصلت إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وهو مسألة إقناع الأمّة الإسلاميّة بضرورة أن تقترض ما يمكن أن يكون قِيماً تمكّن من حسن التّدبير، ويكون ذلك بالتّفكّر في ما مضى، ولكن من خلال زاوية الرّاهن وليس العكس. ولو أردنا أن نترجم كلمة "حسن التّدبير" أو "المُلك المقيّد بقانون" في سياقنا الحالي، فسنترجمها إلى عبارة "الحَوْكمة الرّشيدة" وقد أصحبت رائجة في أيّامنا ونتداولها بالمعنى نفسه.
وحين أنظر اليوم في بعض الأمثلة التي تحاول إحياء مسألة المقاصد وترجمتها إلى آراء ونظريّات وتبشّر بها مشروعاً، أخصّ بالذّكر أستاذي عبد المجيد الشّرفي الذي كتب "الإسلام بين الرّسالة والتّاريخ"، وأجدني أعارض تقريباً ما كتب، وفضل الرّحمان الذي كتب كتابه المهم "الإسلام والحداثة"، وقد كتب في مرحلة من حياته، أظنّ أنّه بلغ فيها الأوج، فصلاً كاملاً عن الإسلام المعياري وكيف يُقرأ القرآن، أفهم مقدّمات هذه الأفكار وهذه النّظريّة وهذا الفصل بين الإسلام المعياري والإسلام التّاريخي وبين إسلام الرّسالة وإسلام المؤرّخين، ولكن أعتقد أنّ فيه شيئاً من المبالغة، وإن كان في شكله مقبولاً ومغرياً. ولست أفهم كيف يمكن لأيّ باحث، مع الاحترام الشّديد لهؤلاء المفكّرين، أن يجرؤ على إعادة ترتيب الإسلام النّووي أو الإسلام الأصل، أو الإسلام المعياري، أو الإسلام القاعدة، ويعتبر أنّ هذا الإسلام هو الصّحيح والآخر ليس سوى عدولاً عنه. إنّ هذه النّظريّة سرعان ما تسقط في التّفكير الماهوي الذي ترفضه، وتستجيب لإغراء الحديث عن الرّسالة في ذاتها. ولننظر في بعض الأمثلة من ذلك، ففي مسألة تعدّد الزّوجات، يقول هؤلاء بأنّ الأصل هو التّعدّد وأنّه عارضٌ، والمقصد هو الأحاديّة وأنّه الغاية، فهل أخطأ الرّسول والخلفاء واللاّحقون والفقهاء والأصوليّون جميعاً في فهمهم للآية دون مقصدها؟، وفي مثال الرّق أيضاً، فلو كانت الغاية هي العتق، فلماذا وضع الفقهاء طيلة قرون مدوّنات فقهيّة في أحكام الرّقيق والعبيد؟ ولم يجرؤ أحد على مخالفتهم ولا على إنكار ما قالوا، لننتظر إلى القرن التّاسع عشر، حتّى تُعلن تونس هذا القانون في إبطال الرّق والعبوديّة بقرار سياسيّ (1846). ولذلك لا يمكن أن نزعم أنّنا نعرف مواطن الرّسالة ونواتها وأصلها والإسلام الصّافي المعياري الماهوي، لأنّ في ذلك تجنّياً على النّص؛ فالحديث عن النّص القرآني هو حديث عن محاورات، ولا يمكن أن يُفهم إلا مع المُحاوَر؛ أي من طرح الأسئلة الذّهنية العامّة أيام محمّد والمعاصرين له، وهي مسألة ما زالت في طور التّركيب والتّكوين، وأظنّ أنّ البحث فيها سيطول، ومن يدّعي أنّه درى بها وعلم فقد أخطأ، ثمّ إنّني لست واثقاً تماماً من علمنا ومن علم المستشرقين بما يسمّى بالعربيّة القرآنيّة، لأنّ اللّغة العربيّة فيها ما فيها من التّخوم ومن الاستعمالات ومن تصريف الكلام على غير وجوه التّقعيد الذي أتى بعد القرآن، ما لا يسمح لنا بالقطع في ما لا يُفهم من أمر التّفسير، وإنّما المفسّرون للقرآن كانوا جميعاً جمّاعين لآثار تداول النّاس على ذكرها، إمّا نسبة إلى النبيّ أو إلى العلماء أو إلى مراجع وأئمّة كما لدى الشّيعة، لذلك أعتبر أنّ مسألة المقاصد ليست بذات جدوى، وأنّها من باب إسقاط ما يحدث على ما حدث. لذلك فلا أتفهّم ما قام به محمّد الطّالبي رحمه الله وفضل الرّحمان حين وضعا الفقه بين قوسين ولم يعتبراه، وأعتبر جميع الفقهاء مسلمين أتقياء، وأنّهم شرّعوا بما فهموا، وأنّ الآلة التي شرّعوا بها كانت وفق زمانهم، لأنّ ذاك هو الممكن والذي يسمح به الأفق التّأويلي والذّهني الذي يملكونه، ولا يمكن لهم أن يخرجوا عن ذاك الإطار، فقد كانوا أوفياء وذوي ضمائر حيّة، وكانوا قد وضعوا ممّا فهموا من تقبّلهم النّص القرآني أحكاماً، منها ما كان مشتركاً ومنها ما كان مختلفاً، وإنّما آلة الزّمان كانت هي الآلة الفيصل في ذكر هذا الاختلاف والتّنوع. أمّا أن نقول إنّهم كانوا مخطئين، ونبعدهم عن القاعدة، ونقول إنّهم لم يفهموا الدّين، ولذلك لم يُشرّعوا لما يجب أن يشرّعوا له، فهذا خطأ، وأظنّ أنّنا حين نُسقط قيم الحداثة على التّراث، لا يمكن أن نجني سوى أمرين، لا لا يمكن القبول بهما، الأمر الأوّل أنّنا نقع في اللاّتاريخيّة، والأمر الثّاني أنّنا نُخرج الإسلام عن سياقه التّاريخي، وهذا ما لا يستقيم.
د. نادر الحمّامي: هذا يذكّرني بنقاشك لي في بحث جامعي كنتُ قدّمتُه، وذكرتُ فيه مسألة تقنين حدّ قطع يد السّارق بغمسها في الزّيت السّاخن، وعلّقتُ على ذلك بأنّه فظيع جدّاً، فقلتَ لي "لا يجب أن تحكم على زمن ماضٍ بمعيار حديث". ونحن اليوم في سياق آخر مختلف عن السّياقات التي فكّر فيها الفقهاء والأصوليّون، ومختلف أيضاً عن تلك السّياقات التي اندرج فيها الفكر الإصلاحي في القرن التّاسع عشر، ورغم ذلك فإنّ التّفكير المقاصدي يصرّ على تأصيل قيم حديثة ومعاصرة حول الفرد والحريّات والمساواة والمواطنة والمسؤوليّة الفرديّة، في سياق تراثي، من أجل إيجاد مشروعيّة ما والمحافظة على منطق التّوافق بدوافع سياسيّة قد لا يتفهّمها الباحث. فما الذي يدعو، في تقديرك، لجنة تعمل على إعداد تقرير للحرّيات الفرديّة والمساواة اليوم، إلى التمهيد له بمقدّمات تأصيليّة وفقهيّة مقاصديّة، متعلّلة بأنّ مسألة المساواة في الإرث بين الجنسين، على سبيل المثال، لا تتنافى مع الموروث والهويّة؟
د. المنصف بن عبد الجليل: ههنا أشير إلى جانبين؛ الأوّل تقني قانوني، يفترض أنّ كلّ مشروع قانون لا بد أن يُسبق بتبرير يسمّى شرح الأسباب، يتضمّن التّفاصيل المحرجة التي يُبنى عليها، وذلك لتحقيق الإقناع وحمل النّاس على التّصويت عليه، ويتمّ الالتزام فيه بسياق مرسوم في إطار ثوابت الدّولة أو المصلحة، وحتى يقتنع المصوّت أنّه ليس مسقطاً على المجتمع، وفي هذا الأفق لا بدّ من التّواصل مع التّراث، والتّنصيص على أفكار مهمّة تعود إلى مجال الفقه والأصول والتّفسير، من أجل إكساب ذلك القانون الحجّة، وبيان أنّه جزء ممّا سلف، وكأنّه استمرار للقديم. أمّا الجانب الثّاني فهو فكريّ، يتعلّق بمدى فهمنا للتّراث ولأحكامه، والحقيقة أنّنا لم نصل في تفكرينا الدّيني إلى أن نكون أوفياء لمطالب التّأويليّة الحديثة، فلم أسمع أحداً قال، باستثناء البعض، بأنّ مسألة الرّق على سبيل المثال، قد انتهت بفعل التّطوّر الإنساني والتّاريخي، وأنّ لولا ذلك لما أبطلها المسلمون، وقس على هذا فالكثير من الأحكام انتهى أمرها وانتهى منطقها، ولو فهمنا ذلك لنظرنا إلى النصّ الدّيني في سياق ما هو تعبّدي تقوم به الطّقوس والشّعائر، وفي سياق ما هو أخلاقي يمنح النّاس روحانيّة أعمق، دون أن يتعدّى ذلك إلى مجالات التّشريع والتّطبيق الاجتماعي العملي، وعند ذلك سنكون علمانيّين بكامل الوضوح وبدون تملّق أو نفاق سياسيّ. ذلك أنّ النّص، بجميع تخومه، تعبّدي ذاتي للنّاس فيه ما يشتهون وما يريدون، يقيمون به أودهم الرّوحاني، وما زاد عن فرديّتهم وما كان في مجتمعهم، إنّما يكون ضمن ترتيب آخر، هو ما أسمّيه التّرتيب المدنيّ أو المواطني.
ولكن إذا كانت الدّولة ما زالت لم تتقوّم بعدُ بالأصول الكونيّة الإنسانيّة المؤسّسة على الحرّية والمسؤوليّة والمواطنة والإيمان بالغيريّة أصلاً من الأصول، واعتبار الإنسان إنساناً قبل أن يكون متديّنا بأيّ دين، فستكون هشّة غير قادرة على أن تكون مدنيّة بذاتها، وستحتاج دائماً إلى أودٍ تشرّع به لوجودها، كما كان الحال دائماً في تاريخ المسلمين. فمنذ البداية كان لابدّ أن تكون قرشيّا حتى تكون لك الشّوكة والسّيادة، ثمّ علويّا، ثم أمويّا، ثم عبّاسيّاً، وهكذا... فالمسألة سياسيّة في حقيقتها ولكنّها تُغمّدُ في الدّين، وهذا يتواصل في عصرنا، فيتمّ استحضار مسائل التّشريع الفقهي والأصولي في شروح الأسباب لتأسيس قوانين مدنيّة في أصلها ولا علاقة لها بالدّين.
د. نادر الحمّامي: هذا التأصيل وإعادة تقديم الموروث التّشريعي والفقهي معضود بقوّة بإعادة قراءة النّص القرآني وتأويله تأويلات جديدة باعتباره النّص التّأسيسي، في مقابل التّأويلات التي يتمّ إخضاعه لها، استناداً إلى قراءات من خارج الأطر العلميّة وتحمل استراتيجيّات أخرى. ذلك أنّ النصّ القرآني يبقى أحد أهمّ أعمدة النّظر في مسألة الإصلاح عموماً، وهو النّص المركز الذي علينا اليوم قراءته قراءة لا دعويّة ولا مقاصديّة ولا تأويليّة قديمة، وإنّما قراءة في إطار ما تتعارف عليه المجموعة العلميّة اليوم بما وصلت إليه. والحقيقة أنّنا في المجال العربي الإسلامي ما زلنا متأخّرين جدّاً عمّا يقع في هذه المجموعة العلميّة الكبرى، التي ربّما لها نقائصها هي بدورها، وعلينا أن نتجاوزها. ولعلّنا نكون أقوى من داخل هذه الحضارة لو تسلّحنا بالمعرفة العلميّة الحديثة في قراءة هذه النّص، وعلينا اليوم أن نضيف إلى هذا المجال الذي يسمّى الدّراسات القرآنيّة. ولا يمكن أن يكون لي حوار معك دون الحديث عن هذه الدّراسات التي لك فيها قول، ولذلك سنخصّص الجزء الثّالث للدّراسات القرآنيّة وما يمكن أن تفيدنا به فيها، ونجدّد لك شكرنا أستاذ المنصف بن عبد الجليل.