المنعطف الميتافيزيقي للفلسفة التحليلية المعاصرة: إسهامات كواين وكريبكه /ج1

فئة :  مقالات

المنعطف الميتافيزيقي للفلسفة التحليلية المعاصرة: إسهامات كواين وكريبكه /ج1

المنعطف الميتافيزيقي للفلسفة التحليلية المعاصرة: إسهامات كواين وكريبكه /ج1

مُلخَّص:

نحاول في هذا البحث أن نُجيب عن سؤال: كيف ولماذا تحوَّل اهتمام الفلاسفة التحليليون من اللغة إلى الميتافيزيقا؟ فنتتبَّع المسار الذي سَلَكَهُ فلاسفة التحليل منذ مَطلع القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة، حيث نعرض لأسباب التشكيك في مشروعيَّة الميتافيزيقا ورفضها في النصف الأول من القرن العشرين مِن قِبَل دائرة فيينا، ثم نتقصَّى عن أسباب نهضتها مرةً أُخرى في النصف الثاني من ذات القرن، بعد أن استعادت صلاحيَّتها ورَوْنَقها مُجددًا، ونُعلّل أسباب ذلك الانعطاف الثوري من اللغة إلى الميتافيزيقا كما نشهده حاليًا، بأنه يعود إلى تأثير فيلسوفَيْن بارِزَيْن؛ هما: «ويلارد فان أورمان كواين» و«سول كريبكة». وينقسم البحثُ إلى ثلاثة أجزاء: في الجُزء الأوَّل نتعرَّض للسياق الفلسفي الذي ظهرت فيه آراء «كواين» لبيان كيف أسْهَمَت أطروحاته في تفنيد مشروع دائرة فيينا (الوضعية المنطقية) الذي استهدفَ إقصاء الميتافيزيقا من دائرة المعرفة المشروعة، ثم نعرض لنظرية الأوصاف الراسليَّة ومميزاتها والدور الذي تلعبه في تفكيك النظريات الميتافيزيقيَّة. وفي الجُزء الثاني من البحث نتطرَّق إلى «كريبكة» ونقده لنظرية الأوصاف، لبيان كيف أسهَمَت هذه الانتقادات والأطروحات في إعادة النظر في كثير من المُسلَّمات التي ارتكز إليها الفلاسفة التحليليون في رفضهم للميتافيزيقا، وفي الجُزء الثالث نعرض للنتائج الميتافيزيقية الهامة اللازمة عن تأثير «كريبكة».

ما تعنيه وما لا تعنيه «الميتافيزيقا»:

غالبًا ما تُوحي كلمة «ميتافيزيقا» بمعنىً سيء السُّمعة للوهلة الأولى، خاصةً إذا كان القارئ أو المُستمع من غير المُتمرّسين بالفلسفة، فسيخطرُ في بالِهِ حينئذٍ جميع أشكال الخرافات الشعبية والحديث الرنَّان عن الظواهر الفائقة للطبيعة Supernatural (المسّ الشيطاني، التخاطر، إلخ) والكيانات الخيالية مثل الأشباح والعفاريت، ويرجع ذلك جُزئيًا إلى الفهم الحرفي لتركيب المصطلح بما هو يُفيد "ما بعد الطبيعة". وبالطبع ليس هذا ما نُريده فيما نحنُ بصدد الحديث عنه. وتحاشيًا لسوء الفهم هذا، يميل الفلاسفة أحيانًا إلى استخدام مُصطلح «الأنطولوجيا» بدلًا من «الميتافيزيقا». والأنطولوجيا (وتعني نظرية الوجود) هي واحدة من ثلاثة أقسام أساسية في الفلسفة، يليها: الإبستمولوجيا (نظرية المعرفة)، والإكسيولوجيا (نظرية القِيَم). وبعبارات موجزة، تُعرَّف الميتافيزيقا (أو الأنطولوجيا) في أبسط معانيها بأنها البحث النظري فيما هو موجود. وقد يشمل ذلك البحث وصفًا لأنواع الأشياء الموجودة، وما هو موجود حقًّا Reality في مقابل ما يبدو أنه موجود ظاهريًا فقط Appearance، وما هو موجود بالضرورة Necessarily في مقابل ما هو عَرَضي Contingent؛ وما هو الأساس النهائي Ultimate foundation الذي يقوم عليه كل شيء آخر، أو القوانين الأكثر عمومية التي تحكم كل شيء.

الوضعية المنطقية ومبدأ التحقُّق:

لا يُمكننا أن نؤرِّخ للفلسفة المعاصرة دون أن نتطرَّق لمأساتها الخاصة ضد مُمارسيها، فلم تشهد الفلسفةُ في تاريخها هجومًا يُشَنُّ عليها مثل الذي تعرَّضت له في مطلع القرن العشرين مِن قِبَل جماعة فيينا الذين عُرِفوا فيما بعد بمدرسة «الوضعية المنطقية»، كان ذلك الهجومُ آنذاك مُوجَّهًا نحو الميتافيزيقا تحديدًا، بوصفها "الفلسفة" بألِف لام التَّعريف إجمالًا[1]. ويُمكننا أن نجد إرهاصاتٍ لهذه الهجمات المُوجَّهة نحو الميتافيزيقا منذ العصر الوسيط لدى جماعة «الاسميين» Nominalists وفيلسوفها الأشهر «ويليام الأوكامي» في رفضه للكُلِّيَّات الميتافيزيقية، وفي أواخر عصر النهضة في التجريبية الإنجليزية لدى «ديفيد هيوم» وتشكيكه في الضرورة السببية، كما نجدُ أيضًا أصداءً مُماثلة في القارَّة الأوروبيَّة لدى الفيلسوف الفرنسي «أوغست كونت» ونزعته الوضعية، وعند «كانط» ومثاليته النقدية، مرورًا بـ«نيتشه» ومطرقته التاريخيَّة في القرن التاسع عشر، ووصولًا إلى فلاسفة مابعد الحداثة في القرن العشرين، مِمَّن واصلوا نهج «نيتشه»، بَيْد أن هذه الهجمات السابقة على ظهور الوضعية المنطقية كانت متفاوتة في الشدَّة والضعف، ولم تستند إلى مُبرّراتٍ منهجيّةٍ كافية، فلم تكن هذه المحاولات كافيةً لاستيفاء شرطها (استبعاد الميتافيزيقا).

نلتقي فعليًا بأول محاولة منهجية مُلائمة للتخلُّص من الميتافيزيقا مع أعلام مدرسة الوضعية المنطقية، وهُم «موريتس شِليك» و«رودولف كارناب» و«أوتو نيوراث» و«كارل همبل» و«ألفِرِد ج. آير» و«فايجل» وآخرين. كانت اعتراضات هؤلاء الفلاسفة ترتكزُ على أساسٍ دلاليٍّ صِرف؛ فقد وصِفَتْ العبارات الميتافيزيقية عندهم بأنها ‘‘لغوٌّ لا معنى لهُ’’. وكان أساس هذه الاعتراضات أنْ ميَّز الوضعيون المناطقة بين وظيفتين أساسيَّتين من وظائف اللغة: إحداهما هي الوظيفة المعرفية Cognitive أو الإخبارية Informative، وهي التي تُستخدم فيها اللغة للإشارة إلى وقائع وأشياء موجودة في العالَم، ولا تزيد مُهمة اللغة بذلك على أن تجيء تصويرًا لتلك الوقائع والأشياء. أما الأُخرى، فهي الوظيفة غير-المعرفية Non-cognitive والانفعالية Emotive ومؤداها أن المرء قد يستخدم اللغة للتعبير عن انفعالات ومشاعر تجول في خاطره وتضطرب بها نفسه كما هو الحال مع الشاعر مثلا. ويدخل في نطاق هذه الوظيفة غير المعرفية استعمالات مُعيَّنة للغة تشغل بال الفيلسوف الذي يُعالج مسائل الميتافيزيقا والأخلاق والجمال. ولو اكتفى فلاسفة الوضعية المنطقية بالتمييز بين هاتين الوظيفتين لَما كان هناك صراع واصطراع، ولكنهم أصرُّوا على أن العبارات التي تندرج في إطار الوظيفة المعرفية؛ أي العبارات التجريبية، هي وحدها ذوات المعنى، بالإضافة إلى قضايا تحصيل الحاصل [المنطق والرياضيات] بوصفها قوالب فارغة لا غِنى عنها في البناء المنطقي للعِلْم، وأما العبارات التي تقع في نطاق الوظيفة غير المعرفية مثل عبارات الميتافيزيقا والأخلاق والجمال، فهي عبارات خالية من المعنى على أساس أننا لا نجد لها من وقائع العالَم ما يجعلها صادقة أو كاذبة.

وعلى هذا النحو، تحدّدت مهمة العبارات ذات المعنى في وصف حالة من حالات الواقع، ثم يأتي الحُكم على هذه العبارة بالصدق أو بالكذب بناءً على قابليتها للتحقُّق.[2] ومن ثمَّ انحصر المعنى المعرفي في التمييز التحليلي-التركيبي بصورته الوضعية، ولا يخفى هذا التمييزُ على قارئٍ مُتبحِّرٍ في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، فهو يعود إلى الفيلسوف العظيم «إيمانويل كانط»[3] في كتابه "نقد العقل الخالص" Critique Of Pure Reason، والعبارة التحليلية هي التي لا تُخبرنا بخبر جديد عن الموضوع الذي نتحدث عنه، وإنما تُحلِّل ذلك الموضوع إلى عناصره، كقولنا: ’’الأرملة امرأة مات زوجها‘‘ فنحن لا نقول شيئًا جديدًا يُضاف إلى تعريف الأرملة؛ إذ لو طلب منا شخص ما أن نُحدد له معنى الأرملة أولًا قبل أن نقول عنها ما نقوله، لاستحال علينا توضيح معناها دون أن نذكر هذه الصفة عنها؛ أي إنها امرأة مات زوجها. وهكذا لم يُخبر قولنا بخبر جديد، وإنما هو تحصيل حاصل، أي: عبارة تحليلية. أما العبارة التركيبية، فهي التي تُخبرنا بخبر جديد عن الواقع، إذا شئنا أن نتأكد من صدقه أو كذبه تعيَّن علينا أن نُقارن بين واقع الأشياء وما تزعمه العبارة، فإذا قُلنا: ’’النافذة مفتوحة على مصراعيها‘‘ فلسنا نقول بذلك معنى كلمة نافذة وإنما نُضيف إلى معناها خبرًا هو أنها مفتوحة على مصراعيها. كان للتمييز بين (التحليلي/التركيبي) أهمية حاسمة كأساس لمبدأ التحقُّق Verification Principle الذي سيستخدمه الوضعيون المناطقة في التمييز بين ما له معنى مما لا معنى له؛ إذ ينصُّ مبدأ التحقُّق على أن معنى القضية هو طريقة التحقُّق من صدقها. يقول موريتس شِليك:

’’كلما نسأل عن جُملة "ماذا تعني؟" فإننا نتوقَّع درسًا فيما يتعلَّق بالظروف التي تُستعمل الجُملة فيها، ونودُّ أن نصف الشروط التي ستُشكل الجُملة بمقتضاها قضية (صادقة) والشروط التي تجعلها (كاذبة)... ومعنى القضية هو منهج تحقيقها.[4]‘‘ فإذا لم توجد - من حيث المبدأ - طريقة للتحقُّق من قيمة-صدق جُملةٍ ما، كانت الجملة بلا معنى، أو جملة "زائفة" أو "شبه جُملة" بحسب تعبيرات الوضعية المنطقية.

يواجه مبدأ التحقُّق - من بين ما يواجهه من انتقادات - أربعة اعتراضات أساسيَّة، حسبنا الإشارة إلى ثلاثة منها الآن، ثم سنذكر الاعتراض الرابع تفصيلًا حينما نتحدَّث عن «كواين»: ينصبُّ الأول على الوضع المنطقي للمبدأ نفسه، ومؤداه أن عبارة المبدأ نفسها لا هي علمية يمكن التحقُّق منها ولا هي تحليلية، وبالتالي يُمكن رفض المبدأ بوصفه خاليًا من المعنى، ويردُّ الوضعيون المناطقة على هذه الحُجَّة باستخدام نظرية الأنماط المنطقية المُستمدَّة من رَسِل، والتي تقول: إن العبارات اللغوية ليستْ من نمطٍ واحد، وأن مقياس الصدق في أحد هذه الأنماط ليس هو مقياسه في الأنماط الأُخرى، وبالتالي يجب أن لا نتوقَّع من معيار التحقُّق أن يكون موضوعًا لنفسه، كما لا نتوقَّع من آلة قياس الوزن أن تَزِن نفسها. ولكن إن لم يندرج مبدأ التحقُّق في فئة العبارات ذات المعنى الإخباريّ القابل للتحقُّق، فأين عساهُ يكون؟ الجواب الذي يُقدِّمه الوضعيون المناطقة على ذلك أن المبدأ هو ’’اقتراح‘‘ بألّا نقبل القضايا بوصفها ذات معنىً إلا إذا كانت قابلةً للتحقُّق. ونحنُ نتساءل: ما الذي يُميِّز هذا ’’الاقتراح‘‘ عما دونه من الاقتراحات الأُخرى المُمكنة؟ يبدو أن الجدل هنا سيتخذ مسارًا براجماتيًا في المفاضلة بين الاقتراحات الممكنة؛ إذ ليس ثمَّة سُلطة معرفية تمنعنا عن الالتزام بـمبدأ أو ’’اقتراح‘‘ آخر يسمح لنا بإدراج عبارات الميتافيزيقا ضمن فئة العبارات المشروعة ذوات المعنى... ويتعلَّق الاعتراض الثاني على مبدأ التحقُّق بطبيعة الكائنات التي ينطبق عليها المبدأ: إذ يجد أنصار مبدأ التحقُّق أنفسهم أمام مُعضلة لا سبيل إلى الخروج من قَرنَيها، فإما أن ينطبق المبدأ على (الجُمَل) وهي بطبيعتها مُتغيِّرة الصدق من مناسَبة إلى أُخرى، وبالتالي لا يمكن طرح السؤال: هل هي صادقة؟ وإما أن ينطبق المبدأ على (القضايا) وهي ذات معنى بحكم تعريفها، وبالتالي لا يمكن طرح السؤال: هل هي ذات معنى؟ وخُلاصة هذا الاعتراض أن المبدأ إما أنه غير ضروري أو لا سبيل إلى تطبيقه. ويرتبط الاعتراض الثالث بعملية التحقُّق: فقد ذهب "آير" إلى أنه لا يُشترط لكي تكون العبارة ذات معنى أن يكون التحقُّق منها تحقُّقًا عمليًا، بل تكفي إمكانية التحقُّق من حيث المبدأ، ويعترف بأنه حاول أن يُقدِّم تعديلات أُخرى للمعيار تتفادى نقد ألونزو تشيرش بأن المعيار حتى في صورته المُعدَّلة لا يزال يسمح بوجود معنى لأيَّة قضية، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل.[5]

كانت الاعتراضات السابقة كفيلة بإخماد نجم الوضعية المنطقية وتحطيم آمالها في إقصاء الميتافيزيقا من دائرة المعارف المشروعة، ومع ذلك، لم تنهض العنقاء من رمادها مباشرةً، فقد ظلَّ لفيفٌ من الفلاسفة ينظرون إلى الميتافيزيقا بعين الرَّيْبة والازدراء، فيقول بوتنام في محاضرة له بعنوان «بعد الميتافيزيقا، ماذا؟» After Metaphysics, What?: ’’هناك نوع من الإحساس بأن عبث ما كان يُسمَّى بالميتافيزيقا والإبستمولوجيا هو مُشكلة أكثر حِدَّة وألمًا لحقبتنا - الحقبة التي تتوق لِأن تُسمَّى «مابعد الحداثة» بدلًا من الحداثة‘‘.[6] ونجد رورتي يُبشِّر بما يُسمَّيه «ثقافة ما بعد-الميتافيزيقا» Post-metaphysical Culture؛ إذ يصفها قائلًا: ’’ثقافة شاعَريّة أو ما بعد-ميتافيزيقيّة هي ثقافة اختفى فيها، واندثر، ذلك الإصرار المشترك بين الدين والميتافيزيقا - ألا وهو السعي لإيجاد مَصفوفة للتفكير غير تاريخية، وعابرة للثقافات، شيء يمكن لكل شيء أن يتلاءم معه، بغض النظر عن الزمان والمكان. ستكون ثقافة يفكر فيها الناس في البشر على أنهم يخلقون عالمهم الحياتي الخاص بهم، بدلاً من أن يكونوا مسؤولين أمام الله أو "طبيعة الواقع"، التي تُخبرهم بماهيته.‘‘[7]

استغرق ذلك الرفضُ عقودًا، قبل أن يحدث ذلك الانفجار الكامبيري الذي نشهده في البحوث الميتافيزيقية منذ النصف الأخير من القرن العشرين حتى الآن، فقد تنوَّعت اهتمامات الفلسفة التحليلية منذ ذلك الحين ولم تعُد تقتصر فقط على تحليل اللغة كما كانت في بداياتها، وإنما عاد الفلاسفة يُوجهون أنظارهم نحو المُشكلات الميتافيزيقية الكلاسيكية مثل مشكلة العقل-الجسد [MBP]، والإرادة الحُرَّة، والهُويَّة الذاتية، وعِلَّة وجود العالَم، وماهية الزمن، ومسائل الأخلاق وما إلى ذلك... مما أنتجَ وفرة غير مسبوقة من الدراسات الميتافيزيقية في مجالات فلسفة العقل وفلسفة الدين وفلسفة الأخلاق، فما الذي حدث خلال هذه العقود القليلة؟ ما الذي أنهضَ العنقاء من رمادها؟

من بين جميع الأسباب الممكنة لتفسير ما حدث، أرى أنَّ ثمَّة سببَان أساسيّان لإحداث هذا التوسُّع الكبير في الفلسفة التحليلية المُعاصرة وإخراجها من جُحر اللغة الضيِّق إلى أُفُق الميتافيزيقا الرَّحْب، وهذين السببين هما فيلسوفان ومنطقيَّان بارزان، تَرَكا أشدَّ الأثر في فلسفة النصف الثاني من القرن العشرين، وهُما: (1) ويلارد فان أورمان كواين، و(2) سول كريبكه.

لا يقلُّ أحدهما أهميةً عن الآخر من حيث التأثير، ولا يتَّسع لنا المجال هنا لاستيفاء كُلٍ منهما حقُّه بالتمام والكمال، وعليه، ولأسباب موضوعيَّة أُخرى، سأكتفي فقط بعرض موجز للأفكار الجوهرية التي جاء بها كواين، وتوضيح أثرَها في إحداث هذا التوسُّع الكبير الذي تشهده الفلسفة التحليلية المُعاصِرة، بينما سأُسهب في الحديث عن "سول كريبكه" ومحاضراته بجامعة برينستون عام 1970م المُعَنْوَنَة بـ"التسمية والضرورة" فيما تبقَّى من هذا البحث.

عقائد التجريبية الجامِدة:

أفسَحَتْ فلسفة كواين مجالًا للميتافيزيقا من جهة أنها قوَّضَتْ أي محاولة لإقامة خط فاصل للتمييز بين العلم واللاعلم [الذي يشمل الميتافيزيقا من وجهة نظر وضعية]، فعلى عكس ما زعمه الوضعيون المناطقة من أن العلم يتميَّز نوعيًا عمَّا سواه من ضروب المعرفة من حيث قابليَّة التحقُّق تجريبيًا من معنى قضاياه، قضيةً قضية، حاجج كواين ضد هذه الرؤية مُبيِّنًا ضعف الأُسس التي تستند عليها، ومُوضِّحًا أن الفرق بين العلم وغيره من ضروب المعرفة إنْ هو إلا فرق في الدرجة فقط لا في النوع. عام 1951م نشرَ كواين مقالته الشهيرة "عقيدتان في التجريبية" Two Dogmas of Empiricism، وهي واحدة من الأعمال الكلاسيكية المُميزة في الفلسفة المعاصرة، وقد قصَدَ كواين بهاتين العقيدتين: (1) التمييز بين التحليلي/التركيبي، و(2) النزعة الاختزالية Reductionism وهي الاعتقاد بأن كل عبارة ذات معنى تكون مُكافئة لبناء منطقي مُعيَّن، يتكوَّن من حدود تُشير إلى خبرات أو مُعطيات حسية مُباشرة.

وفيما يتصل بموضوعنا، فقد كانت العقيدةُ الأولى (التمييز التحليلي/التركيبي) هي الأساس الذي استند عليه الوضعيون المناطقة في ترسيم الحدود الحاسمة بين ما له معنى وما لا معنى له، فليس ثمَّة معنى خارج القضايا التحليلية والقضايا التركيبية، تُحيلنا الأولى إلى المواضعات اللغوية، وتُحيلنا الثانية، إما إلى وقائع خارجية أو إلى الخبرات الحسيَّة في نهاية التحليل، وما دونهما ليس إلا لغوًا خلوّ من المعنى. ناقش كواين في مقالته أهم التعريفات المُقترحة لمصطلح (التحليليَّة) ووجد أن جميع هذه التعريفات دائرية Circular definitions وتُعوِّل على مفاهيم أكثر غموضًا -فيما يرى كواين- مثل "المعنى" و"الترادف"، وعلى ذلك يُقرر كواين أن التمييز (التحليلي/التركيبي) ما هو إلا عقيدة جامِدة ليستْ من التجريبية في شيء.[8]

وفيما يخص العقيدة الأُخرى (عقيدة الاختزال Reductionism)، حاجج كواين ضد إمكان ردّ القضايا التركيبية [أو جُمَل المُلاحظة] إلى المُعطى الحِسِّي المُباشر، فقد انتهي التحليل المنطقي واللغوي عند كواين إلى أننا لا نستطيع تحديد المُحتوى التجريبي الخام لأي جُملة من المحتوى اللغوي والنظري المُتضمَّن بها، فليس ثمَّة مُلاحظة خالِصة، إنَّ المُلاحظة دائمًا ما تكون مُثقَلة بالنظرية Theory-laden of Observation[9]؛ ويعني ذلك أمرَين: (1) أن اللغة المستخدمة في وصف الملاحظة تظهر هي نفسها في صياغة النظرية، و(2) أن المفاهيم التي نحملها [أي النظريات التي نقبلها] تُحدِّد مُحتوى مُلاحظاتنا.

وفي المقابل يقترح كواين بديلًا مُتمثِّلًا في نزعته الكُلّانيَّة Holism التي تنصُّ على أن قضايانا عن العالَم الخارجي لا تُواجه محكمة الحواس فرادى، وإنما كجِسمٍ مُتَّحِد.[10] وذلك على عكس ما يفترضه التمييز (التحليلي/التركيبي) من إمكان انتزاع القضيَّة الواحدة والتحقُّق من معناها على حِدى، فمُجمَل معرفتنا هو نسيج مُتَّصِل من القضايا التي ترتبط فيما بينها بعلاقات منطقية، وأي تعديل في موضع سيتطلَّب تعديلًا في مواضعٍ أُخرى. يقول كواين:

‘‘إن مجموع ما يُدعى معرفتنا أو معتقداتنا، بدءاً من أكثر الأمور عَرَضيَّة في الجغرافيا والتاريخ وارتقاءً إلى أعظم قوانين الفيزياء الذرية أو الرياضيات البحتة والمنطق أيضًا، هو من صُنع الإنسان وإنشائه، وهو الذي لا يمسّ الخبرة إلا عند الأطراف. أو نقول، مع تغيير الصورة، إن العلم كلّه مثل حقل قوَّة حدوده الخبرة. وإن ارتطامًا بالخبرة عند مُحيطها الخارجي يُسبب القيام بتعديلات في داخل الحقل. ويجب عندئذٍ إعادة توزيع قِيَم الصدق على بعض قضايانا. كما أن إعادة تقييم بعض القضايا يلزم عنه إعادة تقييم قضايا أُخرى بسبب الروابط المتبادلة بين هذه القضايا - والقوانين المنطقية، بدورها، هي قضايا إضافية للنسق؛ أي عناصر إضافية مُعيَّنة من عناصر الحقل، فبعد إعادة تقييم قضية واحدة، علينا أن نُقيِّم بعض القضايا الأُخرى التي قد تكون قضايا ذات ارتباط منطقي بالقضية الأولى، أو قد تكون قضايا الروابط المنطقية ذاتها. وتحديد كامل الحقل بالحالات الحدودية للخبرة يُفسح مجال اختيار أي قضايا يجب إعادة تقييمها في ضوء أي خبرة مضادة واحدة، فلا توجد خبرات من نوع مُعيَّن ذات ارتباط بقضايا من نوع مُعيَّن داخل الحقل، سوى بصورة غير مباشرة عبر اعتبارات التوازن التي تؤثر على الحقل ككلّ.’’[11] وقد سبق وأن تبنَّى الفيزيائي والفيلسوف "بيير دوهيم" هذه الأطروحة أيضا، وتوسَّع في شرحها بالأمثلة، فأصبَحت تُعرَف في أدبيّات فلسفة العلم بـ "أطروحة دوهيم-كواين" Duhem-Quine Thesis.

وما تُفيده النزعة الكُلَّانيّة ينسحب أيضًا على معيار التمييز البوبري القوي، أي التكذيبية الدوجماتيَّة Dogmatic Falsificationism، وهي أطروحة كارل بوبر في صيغتها الأولى (قبل أن يتم تنقيحها لاحقًا إلى ’’التكذيبية المنهجية‘‘ بتأثير من نقد إيمري لاكاتوش)، والتي ترى أنَّ العِلْم يتميَّز عمَّا سواه من ضروب المعرفة من حيث قابليّته للتكذيب مُباشرةً، فالنظرية العلمية - وفقًا للتكذيبية الدوجماتيَّة - ينبغي أن تكون قابلة للتكذيب (لا التأييد) من حيث المبدأ: أي أن البناء المنطقي الذي تُصاغ بهِ النظرية يسمح لنا بتصوُّر الظروف التي نستطيع بموجبها تفنيد هذه النظرية، ويكفي لتفنيد نظرية علمية بالكامل أن نحصل على مُلاحظة تجريبية واحدة، مُضادة لما تُخبرنا به النظرية، ومن ثمَّ فينبغي أن نتخلَّى عن هذه النظرية. وأمَّا النزعة الكُلَّانيَّة التي يُقدّمها كواين، فتستبعد إمكان القيام بذلك التكذيب العنيف الذي تفترضه التكذيبية الدوجماتيَّة؛ لأنه كما أننا لا نستطيع أن ننتزع الجُمَل فرادى للتحقُّق من صدقها على حِدى، فكذلك لا نستطيع أن ننتزع النظرية الواحدة - من بين النظريات الأُخرى التي ترتبط فيما بينها في النَّسَق العلمي - بناءً على مُلاحظة تكذيبية. ففي الممارسة العلمية، حالما نصطدم بأدلَّة تجريبيّة مُضادة لنظرية مقبولة سلَفًا، فإننا إنما نقوم فقط بتعديل بعض الجُمَل التي تَحتوي عليها هذه النظرية، ويقع الاختيار غالبًا على الجُمَل التي تتعارض بشدَّة مع مُلاحظاتنا التجريبية، فلا نتخلَّى عن النظرية بالكامل. وما نقوم به من تعديلات مُستمرة في النَّسَق العلمي، محكوم - حسبما يرى كواين - بمبدأ الحد الأدنى من التشويه Maxim of minimum mutilation وهو: أنه يجب علينا أن نقوم بالحدّ الأدنى الممكن من التعديلات التي ستحفظ للنَّسَق العلمي اتّساقه ككُل، وبساطته، وقدرته على التنبؤ.. وما هو أكثر من ذلك فلا داعي له.

إضافةً لما سَبق، كشف كواين عن وجود فجوة تفسيرية بين النظرية العلمية والمُعطيات التجريبية، وهذه هي أطروحة "نقص التحديد في النظرية من خلال الأدلَّة" Underdetermination of theory by data، فالأدلَّة التجريبية حتى إذا ارتدَّت بشكل أو بآخر إلى جُمَل مُلاحظة، فإن هذه الأخيرة وحدها لا يمكن تُحدد بناء النظرية، فالأدلَّة التجريبية تقبل منطقيًّا أن تُصاغ في أكثر من نظرية علمية، بحيث يكون كلاهما مُتفقًا تمامًا وبالقدر نفسه مع الأدلَّة التجريبية، وفي الوقت نفسه تكون النظرية الواحدة متعارضة مع الأُخرى. يقول كواين: ’’إن أي صيغة متناهية تتضمَّن المجموع الكُلّي لجُمَل الملاحظة، يجب عليها أن تتضمَّن أيضًا مسألة غير قابلة للحسم، أو عملية سدّ تكون فائدتها الوحيدة هي إكمال الصيغة، وهناك حُريّةُ اختيارٍ ما لعملية السَّد، وهذا هو التحديد الناقص.‘’[12]

كان لأطروحات كواين تداعيات مُتطرِّفة إذا ما امتدَّت على استقامتها، إلا أن كواين نفسه فضَّلَ الاعتدال - نِسبيًّا - في مواقفه، على العكس مِمَّا فعل بعض أتباعه، فقد انطلق كلٌ من «توماس كون» و«بول فيرابند» من نقص التحديد النظري كمُقدِّمة، وانتهيا بها إلى نفي الموضوعية عن العلم وإقحامه بالنسبويَة الثقافية، بحُجَّة أننا إذا لم نتمكَّن من الحسم بين النظريات المتنافسة والمتكافئة تجريبيًا، فإن قبولنا لنظرية دونًا عن بدائلها الأخرى لا يقوم على أسسٍ عقلانية، وإنما تحكمه العوامل الثقافية، وعلى صعيد آخر كان لبعض الفلاسفة المُحافظين بُعْدُ نَظَر فيما يتعلَّق بالنتائج المنطقية البعيدة لأطروحات كواين بوصفها تؤدِّي إلى الشكوكيَّة، فأخذوا على عاتقهم مُهمَّة الدفاع عن الأطروحات المركزية في التقليد التحليليِّ والتي هاجمها كواين، مثل نظريَّة المعنى والتمييز بين التحليلي-التركيبي ونظرية الأُسس في تسويغ المعرفة، وأبرز هؤلاء هم «بيتر ستراوسُن» و«بول جرايس» و«رودريك تشزهولم». وبغض النظر عن التداعيات المُتطرِّفة لأفكار كواين، فإنه مما لا شكَّ فيه أنَّ هذه الأطروحات قد أسهَمَتْ إسهامًا مُباشرًا في إعادة النظر إلى الميتافيزيقا بوصفها ضرب من ضروب المعرفة المشروعة. فبعد الشكوك التي أثارها كواين حول التمييز التحليلي-التركيبي لم يَعُد هنالك ما يُسوِّغ نظرية التحقُّق في المعنى التي اعتمدَ عليها المشروعُ التجريبيّ منذ هيوم وحتى دائرة فيينا، ومن ثمَّ فليسَ هنالك ما يُسوِّغ محاولة الفصل الدقيق بين العلم والفلسفة [التي تشمل الميتافيزيقا] على أساس ما له معنى مِمَّا لا معنى له[13]، فكلاهما عند كواين من نسيجٍ معرفيٍّ واحدٍ مُتَّصِل ولا يختلفا إلا في الدَّرَجة، لا في النوع. كما أن "نقص التحديد في النظرية من خلال الأدلَّة" يسمح بإمكانيَّة إدخال المفاهيم والمبادئ الميتافيزيقية كعملية سدّ لإكمال النظرية، ولعلَّ ذلك ما حذا بكواين أن يقول: ’’إنَّ قبولنا لأنطولوجيا أمر يتشابه من حيث المبدأ، كما أرى، مع قبولنا لنظرية علمية، مثل نسَق الفيزياء، فنحن نتبنَّى، إذا كنا عقلانيين، أبسط مُخطط تصوُّرات يمكن إدخال الأجزاء العشوائية من الخبرة الخام فيه ومواءمتها وترتيبها. وتتحدَّد نظريّتنا الأنطولوجية حالما نُحدّد ونقبل مخطّط التصوُّرات الذي سيوائم العلم بمعناه الأعمّ. وإنَّ الاعتبارات التي تُحدّد إنشاء أي جُزء من ذلك المُخطّط إنشاءً مقبولًا، مثلًا، الجُزء البيولوجي أو الجُزء الفيزيائي، لا تختلف، نوعًا، عن الاعتبارات التي تُحدّد إنشاء الكل. وما يُقال عن اللغوي، في تبنّي فرع من فروع النظرية العلمية، هو نفسه ما يُقال عن الأنطولوجيا المُتبنَّاة.’’[14]

ويؤكد في موضعٍ آخر:

’’باعتباري ذا نزعة تجريبية مازلت أرى المُخطَّط التصوُّري للعلم أداةً للتنبؤ بالخبرة المستقبلية في ضوء خبرة الماضي. لقد أُدخِلَت الأشياء الفيزيائية إدخالًا مفهوميًا في الموقف كوسائط مُلائمة - وليس عن طريق تعريف لغة الخبرة، وإنما ككائناتٍ مُفترضةٍ موضوعةٍ ولا تُختزل، تُقارَن من الوجهة المعرفية بآلهة هوميروس. ومن جهتي، أقول إني أؤمن كفيزيائي عادي بالأشياء الفيزيائية، لا بآلهة هوميروس، وأعتبر خلاف ذلك خطأً علميًا. لكن الأشياء الفيزيائية لا تختلف من مُنطلق نظرية المعرفة، إلا في الدرجة، لا في النوع، فنوعا الكائنات كلاهما لا يُدخل في مفهومنا إلا أمورًا ثقافية موضوعة أو فرضيات. وأسطورة الأشياء الفيزيائية هي أعلى معرفيًا من غالبية ما دونها؛ لأنها برهنت أنها أكثر فعالية من الأساطير الأخرى كوسيلة لإنشاء بنية طيّعة داخل طوفان الخبرة... إنَّ وضع كائنات افتراضية لا يتوقف عند الأشياء الفيزيائية الكبيرة الحجم، فعلى المستوى الذرّي يتم وضع أشياء بهدف جعل قوانين الأشياء الكبيرة الحجم، وأخيرًا قوانين الخبرة، بصورة أكثر بساطة وأسهل. ولا نحتاج أن نتوقَّع أو نتطلَّب تعريفًا كاملًا للكائنات الذرّيَّة ودون الذرّيَّة بلغة المعطيات الحسية. والعلم استمرار للمعرفة العادية، وهو يكمل المعرفة العادية المُلائمة للأنطولوجيا المتفاقمة بهدف تبسيط النظرية... وليستْ الأشياء الفيزيائية، صغيرها وكبيرها، هي وحدها الكائنات الموضوعة بالافتراض، فالقُوى مثل آخر، والواقع هو أنه يُقال، في الوقت الحاضر، أن الحدّ الفاصل بين الطاقة والمادة مهجور. عِلاوة على ذلك، إنَّ الكائنات المُجرَّدة التي هي جوهر الرياضيات - أي الفئات وفئات الفئات صعودًا - هي كائنات موضوعة افتراضيًا بنفس الروح. تعتبر هذه من جهة نظرية المعرفة، أساطير بمستوى الأشياء الفيزيائية والآلهة، لا أفضل ولا أسوأ منها ما عدا اختلافها عنها بدرجة تيسيرها تعاطينا مع الخبرات الحسيَّة... استنادًا إلى هذه النظرة، تكون المسائل الأنطولوجية على قدم المساواة مع مسائل العلم الطبيعي...‘‘[15]

وإذا صحَّ القَول إن المُلاحظة "مُثقلة بالنظرية" فإن ذلك ليُجرِّد النزعة التجريبية من بريقها وجاذبيّتها إلى حدٍّ كبير؛ فقد أصرَّ التجريبيون الكلاسيكيون مثل فرانسيس بيكون ونيوتن، على أوَّليَّة المُلاحظة الحسية، بوصفها محكّ الصدق في معرفتنا بالعالم الخارجي. ويتبع من ذلك ردُّ الاعتبار إلى الفرضيات المُجرَّدة Abstracted hypotheses المتجاوزة لنطاق المُلاحظة، وأغلب قضايا الميتافيزيقا (بوصفها تحليلًا قبليَّا A priori) هي من هذا النوع. وعلى الرغم من ذلك، فإن كواين نفسه لم يكن من الفلاسفة ذوي المِزاج الميتافيزيقيّ، فقد ظلَّ مُحتفظًا بميولهِ التجريبيَّة العِلميَّة، ولم يُعِر اهتمامًا كبيرًا للأسئلة الميتافيزيقية التي انفتحَ لها الأُفُق من جديد بمساهمةٍ منه. ويُفهَم ذلك في الإطار العام للإبستمولوجيا الطبيعانية لدى كواين، فلم تكن لدى كواين منذ البداية أيَّة أهداف ذات صِلَة بتأييد الميتافيزيقا أو رفضها، وإنما أراد كواين أن يُقدِّم صيغةً للتجريبيَّة العلمية أكثر تماسُكًا وشمولًا، حيث تتلافى العيوب والأخطاء التي وقع فيها أقرانه السابقين.. ويظهر ذلك جليًّا في قوله:

’’التأريف Demarcation[16] ليس ما يعنيني، إنَّ ما يعنيني من خلال توضيح الخصائص المُميِّزة للطبيعانية كما وضحتها هو فقط أنَّ أقصى ما يمكننا الوصول إليه كدعم لنظرياتنا وأوصافنا عن الواقع هو قابلية اختبار النتائج المُلاحظة لهذه النظريات والأوصاف عن طريق المنهج الفرَضي الاستنباطي المُبجَّل في وقتنا. لا تحتاج الطبيعانية أن ترفض بعُنف الميتافيزيقا غير المسئولة، على الرغم من أنها تستحق ذلك، وبشكل أكثر أهمية لا تحتاج الطبيعانية إلى أن ترفض العلوم الإنسانية، ولا الروافد التأمُّليّة للعلوم الصلبة، لا تحتاج الطبيعانية إلى أن ترفض كل ذلك إلا في حالة واحدة، وهي ادِّعاء تلك النظريات اعتمادًا مُهمًا على أساس أكثر صلابة من المنهج الاختباري نفسه‘‘.[17]

العقيدة الثالثة التي سكتَ عنها كواين:

لم تكن عقيدَتيْ التمييز التحليلي-التركيبي والاختزال هما وحدهما الأساس الذي ترتَّب عليه نقض الميتافيزيقا وإقصاءها من دائرة المعرفة المشروعة لدى الوضعيّة-المنطقيّة، فثمَّة عقيدةٌ ثالثة، وهي جذر أكثر أوَّليَّةً وأصالة من هاتين العقيدتين؛ وذلك الجذر الأوَّل هو نظرية فريجة وراسِل في دلالة الأسماء، أو: نظرية الإشارة. والتي تُعرَف في الأدبيات الفلسفيَّة بـ «نظرية الأوصاف» Theory of Descriptions. أقول عن «نظرية الأوصاف» عقيدة؛ لأنها لاقت قبولًا عامًا من قِبَل جميع الفلاسفة التحليليين تقريبًا -وإنْ بصورٍ مُختلفة أحيانًا كما سنرى، مثلها تمامًا مثل عقيدة التمييز التحليلي-التركيبي وعقيدة الاختزال، حتى أنَّ فيلسوفًا ورياضيًا مرموقًا مثل «فرانك رامزي» سبق أن أشار إلى «نظرية الأوصاف» قائلًا عنها: ’’إنها نموذج للفلسفة‘‘.[18]

ونظرية الأوصاف لها نتائجٌ منطقية واسعة، من حيث هي نظرية في دلالة الحدود الإشاريَة Referential terms عمومًا، والأسماء العَلَم خصوصًا، فتنحسب بنتائجها المنطقية على الميتافيزيقا، وفلسفة اللغة، وفلسفة العقل والإبستمولوجيا. وتُفهَم نظريةُ الأوصاف - في سياق الكلام عن الأسماء - بصورةٍ أبسط باعتبارها محاولة لتفسير الدلالة المنطقية لإسم العَلَم Proper name، من حيث أهميَّته المعرفية والدور الذي يؤدِّيه في فهمنا للإشارة، والمعنى، والصدق.

عَكَفَ التقليد المنطقي-الفلسفي منذ «أرسطو» وحتى «جون ستيوارت مِل» على التمسُّك بالنظرية القائلة أن اسم العَلَم له دلالةٌ خارجيَّة فقط Denotation، ومعنى ذلك أن إسم العَلَم يُشير مُباشرةً إلى الشيء المُسمَّى، ولا نحتاج إلى كلمة أو عِبارة أُخرى لنفهمه من خلالها، فقَوْلنا «أرسطو» يُفهَم على أنه أشارةٌ مُباشرة إلى شخص «أرسطو»، ولا أكثر. وأما بالنسبة إلى «فريجه» و«راسِل» ومن تبعهما فيما بعد من الفلاسفة التحليليين، فنجدهم -على عكس أسلافهم- يتمسَّكون بنظريةٍ مُقابلة مفادها: أن اسم العَلَم له دلالةٌ مفهومية Connotation، ومقصد ذلك أن اسم العَلَم له مُحتوى نظري مُرادف له[19]؛ أي إن الاسم له معنى، ومعنى الاسم يُعبّر عنه وصفٌ مُحدِّد Definite description (أو مجموعة من الأوصاف المُحدِّدة كما في بعض صور النظرية) من النوع الذي يُعيِّن شيئًا ما، مثل قولنا ’’مؤلِّف كتاب الأيّام‘‘ حيث ينطبق ذلك الوصف على «طه حسين» تحديدًا، وكقولنا ’’مُعلِّم الإسكندر الأكبَر‘‘ حيث يصدُق ذلك الوصف على «أرسطو» تحديدًا.

ويبدو من الوهلة الأولى أن النظرية التقليديَّة (أي الإشارة المُباشِرة للإسم) هي الأقرب إلى استخدامنا العادي للأسماء كما نألفها في حياتنا اليومية.. فإن أول ما يطرأ على الذهن عند سماع الإسم هو الشيء أو الشخص المُسمَّى، أي حامِل الإسم[20]، وليس صفةً ما أو مجموعةً من صفاته، إذًا فما هي المُبررات التي دفعت كلٍّ من «فريجه» و«راسِل» ومن تبعهم إلى مُخالفة ذلك التقليد العريق؟

ثمَّة ثلاث مُشكلات رئيسة (أو قُل ألغاز؟) تعترض النظرية التقليدية في الإشارة، وتجد هذه المشكلات الثلاث حلولًا بارِعة حقًّا في نظرية الأوصاف التي قدَّمها لنا «فريجه» و«راسِل».

(1) لا تُفسِّر النظرية كيفيَّة نجاح الإشارة؛ إذ كيف تتحدَّد إشارة الاسم بنجاح؟ مثلًا، ما الذي يجعل اللفظ «أرسطو» يُشير إلى المُعلِّم الأوَّل؛ ذلك الفيلسوف اليوناني الذي عاش منذ عام 385 ق.م حتى 323ق.م؟ هل تنتقل الكلمة انتقالًا شبحيًا عبر الزمان والمكان متوجِّهةً نحو أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد، لتُشير إلى إنسان مُحدَّد -من بين آلاف الناس- يُدعى «أرسطو»؟ كيف نستطيع عن طريق نُطق كلمةٍ أو وضع علامةٍ على ورقةٍ أن نُشير إلى شيء بعيد؟ أو أن نُشير بالفعل إلى أيّ شيءٍ على الإطلاق؟

والجواب الذي تُحرزه نظرية الأوصاف هو: أن الأسماء عمومًا لا تُشير بذاتها، بل بمعناها، ومعنى الإسم يُعبَّر عنه بعبارةٍ وصفية من النوع الذي يُعيِّن Designate شيئًا مُحدّدًا (أو مجموعة من الأشياء، في حالة الأسماء العامّة)، مثل قولنا ’’مُعلِّم الإسكندر الأكبر‘‘، حيث يصدُق ذلك الوصف على «أرسطو» فعليًّا. والمغزى العام من هذه الفكرة (فكرة أن الإشارة تتحدَّد بواسطة المعنى فقط) هو أنه من غير الممكن - بحسب فريجة وراسِل - أن نُشيرَ إلى شيءٍ لا نعرفه؛ فما يمكن الإشارة إلَيه لابد وأن يكون مُعروفًا، وهذه المعرفة هي التي يُسمِّيها راسِل «المعرفة بالوصف» Knowledge by description، في مقابل «المعرفة بالعيان» Knowledge by acquaintance، والعكس بالعكس، فيلزم من ذلك أيضًا أن كل ما نعرفه فقط هو ما يمكننا الإشارةُ إليه.

(2) اشتراك الأسماء في إشارة واحدة Co-designative Names:

نكتشف أحيانًا أن اسمَيْن مُختلفين يُحدِّدان شيئًا واحدًا، أي: يُشيران إلى الشيء نفسه، فنُعبِّر عن هذا الاكتشاف بعبارة هُويَّة Identity Statement، فهل تكون هذه العبارة حينئذٍ تحليليةً أم تركيبية؟ إذا نحَّينا نقد «كواين» جانبًا، فمن المعلوم أنَّ عبارات الهوية تكون تحليلية، مثل (أ هو أ)، غير أننا في هذه الحالة تكون لدينا عبارة من قبيل: (أ هو ب) مع العلم أنَّ الحدَّيْن (أ) و(ب) يُشيران إلى الشيء نفسه! ولتضح هذه المسألة أكثر فلنتناول مثالًا مُمتهنًا في الأدبيات الفلسفية، مِثال كوكب الزُّهرة Venus، أو: هسبر وفوسفور.

أطلق اليونانيون في زمن «هوميروس» على كوكب الزُّهرة اسم "هسبر"، الذي يعني في الأصل (كوكب المساء)، ذلك لأنهم دائمًا ما يرونه في المساء، وأما في الصباح، فقد أسموه "فوسفور" والذي يعني في الأصل (جالِب النور، أو جالِب الفجر)، وقد اعتقدوا أنهم يُشاهدون نَجمين أو كوكبين مُختلفين، وربطوا في أساطيرهم هذين الإسمَيْن بإلَهين مُختلفين بالتوازي معهم.. وقد أدرك علماء الفلك في بلاد ما بين النهرين في تلك الفترة أنه كان نفس الجسم السماوي الذي تتم رؤيته بالفعل، أحيانًا في الغرب في المساء، وأحيانًا في الشرق في الصباح، فربطوا الكوكب بإلَهتهم "عشتار"، وبحلول العصور الكلاسيكية، كان اليونانيون قد تبنُّوا نفس الرأي، حيث ربطوا الكوكب بالإلَهة المُقابلة لهم، أفروديت.

النقطة التي يجب ملاحظتها في كل ما سبق، أن اكتشافًا تجريبيًا كهذا، يُمكن أن نُعبر عنه بعبارة كالآتي:

(أ) هسبر هو فوسفور.

والسؤال هنا: بما أن كِلا الاسمَيْن "هِسبر" و"فوسفور" يُشيران إلى الشيء نفسه - بحسب نظرية الدلالة الخارجية للاسم Denotation - فهل تكون العبارة السابقة مُساوية منطقيًا لقولنا:

(ب) هسبر هو هسبر؟

وِفقًا للنظرية التقليدية في الإشارة فإن العبارتين متساويتان، رغم أن واقع الحال يناقض ذلك تمامًا، فنحن نُريد بالعبارة (أ) أن نخبر السامع اكتشافًا جديدًا مفاده "أن الكوكب الذي رأيناه في المساء هو نفس الكوكب الذي رأيناه في الصباح"، وعبارة "هسبر هو هسبر" لا تُفيد ذلك المعنى، وإنما هي تحصيل حاصل ولا تُخبر سامعها شيئًا جديدًا على الإطلاق. فما تفسير هذه الأُحجية؟

تجد هذه الأُحجيةُ حلَّها أيضًا لدى «نظرية الأوصاف»، فإذا كان للأسماء معنى بالإضافة إلى إشارتها، فإن الاسم "هسبر" حينئذٍ يكون معناه: "ألمع جرم سماوي يُرى بانتظام بالقرب من الأُفُق الغربي بعد غروب الشمس مباشرةً." ومن ثمَّ، يكون "فوسفور" معناه: "ألمع جرم سماوي يُرى بانتظام بالقُرب من الأُفُق الشرقي قبل شروق الشمس مباشرةً". وإذا كان الأمر كذلك، فإن العبارة (أ) "هسبر هو فوسفور" يمكن تحليلها من خلال هذه الأوصاف إلى العبارة التالية:

(ج) "إن ألمع جرم سماوي يُرى بانتظام بالقُرب من الأُفُق الغربي بعد غروب الشمس هو نفسه ألمع جرم سماوي يُرى بانتظام بالقُرب من الأُفُق الشرقي قبل شروق الشمس مباشرةً."

ومن البيِّن أن العبارة (ج) لا تُتساوى منطقيًا مع (ب) "هسبر هو هسبر"؛ لأن هذه الأخيرة يمكن تحليلها أيضًا وفقًا للأوصاف التي ذكرناها، لتَعني:

(د) "إن ألمع جرم سماوي يُرى بانتظام بالقُرب من الأُفُق الغربي بعد غروب الشمس هو إن ألمع جرم سماوي يُرى بانتظام بالقُرب من الأُفُق الغربي بعد غروب الشمس." ومن هنا تظهر أهمية التمييز الذي وضعه «فريجه» بين (المعنى) و(الإشارة) للإسم.

(3) أمَّا المشكلة الأخيرة فهي الأسماء الفارغة Empty Names: من السِّمات المثيرة للاهتمام بموضوع التسمية، أنَّ بعضًا من الأسماء المستخدمة في اللغة الطبيعية لا تصدُق على شيءٍ في الواقع؛ ثمَّة أسماءٌ فارغة بلا مُسمَّى حامل للاسم Name-bearer، مثل (العنقاء، غول، بيجاسوس، زيوس، هرقل)، وهذه الأسماء الفارغة تطرح لُغزًا أمام نظرية الدلالة الخارجية Denotation للأسماء هو: ما الذي تعنيه العبارات الوجودية الدالَّة على هذه الأسماء؟ لتضح المسألة، إليك هذه العبارة:

(أ) إنَّ كائن العنقاء غير موجود.

من البَيِّن أن المُراد بهذه العبارة هو نَفي وجود الكائن المُسمَّى «العنقاء» Phoenix، غير أنه - إذا تقيّدنا بنظرية الإشارة التقليدية - ينبغي أن يوجد ذلك الشيء حتى يكون للعبارة معنى! لأنه إذا لم يكن هنالك شيءٌ اسمه «العنقاء» فعلامَ نتكلَّم إذًا؟ تفترض النظرية التقليدية في التسمية - خطأً - أنَّ وجود الاسم يستلزم وجود حامل الاسم أيضًا[21]، فإذا أردنا أن ننفي الوجود عن الكائن المُسمَّى «العنقاء» ينبغي أن نُقرر له الوجود أولًا - ضمنيًا - حتى يكون لكلامنا معنى، وهذا تناقض. ولا ينطبق ذلك اللغز على أسماء الكائنات الخرافية فقط، وإنما ينطبق أيضًا على حالات من واقع الحياة اليومية، لأنه يمكننا أن نتساءل مع «فتجنشتين»[22]: إذا كان الإسم يفترض وجود حامله، فكيف يكون لكلامي معنى حين أتكلَّم عن شخص مات ولم يعد موجودًا؟ إليك هذه العبارة مثلًا:

(ب) «هتلر» كان سفَّاحًا دكتاتوريًا.

أهي بلا معنى (الآن)؛ لأن «هتلر» لم يعد موجودًا؟ قطعًا لا، فجميعنا - يقينًا - نفهم ما تعنيه. نجد لهذه المُعضلة أيضًا حلًّا بارِعًا مع نظرية الأوصاف، فإذا كان للأسماء معنى، فإن اسمًا خرافيًا كـ«العنقاء» ربما يُرادف وصفًا من قبيل ’’الطائر الخالد المذكور في الأساطير اليونانية، ويُحكى عنه أنه كلَّما مات نهضَ مُجددًا من الرماد‘‘. ومن ثمَّ أمكن تحليل العبارة (أ) إلى العبارة التالية:

(ج) إن الطائر الخالد المذكور في الأساطير اليونانية ويُحكى عنه أنه كلَّما مات نهضَ مُجددًا من الرماد، لا وجود له.

والأمر نفسه ينطبق على الاسم «هتلر»، فإذا سألنا أحدهم عمَّا نعنيه بـ «هتلر» لربما نصفه بطريقة مُلائمة إذا قُلنا ’’الرجل الذي أقام مذبحةً جماعيةً لليهود‘‘. ومن ثمَّ أمكن تحليل العبارة (ب) إلى العبارة التالية:

(د) إن الرجل الذي أقام مذبحةً جماعيةً لليهود، كان سفَّاحًا دكتاتوريًا.

تُعَدُّ هذه المُشكلات الثلاث أسبابًا للشكّ في معقولية النظرية التقليدية للتسمية، ومن ناحيةٍ أُخرى أيضًا، تُمثِّل الحلولُ المقترحة التي تقدَّم ذِكرها حُججًا قويةً لصالح نظرية الأوصاف، باعتبارها بديلًا أكثر معقوليةً، فمن ثمَّ يصبح القبول العام لهذه النظرية أمرًا لا مندوحة عنه. وعلى الرغم من إحدى الثغرات التي قد أشار إليها «فريجة» بنفسه في وقتٍ مُبكِّر، والانتقادات التي وجَّهها كلٌّ من «بيتر ف. ستراوسن» و«كيث دونيلان» للنظرية فيما بعد، أقول على الرغم من ذلك، نالَتْ نظرية الأوصاف إعجابَ الغالبية العُظمى من الفلاسفة، حتى أنها قد أصبحَتْ «عقيدةً» راسخة في التقليد التحليلي يستخدمها الفلاسفةُ كأداة فعَّالة في تحليل العبارات والمشكلات الفلسفية.

وبطبيعة الحال بدأ تطبيق هذه الأداة التحليلية مع «برتراند راسِل» فاستخدمها في اجتثاث الكائنات الميتافيزيقية الزائدة عن الحاجة (من قبيل الكُلّيَّات Universals والموجودات الضمنية Subsistent Entities كما في مثال العنقاء)[23] واستمرَّ مع «رودولف كارناب»[24] الذي أراد أن يمدَّ تطبيق النظرية إلى نهايته، فاقترح أن نستغني منطقيًا عن الاسم العَلَم حتى نتخلَّص من غموض معناه، إذ يُحلّل «كارناب» الاسمَ العَلَم من حيث هو تعميم لمجموع الحالات الزمكانية التي يتكوَّن منها تاريخ وجود الشيء، ومن ثمَّ فهو لا يختلف عن الاسم الكُلِّي كثيرًا، فيقترح أن نستعيض عنه بما هو أدقّ وأكثر تحديدًا في الإشارة إلى «الجُزئي» الدقيق بأتمّ معاني الكلمة، والبديل الذي يقترحه «كارناب» هو الإحداثيَّات الزمكانية، فبحسب هذه النظرة، يمكننا الاستعاضة عن اسم «العقاد» بأن نُشير إلى نقطة تلاقي خط الطول مع خط العرض في موقعٍ ما من الزمكان، إذا أردنا أن نُشير إلى إحدى الحالات التي يتكوَّن منها تاريخ حياة «العقَّاد». ونجد نوعًا من القبول الضمني لنظرية الأوصاف في كتابات «فتجنشتين» المتأخّر، بوصفها واحدة من «الألعاب-اللغوية» الممكنة التي يلعب الاسم فيها دورًا مختلفًا في الاستعمال[25]، واعتدَّ «كواين» بنظرية الأوصاف الراسليَّة في مقالته المُعَنْوَنَة "حول ما يوجد هناك" On What there is، وأضاف إليها تعديلًا بسيطًا تلافيًا لبعض ثغراتها. وعلى الرغم من أنَّ «كواين» يقول بغموض الإشارة Inscrutability of Reference إلا أنه يتَّفِق مع «راسِل» إلى حدٍّ كبير في الموقف العام من الأسماء، فهو «وصفيٌّ» Descriptivist بامتياز؛ إذ اتَّخذ «كواين» من نظرية الأوصاف مُقدمةً لمعياره في الالتزام الأنطولوجي، فيقول: ’’الواقع هو أن الأسماء لا قيمة لها، تمامًا بالنظر إلى المسألة الأنطولوجية، لأني بيّنت، عندما تحدّثت عن «الفرس المُجنَّح» Pegasus و«يُفَرْسِن» Pegasizen أنه يمكن تحويل الأسماء إلى أوصاف.... وأي شيء يمكن قوله بعونٍ من الأسماء، يمكن قوله في لغةٍ تتجنَّب استعمال الأسماء كُليًّا. إنَّ افتراض وجود كائن هو، وبكلام شفّاف وبسيط، حُسبانه قيمةً لمُتغيِّر.‘‘[26]

يلزم من تحليل الأسماء بواسطة «نظرية الأوصاف» نتائج فلسفية بعيدة الأثر فيما خصَّ المسائل الميتافيزيقية، أهمَّها فيما يلي:

1- رفض الميتافيزيقا الماهَويَّة Essentialism:

تؤدّي النظرية التقليدية في التسمية دورًا تأسيسيًا في المذهب الماهَوي، والمذهبُ الماهَويُّ هو وجهة النظر القائلة بوجود تمييزات حاسمة بين طبائع الأشياء، وهذه التمييزات الحاسمة تستند على التمييز الحدسيّ بين الخصائص الأساسيَّة Essential Properties والخصائص العَرَضيَّة Accidental Properties التي تتَّصِف بها الأشياء؛ فالخصائص الأساسيَّة هي تلك التي تُحدِّد الطبيعة الذاتية (الماهيَّة Essence) التي يكون عليها الشيء فيتميَّز بها عمَّا سِواه من سائر الأشياء، فإنَّ لكل فئة من الكائنات - بحسب هذه الرؤية - خاصية أو مجموعة من الخصائص الضرورية التي يجب أن تحوزها جميع أفراد هذه الفئة كيما يصحّ تصنيفهم في هذه الفئة بالذات. وأمَّا الخصائص العَرَضيَّة فهي مما لا يُحدّد طبيعة (ماهيَّة) الشيء وإنما يجوز أن يحوزها الشيء أو يفقدها ويظل كائنًا كما هو.

ويتمثَّل الدور الذي تلعبه التسمية في المذهب الماهَوي، في حقيقة أن الأسماء عمومًا (واسم العَلَم خصوصًا) فيها منطقيًا ما يزيد على الإشارة؛ فالأسماء تُفيد «الهوية» Identity للشيء الذي تُسَمِّيه؛ لأنك إذا أشرت صامتًا إلى رجلٍ بعينه في موضعٍ ما، ثم في موضعٍ آخر، لم يكن في هاتين الإشارتين ما يدل على أن المُشار إليه رجلٌ مُعيَّن، أما الأسماء فتُفيد الهوية للشيء الواحد إذا ما ذُكِرَت في مواضِع مختلفات، فإذا ذكرتُ لك اسم «العقَّاد» في حديثي، وسألتني: من هو «العقَّاد»؟ فقلتُ لك: هو الرجل الذي رأيناه في المكتبة أمس، ثم استطعت أنت أن تُطابق بين المُسمَّى الذي أقصده في حديثي اليوم، وبين رجل الأمس، حيث تجعل منه رجلًا واحدًا بعينه، فقد تمَّت بذلك مُهمة الاسم من الناحية المنطقية. ونفس الأمر ينطبق على الأسماء العامة، فالإشارة إلى أحد أفراد القِطط مع التلفُّظ بكلمة «قِط!»، ثم الإشارة إلى قِطٍّ آخر في مناسبةٍ أُخرى مع التلفُّظ بنفس الاسم: «قِط!»، يُنشئ فرضيةً عامة لدى المُستمِع بأن القِط الأوَّل يتطابق مع القِط الآخر في بعض الخصائص العامَّة التي تُميِّز نوعًا من الكائنات يُسمَّى «القِط».

فإذا تقيَّدنا بالنظرية التقليدية في التسمية، وإذا كانت الأسماء تُعيِّنُ Designate موضوعاتٍ مُتطابقةً مع ذاتها، فالاختلاف بين الأسماء إذًا لابد وأن يعكس تمايُزًا بين المُسمَّيات الموجودة في العالَم، وهو ما يقودنا إلى واقعية الأنواع الطبيعية Natural Kinds، من ناحية، باعتبارها ماهيَّات مُتمايزة تدلُّ عليها الأسماء العامة للنوع الطبيعي مثل (إنسان، قط، ماء)، ومن ناحيةٍ أُخرى، فإذا ما تساءلنا أيضًا عن هُويَّة الأفراد Individuals، تقودنا النظرية التقليدية في التسمية إلى مذهب التفرُّديَّة Haecceitism[27] وهو المذهب الذي اشتهر به «دانز سكوت» في فلسفة العصور الوسطى.

أمَّا وبحسب «نظرية الأوصاف» فالاستعاضة عن الأسماء بالصفات يستتبع أن نستبدل أنطولوجيا «الأشياء» بأنطولوجيا «صفاتها»؛ أي أن نستعيض عن نظرية الجوهر Substance Theory بنظرية الحزمة Bundle Theory، فبتعبير «راسِل»، إنَّ ما يمكن أن يُدعى عمومًا بأنه «شيء» ليس إلا حزمة من هذه الصفات الموجودة معًا مثل، الاحمرار، الصلابة، إلخ...[28] فلا يعود «الشيء» هو الجوهر Substance الحامِل Substratum المُجرَّد، الذي تُحمَل عليه الصفات ولا يكون مُعرَّفًا من خلالها. بل إنَّ شيئيَّة الشيء هي محض اجتماع هذه الصفات معًا، ومن ثمَّ يكون مُعرَّفًا بها. وينسجم ذلك مع المبدأ العام لنظرية الأوصاف الذي ينصُّ على عدم إمكان الإشارة إلى مجهول.

يقول «ألفِريد ج. آير»[29] تعليقًا على نظرية الأوصاف الراسليَّة: ’’أعتقد أنَّ الدافع الأساسي للتخلُّص من الحدود المُفردة [أي الأسماء] هو الرغبة في الاستغناء عن مقولة الجوهر.‘‘ وهذا بالفعل ما يظهر جليًّا في كتابات «راسِل» نفسه؛ إذ يقول: ’’يعتبر الإدراك العادي «الشيء» حائزًا على صفات لا كمُعرَّف بها، فهو مُعرَّف بالموقع المكاني-الزماني. وإنِّي أودُّ أن أقترح أنه حيثما يوجد عند الإدراك العادي شيء حائز على الصفة C، علينا أن نقول عِوضًا عن ذلك، إنَّ C ذاتها موجودة في ذلك الموضع، ويجب استبدال «الشيء» بمجموعة الصفات الموجودة في الموضع المُشار إليه. وبذلك تصير C إسمًا لا محمولًا. والسبب الرئيس لمصلحة هذه النظرة يَمْثُلُ في أنها تتخلَّص من المجهول الذي لا يمكن معرفته. فنحنُ نختبر صفاتٍ لا الجوهر الذي تكون في داخله. فيمكن عمومًا، وربما دائمًا، تجنُّب إدخال مجهول لا يمكن معرفته عبر وسائل تقنية مُلائمة، والأمر الواضح يقضي بتجنُّبه كلَّما أمكن ذلك.’’[30]

أمَّا من جهة الأسماء العامة الدالَّة على النوع الطبيعي Natural Kind Terms، فتقودنا نظرية الأوصاف إلى لا-واقعية الأنواع الطبيعية، فليست الحدود العامة بدالَّة على أي تمايزات حقيقية في الطبيعة، وإنما هي «فئات منطقية» تضم مجموعة من المثيرات الحسية المضطردة في الزمان والمكان، والمتشابهة فيما بينها [الغير متطابقة]، وهذه «الفئات» نصطنعها ونتواضع عليها، حيث تكون مُلائمةً لأغراض البساطة، وتسهيل الخبرة، والتواصل.[31]

2- إحالة مفهوم «الضرورة» Necessity من الميتافيزيقيا إلى اللغة:

تفترضُ الماهويَّةُ Essentialism حمولةً ميتافيزيقيةً لجهة الضرورة Modal Necessity من حيث هي خاصية ينبغي أن يتَّصِف بها الشيء ليكون (وليَظل) هو نفسه، فالعقلانية مثلًا، هي خاصية ضرورية ينبغي أن يتَّصِف بها الشيء حتى يكون إنسانًا، على نحو ما تكون الفردية هي خاصية ضرورية للأعداد التي لا تقبل القِسمة على 2، وهكذا درجَ الفلاسفة الماهَويّون على الاعتقاد بالجهة الواقعية Modality De re التي ترى أن حيازة شيءٍ ما على صفةٍ ما على نحوٍ ضروريّ، هي حقيقةٌ ميتافيزيقية تخص الشيء في كيفية وجوده، باستقلال عن أي اعتبارات ذات صِلَة بنا. أما ومنذ أن وضع «كانط» تمييزه بين (التحليلي/التركيبي)، وقد شاع فيما بعد الاعتقاد على نطاق واسع بين الفلاسفة بوجود ارتباطٍ منطقيٍّ وثيق بين ثلاثة مفاهيم: التحليلي Analytic، والقبلي A priori، والضروري Necessary، فهذه المفاهيم الثلاثة تنمتي إلى فئة واحدة من الحقائق، وهذه الفئة تقابلها فئةٌ أُخرى من الحقائق تنتمي إليها ثلاثة مفاهيم هي: التركيبيّ Synthetic، والبَعديّ A posteriori، والممكن Possible، ثم جاء الفلاسفة التحليليُّون فسلَّموا بهذه العقيدة التي تُقسِّم الحقائق إلى نوعين، غير أنهم قاموا برد النوع الأول (الحقائق التحليلية، القبليَّة، الضرورية) إلى مجال اللغة. وأما النوع الثاني (الحقائق التركيبية، البَعديَّة، الممكنة)، فتمَّ ردّه إلى مجال العلوم التجريبية. ويستتبع ذلك أن تُختزَل جهة الضرورة Modal Necessity إلى مواضعات اللغة فلا يعود لها أي حمولة ميتافيزيقية؛ فإن حيازةَ شيءٍ ما على صفةٍ ما على نحوٍ ضروريّ تصبح مسألة معتمِدة على الكيفية التي نتحدَّث بها عن ذلك الشيء، وليس على الحقيقة الميتافيزيقية للشيء ذاته، وهذه هي الجهة الوصفية Modality De dicto. فعلى سبيل المثال: تكون «العقلانية» خاصيةً ضروريةً في الموضوع فقط إذا ما حدّدناه كـ «عالِم رياضيات»، وتارة أخرى تكون «الحيازة على قدَمَيْن» خاصيةً ضروريةً في الموضوع ذاته إذا ما حدّدناه كـ «عدَّاء»، فإذا كانت الصفة الواحدة ضرورية من ناحية ومُمكنة (أو عَرَضيَّة) من ناحيةٍ أُخرى، إذًا فما هي الصفة الضرورية في «عالِم الرياضيات العدَّاء»؟ وثمَّةَ مثالٌ آخر هنا يُدرجه «كواين» أيضًا: إذا ما تأمَّلنا العدد 9 فهل فيه صفة «الفردية» ضرورةً؟ يقينًا، فلنقُل: ليس بالإمكان خِلاف ذلك، يجب على التسعة أن تكون عددًا فرديًا. وبالطبع يمكن أن ننتقي الـ9 على أنها عدد الكواكب في نظامنا الشمسي، إلا أنَّ كَوْن عدد الكواكب فرديًا ليس صفةً ضرورية، فمثلًا، كان يمكن أن يكون عدد كواكب نظامنا الشمسي 8، لا يُشترط على النظام الشمسي أن يتكوَّن من 9 كواكب حتى يكون نظامًا شمسيًا، ومن ثمَّ فقد كان يمكن ألا يكون عدد الكواكب فرديًا.

وهنا يأتي الدور التفسيريّ لنظرية الأوصاف: فإنَّ اختزال الاسم إلى مجموعة من الأوصاف يستتبع أن تكون العلاقة بين الاسم وأوصافه هي علاقة «تحليليَّة» لا تزيد عن فضّ الاسم من معانيه، ومن ثمَّ فالماهيَّة Essence تنحصر في التعبير عن علاقة التكافؤ اللغوي التي بين الموضوع المُعرَّف، والأوصاف التي يُعرَّف من خلالها، لا عن وجود صفةٍ «ضروريةٍ» كشرط لوجود الشيء. وهكذا لا يعود لـ «الضرورة» أيَّة صِلَة بالعالَم، بقدر ما تكون اللغة - من وجهةِ نظرٍ مُعيَّنة - غير ذات صِلَة بالعالَم.[32] فالاعتقاد بالضرورة الميتافيزيقية يعتبره «التوصيفيون» خلطًا بين الأشياء وكيفيَّة توصيفها. وقد كان «راسِل» نفسه مِمَّن يعتقدون أنَّ «الضرورة» لا معنى لها خارج الرياضيات والمنطق والقضايا التحليلية حصرًا، كما صرَّح بنفسه في نقاشٍ له مع القِس «فريدريك كوبلستون» عام 1948 حول وجود الله والحُجَّة من الممكنات على الوجود الضروري للإله.[33]

على الرغم من المزايا الواضحة التي تتمتَّع بها «نظرية الأوصاف»، كما سبق أن أشرنا إليها، إلا أن هناك من وجد أسبابًا قوية لرفضها، وليس ذلك فحسب، بل والدفاع أيضًا عن النظرية التقليدية في التسمية! فإذا كان لنظرية الأوصاف هذه التداعيات المنطقية العميقة على الميتافيزيقا، وهذه الفضائل المميزة من حيث قدرتها على تذليل المشكلات الفلسفية، فكيف يُمكن رفضها؟ وهل لأي نظرية بديلة أن تكون مقبولة، ما لم تنجح في حل المشكلات التي عالجتها نظرية الأوصاف؟ وما هي التداعيات المنطقية الممكنة لنظرية بديلة – إذا وجدت؟

هذا ما سنُجيب عنه في الجُزء التالي من هذه السلسلة.

انتهى الجُزء الأوَّل.

[1] اعتبر مُفكِّروا جماعة فيينا أن مبحث القِيَم إجمالًا يندرج تحت عنوان "الميتافيزيقا" أيضًا، فالألفاظ من قبيل (حق، خير، جمال) عندهم هي لغو بلا معنى لنفس السبب الذي تكون به العبارات الميتافيزيقية من قبيل (العقل، الماهية، الوجود، المطلق، إلخ..) لغو بلا معنى أيضًا.

[2] د. صلاح إسماعيل، كتاب "فلسفة اللغة" ص111

[3] بالطبع لم يكن كانط أوَّل من بادر بوضع ذلك التمييز، فثمَّة إرهاصات لتمييزات مُشابهة عند لايبنتز وديكارت وديفيد هيوم، إلا أن تمييز كانط كان الأشمل والأدقّ.

[4] Schlick, M, “Meaning and Verification”, in A, Lehuer and K Lehrer (eds) TheTheory of Meaning, Englewood Ciffis, NJ: Preatice- Hall, 1970, pp.100-101

[5] مجلَّة معنى للدراسات الفلسفية، العدد الأول، مارس 2021، د. صلاح إسماعيل: الفلسفة التحليلية (مقال تعريفي)، ص176

[6] Hilary Putnam, "After Metaphysics, What?" in Kieter Henrich and Rolf-Peter Horstmann, eds, Metaphysik nach Kant? (Stuttgart: Hegel-KongreB, 1987; published in 1988). Reprinted by permission of the author and Klett-Cotta

[7] David Macarthur, “Richard Rorty and (the End of) Metaphysics (?), p1

[8] ويلارد فان اورمان كواين: من وجهة نظر منطقية (تسع مقالات منطقية فلسفية)، ترجمة د. حيدر حاج إسماعيل، ص ص100-101

[9] Quine, W.V.O, "Theories and Things", The Belknap Press of Harvard University Press, (Cambridge, Massachusetts and London, England), 1982, Edition: 2nd. P: 24-25

[10] من وجهة نظر منطقية، ص106

[11] المرجع نفسه، ص ص107-108

[12] (Quine), W.V.O, Edited by: (Føllesdal), Dagfinn & (Quine), Douglas B.,"Confessions of a Confirmed Extensionalist and Other Essays", Harvard University Press, (Cambridge, Massachusetts and London, England), 2008, Edition: 1st. P: 240

[13] والمعنى عند كواين مرفوضٌ أيضا للسبب نفسه الذي جعله يرفض التمييز (التحليلي/التركيبي)، وهو الغموض والتعريف الدائري.

[14] ويلارد فان أورمان كواي: "من وجهة نظر منطقية، تسع مقالات منطقية فلسفية". ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، ص74

[15] المصدر نفسه، ص ص110-111

[16] التأريف هو التحديد أو الترسيم أو التمييز، والقصد هو مُشكلة ترسيم الحدود الفاصلة بين العلم واللاعلم أو بين العلم والميتافيزيقا، وهي المشكلة التي شغلت بال الفلاسفة طوال القرن العشرين.

[17] (Quine), W.V.O, Edited by: (Gibson, Jr.), Roger F., "Quintessence: Basic Readings from the Philosophy of W. V. Quine", The Belknap Press of Harvard University Press, (Cambridge, Massachusetts and London, England), 2004, Edition: 1st., P: 276

[18] F. P. Ramsey, Foundations of Mathematics. P: 263

[19] تجدر الإشارة إلى أن راسِل أثار ارتباكًا بما يقصده بالأسماء بوجه عام، فتارَّة نراه يقول أن الأسماء المألوفة لدينا من قبيل (إنسان، كلب، كتاب، هوميروس، أرسطو، إلخ) إنْ هي إلا أوصافٌ مُختصرَة، وتارَّة أُخرى يقول أن الأسماء لا تتساوى منطقيًا مع الأوصاف، ثم يأتي ليوضّح ذلك بقوله أن الأسماء العَلَم الصحيحة هي أسماء الإشارة فقط، مثل: هذا، ذلك، هنا، الآن.. وكل ما دونها هو أوصاف مُختصرة. غير أنه يختلف مع فريجة أيضًا في نوع العلاقة بين الأسماء (كما نألفها) والأوصاف، ففي حين يعتقد فريجة أن الأسماء العَلَم مُتساوية منطقيًا مع الأوصاف المُحدِّدة، يعتقد راسِل أن الأوصاف: (أ). رموز مُركَّبة، في حين أن الأسماء رموز بسيطة، (ب) وأنَّ الأوصاف رموز ناقصة لا تُفيد معنىً مُحدَّدًا، في حين أن الأسماء رموز كاملة تُحدد معناها مباشرةً بما تُشير إليه. وجُملة القَول أنَّ راسِل يبدو أنه يتفق مع فريجة في الإطار العام من حيث أن الأسماء العادية هي أوصاف مُختصرة، ثم يأتي فيختلف معه فقط في بعض التعاريف من حيث أنه يُعرِّف أسماء العَلَم الصحيحة على أنها كلمات الإشارة فقط، أما ما يعنيه فريجة بالأسماء العَلَم فهو ما نألفه من الأسماء المُفردة، مُضافًا إليها الأوصاف المُحدِّدة Definite descriptions، فقد اعتبرها فريجة أسماءَ عَلَمٍ مُركَّبةCompound proper names .

[20] أشار فتجنشتين إلى هذه العلاقة الوثيقة بين سماع الاسم والحضور الذهني للشيء، وذلك في معرض نقده للنظرية التقليدية في التسمية، انظر: لودفيج فتجنشتين "بحوث فلسفية" فقرة رقم 37، ترجمة د. عزمي إسلام، ص95 وما بعدها.

[21] ومن هنا تنشأ «مشكلة الكُلّيّات» الكلاسيكية التي شغَلَت بال الفلاسفة طويلًا، فإذا كانت النظرية الكلاسيكية في التسمية تفترض أن الإسم يستلزم وجود مُسمَّاه، وإذا كان الواقع لا يحتوي إلا على الأفراد فقط، فلابد أن ثمَّةَ عالمًا خياليًا ما، حيث توجد فيه هذه الكُليّات التي تدلّ عليها الأسماء العامة من قبيل الاحمرار والصلابة والحيوانية والخيريَّة، إلخ...

[22] انظر: لودفيج فتجنشتين "بحوث فلسفية" من الفقرة 39 حتى الفقرة 44

[23] انظر: د. زكي نجيب محمود "موقف من الميتافيزيقا" ص162-187

[24] Rudolf Carnap: Logical Syntax of Language, P12-13

[25] انظر: لودفيج فتجنشتين "بحوث فلسفية". الفقرة 79-80

[26] ويلارد فان أورمان كواين، من وجهة نظر منطقية: تسع مقالات منطقية فلسفية. ترجمة حيدر حاج إسماعيل: ص68

[27] لم أوفق في العثور على ترجمة دقيقة للمصطلح Haecceitism تُفيد معناه، فاخترت أن أُترجمه "التفرُّديَّة" على وزن "الماهَويَّة" نظرًا لما بينهما من تعالُق في مسألة الهُويَّة بين النوع والفرد. والمصطلح Haecceitism يأتي من الجذر اللاتيني Haecceitas الذي يُترجَم في الإنجليزية إلى “Thisness” والذي يمكن أن نترجمه (حرفيًا) إلى: "الهذِهيَّة" وهي كلمة ثقيلة بلا شك على المُتلقِّي المُتحدث باللغة العربية، ولذلك أجد أن الاصطلاح على "التفرُّديَّة" أقرب إلى المعنى الأصلي الذي يُراد به الكلام عن هُويَّة الفرد الجُزئي المُشار إليه بالاسم، كما أنه أكثر يُسرًا على الأفهام من كلمة "الهذِهيَّة".

[28] برتراند راسِل "بحث في المعنى والصدق". ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، المنظمة العربية للترجمة. ص156

[29] A.J. Ayer: The Concept of a Person and other essays. P: 161

[30] برتراند راسِل "بحث في المعنى والصدق". ص157

[31] هناك استثناء من الفلاسفة الوصفيين الذين يقولون بواقعية «الفئات» ومن ثمَّ واقعية الأنواع الطبيعية، ومن هؤلاء «ويلارد كواين» مثلًا الذي يضع في التزامه الأنطولوجي – ولأهداف براغماتية محضة – وجود الفئات من قبيل الأعداد والأنواع الطبيعية، غير أنه لا يُلزم نفسه بتقديم إجابات عن الأسئلة الميتافيزيقية المُلِحَّة المُلازمة لموقفه، ولهذا غالبًا ما يُسمَّى موقف كواين بـ «إسميَّة النعامة» Ostrich Nominalism.

[32] بالطبع لا ينفي جميع الفلاسفة وجود علاقة قائمة بين اللغة والعالَم، يُقسِّم «راسِل» مواقف الفلاسفة حول هذه المسألة إلى ثلاثة أنواع: (1) هناك من يستدلّون على صفات العالَم من صفات اللغة، وهؤلاء يؤلفون جماعة مُميزة، وهي تشمل بارمينيدس، أفلاطون، لايبنتز، هيغل وبرادلي. (2) وهناك من يعتقدون أن المعرفة محصورة في الكلمات. وفي جماعتهم نذكر الإسميين وبعض الوضعيين المنطقيين. (3) وهناك من يعتقدون بوجود معرفة لا يمكن التعبير عنها بكلمات، ويستخدمون الكلمات ليخبرونا عما تكون هذه المعرفة، ويشمل هؤلاء: المتصوّفة، برغسون، فتجنشتاين، وأيضًا هيغل وبرادلي من بعض النواحي. ونظرًا للواقعية النقدية التي يتبنَّاها «راسِل»، يضع «راسِل» نفسه في مصاف الفئة الأولى ولكن بغير إطلاق، وإنما بشيء من التحفُّظ والاعتدال. وفيما يتصل بمسألة «الضرورة» فإن إحالة الضرورة من الميتافيزيقا إلى اللغة تقطع صِلَتها بالعالَم تمامًا بالنسبة إلى الفئة الثانية في تقسيم «راسِل» السابق، والجدير بالذكر أن هذه الفئة ليست بالأقلّيّة في الفلسفة المعاصرة.

[33] يمكنك سماع هذا الحوار كاملًا من خلال الرابط التالي: https://rb.gy/kz0qy2