المنصف بن عبد الجليل: في آفاق الدّراسات القرآنيّة (الجزء الثالث)
فئة : حوارات
د. نادر الحمّامي: نواصل حوارنا مع الأستاذ المنصف بن عبد الجليل في هذا الجزء الثّالث منه، وكنّا وصلنا إلى مسألة مهمّة اشتغل عليها، واطّلع على العديد من الدّراسات فيها وما وصل إليه البحث اليوم في مجال أخذ أبعاد كبرى منذ نشأته في منتصف القرن التّاسع عشر مع الدّراسات الاستشراقيّة، وأقصد مجال الدّراسات القرآنيّة التي وصلت بعد مرحلة من الصّراع والجدال إلى تركيز نوع من البحث العلمي الذي أخذ تفرّعات كبرى لاحقاً في القرن العشرين، وذلك من خلال البعد التّاريخي ثمّ الفيلولوجي ثمّ المقاربات الأدبيّة للنّص القرآني والمقاربات الجماليّة. ولك أستاذ المنصف تقدير آخر لمجمل هذه الدّراسات فيه من الأهمّية والجدّة الشّيء الكثير، نذكر ههنا ما أشرت إليه بنوع من السّبق، في مقال لك ضمن مؤلّف جماعي منذ سنة 1989، أنّ ما ينقص هذه الدّراسات هو البعد الأنثروبولوجي الذي يمكن من خلاله أن نقارب النّص القرآني، باعتباره نصّاً جداليّاً، ولا يمكن أن يُفهم إلاّ في هذا البُعد. ورغم أنّ مؤرّخاً مثل هشام جعيّط أجرى تلك المراجعة المهمّة الكبرى حول القرآن والوحي والنّبوّة، وكتب لاحقاً حول الأنثروبولوجيا في "تاريخيّة الدّعوة المحمّديّة في مكّة"، إلاّ أنّ تلك الأنثروبولوجيا التّاريخيّة بقيت محلّ أخذ وردّ لديه ربّما لظروف أخرى. فهل هذا التّوجّه الأنثروبولوجي يُعدّ إضافة إلى هذه الدّراسات، بناءً على تقييم للدّراسات السّابقة؟ أم هو فتح لأبواب جديدة لا بدّ علينا من ولوجها اليوم بإلحاح كبير؟
د. المنصف بن عبد الجليل: هذا باب واسع ومسائله متشابكة ومعقّدة، دعني أعلّق أوّلاً على الاستعمال الحديث "الدّراسات القرآنيّة"؛ فهذا اصطلاح جديد استعمله المستشرقون كثيراً، وهو عنوان دروس متعلّقة بالقرآن في كافّة الجامعات الأوروبيّة، وهو أيضاً عنوان كتاب وانزبرو (John Wansbrough) (1928-2002) الذي أثار الكثير من الجدل، في حين أنّ المسلمين والعرب والتراثيّين يستعملون مصطلحاً آخر هو "علوم القرآن"، والأزهر يستعمل مصطلح "مباحث القرآن". وعلوم القرآن إنّما هو مبحث يدخل ضمن تصنيف للمعرفة العربيّة في أفق إسلامي، وهذا التّصنيف يقدّم المعرفة على أنّها، في صنف أوّل منها، معرفة شريفة وفي صنف آخر معرفة مرذولة؛ والمعرفة الشّريفة تهمّ كلّ ما يتعلّق بالشّرعيّات، والمرذولة تهمّ كل ما يتعلّق بالفكريّات والفلسفيّات، هذا التصنيف موجود في أكثر من مصدر، وابن خلدون يكرّسه من خلال تصنيفه للعلوم، فعلوم القرآن إنّما هي جزء من كلّ المعارف التي أسّست لتسييج فهم القرآن، والقرآن لا يفهم خارجها. وكلّما نظرت في الكتب التي جمعت هذه المعارف والعلوم وجدتها في كلّ حين تحدّث بالضّوابط التي يجب أن يراعيها الباحث حتى يكون مفسّراً، ومن هذه المعارف ما سبق ومنها ما لحق، وهي تواصل في ذات الإيبستيمية القديمة للسّيوطي والزّركشي وغيرهما، لذلك فالحديث عن تقبّل القرآن في سياق هذه العلوم، إنّما يعني تقييد فهم القرآن، وهو ما أسّميه بترسيخ السنّيّة في فهم النّص؛ أي تقعيد فهم القرآن باعتباره النّص المقدّس وجعله محور عقيدتها، وتوظيف ما يحدث من معارف من أجل الانتصار للقرآن؛ وهكذا فالمفسّر والمقعّد وشارح أسباب النّزول والنّاظر في النّاسخ والمنسوخ والمتعلّق بالأحكام والمطلق والمقيّد، هؤلاء كلّهم لم يفعلوا سوى ترجمة إرادة الله وكلمته على مدى النّص، وبدون ذلك لا يفهم القصد الإلهي، كأنّ فضل الرّحمان فعل ذلك أيضاً، لأنّه نظر في النّص القرآني باعتباره وحدة مرتبطة بسيرة النّبي، فكانت أفكاره النقديّة في سياق الدّفاع عن عقيدة صافية وقاعدة إيمانيّة.
وعلى خلاف ذلك، فإنّ الدّراسات القرآنيّة تطرح أفقاً معرفيّاً مختلفاً، وهي تعتبر أنّ النّص القرآني ظاهرة، والظّاهرة تنشأ وتتطوّر وتأفل وتستمرّ ويُتجادل حولها، وتحيا من تربة الجدل والنّظر والتّفكير دون أن يكون الدّارس معنيّا بالإيمان أو غير معنيّ، فهو يدرس القرآن بآليّات يسبر بها أغواره بغضّ النّظر عن تخوم الاعتقاد، لذلك فعلوم القرآن تشكّل فضاءً ثيولوجيّاً لاهوتيّا في حين أنّ الدّراسات القرآنيّة هي مبحث فينومينولوجي أو أنثروبولوجي، وهي إنّما نشأت من باب المقارنة بين القرآن وغيره للبحث في نشأة الإسلام وأصول القرآن، وذهب الباحثون في ذلك مذاهب كثيرة حول المؤثّرات والأصول، وصولاً إلى البحث في حياة محمّد وعلاقته بغيره وبعصره، وقد تعلّقت الدّراسات القرآنيّة لدى المستشرقين، منذ القرن التّاسع عشر، بالبحث عن معنى تلك الظّاهرة وصيرورتها، ثمّ تطوّرت الأمور وصولاً إلى ظهور مدرسة تَشكّل النّص أو مدرسة تاريخ النّص، وقد كان المسلمون جميعاً، دون استثناء، يؤمنون بأنّ هذا المبحث لاغٍ ولا قيمة له، وأنّه من لغو الحديث، وأنّ النّص أُثبت كما نزل على التّوقيف، وأنّه تمّ كما بلغنا، ولا معنى لأن نسأل عن تاريخ النّص، لكن من حسن الحظّ أنّ نصّاً مفرداً قد نجا من الإتلاف، تمّ اكتشافه، وقد عُنون بكتاب المصاحف. ههنا يُطرح السّؤال لماذا يقع الفصل بين القرآن والمصحف، فلا يُقال تاريخ القرآن (مع أنّ هذا قد استُعمل في بعض العناوين) بينما يُقال تاريخ المصحف؟
إنّ هذه المسافة التي وضعها صاحب الأثر، إنّما هي مسافة للحديث عن سيرورة تكوّن النص الذي تعّهدته الأمّة بالتّهذيب والاستعمال والتّوظيف السّياسي؛ ولنا شاهد تاريخي على ذلك، هو حادثة أبي الحسن بن شنبوذ (تـ 328ه) في العقدين الأوّلين من القرن الرّابع، فقد امتحن هذا الرّجل وكان الوزير العبّاسي بن مقلة الشّيرازي (272-328ه) من أشدّ الممتحنين له، لأنّه كان يقرأ بقراءة غير التي تمّ قبولها وقُنّنت وقيل هذه هي المقبولة وغيرها مردود، واستُتيب وسُجن. ونستنتج من هذه الحادثة أنّ القراءات كانت لا تزال مختلفة إلى حدّ ذلك الوقت، وذلك يعني وجود مصاحف مختلفة، ولو كان اختلافاً هيّناً ما كان للرّجل أن يُسجن، ولعلّ من قراءات ابن مسعود ما تواتر تعهّده وما زال يُقرأ سرّاً بعيداً عن عين السّلطة التي كانت آنذاك تريد أن تشرّع للقراءات التي تمّ قبولها.
د. نادر الحمّامي: وقد كان ابن شنبوذ معارضاً بقراءته لما استقرّ لاحقاً من نظام القراءات السّبع المعترف بها، الذي أسّسه ابن مجاهد (245-ـ324 هـ) في بداية القرن الرّابع، أضف إلى ذلك ما ذهب إليه ابن أبي داود السّجستاني (230-316 ه) في ''كتاب المصاحف'' في باب "ما غيَّر الحجّاج في مصحف عثمان"، وما يشهد به كتاب الفهرست لابن النّديم (تـ 384 ه) حول خطوط المصاحف، ألا يؤيّد هذا كلّه ما طرحه ونزبرو في سبعينات القرن الماضي والمدرسة الأنجلوسكسونية التي سترثها باتريشيا كرون (Patricia Crone) (1945-2015) وما أكّده لاحقاً مايكل كوك (Michael Cook) (1940) حول تاريخيّة المصحف؟
د. المنصف بن عبد الجليل: هذا الاهتمام بتكوّن النّص تاريخيّاً لا يقبله المسلمون ويعتبرونه خروجاً، وأنا أردّ هذا الرّأي، لأنّ في تراثنا وفي علوم القرآن وفي ما يتعلّق بتاريخ القرآن توجد أخبار ومصنّفات موضوعة، وهذا يدلّ على أنّ النّص قد نشأ وتكوّن، ولعلّ ذلك يحيلنا على سؤال مهمّ حول علاقة سيرورة النّص بتكوّن الأمّة؛ وقد كتبت أنجليكا نويفرت (Angelika Neuwirth) (1943) مقالاً في هذا الباب "بين تكوّن النّص وتكوّن الأمّة"، ولو نظرنا في ما بلغه اهتمام المستشرقين بهذه المسألة في فترات متقاربة، نجد كتاب وانزبرو الذي يشكّك في القرآن أصلاً، ويقول إنّه ممّا أُحدث لاحقاً تشريعاً لما سبق، وتبعه في ذلك كلّ من باتريشيا كرون ومايكل كوك من جامعة برنستون (Université de Princeton)، ثم أندرو ريبين (Andrew Rippin) (1950-2016)، ولم يختلف غارد بوين (Gerd-Rüdiger Puin) (1940) عنهم كثيراً، وما زال بعض الذين يواصلون في هذا الاتّجاه ومن بينهم كلود جيليو (Claude Gilliot) (1940)، فهؤلاء يعتبرون ألاّ وجود لقرآن ينتسب للفترة النّبويّة، ويرون أنّه إحداث لاحق. وقد أصدر غونتر لولنغ (Günter Lüling) (1928-2014) كتاباً حول "ما قبل القرآن" وهو في الأصل أطروحة دكتوراه أعدّها في جامعة ارلنغن (Universität Erlangen-Nürnberg) وعنوانها (Über den Ur-Qur'an (Sur le Coran primitif)) "مقالة حول القرآن البدئي"، تُعدُّ اعترافاً بالنّص القرآني، وهو يعتبر أنّ النصّ القرآني مرتّب من أربع طبقات؛ الطّبقة الأولى هي أنشودة (himno) سابقة ورثها محمّد وأدخلها في القرآن، والمثال على ذلك سورة الرّحمان ذات الإيقاع والتّنغيم، والطّبقة الثّانية هي سوء فهم محمّد لبعض المصطلحات الدّينية القديمة ومن بينها الشّيطان والجنّة والملائكة والحور إلخ، والطّبقة الثّالثة هي أقوال محمّد، والطّبقة الرّابعة هي ما أضيف من أصحاب محمّد إلى أقوال محمّد. ويتضمّن الكتاب استشهادات مطوّلة في بيان هذه الطّبقات الأربع. وقد تابع ريجيس بلاشير (Régis Blachère) (1900-1973) أبحاث لولنغ وأستجاد هذه الأطروحة استجادة تامّة وكان من أهمّ مشجّعيه، لكن هذه الأطروحة لم تُقبل، وأُطرد من الجامعة، وعانى من التّهميش العلمي. وكان لولنغ يجيد اللّغة العربيّة، لأنّه أقام لثلاث سنوات في سوريا، باعتباره مديراً لمعهد غوته حلب (Goethe-Institut d'Alep)، إلى جانب تضلّعه في اللّغتين الآراميّة والسّريانيّة.
د. نادر الحمّامي: أليس في هذه الأطروحة استعادة لبعض أفكار سابقة عنها، ظهرت في بداية القرن العشرين، مع هيرشفيلد (Hartwig Hirschfeld) (1854-1934) الذي تحدّث عن هذه الطّبقات ضمن ترتيب تاريخي، وهو ما يجعلنا نلاحظ أن الدّراسات القرآنيّة، وإن بدت لنا تتطوّر باستمرار، فإنّها في أحيان كثيرة ليست سوى عوْد على بدء، ومثال ذلك كتاب لوكسمبارغ (Christoph Luxenberg) (Lecture syro-araméenne du Coran…) "قراءة سريانية آرامية للقرآن" الذي ظهر سنة ألفين، وهو استعادة لكتاب أرثر جيفري (Arthur Jeffery) (1892-1959) (The Foreign Vocabulary of the Qur’an) "الكلمات الدّخيلة في القرآن"؟
د. المنصف بن عبد الجليل: هناك تركيز على الأصول اللّسانيّة، لأنّ اللّغة هي حامل المعنى، وإذا كانت هذه اللّغة إشكاليّة في ذاتها فهي تحتاج إلى بعد نظر، ولذلك حاولت بعض الدّراسات المتأخّرة، ومنها دراسة لوكسمبارغ المذكورة، حلّ لغز لغة الآيات التي فيها التباس وغموض، وذلك بالعودة إلى الاستعمال اللّغوي الآرامي والسّرياني، وهو منزع ظهر منذ السّنوات الثّلاثين من القرن الماضي، مع هرمز منغنا المعروف بألفونس منغنا (1878-1937). وعندما ننظر في جميع هذه الدّراسات نجد أنّ القرآن، شكلاً ومتناً، وُضع تحت مسبر التّاريخيّة النّقديّة في أفق آخر هو الأديان المقارنة، وأنّه رُتّب ضمن السنّة التّوحيديّة، وفي مركز الدّراسات الشّرقيّة؛ وهذا يردّنا إلى أربعة اختصاصات مهمّة، وهي الاختصاص اللّغوي، واختصاص التّاريخ النّقدي التّأويلي، والاختصاص النّفسي الذي عمل على سبر شخصيّة محمّد، والاختصاص الثّقافي المتعلّق بالدّراسات الثّقافيّة. وقد انتهت هذه الدّراسات إلى التّأكيد على أنّ القرآن لم يكن محدثاً في القرن الثّالث أو الرّابع أو العاشر، وقد تأكّد ذلك بعد اكتشاف رقوق صنعاء، ومنها ما يعود حتماً وبالإثبات العلمي إلى القرن الأوّل الهجري، والنص الذي نشر في سنة 2003 بمجلّة آرابيكا (Arabica) حول مصاحف صنعاء أثبت أنّ المخطوطة تعود في أسوأ الأحوال إلى سنة 75 ه، ولذا فنحن في مأمن من تلك الأطروحة التي نادى بها ونزبرو فهي لا تقوم على أساس. وقد كانت الغاية من هذا كلّه البحث في عالم القرآن وفي معاصريه، والبحث من خلال القرآن عن الأصوات الأخرى التي ناهضته؛ أي أن نردّ النّص القرآني خطاباً ومتناً واستعمالاً ولغة إلى عالم تفكير النّاس وقتها، وتفكير من حمل القرآن للنّظر في ما يمكن أن يسوّغه ويقدّمه كلّ ذلك التّرتيب لفهم التّفكير والذّهنيّة والمنابت وما يمكن أن يكون من صلب ذاك المحضن؛ وهو ما أسمّيه بالمنهجيّة الأنثروبولوجيّة، وهي مختلفة عن القراءة السّياقيّة، ولا أزعم أنّ ذلك ممكن ويسير، وإنّما هو يحتاج إلى مباحث كثيرة، ونحن لا نزال إلى الآن في طور البحث حول ماهية العربيّة القرآنية، وأنا سعيد أن أذكر أنّني دعوت الأستاذ لوتا ايتزاد مدير قسم الدّراسات السّاميّة في جامعة إرلنغن (Universität Erlangen)، لننظر في الكثير من الكلمات الأساسيّة ودلالاتها ورحلتها عبر اللّغات التي تعامل معها العرب، واستعملها القرآن استعمالاً موصوفاً، ولنقف على الاستعمالات القرآنيّة لا بدّ من دراسة تلك اللّغات وفهم رحلة تلك الكلمات، وحتى نستخرج من ذلك النّص الغني والكثيف والمحجّب بكلّ ما فيه من استعمالات الرؤية العامّة للعالم، والتي لا يمكن أن تكون هي ذات رؤيتنا نحن الآن في الألفية الثّالثة، ولكن السرّ يكمن في اختراق هذه الرّؤية كلّ الضّمائر والمجتمعات والحقب والقرون، لنقف منها على شيء ممّا يمكن أن نبني عليه بناءً على غير مثال؛ أي أن ننظر في المقاربة لا في المتن. وعندما نتحدّث عن مراجع أخرى للحضارة التي نعيش في إطارها اليوم، مثل مراجع حقوق الإنسان ومراجع الحرّيات العامّة وما يتبعها، فيجب أن نتفهّمها في ذاتها، لأنّها قامت بمنطقها وفي مواصفات أنثروبولوجيّة مختلفة عن المواصفات العربيّة القديمة في الجزيرة العربيّة.
د. نادر الحمّامي: نلمس في ما تفضّلت به إلحاحك على التّمييز بين ما تطرحه من مقاربة أنثروبولوجيّة وما يُدعى إليه عادة من مقاربات سياقيّة تنتمي إلى تطوير علوم القرآن في نطاق الإيبيستيميّة القديمة لمحاولة تحصين النّص من كلّ مقاربة علميّة أكاديميّة في المجال العربي والإسلامي.
د. المنصف بن عبد الجليل: لعلّ أفضل من توصّل إلى المقاربة السّياقيّة وترجمها ترجمة بليغة، أخذها التّونسيّون عنه دون إعلان أحياناً، هو فضل الرّحمان في المقاربة ذات الحركة المزدوجة وابتكار السّياق ومقايسة الحاضر بالماضي واستخراج السّنن العامّة التي يمكن أن تكون جاهزة، وصولاً إلى ماهوية جديدة. ولذلك، نقول بمحدوديّة هذه النّظريّة رغم ما فيها من إغراء، فهي جيّدة من زاوية تطبيق التّاريخيّة، ولكن بدون البعد الأنثروبولوجي لفهم الذّهنيّة التي يندرج ضمنها النّص لا يمكن لهذه المقاربة السّياقية أن تصل إلى نتائج، وأظنّ أنّ طرافة الدّراسات القرآنيّة المعاصرة تكمن في ذلك البعد الأنثروبولوجي، وعلينا البناء على النتائج التي تقدّمها دون أن ندّعي أنّنا مع الاستشراق أو ضدّه، فهو محاولات قدّمت، ولنا أن نفعل ذلك لا باعتبارنا مسلمين ولكن باعتبارنا باحثين جدد ننهل من مناهج العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة.
د. نادر الحمّامي: هذه الفكرة الأخيرة مهمّة رغم اقتضابها، ولكنّ ما تحدّثنا فيه طيلة هذا الحوار لا يعدو أن يكون سوى إشارات، لعلّها تصلح منطلقات يفيد منها الباحثون في المجال العربي والإسلامي، وهي دعوة لهم لأن يخوضوا في مسائل الدّراسات القرآنيّة، وألاّ يبقوا في دائرة الاّتهام أو الاتّباع أو الجدل العقيم، وأن يقاربوا هذا النّص الذي ينتمون إليه من داخل الحضارة العربيّة والإسلاميّة، حتّى يكون انتماؤهم إليه بحثيّاً وعلميّاً سبيلاً نحو الاندراج ضمن المجموعة العلميّة، لا يسعني في نهاية حوارنا إلاّ أن أعبّر عن سعادتي الخاصّة لأنّك أستاذي الذي وجّهني نحو درس الحضارة في أواخر التّسعينيات بعد أن كنت غافلاً عنه، فلك الشّكر على الحوار وما تفيدنا به دائماً.