المنهج الجدلي وحضوره في الفلسفة الأفريقية المعاصرة
فئة : مقالات
المنهج الجدلي وحضوره في الفلسفة الأفريقية المعاصرة
المستخلص
يعد الجدل أحد المناهج الفلسفية المهمة في تاريخ الفكر الفلسفي، كما أن للحوار ضرورة ملحة في الوقت الراهن لمناقشة القضايا المهمة على الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لما له من ميزة طرح وتعدد وتباين واختلاف الآراء، والتي بموجبها تساعد على وضع حلول للمشكلات التي تواجه المجتمع. ولأهمية الجدل في البحث الفلسفي والوصول للحقيقة، تدور الدراسة حول المنهج الجدلي تعريفه ومراحل تطوره، وقوفاً على ما يعنيه الجدل الهيجلي ودوره في حركة التاريخ من خلال فكرة الصراع، وأثر هذا المفهوم في الفكر الفلسفي الأفريقي المعاصر وبمعنى أدق تأثيره في الفلسفة السياسية الأفريقية المعاصرة.
مقدمة
يعدّ الديالكتيك Dialectic أحد مناهج البحث الفلسفي المتبع منذ القدم، وهو يشير إلى الحوار بين شخصين أو أكثر لديهم وجهات نظر مختلفة حول موضوع معين ولكنهم يرغبون في إثبات الحقيقة من خلال الحجة المنطقية. وقد انتشر هذا المصطلح من خلال حوارات أفلاطون السقراطية، لكن الفعل نفسه كان محوريًا في الفلسفة الأوروبية والهندية والمصرية منذ العصور القديمة. ولأهمية الجدل وتأثيره في الفلسفة الأفريقية الحديثة والمعاصرة، تتطرق الدراسة إلى تعريف الجدل في اللغة كمصطلح ومفهوم ثم تعريف الجدل فلسفياً، ثم عرض موجز لتاريخ تطور الجدل في الفلسفة وقوفاً على ما يعنيه جدل السيد والعبد عند هيجل وأثره في الفلسفة الأفريقية الحديثة والمعاصرة.
وتدور الدراسة حول عدة محاور أهمها:
- تعريف المنهج الجدلي في اللغة والاصطلاح والفلسفة
- نشأة الجدل وموجز حول تاريخه عبر العصور المختلفة
- الجدل الهيجلي وحضوره في الفلسفة الأفريقية من خلال أفكار ثلاث فلاسفة (نكروما – نيريري – فانون)
أولاً- تعريف الجدل في اللغة والاصطلاح
الجدل في اللغة هو جدل جدلاً اشتدت خصومته، وجادله مجادلة وجدالاً ناقشه وخاصمه، وفي القرآن الكريم "وجادلهم بالتي هي أحسن". وفي اصطلاح المنطقيين قياس مؤلف من مقدمات مشهورة أو مسلمة والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان. رفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة أو يقصد به تصحيح كلامه وهو الخصومة في الحقيقية. الجدل طريقة في المناقشة والاستدلال صورها الفلاسفة بصور مختلفة وهو عند مناطقة المسلمين قياس مؤلف من مشهورات أو مسلمات([1]).
تعريف الجدل في الفلسفة
الجدل في الأصل فن الحوار والمناقشة، قال أفلاطون: "الجدلي هو الذي يحسن السؤال والجواب"، وهو فن تقسيم الأشياء إلى أجناس وأنواع وتصنيف التصورات والمفاهيم، والغرض منه الارتقاء من تصور إلى تصور ومن قول إلى قول، للوصول إلى أعم التصورات وأعلى المبادئ، وهي التي يعطيها أفلاطون قيمة أنطولوجية. وكلمة الجدل تشير عند أفلاطون إلى حركة الفكر الذي يرتقي من الإحساسات إلى الأفكار (المثل) مثلاً من الجمال العيني إلى مبدأ الجمال في ذاته([2]). الجدل حرفياً طريقة للمحادثة أو النقاش (أصلياً أقرب إلى الحوار). يشير مصطلح الجدل في الأصل إلى المناظرة، لكن سقراط وأفلاطون اعتقدا أن أفضل طريقة لتحقيق تنمية الفلسفة واكتشاف الحقائق الفلسفية هي تفاعل الآراء في البحث التعاوني عن طريق السؤال والجواب. لذلك استخدم أفلاطون "الجدل" للمنهج الفلسفي بشكل عام، وطبقه على أي بحث كان يفضله في ذلك الوقت([3]).
الجدل هو علم القوانين الأكثر عمومية التي تحكم الطبيعة والمجتمع والفكر. وربما كانت نشأة الجدل في القرن الخامس قبل الميلادي على يد زينون الإيلي الذي كانت أغاليطه نماذج من الجدل الجاد استثارت فلاسفة عصره للرد عليها([4]). وفي القرون الوسطى، أصبحت كلمة ديالكتيك مرادفة للمنطق الصوري ومقابلة للخطابة. أما كانط، فيقصد به الاستدلالات الوهمية، كما أنه يعرف الجدلية بأنها "منطق الظهور". والظواهر الخداعة في نظرة ثلاث؛ منطقية أي التسليم بالشيء المطلوب إثباته، تجريبية أي أخطأ الحواس، ترنسندنتالية أي ناتجة عن طبيعة فكرنا من حيث إنه يعتقد أنه يستطيع أن يتجاوز حدود التجربة الممكنة، وأن يحدد انطلاقاً من استدلالاته النظرية طبيعة النفس والعالم والله. إن كانط لا يستخدم كلمة جدلية ليشير إلى الوهم فقط، وإنما ليشير كذلك إلى دراسة هذا الوهم ونقده([5]).
والمقصود بالجدل عند هيجل هو التطور الذي يوجب ائتلاف القضيتين المتناقضتين واجتماعهما في قضية ثالثة؛ أي الانتقال من الفكرة إلى النقيض لتكوين التركيب. وعند ماركس هو قانون الفكر وقانون الواقع في آن واحد، يقول ماركس في كتابه رأس المال إن منهجه الجدلي ليس مبايناً لمنهج هيجل، بل هو على الضد منه تماماً، وعند الماركسيين؛ الجدلية هي التوفيق بين مثالية هيجل ومادية ماركس، لأن الجدلي عند هيجل هو تطور الفكرة أما عند ماركس فهو تطور المادة([6]).
ثانياً- حول نشأة الجدل
الجدل في الفلسفة المصرية القديمة
امتازت الحضارة المصرية القديمة بالعديد من الفنون والعلوم المختلفة؛ فهي المعلم الأول للعالم القديم، وعن طريق اختراع الكتابة والتدوين وصل إلينا ما توصلت إليه الحضارة المصرية القديمة، ومن بين أهم الفنون المعروفة لديهم هو فن الخطابة والحوار والجدل، وقد تشير البرديات إلى العديد من الخطابات على المستوى الديني والسياسي والاجتماعي. وتعد تعاليم بتاح حتب السياسية أحد أهم الخطابات، حيث تُرسى قواعد فن الخطابة.
اهتم بتاح بالخطابة والجدل، بوصفهما من الوسائل الضرورية التي لا يستغني عنها رجل السياسة والإدارة الناجح، وفي كتابه يعلم ابنه كيف يتعامل مع الخطباء قائلاً: "إذا وجدت خطيباً في زمانك سليم العقل أمهر منك فاثن له ذراعك واحن له ظهرك. أما إذا تكلم هجراً، فلا تتقاعس في مقاومته حتى ينادي به الناس أنت إنسان جاهل. أما إذا كان مماثلاً لك، فاظهر بصمتك إنك أفضل منه. أما إذا كان شخصاً حقيراً ليس ندّاً لك، فلا تغضبن عليه؛ لأنك تعلم أنه تعيس، احتقره وبذلك يؤنب نفسه". ومن هذه الكلمات، يبدو كيف يحاول بتاح حتب وضع الأسس لكيفية التعامل بين الخطباء، وأولها هي احترام الخطيب البارع في الخطابة، وإلا يسكت إذا استخدمت هذه البراعة في غير محلها، وإذا تساوى الخطابان في البراعة فمن الأفضل أن يسكت أحداهما حتى يقع الآخر في الخطأ وأخيراً عدم الاكتراث بمن ليس نداً له، حيث إنه من القبيح أن يضر الإنسان شخصاً محتقراً([7]).
- جدل كاره البشر:
إذا كان الجدل يعني الحوار مع النفس أو مع شخص آخر، فلا يفوتنا ذكر حوار اليائس من الحياة أو كاره البشر مع ذاته في محاولة للوصول إلى إجابة عما يدور في خلده، وعلى الرغم من فقد اسم ذلك الشخص إلا أن وثيقته أطلق عليها حوار اليائس من الحياة، وقد صنفت من الأدب التشاؤمي، وهي تدور في أربعة أجزاء، يصف في الجزء الأول كيف أصبح اسمه ممقوتاً، وفي الجزء الثاني يصف من كانوا سببا في تعاسته. أما الجزء الثالث، فهو في مدح الموت. وفي الجزء الأخير يبدو فيه النظرة إلى المستقبل في العالم الآخر، حيث العدالة الإلهية. من خلال حوار عدو البشر مع ذاته يتدرج صاعداً وصولاً إلى حقيقة مفاداها، وإن غابت العدالة في الدنيا فحتماً ستتحقق في الآخرة([8]).
وعلى الرغم من أن نماذج الجدل في مصر القديمة ناتجة عن تجارب فردية، إلا أنها تنم عن عبقرية المصري القديم والتي كانت بلا شك ذات تأثير على فلاسفة اليونان القدامى. ومما لا شك فيه أن الجدل والحوار هو سمة أساسية من سمات الموجود البشري، فمنذ وجدت البشرية وجد الجدل والحوار، لكن مع تطور البشرية وتطور العقل البشري تطور بالتبعية الجدل حتى صار أحد المناهج الفلسفية المهمة.
الجدل في الفلسفة اليونانية
يذهب معظم المؤرخين إلى أن زينون الإيلى هو مخترع الجدل، كرس زينون حياته للدفاع عن فلسفة أستاذه بارمينيدس، والتي تتلخص في قضيتين هما الوجود واحد، الوجود ساكن، ونهض زينون للدفاع عن هاتين القضيتين ضد الخصوم. كانت طريقة زينون في مناقشته لخصومه هي أن يسلم لهم بصحة قضاياهم ثم يبين لهم ما يترتب على هذا التسليم من تناقض. فمثلاً عندما يدافع عن قضية بارمينيدس الوجود واحد، وأنه ساكن، يسلم للخصوم بصحة اعتراضهم ويفترض معهم أن الوجود مؤلف من كثرة، ثم يبين لهم ما يفضي إليه هذا التسليم من تناقض، وما دام اتضح كذب قضايا الخصوم، فقد صدقت بالتالي قضايا بارمينيدس([9]).
لكن الجدل الذي كان فنّاً للتحاور بهدف الوصول إلى الحقيقية بطرح الفكرة والفكرة المضادة لها عن طريق السؤال والجواب، تحول مع السوفسطائيبن إلى وسيلة للتلاعب بالألفاظ لإخفاء الحقيقية، لذلك أطلق عليه أفلاطون اسم الجدال وليس الجدل([10]). ففي عهد السوفسطائيين انهارت كل معايير الحقيقية، حيث أعلن بروتاجوراس أن الإنسان مقياس كل شيء مما ترتب على ذلك نسبية الحقيقية واختلافها وتغييرها من شخص لآخر. ومن خلال التلاعب بالألفاظ استطاع السوفسطائيون إثبات صدق القضايا المتناقضة في آن واحد، فشاعت الفوضى وانهارت الحقيقية وفي ذلك الوقت حظيت اليونان بسقراط للقيام بمهمة التصدي لهذه الفئة من البشر.
استخدم سقراط منهج التهكم والتوليد من أجل الوصول إلى الحقيقية وعودة الثقة للبشر، بدأ سقراط بالتهكم من خلال الادعاء بالجهل التام بمعرفة الآخرين، ثم بدأ بطرح الأسئلة عليهم بعد التظاهر بالتسليم بما يقولون، وعن طريق الإجابات التي يطرحها المحاورون وتفنيدها واحدة بعد الأخرى وإظهار ما بها من تناقضات وما يترتب عليها من شكوك ينتهي الخصم إلى الإقرار بجهله، فالتهكم هو طرح التساؤلات مع تصنع الجهل، فتكون النتيجة هي كشف جهل الخصم. أما الشق الثاني من المنهج وهو التوليد، لا يبدأ به سقراط إلا بعد التأكد من تخلص الخصم من العلم الزائف واستعداده لقبول الحق والتعرف عليه، وطريقة سقراط في التوليد تقوم بطرح السؤال من خلال ترتيب منطقي ومناقشة الإجابات واستبعاد غير اللائق منها إلى أن يصل المتحدث إلى الحقيقية التي يصور له أنه اكتشفها بنفسه. هذا المنهج السقراطي في الجدل كان بلا شك صورة معدلة من منهج زينون الإيلى، وقد تميز جدل سقراط بأنه ليس مخصصا للدفاع عن قضايا معينة. يكشف المنهج الجدلي السقراطي عن مدى الروح النقدية التي تحلى بها سقراط، حيث غلب على فلسفته النزعة النقدية([11]).
وعند أفلاطون الجدل يعنى الحوار أو المناقشة التي تستهدف كشف الحقيقة عن طريق السؤال والجواب، والحوار هنا قد يدور بين الفرد وآخر أو فرد ونفسه العاقلة، الجدل عند أفلاطون أمر عقلي محض، فهو منهج يرتفع به المرء من المحسوس إلى المعقول دون أن يستخدم شيئا محسوسا، وإنما بالانتقال من فكرة إلى فكرة بواسطة فكرة([12]).
للجدل عند أفلاطون طريقان؛ هما الجدل الصاعد والجدل الهابط؛ فالإنسان يلاحظ الجزئيات ثم يرتفع منها إلى الطبيعة العقلية العامة التي تربط بينهما؛ أي إنه يرتفع من خلال الكثرة الحسية إلى الوحدة العقلية التي تشملها وتفسرها، ومن هذه الوحدة العقلية إلى معقولات أعلى منها مرتبة وهكذا يستمر ارتفاعه من الأفراد إلى الأنواع إلى الأجناس حتى يصل في النهاية إلى جنس الأجناس، إلى فكرة هي أعم الأفكار وأكثرها حقيقية وأعلاها مقاماً وهذه الفكرة هي مثال الخير. هذه العملية تكمل بعملية أخرى يهبط فيها الإنسان من الأجناس العالية إلى الأنواع التي تندرج تحتها، ثم إلى الأفراد التي يشملها كل نوع([13]).
الجدل عند أرسطو هو استدلال يقوم على مقدمات محتملة مستمدة من آراء الجمهور أو العلماء، وقد ميز أرسطو بين الجدلية والأنالوطيقا Analytique؛ فموضوع الأنالوطيقا هو الاستدلال والبرهان أي الاستنباط الذي ينطلق من مقدمات صادقة. أما موضوع الجدلية، فهو الاستدلالات التي ترتكز على آراء محتملة. الديالكتيك إذن فن وسط بين الخطابة والأنالوطيقا([14]). ويعد كتاب الطوبيقيا مقصداً للمناقشة الجدلية، فهو كتاب مختصر لمعرفة كيفية إقامة الحجج أو تقويضها عن طريق الفروض المعطاة لذلك يعد كتاب الطوبيقيا أو بحث منظم عن الجدل. وعن الأدوات التي يستخدمها أرسطو في المناقشات الجدلية، فهي التعريف والاستقراء والقياس([15]).
وخلافاً لأرسطو الذي يضع الجدل في مقابل المنطق، يذهب كريسيبوس مخترع الجدل الرواقي إلى التوحيد بينهما عمليا؛ وذلك من خلال الربط بينهما بصورة بلاغية أو نحوية. وقد سمى المنطق الرواقي بالجدل؛ وذلك لأن روادهم في البحث كان لديهم اهتمامات بمتناقضات زينون وقد تخصصوا في الاستدلال. والجدل يعنى في بداية الأمر عند الرواقيين منطق، وقد طوروا في إطاره على وجه الخصوص صوراً من الاستدلال تتعلق بما يسمى الآن بحساب القضايا، لكنهم استخدموا مصطلح الجدل بمعنى واسع، فهو يشمل أيضاً دراسة نظرية لقواعد اللغة وآراء في معنى العلاقات العامة والصدق([16]).
الجدل في الفلسفة الحديثة والمعاصرة
*- ديكارت:
لم يشعر ديكارت يشعر بارتياح لرجال الجدل، حيث يقول إن الأمر فيما يتعلق بالجدل شبيه بأمر البلاغة والشعر والفنون الغريبة كالمبارزة. إن المرء يخسر في تعلمها أكثر مما يربح، وإن هذا التعليم يجعلنا نقنع في الواقع بأننا نجهل ما نقوم به بصورة غريزية، إذا لم نشك بأنفسنا أن هناك جدلاً طبيعياً لا يتعلمه المرء، بل ينمو لديه بالتمرين فقط، بالإضافة إلى أن الإغراق في دراسة الجدل والثقة أمران خطيران؛ فالثقة المبالغ فيها بالنسبة إلى قيمة الاستنتاج تجعلنا نهمل ملاحظة الوقائع التي يقوم عليها الاستنتاج ومن هذا تأتي الأخطاء. وقد وجه ديكارت نقده للمنطق الأرسطي وللقياس بصفة خاصة، حيث رأى أن المنطق الأرسطي منطق عقيم لا يستطيع أن يصنع شيئا أكثر من أن يبين لنا حقيقية من الحقائق منطوية في حقيقية أخرى، ويعجز عن كشف أي حقيقية جديدة([17]).
*- كانط:
يقسم كانط المنطق إلى صوري وترنسندنتالي؛ وقسم المنطق الصوري قسمين التحليل والجدل. أما المنطق الترنسندنتالي، فقسمه إلى تحليل ترنسندنتالي وجدل ترنسندنتالي. ويعرف كانط الجدل بمعناه الصوري في تعريفات مختلفة في سياقات مختلفة عرفه في مكان ما بأنه منطق الخداع logic of illusion ويقصد بذلك أن الجدل يتناول مبادئ صورية للفكر لكن بعض من استخدموه كانوا يميلون إلى جعله أداة لتوسيع معارفنا عن الأشياء، وهم في ذلك مخادعون؛ لأنهم ظنوا أنهم اكتشفوا بالجدل معارف جديدة عن العالم. وهناك تعريف آخر يسوقه كانط للجدل الأرسطي، فيقول إنه ذلك الذي يستبعد كل مضمون المعرفة، وينحصر في استعراض الأغاليط الكامنة في صور الأقيسة، وقد لاحظ كانط أن القدماء اختلفوا في فهم معنى الجدل غير أنهم متفقون في أنه منطق مخادع. أما حالة الجدل المتعالي، فهو نقد للعناصر القبلية في موضوعات ما وراء الخبرة الحسية كالله والروح والإنسان، ويرى كانط أنه حين نستخدم تلك التصورات نخطئ وننخدع، وفي الجدل المتعالي يتعرض كانط لنقد كل ميتافيزيقا العقليين. فموضوع الجدل المتعالي إذن هو إثبات بطلان الميتافيزيقا السابقة وأنها خداع وأنها ميتافيزيقا غير مشروعة. ويفرق كانط بين الجدل الصوري والجدل الترنسندنتالي على أساس أن اكتشاف الخطأ في القياس المنطقي يجعلنا نتجنبه ونتفاداه، بينما اكتشاف الوهم أو الخداع المتضمن في بعض الميتافيزيقيات، فإننا لا نستطيع تجنب ذلك؛ لأنه خداع طبيعي Natural illusion([18]).
إن أهم ما يميز المنهج عند كانط هو فكرة التناقض، فقد كان الاعتقاد الشائع أن المعرفة إذا وقعت في تناقض كان ذلك دليلاً على انحراف عرضي يرجع إلى لون من ألوان الخطأ الذاتي في البرهان والاستدلال. أما كانط فذهب إلى أن الفكر ينزع نزوعا طبيعيا إلى الوقوع في التناقض، كلما حاول إدراك اللامتناهي، وكانت هذه أعظم فكرة قدمها للفلسفة، حين أشار إلى تناقضات العقل، كما ساعد في لفت الأنظار إلى حركة الفهم الجدلية([19]).
*- هيجل:
يعرف هيجل المنهج في فلسفة الحق؛ بأنه الفكرة الشاملة التي تنمو بفضل نشاطها الخالص وقد عرض في المنطق، والمبدأ المحرك لهذا النمو هو الجدل؛ فالمنهج هو الفكر الخالص الذي يتحرك بفضل ما يكمن في جوفه من جدل، والمنطق هو العرض المنظم لهذا المنهج، المنطق إذن هو المنهج الجدلي([20]).
الجدل الهیجلي ببساطة هو علم الحركة في الواقع الخارجي والنفس الإنسانية. يعرف هیجل الجدل بأنه "مبدأ كل حياة وكل حركة وكل ما يتم في عالم الواقع، بل إنه أيضاً روح كل معرفة تكون حقاً علمية". "الجدل عند هیجل ليس حياة الفكر، بل هو يمثل حياة الطبيعة والمادة في كل درجات تعقدها. الجدل عند هیجل ليس المنطق وحده، ليس هو التلخيص بأنه رحلة ثلاثية المراحل: الأطروحة أو القضية Thesis ونقيضها Antithesis والمركب منهما synthesis، الجدل لا يقتصر على المنطق فقط، بل في كل المجالات ولكن لكل مجال طبيعته الخاصة. يطبق هيجل هذا المنهج الجدلي على شتى ظواهر الطبيعة والتاريخ والفلسفة، والحضارة، والفن والدين. حاول هیجل بواسطة المنهج الجدلي أن يربط عالم الطبيعة بعالم الحياة، وعالم الحياة بعالم الروح، وعالم الروح بالله نفسه. إذن، الجدل عنده تعبير عن الفكرة ونقيضها على نحو يدفعها إلى التطور والرقى حتى نصل إلى الفكرة المطلقة، وهي العقل الكلى الذي يحكم التاريخ. إن العقل الكلى روح، والروح هو العنصر الأساسي في التصور الفلسفي للتاريخ([21]).
جدل الروح؛ إن التاريخ عند هیجل هو عرض للروح، وماهية الروح الحرية، ومن ثم كان مسار التاريخ هو تقدم الوعي بالحرية. وتاريخ العالم إنما هو مسار تكافح فيه الروح كي تصل إلى وعي بذاتها كي تكون حرة. وعن جدل الدين؛ وينظر هیجل إلى الدين بوصفه من أهم مقومات الحضارة، ويؤكد أن الإنسان وحده هو الذي يمكن أن يكون له دين. يعتقد هیجل أن هناك جدلاً وتطورا للدين، حدث في خلال التاريخ، وأن الصور المختلفة التي اتخذها الدين، في خلال تاريخه، إنما هي تعبر عن تدرج الروح في الكشف عن ذاته ولذاته([22]).
جوهر الجدل عند هیجل يتجلى في أن الفكرة تفضي إلى نقيضها، ولكن هذا النفي قوة دافقة ... لذلك، فالجدل ليس حياة الفكر، بل هو يمثل حياة الطبيعة، وحياة المادة في كل درجات تعقدها. طبق هیجل هذا المنهج الجدلي على كل فروع الفلسفة، والتاريخ، ومقولة "العقل يحكم التاريخ" تلخص هذا الفكر. بالجدل تكمن القدرة البشرية على فهم الواقع والتحكم في المصير وتوجيه حركة التاريخ. يتميز العقل الهيجلي بأنه ليس عقلاً مفارقًا، بل هو عقل مباطن في الوجود التاريخي، ويكتمل به([23]).
جدل السيد والعبد
كل شخص يحتاج إلى الآخر ليُثبِت وعيه بذاته. فما الذي يحتاجه كل شخص من الآخر بالتحديد؟ يقول هيجل إنه يحتاج إلى الإقرار أو الاعتراف به. إن الحاجة للاعتراف متبادَلة. إذن قد يتصور المرء أن الناس يمكنهم الاعتراف بعضهم ببعض بسلام وينتهي الأمر. بدلًا من ذلك، يخبرنا هيجل أن الوعي الذاتي يسعى ليصبح خالصًا، وليحقق هذا المسعى يجب عليه إثبات أنه غير متعلق بأشياء مادية. وفي الحقيقة، يتعلق الوعي الذاتي بالأشياء المادية على نحو مزدوج؛ فهو متعلق بجسده الحي وبالجسد الحي للشخص الآخر الذي يتطلب منه الإقرار بوجوده. إن طريقة إثبات أن الوعي الذاتي غير متعلق بأي من هذين الشيئين الماديين هي خوض صراع حياة أو موت ضد الشخص الآخر. فالسعي لقتل الآخر يثبت أنه لا يعتمد على جسد الآخر، ومخاطرة الشخص بحياته تثبت أنه غير متعلق بجسده الشخصي أيضًا. إذن تكون العلاقة الأولية بين الفردين ليست مجرد اعتراف متبادَل وسلمي، بل صراع. يبدو أن هيجل يخبرنا بأن الصراع العنيف ليس حدثًا عارضًا في العلاقات الإنسانية، بل هو عنصر ضروري في عملية إثبات المرء لذاته. وبالعودة إلى الصراع، كانت الفكرة الأصلية هي أن كل فرد كان عازمًا على قتل الآخر؛ ومع ذلك، فإن تأمل الفكرة للحظة يُظهر أن هذه النتيجة لا تناسب أي شخص؛ لا لشخص المهزوم الذي سيكون ميتًا، ولا المنتصر الذي سيكون قد دمَّر مصدر الاعتراف به الذي يحتاجه لتأكيد إحساسه بذاته بوصفه شخصًا. وهكذا يدرك الشخص المنتصر أن الشخص الآخر مهم لوجوده؛ ولذا يبقي على حياته، إلا أن المساواة الأصيلة بين شخصين مستقلين حل محلها وضع غير متساوٍ يكون فيه المنتصر مستقلا والخاسر تابعًا؛ يكون الأولُ السيدَ والثاني العبدَ. بهذه الطريقة يفسر هيجل الانقسام بين الحاكم والمحكوم([24]).
المادية الديالكتيكية:
هي نظرة الحزب الماركسي اللينيني للعالم، وهي تدعى مادية ديالكتيكية؛ لأن نهجها للظواهر الطبيعية، أو أسلوبها في دراسة هذه الظواهر وتفهمها ديالكتيكي، بينما تفسيرها للظواهر الطبيعية، أو فهمها لهذه الظواهر، أو نظريتها مادية. المادية التاريخية هي امتداد مبادئ المادية الديالكتيكية على دراسة الحياة الاجتماعية؛ تطبيق مبادئ المادية الديالكتيكية على ظواهر الحياة الاجتماعية وعلى دراسة المجتمع وتاريخه. لدى وصف ماركس وإنجلز أسلوبهما الديالكتيكي، يشيران عادة إلى هيجل بصفتهه الفيلسوف الذي صاغ المعالم الرئيسة للديالكتيك، إلا أن هذا لا يعني أن ديالكتيك ماركس وإنجلز متطابق مع ديالكتيك هيجل. في الواقع لقد أخذ ماركس وإنجلز من الديالكتيك الهيجلي "نواته المعقولة" نابذين قشرته المثالية وطوروها أبعد من ذلك لكي يضفوا عليها شكلا علميا، يقول ماركس: "إن أسلوبي الديالكتيكي لا يختلف عن الديالكتيك الهيجلي وحسب، بل هو نقيضه المباشر"([25]).
معالم الديالكتيك الماركسي
1- على العكس من الميتافيزيقا، لا يعتبر الديالكتيك الطبيعة تراكما عرضيا من الأشياء، أو الظواهر، لا ترتبط إحداها بالأخرى، أو منعزلة ومستقلة إحداها عن الأخرى، بل يعتبرها كيان كلي مرتبطا ارتباطا لا ينفصم تكون فيه الأشياء والظواهر مرتبطة ارتباطا عضويا وتعتمد إحداها على الأخرى وتقرر إحداها الأخرى. وعليه، فإن الأسلوب الديالكتيكي يرى أنه لا يمكن فهم أي ظاهرة طبيعية إذا أخذت بذاتها، منعزلة عن الظواهر المحيطة بها.
2- على العكس من الميتافيزيقا، يعد الديالكتيك أن الطبيعة ليست في حالة سكون وعدم حركة وجمود وعدم تغير، بل في حالة حركة دائمة وتغير مستمر، حالة تجدد وتطور مستمرين، حيث ينشأ شيء ما جديد ومتطور على الدوام وشيء متفسخ وزائل على الدوام. وعليه فإن الأسلوب الديالكتيكي يتطلب دراسة الظواهر ليس فقط من وجهة نظر علاقاتها المتبادلة واعتماد بعضها على البعض، بل كذلك من وجهة نظر حركتها وتغيرها وتطورها.
3- على العكس من الميتافيزيقيا، لا يعتبر الديالكتيك عملية التطور أنها عملية نمو بسيطة، حيث لا تتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية، بل على أنها تطور يجتاز من تحولات كمية صغيرة غير محسوسة إلى تحولات أساسية مكشوفة، إلى تحولات كيفية، يعتبرها تطورا لا تحدث التغيرات الكيفية فيه بصورة تدريجية، بل بصورة سريعة ومفاجئة، تتخذ شكل طفرة من حالة إلى حالة أخرى، لا تحدث بصورة عرضية بل نتيجة طبيعية لتراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية.
4- على العكس من الميتافيزيقيا يعتبر الديالكتيكية أن التناقضات الداخلية ملازمة في جميع الأشياء والظواهر في الطبيعة، لأنها جميعا تحتوي على جانبيها السلبي والإيجابي، جانبيها الماضي والمستقبل، وان الصراع بين هذين النقيضين، الصراع بين القديم والجديد، بين ما هو زائل وما هو مولود، بين ما يجري اختفاؤه وما يجري تطوره، يشكل المحتوى الداخلي لعملية التطور، المحتوى الداخلي لتحول التغيرات الكمية إلى تغيرات كيفية. وعليه، فإن الأسلوب الديالكتيكي يرى أن عملية التطور من الأدنى إلى الأعلى لا يحدث بصورة كشف منسجم للظواهر، بل بصورة كشف عن التناقضات الملازمة في الاشياء والظواهر([26]).
يتخذ الجدل الماركسي شكلا إجرائيا يلقي أضواءه على الوقائع الاجتماعية والطبيعية على حد سواء للكشف عن حقيقتهما في سيرورتهما وسيولتهما الطبيعيتين؛ فالجدل الماركسي: مرتبط بالممارسة الاجتماعية التي تُبدد التقابل المزعوم بين الاتجاهين المادي والروحي. ويقوم الجدل الماركسي على ثلاثة قوانين أساسية هي: قانون تداخل الأضداد- قانون التغيّرات الكمية إلى تغيّرات الكيفية، ومن الكيف إلى الكم وقانون نفي النفي. إن الصيرورة التاريخية، من المنظور الماركسي، معينة في حركة البُنى والظواهر الطبيعية والاجتماعية الارتقائية، والتي بواسطتها، تتطلع إلى النمو والتقدم، فتنتقل من وضعيات نوعية إلى وضعيات نوعية أخرى أكثر حدّة ودقة والتالي تغدو الصيرورة التاريخية ثمرة تقاطع صورتي التضاد الداخلي والخارجي، والتي هي بمثابة الجوهر المؤسس لقانون وحدة وصراع الأضداد([27]).
الجدل الهيجلي وحضوره في الفلسفة الأفريقية
على الرغم من تطور الجدل عبر المدارس الفلسفية المختلفة، إلا أن الجدل الهيجلي يظل ذا مكانة خاصة. بالنسبة إلى أفريقيا في معظم الحالات، لكي يكون لدى المرء فهم قوي لفلسفة أي فيلسوف، من المناسب أن يفهم الوضع الاجتماعي والسياسي لذلك المجتمع. ويرجع ذلك إلى حقيقة أن المواقف الاجتماعية والسياسية للمكان هي التي تقدم عادة للفيلسوف المواد اللازمة للتفلسف. والفلسفة الأفريقية المعاصرة هي مثال على ذلك، وهي في الغالب فلسفة سياسية؛ وذلك بسبب الأوضاع السائدة التي ولدتها. فكان الوضع الاجتماعي والسياسي في أفريقيا هو الذي أعطى المجال لطرح الأسئلة في أذهان المفكرين الأفارقة، وكان هذا دائماً هو المحور الأساسي لصياغة النظرية في الفلسفة الأفريقية المعاصرة.
استمدت خلفية صياغة النظرية في الفلسفة الأفريقية قوتها بشكل خاص من خلال تقسيم أفريقيا من قبل الاستعمار الأوروبي، حيث تم تقسيم أفريقيا بين الدول الأوروبية لغرض وحيد هو الاستغلال والقهر والهيمنة. فسيطر الأوروبيون على الأفارقة، وأصبحوا أسياداً، بينما أصبح الأفارقة عبيداً في أرضهم، حتى إن المستعمرات الفرنسية تبنت سياسة "الاستيعاب"، والتي تعني إجبار الأفارقة على التخلي عن ممارساتهم الثقافية. بالإضافة إلى أن أي شيء ذي قيمة في أفريقيا تم نقله أو سرقته إلى أوروبا. ومن ثم، تم استغلال أفريقيا لتطوير أوروبا. ومع ذلك، تغير هذا الوضع لاحقاً مع ظهور العلماء والفلاسفة الذين عادوا من التدريب والتعليم في الخارج. ومع وجود هذه القوة الجديدة، واجه الاستغلال والقهر والهيمنة الأوروبيين منافسيه.
ومما لا شك فيه، أن الجدل الهيجلي لعب دوراً مهماً في الفلسفة الأفريقية الحديثة والمعاصرة. فقد ساهم الجدل الهيجلي في سعي أفريقيا إلى التنمية؛ وذلك لأن أفريقيا قد اجتازت مراحل الأطروحة والنقيض، وهي الآن في بحث عن الحرية والوحدة والهوية التي ينظر إليها في التقليد الهيجلي للديالكتيك([28]).
*- جدل الضمير عند نكروما:
تعطى فلسفة الضمير عند نكروما صوتاً أفريقياً للديالكتيك الهيجلي، فهو يرى أن أفريقيا لا تزال عالقة اقتصادياً في الرأسمالية، وأن النهضة الأفريقية سوف تتحقق عندما تتحرر أفريقيا من قبضة الإمبريالية الاقتصادية تماماً كما أكد ماركس ولينين. ومن المفترض أن الضمير ولد من رحم أزمة الضمير الأفريقي. والضمير الديالكتيكي هو فلسفة وأيديولوجيا لإنهاء الاستعمار والتنمية. إن ضمير نكروما هو في حد ذاته متناقض مع الإمبريالية الغربية، وهو نقيض تم فرضه على الأفارقة، ووفقاً له يرى أن التنمية في المجتمع الأفريقي التقليدي كانت مبنية على المساواة والطائفية، وأن الرأسمالية لا يمكن التوفيق بينها وبين أسس المسايرة المجتمعية للتنمية الموجودة في المجتمعات الأفريقية التقليدية، لذلك يمكن اعتبار الرأسمالية نقيضاً لأساس التنمية في الدول الأفريقية، هي نقيض لأطروحة الطائفية في التجربة الأفريقية منذ البداية؛ لأن كل شيء بما في ذلك جميع الأراضي ووسائل الإنتاج ملكاً للمجتمع والجميع يعمل من أجل الصالح العام للمجتمع. بهذه الطريقة أثرت التنمية على الجميع بشكل إيجابي، لذلك يوصي نكروما بتوليفة أطلق عليها اسم الاشتراكية. ويمكن تحقيق ذلك عندما تعود الدول الأفريقية لأول مرة إلى هياكل التنمية المتساوية والمجتمعية التي كانت سائدة في المجتمعات الأفريقية التقليدية([29]).
تبني نكروما الجدلية الماركسية ولفضل موهبته ونبوغه وظفها بذكاء مع الواقع الثقافي الاجتماعي الأفريقي كما وجده في غانا. إن موقف نكروما للاشتراكية الأفريقية، بوصفها النموذج السياسي الاقتصادي المفضل لغانا، ورؤيته لحركة القوة السوداء، باعتبارها حركة عموم أفريقيا بلغت ذروتها في الحكومة القارية الأفريقية، ونزع العرقية من الدول السياسية الأفريقية التي بدأها في الممارسة العملية في غانا. مع هذا الأساس كانت حقبة نكروما كما تمثلت في سياق التقسيم العالمي للحرب الباردة بين الغرب الرأسمالي والكتل الشرقية الماركسية الاشتراكية الشيوعية، لحظة هيجلية أخرى في التاريخ. وما أحدثه نكروما من تغيرات في غانا آثار رد فعل القوى الغربية الرائدة والمتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال المخابرات المركزية، والتي أطاحت بحكومته من خلال العناصر الرجعية في الجيش الغاني بقيادة جوزيف أنقره Joseph Ankrah([30]).
*- جدل أوجاما عند يوليوس نيريري
وعلى عكس نكروما الذي دخل في صراع مباشر مع القوة الغربية، نجد نيريري ينتهج نهجا أكثر سياسية جعله يتجنب الصدام المباشر مع القوى الاستعمارية. بالنسبة إلى مفهوم أوجاما، والتي تعني الأسرة عند نيريري، اختاره كمفهوم لرؤيته للاشتراكية الأفريقية. بالنسبة إليه، فإن فكرة الاشتراكية لها أساسها في مبدأ المساواة بين البشر، والتي يجب تطبيقها على مختلف قطاعات المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. المجتمع المثالي يقوم على المساواة بين البشر مع مزيج من الحرية والوحدة بين أفراده، ويصبح الحب والمشاركة والعمل هو المبدأ الأساسي لحرية المجتمع. ومن خلال التكوين الغائي لشخصية يوليوس نيريري (العقل والروح) يمكن النظر إلى اللحظة الهيجلية الخاصة به في دوره كأب مؤسس لتنزانيا وأول رئيس لها. إن مناهضة الاستعمار البريطاني هو النقيض، والذي بلغ ذروته في التحرير والتحرر الاستعماري الجديد/ ما بعد الاستقلال في عملية الصيرورة الهيجلية لمجتمع اشتراكي أفريقي جديد في طور التحول إلى المثل الأعلى، وهذه مرحلة التوليف في الديالكتيك. كان نجاح أوجاما بسبب أنه في الحقبة الاستعمارية أبقى بلاده إلى جانب الاشتراكية لكنه تجنب حدوث قطيعة جذرية من شأنها تضعه في مواجهة مباشرة مع بريطانيا والولايات المتحدة وحلفائهم. فقد وضع تنزانيا على الطريق الأيديولوجي والسياسي الحقيقي للعالم ولأفريقيا وأبقى بلاده خالية بشكل معقول من القوى الخارجية. وبالذهاب إلى الجدل الهيجلي، يمكن للمرء أن يرى أن فترة الاستعمار تمثل مرحلة التناقض التي تم التغلب عليها في النهاية بواسطة أيديولوجية أوجاما، والتي أدت إلى ظهور وعي جديد وصيرورة جديدة يمكن أن نطلق عليها توليفة([31]).
فانون والديالكتيك الهيجلي
بخلاف الأفكار السابقة من تطبيق جدلية هيجل على المجتمع الأفريقي، نجد فانون له رأي آخر يختلف جوهرياً عن الآراء السابقة.
إن "الاعتراف"، الذي هو الفكرة الأساسية في فكر فانون، هو أيضاً "مفهوم هيجلي". علاوة على ذلك، يمكننا القول إن الفكر الهيجلي هو الذي يشكل الأساس النظري للاعتراف. في الواقع، في حين تم استخدام هذا المفهوم بشكل متكرر في المطالبة بالاعتراف بهويات الأشخاص من ثقافات مختلفة منذ ستينيات القرن العشرين، إلا أن نظرية هيجل في ظواهر الروح أصبحت عملا مرجعياً رئيساً. وفي هذا الصدد، ينبغي أن نلاحظ أن تفسير ألكسندر كوجيف لهيجل كان له تأثير كبير في إعطاء الاتجاه للمناقشات النظرية في القرن العشرين. ومن ناحية أخرى، "ساهم" فانون في هذه المناقشات من خلال تكييف جدلية هيجل بين السيد والعبد مع الاستعمار. من خلال الانخراط في حوار نقدي مع الظواهر الهيجلية.
من خلال قراءة فانون لهيجل، هل تستطيع جدلية هيجل عن السيد والعبد أن تنطبق على المستعمر والمستعمر في ظل الاستعمار، نجد في كتابه بشرة سوداء وأقنعة بيضاء؛ يميز فانون بين السيد والعبد الاستعماريين عن السيد والعبد كما هو موضح في كتاب هيجل ظاهريات الروح، بينما يسعى سيد هيجل للحصول على الاعتراف من العبد، فإن السيد الاستعماري يسعى فقط إلى العمل. علاوة على ذلك، بالنسبة إلى فانون، يختلف العبد الهيجلي عن العبد الاستعماري؛ لأن الأول يكتسب في النهاية الوعي الذاتي والحرية من خلال العمل، بينما يسعى الأخير إلى أن يكون مثل سيده - أي إنه يسعى إلى أن يكون أبيض - وبالتالي فهو غير قادر على العثور على التحرر من خلال العمل وحده([32]).
ويمكن تلخيص المشكلة التي يركز عليها الكتاب باستخدام الجمل التالية لفانون: السود يرغبون في أن يكونوا بيضاً؛ أما الرجل الأبيض، من ناحية أخرى، فيسعى إلى تحقيق حالة إنسانية". ما يسعى إليه فانون هو محاولة التعرف على بياض الرجل الأبيض وسواد الرجل الأسود؛ أي توجهات هذه النرجسية المزدوجة والدوافع التي تثيرها. لاحقاً، أدى النضال من أجل "كسر هذه الدائرة الجهنمية التي تحبس الأسود في قوقعته" إلى إبعاد فانون عن هيجل. في بشرة سوداء وأقنعة بيضاء يتم تقديمه بالسؤال "ماذا يريد السود؟" ويغلق بالقسم الخاص بـ "الزنجي وهيجل". في هذا القسم، الذي افتتح بعبارة من هيجل، يبدأ فانون من حيث توقف هيجل، من خلال الإجابة على هذا السؤال المطروح في البداية، بينما يوضح في الوقت نفسه لماذا لن تتحقق جدلية الاعتراف في ظل الظروف الاستعمارية.
في البداية تعد المعاملة بالمثل أحد أسس الديالكتيك الهيجلي، "إن الإنسان يحقق ذاته بما يتناسب مع رغبته وجهده في فرض نفسه على الآخرين. هذه رغبة وجهد ليتم الاعتراف بهم وقبولهم من قبل الآخرين. في ظل الظروف الاستعمارية، ما يريد السيد من العبد أن يفعله هو العمل بدلا من السعي للحصول على التقدير." وكذلك العبد المذكور ليس مثل من يفقد نفسه في الشيء ويجد مصادر حريته في عمله. يريد السود أن يكونوا مثل السيد تماماً. ولذلك فهم أقل استقلالية من العبد الهيجلي. في الديالكتيك الهيجلي، يدير العبد ظهره لسيده ووجهه للموضوع، بينما عند فانون يتخلى العبد عن الشيء ويتجه إلى سيده." إحدى القضايا التي أزعجت فانون كانت أساليب التحرر المقترحة في النضال من أجل الاستقلال؛ وذلك لأنه في الظروف الاستعمارية التي خاض فيها النضال من أجل الاستقلال، كانت البداية بالعودة إلى الأصل، إلى الجوهر، حجة لجأت إليها العديد من الدول القومية. من ناحية أخرى، يقف فانون بعيداً عن هذا النوع من الفهم الجوهري لعصر ذهبي مختبئ في مكان ما في الماضي وينتظر اكتشافه. إن ما يسمى بالروح السوداء هو أيضاً ما بناه الرجل الأبيض في نهاية المطاف، ويضطر السود إلى التضحية بالواقع والمستقبل من أجل الماضي الغامض الذي تصفه هذه الهوية الجوهرية. ومع ذلك، يجب على الزنجي أن يتعلم تعريف نفسه على أنه فرصة للمستقبل. ومن ثم، فإن فانون ضد فهم التجربة السوداء من خلال منظور جوهري. ورغم أن فانون يعرى القومية أمرا حيويا في النضال من أجل الاستقلال الوطني، فإنه بالكاد يجدها كافية. ووفقا لذلك، إذا لم يتم توضيح القومية وإثرائها وتضخيمها، وإذا لم يتم تطويرها على الفور، تحولت إلى الوعي الاجتماعي والسياسي. وبعبارة أخرى، في النزعة الإنسانية الجديدة، سوف ينتهي الأمر إلى طريق مسدود([33]).
يميز فانون بين أن تكون سيداً، وبين أن يكون لديك موقف السيد. ويعتمد هيجل أيضاً ضمنياً على هذا التمييز، قبل صراع الحياة والموت؛ إذ يعتبر كلّا من الوعي والآخر السلطة الوحيدة. يصبح المرء سيداً، بالنسبة إلى هيجل وفانون، فقط بعد أن يكتسب السيطرة على العبد. وهكذا، بعد العبودية، لا يوجد أسياد أو عبيد بالمعنى الحرفي للكلمة. عندما يتحدث فانون عن العبيد السود والسادة البيض في هذا السياق، فلا بد أن يكون لديه شيء آخر في ذهنه. من الأفضل أن نفهم أن فانون يدعي أن السود ليسوا سادة لا لأنهم لا يملكون عبيداً، بل لأنهم لا يحددون قيمهم الخاصة، بل يتبنون ببساطة قيم البيض. السيد، بهذا المعنى، يمتلك عنصراً واحداً من الحرية الهيجلية. يلتزم السيد بالمعايير التي يختارها. إنه مستقل. بعض السود، بالنسبة إلى فانون، تبنوا موقف السيد من حيث إنهم يعتبرون أنفسهم مستقلين، حتى إنهم يسخرون من السود الذين لا يتحدثون الفرنسية بشكل صحيح. يعترف العبد الأسود، في هذا السياق، بسلطة القيم البيضاء، لكنه ليس لديه تصور لسلطته الخاصة.([34])
يعتقد فانون وهيجل أن الاعتراف المتبادل ضروري، إذا كان للفرد أو المجموعة تصور ذاتي متماسك. يستمد فانون فرضيته الثالثة من وصف هيجل لصراع الحياة والموت، لكنه يعيد صياغة ادعاء هيجل باستخدام مفهوم القيمة. كتب فانون أن قيمة الإنسان وواقعه يعتمدان على هذا الآخر وعلى اعتراف الآخر به. وفي هذا الآخر يتكثف معنى حياته. وحده الصراع والمخاطر التي ينطوي عليها يمكن أن يجعل الواقع الإنساني، في حد ذاته، يتحقق. يتضمن هذا الخطر أن أتجاوز الحياة نحو المثل الأعلى الذي يتمثل في تحويل اليقين الذاتي بقيمتي إلى حقيقة موضوعية صالحة عالمياً. يرى فانون أن الأشخاص لا يستحقون الاعتراف إلا بقدر استعدادهم للمخاطرة بحياتهم من أجل الحصول على الاعتراف. واتباعاً لهيجل، يرى فانون أنه يمكن التعرف على الأشخاص دون وجود صراع، لكن الأشخاص الذين يتم التعرف عليهم بهذه الطريقة لا يمكنهم التعرف على أنفسهم بشكل متماسك على أنهم يستحقون الاعتراف([35]).
يزعم فانون أن البياض بالنسبة إلى السود هو مصدر تحقيق الوعي الذاتي لهم؛ في قسم "المرأة الملونة والرجل الأبيض"، يقول فانون: "من الشائع في المارتينيك أن يحلم المرء بتبييض نفسه بطريقة سحرية كوسيلة للخلاص". بالنسبة إلى السود في المارتينيك، القبول من قبل البيض هو وسيلة لتحقيق الوعي الذاتي الهيجلى. يزعم فانون في قسم "الرجل الملون والمرأة البيضاء" أن الرجال السود يرغبون في أن يعُترف بهم على أنهم بيض، ويعتبرون أن حب المرأة البيضاء كاف للاعتراف بهذا النوع. يقول فانون متأسفاً: "من المؤلم أن نقول هذا: ليس هناك سوى مصير واحد للرجل الأسود، وهو أن يكون أبيض". السود إذن ليسوا أحرارا لأنهم يقدرون البياض فقط([36]).
يدعو فانون إلى مسألة عالمية لعلاقة السيد والعبد بما يتماشى مع فكر هيجل: كنظرية للاعتراف، هل النموذج الهيجلي صالح فقط للرعايا الأوروبيين؟ أم إنها تظل صالحة عندما تتكيف مع المجتمعات الاستعمارية، وتستمر في توفير إطار للتحليل؟ ومن حيث الاعتراف، هناك تبادلية مطلقة في ديالكتيك هيجل. عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات الاستعمارية، فإن الاعتراف المتبادل عند هيجل يفسح المجال للأحادية الاستعمارية، فإن الاعتراف المتبادل عند هيجل يفسح المجال للأحادية؛ لأنه بحسب فانون "يريد الأسود أن يكون مثل السيد؛ وذلك لأنه أقل استقلالية من العبد الهيجلي" وما يجعله أقل استقلالية من العبد الهيجلي هو تمسكه بذاتية السيد الأبيض. على هذا النحو، فإن العبد الفانوني، الذي ليس لديه رغبة حقيقية في أن يتم الاعتراف به، يقبل ذاتية السيد باعتبارها إرادته الخاصة. "يرغب السود في أن يكونوا بيضاً، بينما يرغب البيض في الوصول إلى مستوى أعلى من الإنسانية عن طريق الاستعباد([37]).
إن فشل الفينومينولوجيا الهيجلية في الاعتراف في السياق الاستعماري، بحسب فانون، ينبع من مشكلة متأصلة في الفينومينولوجيا نفسها. "لقد دخلت الظواهر في فكر فانون إلى عالم ثنائي يلتزم بمبادئ الاستبعاد المتبادل ويحكمه المنطق الأرسطي الخالص. إنه مكان يستحيل فيه التفاوض. إن العالم الاستعماري المنقسم إلى معسكرات يبطله "منطق التشغيل البسيط للاستشراق والجوهر الموجود في هذا المنطق". في البؤساء من الأرض، ويذكر فانون أن "العالم الاستعماري هو عالم منقسم إلى قسمين"؛ ويؤكد أن اللون الأبيض يتحول إلى رمز للنقاء والعدالة والصلاح والعذرية إلى القبح والخطيئة والظلام والفجور. ويمكن وصف وتوسيع تجربة السود هذه من خلال خطاب القطبية الغربية والشرقية في الاستشراق. فبينما أصبحت مفاهيم مثل التقدم والفكر العقلاني والعلمية والعلمانية والحضارة متطابقة وممثلة بـ "الغرب" وأخرى مثل رد الفعل، واللاعقلانية، والتفكير العاطفي، والدين والثقافة أصبحت تصف "الشرق"([38]).
من أجل التحرير، يلجأ فانون إلى العنف الثوري. فنجد مناقشته في معذبي الأرض يؤكد أن العنف هو قوة تطهير([39]). إنه يحرر المواطن من عقدته الداخلية ومن يأسه وتقاعسه؛ فهو يجعله لا يعرف الخوف ويعيد له احترامه لذاته، وهو يقصد بالطبع العنف لبنية الاستعمار. هذا المفهوم للعنف يحرر الخاضعين للاستعمار من الركود الجدلي الذي حصرتهم فيه العنصرية، ويعمل كوسيط تعمل من خلاله القطيعة. وتماشياً مع قراءة فانون، فإن أهمية المنهجية الجدلية في السياسة والفكر المناهضين للاستعمار تتوقف على تفضيلها للقطيعة في ممارسة الاعتراف بحسن نية. إذا كان الهدف هو إعادة تنشيط الركود الجدلي الذي يميز الأزمة السياسية العالمية والقمع الاستعماري، فمن المهم التركيز على الركود المناهض للاستعمار وإنهاء الاستعمار أولا. وهذا مطلب ملح بشكل خاص بالنظر إلى أن الدولة الاستعمارية، تواصل تعزيز الاستغلال الرأسمالي واستيعاب الشعوب الأصلية في الديمقراطية الاجتماعية الليبرالية على حساب تقرير المصير. ومن خلال رفض الاعتراف بسوء نية، فإن الخلاص من مثل هذه الصراعات يمكن أن يصبح احتمالا تاريخيا([40]).
إن الحرية عند فانون لا تأتي بالتمني أو دون جهد، بل هو صراع متمثل في العنف؛ بالنسبة إلى فانون، يجسد العنف خطر الموت، لكن خطر الموت يجسد جوهر الوجود الإنساني: الحاجة إلى الاعتراف الإنساني والسعي إلى الحرية. إن العنف وخطر الموت في هذا السياق يعني أن حياة المضطهدين تتحول إلى مظهر جسدي لـ "الحقيقة الموضوعية العالمية للحرية". ولذلك يصبح العنف عنصراً مهما؛ لأن النظام القمعي لا يعترف بالجماهير كبشر يستحقون ممارسة حقهم في السيادة. وهكذا، فإن طبيعة الحرية تجبر المضطهدين على المطالبة بالاعتراف من مضطهديهم والحصول عليه. ومن خلال العنف الذي يشير ضمناً إلى الاستعداد للموت، يشير المضطهدون بوضوح إلى القيم التي يموتون من أجلها؛ قيم الحرية والاعتراف بهم ومعاملتهم كبشر. كل هذه الأمور، تكمن في معادلة أن المستعمرَ مستعد للمخاطرة بأغلى وأثمن ما يملكه، "القيمة التأهيلية للعنف" ألا وهو حياتهم من أجل كرامتهم والمساواة([41]).
إن جدلية فانون عن الحرية ذات الصلة بأفريقيا ما بعد الاستعمار. وهذا لأن الكثير من الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعمل اليوم في جميع الدول الأفريقية تقريباً تنبع من الماضي الاستعماري. على الرغم من أن فانون اختار العنف باعتباره عنصراً أساسياً في المسيرة المضادة نحو الحرية، إلا أنه يجب على الأفارقة المضطهدين أن يعلموا أن الحرية الحقيقية والمجتمع الحر لا يظهران على طبق من ذهب ولا يقدمهما الظالمون أبداً، ولكن من خلال إجراءات مضادة متسقة من الجماهير المضطهدة([42]).
انقسمت الآراء حول قراءة فانون لهيجل في بشرة سوداء إلى معسكرين؛ أولئك الذين يعتبرون أن فانون يسعى إلى رفض جدلية هيجل، وأولئك الذين يعتقدون أن فانون متعاطف مع هيجل. وفقاً للقراءة الأولى لفانون، فإن جدلية هيجل السيد والعبد غير قابلة للتطبيق؛ لأنها لا تصف بدقة مواقف السيد والعبد الاستعماريين، ولا تقدم بدقة الآليات التي يمكن من خلالها للعبد الاستعماري أن يحقق الحرية أو سيحققها. لكن هذه القراءة تنسب إلى فانون فهما خاطئا لهيجل، حيث لا تتمثل وجهة نظر فانون في أن جدلية هيجل السيد والعبيد غير قابلة للتطبيق على الوضع الاستعماري، بل إن السود والبيض في العالم الفرانكفوني سيواجهون تحديات خاصة، إذا كانوا يرغبون في التغلب على الفشل المتمثل في الهيمنة الاستعمارية. بالنسبة إلى فانون، يفتقر السود والبيض إلى الحرية تماماً كما يفتقر السيد والعبد عند هيجل إلى الحرية، لكن افتقارهم إلى الحرية معقد بسبب ظاهرة العنصرية ضد السود. أما القراءة الثانية، فترى أن فانون يتبنى جدلية هيجل على الأقل جزئياً. يؤكد بيرد بولان Bird- Pollan أن فانون يقبل مفهوم هيجل للاعتراف ويسعى إلى شرح كيف تشوه العنصرية الاعتراف. كتب بيرد بولان: إن قراءة فانون لنظرية هيجل حول الاعتراف في بشرة السوداء هي… نقد جوهري لنموذج الاعتراف الذي يستخدمه المستعمر من وجهة نظر الرجل الأسود الذي تم تعليق هذا النموذج بالنسبة إليه. النقطة الجوهرية هي أنه على الرغم من أن قضية الاعتراف أساسية، إلا أن تجسيدها الملموس قد تم تشويهه تماماً من قبل المجتمع العنصري والاستعماري([43]).
وعلى الرغم من اختلاف الآراء، إلا أن فانون استخدم ديالكتيك هيجل لتوضيح آرائه من خلال إبراز الاختلاف بين الاستخدام عند كل منهما، وتوضيح صعوبة تطبيق جدلية هيجل على الوضع الاستعمار لارتباط السيد والعبد الاستعماريين بظاهرة العنصرية. نعم، هناك أفكار مشتركة بين فانون وهيجل إلا أن فانون يختلف جوهرياً عن هيجل نظراً لاختلاف ظروف السيد والعبد في الوضع الهيجلي عن المستعمِر والمستعمَر عند فانون.
مما سبق، يتضح أن بإمكان أفريقيا الاستفادة من جدلية فانون عن التحرر والحرية، نظراً للظروف التي تمر بها أفريقيا والأحداث الفلسطينية على وجه الخصوص، وبتدقيق النظر لما يدور حولنا يبدو واضحاً أن الديالكتيك الهيجلي على الرغم من تأثيره، إلا أنه لم يثمر على أرض الواقع في المجتمعات الأفريقية، حيث وجود ازدواجية في المعايير من قبل المجتمع الغربي تجاه المجتمع الشرقي. وإذا تحقق الاعتراف الهيجلي، فهو اعتراف من طرف واحد لطرف واحد، وهو اعتراف بوجود الذات الغربية فقط، وفي المقابل يتم تهميش وتحقير الذوات الأخرى وعلى وجه الخصوص الذات الفلسطينية المستعمرة، وهو وضع بالتأكيد ينطبق على الشرق بأكمله حتى وإن أظهر الغرب عكس ذلك.
وفي النهاية، هناك ضرورة ملحة للحوار والجدل ويجب أن يكون هذا الحوار موجهاً نحو توحيد الإنسانية والاعتراف بإنسانية واحدة مهما اختلفت الأجناس والأعراق والألوان والأديان، لكنها متساوية في الحقوق والواجبات، هناك ضرورة ملحة للجدل للتقارب بين الثقافات ونشر قيم التسامح والمساواة والحرية والعدالة بين الأمم والشعوب المختلفة. للجدل ضرورة ملحة كونة يقدم رؤي متعددة لحل المشكلات التي يواجها المجتمع على كافة الأصعدة من خلال تحليل وتقييم ونقد الأسباب التي تفجر المشكلات ومن ثم طرح الحلول المناسبة.
قائمة المراجع:
- A.R. Lacey. A Dictionary of Philosophy. 1996. 3 Edition. Routledge.
- Anisha, Sankar. Radical dialectics in Benjamin and Fanon: on recognition and rupture. Parrhesia. 2019. PP. 120-136
- Brandon, Hogan. Frantz Fanon’s Engagement with Hegel’s Master-Slave Dialectic. Africology: The Journal of Pan African Studies, 2018. vol.11, no.8. pp. 16 - 32
- Evaristus Emeka, Isife. Dialectics of Freedom in Frantz Fanon and Itsreleveance in Contemporary Africa. Igwebuike: An African Journal of Arts and Humanities. 2022.Vol. 6. No.10
- Iefan, Kaya. Hegel’s dialectics and Fanon’s struggle for recognition the White mask of black skin or Internalized orientalism. Journal of Religious Inquiries. 2020. Vol.3. Issue. 2. Pp.280- 296
- Onebunne, C.K. Dialectics of development: re-evaluating Hegelian dialectics in African perspective. Nnadiebube Journal of philosophy. 2018. Vol. 2. (2). Pp. 182-196
- أحمد كشي.. وظيفة الجدل الماركسي. مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية. 2013. المجلد1. العدد2. ص 82: 91
- الجرجاني. التعريفات. بيروت: مكتبة لبنان. بيروت. 1985
- المعجم الوجيز. طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم سنة 1415 للهجرة. 1994
- إمام عبد الفتاح إمام. المنهج الجدلي عند هيجل. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت. 2007. ط3
- أندرية لالاند. موسوعة لالاند الفلسفية. منشورات عويدات. بيروت. 2001. م1. ط2
- بيتر سينجر. هيجل، مقدمة قصيرة جداً. ترجمة: مصطفى محمد، فؤاد. مؤسسة هنداوي. 2014
- جميل صليبا. (1982). المجم الفلسفي. دار الكتاب اللبناني. بيروت. ج1
- جوزيف ستالين. المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. ترجمة: حسقيل قوجمان. دار دمشق للطباعة والنشر. 2007
- جيمس هنري برستيد. فجر الضمير. ترجمة: سليم، حسن. مؤسسة هنداوي. 2014
- سامية عبد الرحمن. جدل الفكر والواقع: قراءة في فلسفة هيجل. سلسلة أبحاث المؤتمر السنوي الدولي "كيف نقرأ الفلسفة". 2019. المجلد 5. العدد 2. ص 723: 746
- سعيد جلال الدين، سعيد. معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية. دار الجندول للنشر. تونس. 2004
- عبد المنعم الحنفي. الموسوعة الفلسفية. بيروت: دار ابن زيدون، بيروت. (ب. ت). القاهرة: مكتبة مدبولي.
- فرانز فانون. بشرة سوداء أقنعة بيضاء. ترجمة: خليل أحمد، خليل. بيروت: دار الفارابي. بيروت. 2005. ط1.
- فرانز فانون. معذبو الأرض. ترجمة: سامي، الدروبي & جمال، الأتاسي. مدارات للأبحاث والنشر. القاهرة. 2022.
- محمد فتحي عبد الله. الجدل بين أرسطو وكانط دراسة مقارنه. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. 1995. ط1.
- مراد وهبه. المعجم الفلسفي. دار قباء الحديثة. 2007
- مصطفى النشار. الفلسفة الشرقية القديمة. دار المسيرة للنشر والتوزيع. عمان. 2012. ط1
- مصطفى النشار. تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 1998. ج1
- مصطفى النشار. تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 2000. ج2
([1]) - الجرجاني. التعريفات. مكتبة لبنان. بيروت. 1985. ص 78 / المعجم الوجيز. طبعة خاصة بوزارة التربية والتعليم سنة 1415 للهجرة. 1994. ص 96
([2]) - جلال الدين سعيد. معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية. تونس: دار الجنول للنشر. 2004. ص 131/ جميل صليبا. المعجم الفلسفي دار الكتاب اللبناني. بيروت. 1982. ج1. ص 391 / أندرية، لالاند. موسوعة لالاند الفلسفية. منشورات عويدات. بيروت. 2001. م1، ط2 ص27، 273
([3]) - A.R. Lacey. A Dictionary of Philosophy. Routledge.1996. 3 Edition. P.85
([4]) - عبد المنعم الحنفي. الموسوعة الفلسفية. دار ابن زيدون، بيروت (ب. ت). مكتبة مدبولي. القاهرة. ص 152
([5]) - جلال الدين سعيد. ص 132 / مراد وهبة. المعجم الفلسفي. دار قباء الحديثة. 2007. ص 239
([6]) - جلال الدين سعيد. ص 131، 132 / مراد وهبه. ص 240
([7]) - مصطفي النشار. الفلسفة الشرقية القديمة. دار المسيرة للنشر والتوزيع. عمان. 2012. ط1. ص63
([8]) - جيمس هنري برستيد. فجر الضمير. ترجمة: سليم حسن مؤسسة هنداوي. 2014. ص170: 174
([9]) - المصطفى النشار. تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 1998. ج1. ص201
([10]) - عبد المنعم الحنفي. ص153
([11]) - مصطفى النشار. تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي. دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. 2000. ج2. ص 121: 123
([13]) - إمام عبد الفتاح. المنهج الجدلي عند هيجل. دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع. بيروت. 2007. ط3. ص58
([14]) - جلال الدين سعيد. ص 131/ جميل صليبا. ص 391 /أندرية لالاند. ص272، 273
([15]) - محمد فتحي عبد الله. الجدل بين أرسطو وكانط دراسة مقارنه. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. 1995. ط1. ص 18
([18]) - محمد فتحي عبد الله. ص169، 170
([19]) - إمام عبد الفتاح. المنهج الجدلي عند هيجل. ص 69
([20]) - المرجع السابق. ص21، 22
([21]) - سامية عبد الرحمن. جدل الفكر والواقع: قراءة في فلسفة هيجل. سلسلة أبحاث المؤتمر السنوي الدولي "كيف نقرأ الفلسفة" 2019. المجلد 5. العدد 2. ص 725، 732، 735
([22]) - المرجع السابق. ص 735، 738
([24]) - بيتر سينجر. هيجل، مقدمة قصيرة جداً. ترجمة: مصطفى محمد فؤاد. مؤسسة هنداوي. 2014. ص 80: 83
([25]) - جوزيف ستالين. المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. ترجمة حسقيل قوجمان. دار دمشق للطباعة والنشر. 2007. ص ص 17، 18
([26]) - المرجع السابق. ص23: 34
([27]) - أحمد كشي. وظيفة الجدل الماركسي. مجلة الحكمة للدراسات الفلسفية. 2013. المجلد1. العدد2. ص83، 90
([28]) - Chales Kosolu Onebunne. Dialectics of development: re-evaluating Hegelian dialectics in African perspective. Nnadiebube Journal of philosophy. 2018. Vol. 2.P. 195
([32]) - Brandon Hogan. Frantz Fanon’s Engagement with Hegel’s Master-Slave Dialectic. Africology: The Journal of Pan African Studies. 2018. vol.11, no.8. pp. 16
([33]) - Iefan Kaya. Hegel’s dialectics and Fanon’s struggle for recognition the White mask of black skin or Internalized orientalism. Journal of Religious Inquiries. 2020. Vol.3. Issue. 2. P 293
([34]) - Brandon Hogan. Frantz Fanon’s Engagement with Hegel’s Master-Slave Dialectic. p. 23
([35]) - فرانز، فانون. بشرة سوداء أقنعة بيضاء. ترجمة: أحمد خليل. بيروت: دار الفارابي. بيروت. 2005. ط1. ص 230: 232
([39]) - فرانز، فانون. معذبو الأرض. ترجمة: سامي الدروبي & جمال الأتاسي. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر. 2022. ص 39، 83
([40]) - Anisha Sankar. Radical dialectics in benjamin and fanon: on recognition and rupture. Parrhesia. 2019. P. 128,134
([41]) - Evaristus Emeka Isife. Dialectics of Freedom in Frantz Fanon and Itsreleveance in Contemporary Africa. Igwebuike: An African Journal of Arts and Humanities. 2022. Vol. 6. No.10. p. 117
([43]) - Brandon Hogan. P. 17, 18