المنظمات الإسلامية وآليات بناء التضامن الإنساني: قراءة نقدية في تجاوز الأخوة المذهبية إلى رحاب الأخوة الكونية
فئة : مقالات
المنظمات الإسلامية وآليات بناء التضامن الإنساني([1])
قراءة نقدية في تجاوز الأخوة المذهبية إلى رحاب الأخوة الكونية
شهد العالم في نهاية القرن الماضي، تحولات اجتماعية وسياسية وعسكرية دالة، كان من آثارها انتشار واسع للحروب والمجاعات، وقد نالت القارة الإفريقية النصيب الأكبر منها، نتيجة الصراعات الداخلية، التي أودت بحياة الكثيرين، وفرضت على آخرين ظروفا قاسية للعيش. هذه التحولات الدولية دفعت بالعديد من المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية، التحرك سريعا من أجل مد يد المساعدة والتخفيف من معاناة الساكنة المحلية من هول وآثار تلك الصراعات، وقد أثمرت جهودهم إيجابا ليس فقط على الصعيد الاجتماعي/ الإنساني، بل حتى على الصعيد السياسي، بفعل الضغوط التي مورست على صانعي القرار، بغية التدخل سياسيا من أجل إنهاء تلك الصراعات[2].
هذه الفترة نفسها، ستشهد أيضا على مستوى العالم العربي/الإسلامي، ميلاد عدد من المنظمات والهيئات الإسلامية، التي اهتمت بشكل خاص بقضايا ذات الارتباط بالتضامن الإنساني في دول وقارات مختلفة، ومن بينها القارة الإفريقية. كما كانت مشاركتها بفعل الدعم السخي الذي نالته من بعض الحكومات العربية، وعلى رأسها حكومات دول الخليج العربي، مشاركة فاعلة ووازنة، أكسبتها مكانتها السوية ضمن المنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، مما ساهم في توسعة مجال اشتغالها من الناحية الكمية بوصولها إلى مناطق جديدة وزيادة عدد المستفيدين من خدماتها، ومن الناحية الكيفية بقدرتها على تطوير برامجها وأنشطتها واستراتجياتها التدخلية.
ويعد مفهوم التضامن الإنساني، أحد أبرز القيم المعززة للعلاقة بين الشعوب والدول، تأكيدا على مبدأ التضامن بين الدول والمجتمعات، مساهمة في التخفيف من وطـء العولمة التي زادت الهوة الطبقية والتفاوتات الاجتماعية والثقافية، وحاصرت التنوع الإنسي بمختلف مشاربه الحضارية[3]، فكان تدخل عدد من المنظمات الدولية، عاملا في إنهاء عدد من الصراعات والحروب، فضلا عن المساعدة في الجوانب ذات الارتباط بقضايا الصحة والتعليم وتحسين ظروف العيش بشكل عام.
كما أن هذا المفهوم اعتمد رسميا من طرف الأمم المتحدة منذ نشأتها، وذلك رغبة في تحقيق التعاون الدولي لحل المشاكل الدولية ذات الطابع الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإنساني، بهدف أن تصل البشرية إلى مرحلة يعيش كافة أفرادها في أمن وسلام، باعتباره مقياس لتطور الأمم والشعوب ومواكب للبعد الإنساني الذي يبرز الجوانب المضيئة للمسيرة الإنسانية النبيلة للبشرية جمعاء[4]. وهذا التعريف هو ما يقودنا في هذه المقالة إلى التأكيد على البعد الإنسي كضرورة تقتضيها اللحظة التاريخية، في زمن أصبحت فيه الهوية هوية معولمة، ينتسب فيها الأفراد إلى العالمي قبل المحلي، وأصبح منطق الاشتغال فيها، يرمي إلى تحقيق غايات كونية، ترسيخا لمبدأ العيش المشترك، وتأكيدا على القيم الإنسانية النبيلة.
ومع ذلك، فإن الجهد التضامني الإنساني، يطرح معيقات من عدة أوجه، تسهم وبشكل سلبي في الحد من إشعاعه، وتعرقل مساره وإسهامه الإنسي، سواء بغلبة وجهات نظر تنتصر للمركزية العرقية / الثقافية، وتعمل بمنطق الغلبة العسكرية والسياسية والاقتصادية، كحال عدد من القوى والدول العظمى، والتي تسهر جاهدة على وضع أجندات تخدم مصالحها الإستراتيجية في مناطق دون أخرى، أو بوجهات نظر تكرس لمبدأ الطهرانية الدينية، والانتماء الطائفي والمذهبي، وتعمد على الانتقاء الضيق ضمن دائرة الانتماء، بفعل سيطرة أنماط فكرية تغلب عليها فكرة الانتماء والعصبية المذهبية، وتعمد إلى تفريق الناس على أسس تبتعد والأسس الإنسية.
وبالتالي، فإن موضوع هذه الورقة، يطرح مسألة مساهمة المنظمات الإسلامية في مجال التضامن الإنساني، من زاوية نقدية ترصد أهم المسلكيات والمرجعيات النظرية المؤطرة لها، فضلا عن عملها في نفس الوقت على الكشف عن عدد من الآليات، التي تعد أحد المداخل الأساسية والممكنة في إنجاح هذا النوع من التدخل في القضايا الإنسانية، والتي قد تأسس لمبادئ مرجعية تؤطر هذا العمل، وتسهم في إشعاعه، بل وفي بنائه لثقافة تغرف من الوعاء الكوني أكثر منه من المحلي الضيق. وبالتالي، فإن هذه الورقة ستنطلق من خلال سؤال إشكالي هو كالتالي: ما هي الآليات الممكن تطبيقها من قبل المنظمات الإسلامية لتحقيق الجهد التضامني الإنساني في صيغته الكونية؟
وللإجابة عن السؤال، ستعمل الورقة على مقاربة هذا الموضوع من خلال ثلاث آليات مقسمة على ثلاثة محاور، نعتبرها مدخلا أساسيا، لتمكين المنظمات الإسلامية من تحقيق جهودها العملية وتملكها واقعا لقيمة التضامن الإنساني، وهذه الآليات/المحاور هي كالتالي: أولا: غلبة الكوني على المحلي، ثانيا: احترام الثقافية المحلية، ثم ثالثا: تحقيق مبدأ الاستقلالية.
أولا: غلبة الكوني على المحلي
لا شك أن صفة الكوني تختلف وبشكل جوهري عن صفة المحلي، الأولى في سعتها وشموليتها والثانية في ضيقها ومحدوديتها، وتموقع التضامن الإنساني بينهما، لا يمكن بأي حال أن يتجاوز الكوني لصالح المحلي، بل هو قيمة أساسية دافعة نحو تعزيز الترابطات الاجتماعية والثقافية بين مختلف الشعوب والمجتمعات، ورافضة لثقافة "الكاست" التي تسعى أن تنغلق بقيم ومسلكيات تصد أي احتكاك ثقافي، فكري أو اجتماعي. فالتضامن الإنساني كما بني دوليا، يسعى لأن تلتئم ضمنه كافة الشعوب، باعتبارها أسرة بشرية واحدة، ضمن هذا الكوكب الأرضي، الذي خلق ليكون أرضا ووطنا للبشر بكافة أصنافه وتلويناته العرقية والثقافية والحضارية[5].
وانطلاقا مما سبق، يمكن قراءة ما رصدناه من واقع اشتغال المنظمات الإسلامية طيلة السنوات الأخيرة، من الحياة النشاط الجغرافي[6]، بين تجارب رائدة غلب عليها الفعل الإنسي، وأخرى مازالت تتدحرج بشكل محصور في الفعل الهوياتي، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يساعد على تبوئ تلك المنظمات مكانة دولية، اللهم في أبعادها الوصفية، دون أن ينعكس ذلك على ممارساتها الميدانية. وبشكل أوضح، أن يكون للمجال الجغرافي الذي تعمل فيه دلالة كونية، لكن بالتدقيق في نوع المستفيدين من أنشطتها، تبرز النعرات الطائفية والدينية، وهو الأمر الذي لا يسهم في تكريس ممارسة إنسية تتجاوز بعد الانتماء.
إن الغاية الممكن تقعيدها من الناحية المسلكية والنظرية، في تعاطي تلك المنظمات مع العمل الإنساني، هو ضرورة العمل من أجل أنسنة التضامن وتحريره من القيود العرقية والدينية والطائفية، التي تجعل من التضامن الإنساني تضامنا طائفيا ضيق الأفق في أغلب الأحيان، بمعزل عن سياقه الكوني الإنساني، حتى أننا لم نعد نتحدث عن التضامن بين معتنقي نفس الديانة، بل صار من بيننا من يدعو إلى تضامن مذهبي ضيق لا يرقى لحلم الديانة وسعة أفقها؛ فالسني قد يحصر تضامنه مع أبناء مذهبه فحسب، وفي المقابل قد يقف الشيعي فقط مع الشيعي، عندما تحل به الكوارث وتشمله الآفات، ونفس الحال مع بقية الطوائف والمجموعات الدينية الأخرى[7]، وهو الأمر الذي إن تحقق بصيغته الآنفة، يضرب جوهر ومبدأ القيم الموجهة لسلوك تلك المؤسسات وبرامج اشتغالها.
كما أن الصبغة الدينية للمنظمات الإسلامية، وعلى الرغم مما قد يأخذ عليها من ناحية الدلالة الرمزية والحمولة الفكرانية لاسمها، إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون حاجزا نحو تجاوز المحلي إلى الكوني، ودليلنا في ذلك عدد من التجارب السابقة، التي لعبت دورا متميزا في إظهار تجاوزية الدين وسعة أفقه، كما أظهرت قدرته أيضا على تجاوز الحدود واختراق الانتماءات، ولنا في حضارة المسلمين ببلاد الهند خير مثال على ذلك، إذ استطاع المسلمون، رغم نشوب حروب بينهم وبين سكان البلاد الهندوس، أن يتواصلوا مع الثقافات المحلية وأن يحققوا نوعا من التضامن في بيئة عرفت بالتعدد والتفاوت الاجتماعي والطبقي[8].
إن المتتبع للنقاشات في مجالنا التداولي، يقف وبصورة متكررة، عند بعض الخطابات التي تعمل جاهدة على تضييق أفق اشتغال هذه المؤسسات، خاصة الدعوة إلى عمل تلك المنظمات داخل المجال الجغرافي العربي دون سواه، بدعوى ما تشهده المنطقة من حروب وصراعات، ونقص في الخدمات لفئات عريضة من المجتمعات، خاصة اللاجئين السوريين والفلسطينيين، فضلا عن المهجرين واللاجئين داخل وخارج العراق، وغيرها من مناطق الصراع والنزاع، وهي دعوة وإن كان ظاهرها يرمي إلى جوانب إنسانية، إلا أن محركها لا يخلو من حمولات فكرانية، تنحو نحو النزوع العرقي، وتسهم في تضييق أفق عمل هذه المؤسسات، بمبررات لقضايا هي ذات بعد كوني، قبل أن تكون قضايا محلية.
إن ما نسعى تأكيده بغلبة الكوني على المحلي، هو أن يتسع نظر المنظمات الإسلامية، في ممارستاها وبرامجها الميدانية، وأن تعمل على إعادة صياغة عدد من المفاهيم المرجعية المؤطرة لمسلكياتها وحركتها في قضايا التضامن الإنساني. أن يكون استهدافها للفئات المستفيدة من أنشطتها، ينطلق من صفة الأممية عوض الأمة، والأديان عوض الدين، والأعراق عوض العرق، والمذاهب والطوائف عوض المذهب والطائفة، أما إن هي بقيت في صيغة المفهوم الأحادية وليس التعددية، فقد جانبت مفهوم الإنساني في بعده الكوني، واكتفت بالتضامن الإنساني المحلي، بما يحمله المحلي من نزوعات وعصبيات الكاست "الاجتماعي" والثقافي.
إن هذه النزعة الإنسية المشار إليها في هذا المحور، لا تستجيب بالضرورة لفكرة إلغاء الخصوصية الهوياتية للمنظمات الإسلامية في تعاطيها مع التضامن الإنساني، بل هي دعوة لأن لا تنحصر أنشطتها في المجال الجغرافي الإسلامي من جهة، وأن تشتغل بتجرد انتمائي من جهة أخرى، حتى لا يظل دورها رهينا لخلفيات فكرانية، وتجد لنفسها موطئ قدم في الساحة الكونية، وتحقق بذلك غاية "الأخوة الإنسانية"، ولعل في تراثنا الإسلامي من الأمثلة والعبر ما يدعم هذا الطرح، ونستقي منها قولا مشهورا للإمام علي (كرم وجهه) قال فيه: ((الناس صنفان: "إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"))، وهي عبارة كافية بما تحمله من دلالة بلاغية وعمق إنساني مازلنا في حاجة لتأكيده إلى يومنا هذا.
ثانيا: احترام الخصوصية المحلية
ترتبط هذه الآلية بالعمل على احترام التنوع والخصوصيات الثقافية بأشكالها وتمظهراتها المختلفة، وهذا مبدأ راسخ في مجال حقوق الإنسان، حيث يبرز التعاطي مع هذا التنوع، بخلفية واعية مؤسسة لثقافة حقوقية، ومؤكدة على الاعتراف بالتنوع الثقافي على مستوياته المتعددة والمتنوعة، حيث إنه ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، نما حول العالم تطوير لممارسات التدخل التنموية والإغاثية وغيرها، والتي لا تقفز على الخصوصيات المحلية، بل تحاول قبل مباشرة مهامها، إجراء دراسات ميدانية، تفهم من خلالها التركيبة الثقافية للمجتمع المحلي، حتى ينساق مشروعها مع قناعات الساكنة وقيمها، دون أن يسهم في خلق آثار جانبية، قد تعيق نجاح المشاريع، أو تلقى مقاومة من طرف الساكنة[9].
وبالتالي، فإن عمل المنظمات الإسلامية وفق هذه الرؤية داخل المجتمعات الأخرى التي لا تنحدر منها هذه المنظمات وأغلبها عربية، يستوجب بشكل أساسي مراعاة هذه الآلية، والتي لن تمكنهم فقط من إنجاح المشاريع أثناء عملية تنزيلها، ولكن أيضا مساهمة المجتمع المحلي في تقبلها واستقبالها، بل والعمل ضمن منهجية تنبني على المقاربة التشاركية، والتي من أساسياتها إشراك الفئة المستفيدة/المستهدفة في المشاريع والبرامج المسطرة، ضمانا لفعاليتها على الأرض، وتحقيقا لنجاعتها وقدرتها على الاستمرارية.
ومن هذه الرؤية، قد ندرج بعض الملاحظات، خاصة في عمل تلك الهيئات من خلال الخلط بين الخيري والدعوي، وإن كانت تلك الممارسات تظهر بطابع الدعوي والإشعاع الديني، فإنها في نفس الوقت تكرس لنوع من المركزية الثقافية أو الطهرانية العقدية، إن لم نقل نوعا من السادية الدينية، وهو أمر يجب أن يكون مرفوضا مبدئيا، وأن تتأسس لدى أذهان المسؤولين قناعة بأن تكون أنشطة المنظمات ذات غاية إنسانية صرفة، لا تحركها أية خلفيات دينية أو ثقافية، وهو ما يمكنه أن يخلق التميز على مستوى الممارسة، ويضفي صفة المشروعية على عملها الميداني. ولا يعكس نفس الصورة السلبية لعدد من المنظمات المسيحية، التي تجد في الفقر المادي لعدد من المجتمعات خاصة منها الإفريقية، وسيلة للتبشير بالمسيحية.
إن احترام الخصوصية المحلية، لا يرتبط فقط بما هو ثقافي متصل باللباس واللغة والدين، وإنما أيضا بما هو اجتماعي متصل بالنظم الاجتماعية المشكلة للمجتمعات المستفيدة، وبالتالي، فإن كانت الغاية من التضامن الإنساني هي النزعة الإنسية، ومحركها هو البعد الكوني، فإن التعاطي مع أي حضارة أو مجتمع كيفما كان، يجب أن ينطلق أساسا من احترام خصوصياته المحلية، سواء أكانت ثقافية أو اجتماعية، والحرص على فهمها واستيعابها، حتى يخلو التدخل من أية ممارسات قد تذهب بمصداقية المنظمات نفسها، أو تفشل نجاح البرامج والمشاريع المسطرة.
ثالثا: تحقيق مبدأ الاستقلالية
من الأكيد أن الدعم الذي حظيت به المنظمات الإسلامية طيلة السنوات الأخيرة، من طرف جهات رسمية ودول وحكومات وغيرها، ساهم وبشكل ملحوظ في تطور أنشطتها، وتوسعة مجال عملها، كما أدى أيضا إلى مساعدة العديد من الفئات المهمشة والفقيرة، من خلال المساهمة في رفع جزء غير يسير من معاناتها، عبر تقديم المساعدة والدعم اللازمين.
ومع ذلك كله، تبقى هذه المؤسسات تعيش في ظل تبعية إدارية ومالية، تحد من نشاطها وإمكانية تطوره في المجال الذي نحن بصدد مناقشته. لذلك، فترسيخ مبدأ الاستقلالية، هو مدخل أساسي ومحوري حتى تتحقق الآليات السابق ذكرها، في بناء الجهد التضامني الإنساني، وتتمكن المنظمات الإسلامية من تملك مزيد من الحرية، المؤدية في آخر المطاف إلى إبداع مزيد من الجهود على مستوى مسلكياتها، دون أن تسطر لها حدود على مستوى الفكر وما يتبعه من أهداف وأطر عامة ومرجعية، وعلى مستوى الممارسة وما يتبعه من اختيار أماكن العمل وطبيعة الفئة المستفيدة.
إن الرهان الذي يجب أن يكون الأداة الفعلية للممارسة المسلكية لهذه المنظمات، يقتضي بالضرورة، تحقيق هذا المبدأ بغية الوصول إلى ترسيخ مزيد من المبادرة الفردية والتسيير من أجل استغلال طاقاتها الذاتية في إطار العمل، هذه المبادرات التي تجعل من المؤسسة، باعتبارها الجهة المباشرة في تنفيذ البرامج والمشاريع، قادرة على تطوير ممارساتها بما تقتضيه الحاجة الميدانية، دون وجود مركزية على مستوى اتخاذ القرار، قد تؤدي إلى بطئ التفاعل مع المستجدات والقضايا الراهنة، وبالتالي تنقص من وهجها وتجعلها رهينة القرارات السياسية، والتي لا تخدم بالضرورة البعد الإنسي، أكثر ما تخدم مصالح حكومات ودول.
وعلى العموم، فإن تبعية المنظمات الإسلامية لجهات رسمية، يطرح تساؤلات عدة حول خططها واستراتيجياتها، وأيضا عن مستوى الفعل الممارس ميدانيا عبر الأنشطة والبرامج، بل وأيضا عن انتقاء مناطق دون الأخرى، خاصة ونحن ندرك أن ما يوجه السلوك السياسي للحكومات والدول، هو المصالح الذاتية مع جهات وفاعلين تربطهم مصالح خاصة، وتكييف هذا السلوك بما يتناغم وسياساتها الخارجية، وهو ما يفرض إشكالات ذات طابع سياسي/اجتماعي على المنظمات نفسها، في إمكانية تطويع أنشطتها بما يتناغم وسياسات الدول المركز الموجه لأنشطتها.
وبالتالي، فإن تحقق مبدأ الاستقلالية، ينعكس على مستويين أساسيين:
الأول يرتبط بمستوى اتخاذ القرارات، حيث إن الممارس للفعل الميداني والمباشر لبرامج التدخل، هو الأقدر على اتخاذ القرارات والأجدر على برمجة المشاريع بما يتماشى وخططها، خاصة على صعيد المشاريع ذات البعد التضامني الإنساني، حيث يظل الطابع الكوني والإنسي هو المحرك الأساسي للتدخل.
أما الثاني، فهو مرتبط بالشأن المالي وميزانية المنظمات، حيث إن ارتهانها للتمويل الخارجي وعدم قدرتها على خلق موارد ذاتية، لا يمكنها من بناء مسافة تصنع لها نوعا من الحياد الموضوعي، وهو ما لا يرقى بها إلى منظمة ذاتية التسيير، بل يجعل منها مجرد مؤسسة إدارية تشتغل وفق استراتيجية مرسومة، وتؤدي مهام منوطة لها وفق أهداف محددة، وهذا لا يعني أن لا تكون للمنظمات أية منح خارجية، بل يجب أن لا تكون تلك المنح أداة للسيطرة على المنظمات واستغلالها في رسم سياق ومعالم السياسات الخارجية للدول المانحة، وهو ما يبرز ضرورة الحرص في التدقيق من منابع جلب الموارد المالية، حتى تحافظ المؤسسة على استقلاليتها.
خاتمة:
إن المحاولة أعلاه من خلال تحديد الآليات الأنفة الذكر، هي في نظري أهم المداخل النظرية والمسلكية، التي يمكن أن تسهم في بناء جهد تضامني إنساني، يبتعد عن النزوعات الدينية والإثنية، وفي نفس الوقت يبني علاقة بناءة مع كافة الشعوب بمرجعيات كونية، تسهم في خدمة الإنسان مهما كان انتماؤه، كما أنها أيضا لا تقفز على الخصوصيات الثقافية المحلية، بل تعمل على استيعابها واستثمارها عبر مقاربة تشاركية، تسهم من خلالها الفئة المستفيدة في إنجاح البرامج وتحقيق نجاعتها الميدانية، وكذلك تحقيق مبدأ الاستقلالية، سواء على المستوى الإداري واتخاذ القرار أو على المستوى المالي، من خلال البحث عن وسائل تحقق موارد ذاتية، أو على الأقل أن لا تفوق الأموال الممنوحة أكثر من نصف ميزانيتها، فضلا عن تنويع مصادرها، حتى تحتفظ حريتها وصلاحياتها على مستوى برمجة المشاريع واتخاذ القرارات.
ويمكن القول بأن حاجتنا الآنية هي في بناء وعي ثقافي يخترق الحدود الوهمية بين مختلف المجتمعات والشعوب حول العالم، ويسهم في تكريس ثقافة المشترك الإنساني وإشعاع الثقافة الحقوقية، بين مختلف فئات مجتمعاتنا الإسلامية/العربية، فضلا عن أجيالنا الصاعدة، حتى تصير نظرتها للإنسان في إنسانيته أولا، دون البحث في خلفيات انتمائه. هذا ما سيعمل أخيرا على تحقيق نتائج تمكننا من اعتبار التضامن الإنساني قيمة كونية نبيلة، ومؤطرة لخدمة الإنسان أينما تموقع انتماؤه الجغرافي، وكيفما كانت وجهة صلاته ودعواته.
وعلى الرغم من محاولتي في هذه الورقة، انتهاج أسلوب نقدي في عمل المنظمات الإسلامية ضمن الجهد التضامني الإنساني، إلا أنه لابد من التأكيد على المجهودات الإيجابية والدالة على المستوى الميداني لتك المنظمات، وهو ما يمكن لمسه عبر تتبع حجم وقوة أنشطة هذه المؤسسات ضمن قطاعات وميادين متعددة، شملت الصحة والتعليم والمجال الإعلامي، فضلا عن المساعدات الخيرية العينية؛ إلا أن ملاحظتنا الأساسية تكمن في تلبس صفة الإنسانية، قبل استيفاء شروطها، والتي لا يمكن أن تتحقق دون مراعاة الآليات السابقة.
المراجع:
العربية:
- علي بن مبارك، دور التضامن والتكافل الإنساني في مواجهة الحروب (وجهة نظر "إسلامية")، مؤتمر الدوحة الدولي: "التضامن والتكافل الإنساني 2009" 20-22 أكتوبر، مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان.
- ممدوح الشمري، مفهوم التضامن الإنساني، صحيفة عكاظ، العدد: 3830، 31 يناير 2012، الرابط: http://www.okaz.com.sa/new/issues/20120131/Con20120131474176.htm
الأجنبية:
- Jean-Marc Coicaud and Nicholas J. Wheeler, National interest and international solidarity: Particular and universal ethics in international life, United Nations University Press, 2008.
- Lourdes R. Quisumbing, VALUES EDUCATION for HUMAN SOLIDARITY, p: 1, link: http://www.humiliationstudies.org/documents/QuisumbingSolidarity.pdf.
- Séverine Bouard, Jean-Michel Sourisseau et Gilles Pestana, La participation des acteurs locaux à l’élaboration et l’évaluation des politiques publiques de développement durable en Nouvelle-Calédonie, EchoGéo, 7 | 2008: décembre 2008 / février 2009, lien: https://echogeo.revues.org/9693.
[1]- نشر بمجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، في العدد (31)
[2]- انظر على سبيل المثال، كتاب جماعي تم إصداره في سنة 2008، تحت عنوان:
Jean-Marc Coicaud and Nicholas J. Wheeler, National interest and international solidarity: Particular and universal ethics in international life, United Nations University Press, 2008
[3]- Lourdes R. Quisumbing, VALUES EDUCATION for HUMAN SOLIDARITY, p: 1, link: http://www.humiliationstudies.org/documents/QuisumbingSolidarity.pdf
[4]- ممدوح الشمري، مفهوم التضامن الإنساني، صحيفة عكاظ، العدد: 3830، 31 يناير 2012، الرابط: http://www.okaz.com.sa/new/issues/20120131/Con20120131474176.htm
[5]- Lourdes R. Quisumbing, Op Cit p: 1
[6]- كان من الممكن إدراج بعض الأرقام حول عمل المنظمات الإسلامية، إلا أن صعوبة الحصول على هذه المعطيات، جعلنا مكتفين بمقاربة عمل هذه المنظمات من خلال طبيعة اختياراتها الجغرافية، وهو ما يهمنا في هذه المقالة بالخصوص.
[7]- علي بن مبارك، دور التضامن والتكافل الإنساني في مواجهة الحروب (وجهة نظر "إسلامية")، مؤتمر الدوحة الدولي: "التضامن والتكافل الإنساني 2009" 20-22 أكتوبر، مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، ص: 9
[8]- نفس المرجع السابق، ص: 10
[9] انظر على سبيل المثال:
Séverine Bouard, Jean-Michel Sourisseau et Gilles Pestana, La participation des acteurs locaux à l’élaboration et l’évaluation des politiques publiques de développement durable en Nouvelle-Calédonie, Echo Géo, 7 | 2008: décembre 2008 / février 2009, lien: https://echogeo.revues.org/9693