الموت الاختياري
فئة : مقالات
كلّما طُرق موضوع الموت الاختياري انصرف البحث إلى أعماق النفس نبشا فيما تطمره من مشاعر خفيّة، وأحاسيس دفينة، ويأتي بعد ذلك الحديث عن الإدراك العقلي للعالم المحيط بالشخص المنتحر، وكأنّ النفس تهفو للهلاك، ويعزف العقل عنه، وبانتصار أحدهما يتقرّر مصير الإنسان، فنجاته في ترجيح قرار العقل، وهلاكه في انقياده لأهواء نفسه، وحدث أن نُظر لمحاولة الانتحار على أنها مانحة لقوة فريدة من نوعها، كما ذكر ذلك "كولن ويلسون" بقوله: "كلّ من أنجز عملا ذا أصالة يعتدّ بها في حقل الأدب والفلسفة قد اختبر حتما تجربة أن يكون على شفير هاوية الانتحار يوما ما في حياته"؛ ذلك أن محاولة الإقدام على الانتحار توفّر للمرء "معاينة الهاوية السحيقة التي هو مزمع على الرحيل إليها، وهنا تتحقّق له قدرة عجائبية في الفصل بين ذاته الحقيقية المبدعة بكل ما تحوزه من فرادة، وبين ذاته الأخرى النزقة العابثة، وفي هذه اللحظة المفصلية تستحيل تجربة الانتحار نوعا من ولادة لذات خلّاقة عجزت عن رؤية إمكاناتها الثمينة قبل هذه التجربة الفريدة".
يطوي كلام "ويلسون" كثيرا من اللبس، فهو يعزو لمغامرة الإقدام على الموت أصالة الإبداع، لأنها تفصل بين مرحلتين من حياة صاحبها؛ مرحلة السبات ومرحلة اليقظة، وعن هذه الأخيرة يتأذى شعور فاصل بدخول الإنسان إلى تجربة جديدة تقوده للارتقاء صوب الأصالة، وهذا رهان يصعب إثباته، إنما يمكن تخمينه، فمرور المرء في تجارب حاسمة، ومنها محاولة الانتحار، قد تقضي عليه، وتحيل الانتحار إلى واقعة تروى بعد غياب صاحبها، ولكنها، حسب ويلسون قد تحدث رجّة تفضي بصاحبها لإعادة اكتشاف ذاته، ولكن الوصف الحقيقي للانتحار أمر محال. تسهم عملية النجاة من محاولة الموت المقصود الذي يسعى المرء إليه في إثراء خبراتنا عن هذه التجربة، ولكن في حال انتهت بالموت، فسوف نكون بإزاء حدث قابل للوصف، ولكنه متعذّر الإدراك لأن حامل التجربة قد انقضى أمره، ونزاع الموت، سواء كان بطيئا أم سريعا، لا يوفر قدرة على وصف التجربة، وعلى هذا ينتفي اعتبار الموت تجربة قابلة للوصف من صاحبها. وقد نفى "كامو" أن يكون الموت تجربة، فما مرّ بها شخص ثم عاد ليصفها؛ أي أن الموت لا يتوفّر على شروط الحدث الذي جرى خوض غماره، ثم وصفه بعد ذلك، وعلى هذا يتعذّر الحديث عن تجربة موت الآخرين إلا باعتبارها موضوعا لتأويل المدركات.
ينفي " كامو " أن يكون الموت تجربة، فما مرّ بها شخص ثم عاد ليصفها؛ أي أن الموت لا يتوفّر على شروط الحدث الذي جرى خوض غماره
ولست في حال أقرّر فيه صحّة ذلك، غير أنني أرتاب بمجمل الأوصاف حول ذلك الحدث الذي يلفه الغموض، فنحن نعتمد على شهود من الدرجة الثانية بسبب موت غياب صاحب التجربة، وبذلك تندرج المرويات حول هذا الضرب من الموت ضمن رتبة الرواية غير المباشرة للحدث؛ أي أنها رواية من الدرجة الثانية للحدث تتناهبها الأقاويل والانفعالات، وربما الافتراءات، بحسب موقف الشهود، ودرجة صلتهم بالمنتحر، وإلمامهم بالظروف التي ألجأته إلى قتل نفسه، فضلا عما يحيط حدث الانتحار نفسه من زمان ومكان وطريقة، وكلما تكاثرت المرويات حول ذلك الحدث فاض بمقاصد تقوم على الظن والترجيح، وبمرور الوقت ينبني سياق سردي لاحتضان الحدث، وفي هذا السياق تنشب التأويلات، وما تلبث تلك الحادثة، في ظل غياب صاحبها، أن تصبح واقعة سردية قابلة للزيادة والنقصان، وغالبا ما تتوارى خلف ستار كثيف من التأويلات الثقافية التي تريد البرهنة على صدق فرضياتها أكثر من تأكيد طبيعة ذلك الحدث. ومعلوم أن التأويل ينشب حول الأحداث الغامضة التي لا تكون محلّ اتفاق، بل إنه استدراج معنى من حدث، يكون محلّ خلاف، بقرائن ترجيحية.
طرح مفهوم الحياة على كثير من المفكّرين أسئلة جوهرية يتعذّر الإلمام بها، منها اختيار النهاية بإرادة وتصميم. ويبدو القول بالإرادة الحرّة التي يقررها الإنسان من أجل وضع نهاية مقصودة لحياته ضربا من الفعل الشنيع الذي يتأبّى كثيرون عن قبوله، أو الأخذ به، ولعله نوع من الاستعصاء، وربما الامتناع، عن التصريح بأمر غير مفكّر فيه كونه يعارض أحوال الجماعة الإنسانية، وكان قد طُرح، منذ القدم، السؤال الغامض حول مشروعية إنهاء الحياة بإرادة وقصد، ثم القدرة على إنفاذ ذلك القرار بوضوح، ومن غير لبس في الأسباب، وهو أمر حرّمته المعتقدات، ورفضته الأعراف، ومنعته القوانين، وصار الأخذ به حدثا يستحق البحث؛ لأنه ما من قرار يرتقي إلى رتبة اختيار الموت إلا وله من الدوافع التي تجعل الأخذ به صادرا عن وعي غامض بأمر لا يعرف دوافعه غير صاحبه، والحال هذه، فتقليب أحوال المنتحرين يكشف عن أزمات إبداعية أو نفسية أو اجتماعية أو ثقافية أو دينية لها صلة بالنظام السائد من المعتقدات، والتخيّلات، والمصالح، فضلا عن الأحوال الخاصة بهم في سياق مجتمعي ما عاد صالحا لاستيعابهم، والقبول بهم، فتعذّر عليهم الاندماج في ذلك السياق لمزيّة يتفرّدون بها عن الآخرين، أو لإحساس مفرط بالخصوصية.
طرح مفهوم الحياة على كثير من المفكّرين أسئلة جوهرية يتعذّر الإلمام بها، منها اختيار النهاية بإرادة وتصميم
وباجتماع هذه الأسباب وسواها يتوارى الدافع الحقيقي لفعل الانتحار إلا على سبيل الترجيح، فهي أسباب تتداخل فيما بينها بما يضعف حجّة أيّ منها، فيصبح من شبه المتعذّر ذكر سبب بعينه دفع المرء للإقدام على فعل الانتحار؛ لأن غموض الفعل يخلّف روايات كثيرة حوله، لا اتفاق فيها، وكثير منها منبتّ عن دوافعه، وربما يكون قد جرى إسقاطه على فعل سبقه، فذلك أمر يدفع بالفعل إلى منطقة الإبهام أكثر من الوضوح، وتكاد تخلو يوميات الكتّاب المنتحرين، وسجلاتهم الشخصية، من وصف متدّرج للأحوال التي انتهت بهم إلى قرار الموت ما خلا شذرات عامة، أو رسائل ختامية دبّجت قبل لحظات من الإقدام على ذلك، أو شهادات أفراد مقرّبين، وفقدان السجلات الكاملة لتلك الأحوال جعل الواصفين يرجّحون سببا من دون غيره؛ وعليه فقد جرى تقليب مؤلّفاتهم، والتنقيب فيها عن إشارة توحي بهذا الفعل، وقع تأويلها على أنها دليل استرشادي إلى فعل الانتحار. ومن العادة أن تتدافع الأسباب، وتتزاحم، ويتراجع أحدها، وينطمر في طيات النسيان، ويظهر للعيان سواه، فقد توارى الشاهد الوحيد عليها كلها، وربما يكون ذلك الشاهد نفسه غير ملمّ بها إلماما تاما.
لقد جرى الأخذ بأركان النظرة التقليدية للانتحار، أقصد تلك النظرة التي رسّختها المعتقدات والأعراف الموروثة، وهي تشطر الإنسان إلى شطرين متناقضين، فتنسب الشرّ للنفس الأمارة بالسوء، وتعزو الخير للعقل الداعي للصلاح، وكأن ذلك نوع من استرخاص النظر للهوية الفردية التي يتعذّر شطرها أشطرا متنازعة، إنما ينقاد الفرد للمؤثرات ومدى استجابته لها، ومدى تأثيرها في اتخاذ قراراته الخاصة، ومن ذلك موضوع الانتحار. وقد نسب لفرويد القول الآتي: "المتحضّرون مازوخيون"، أي تتوفّر فيهم رغبة لإلحاق الأذى بأنفسهم، ولا يعود ذلك لطبع راسخ فيهم، فالتحضّر مكتسب وليس موروثا، إنما يطوي الشخص المتحضَر إحساسا مفرطا بالتناقضات التي قد تدفع به للتضحية بنفسه حينما لا يجد نفسه قادرا على العيش في مجتمع منقسم على ذاته. وفي إطار هذا التعريف، قال دستويفسكي إن المنتحر: "شخص يعبّر بحماسة عن فكرته؛ أي عن ضرورة الانتحار، وهو ليس شخصا لامباليا، أو صلبا كالحديد، فهو يعاني، ويتعذّب، ويرى بجلاء شديد أن العيش مستحيل من وجهة نظره، ويعرف المتحر كلّ المعرفة أنه على حقّ، ومن المستحيل دحض فكرته". وبعد أن توسّع في بيان ذلك، خالص إلى أن الانتحار في حالة فقدان الثقة بالخلود يصبح ضرورة مطلقة، بل حتى محتّمة بالنسبة إلى كل إنسان سما في تطوره، ولو قليلا عن البهائم، وبالعكس، فإنّ الخلود، بما هو وعد بحياة أبدية، يربط الإنسان ربطا أوثق بالأرض؛ لأن الإنسان لا يدرك كامل أبعاد الغاية المعقولة من وجوده على الأرض إلا إذا آمن بأنه خالد. أما إذا فقد هذا الإيمان، فإن صلاته مع الأرض تتقطّع، وتزداد وهنا واهتراء، ثم أن فقدان مغزى الحياة الأسمى يفضي، بلاشك، إلى الانتحار.
حظي قرار الموت الذي يتّخذه الإنسان راضيًا باهتمام "نتشه"؛ فلأن الموت عنده كان "تحرّرا من وجود لا يطاق"؛ فقد مهّد لرأيه به قائلا: إنّ الموت نوعان: موت طبيعي، وموت إرادي؛ فالأول هو ذلك الحدث المحتّم الذي تنتهي به حياة الإنسان بالهرم أو المرض أو القتل كائنا ما كانت أنواعه مقصودا كان أم عارضا، وهو موت طبيعي لا دخل لإرادة الإنسان فيه، وهو عنده "موت الجبناء". والثاني هو الانتحار الذي قوامه طلب الموت بحرية من غير صدفة ولا مفاجأة، وينجذب إليه الإنسان طائعا ومختارا، وهذا هو "الموت الظافر". هذا تصنيف يفيد في وصف حالات الموت لو جرى نزع الأحكام القيمية عنه، لأنه يقف على مغذّيات الأفعال التي تدفع بالإنسان إلى الموت، سواء كانت مغذّيات فكرية أو دينية. وليس ينبغي إهمال أمر ربط الانتحار بالانتصار، فكثير من الثقافات التقليدية تقرن الافتداء بالنفس بالظفر، والموت بالفوز العظيم، فيرتسم للموت معنى الشهادة، فذلك بذل للنفس من أجل هدف عظيم الشأن، ولا يشمل أمر التضحية بالحياة لأمر جليل أي معنى للشعور بالإخفاق، إنما تضفي عليه الثقافة التقليدية سموّا ورفعة، وتنزع عنه معنى الانهزام والانغلاب.
فرّق "تيري إيغلتن" بين الشهيد والمنتحر بحسب الهدف القابع وراء قتل النفس؛ فالشهيد "يتخلّى بكل حرية عن حياة عزيزة". أمّا المنتحر، فإنه "يتخلّص من وجود أصبح معدوم القيمة"؛ فالانتحار "مسألة شخصية"، بينما الشهادة "نوع من تحويل المرء موته إلى قضية اجتماعية". وإلى ذلك فقد طرحت بعض الاتجاهات الدينية المتشدّدة مفهوم "الانغماسي"، وهو: مقاتل من الصفوة تلقّى تدريبا جسديا ونفسيا على الانغماس في مناطق الأعداء للفتك بهم، فيقاتل في وسطهم، بكفاءة عالية، حتى يموت، باعتقاد أنه يشرع للمجاهدين أبواب النصر، ولا تغيب عنه، وهو يفتدي نفسه، مقايضة حياة الآخرة الهانئة الخالدة بحياة الدنيا البائسة الزائلة.
الشهيد يتخلّى بكل حرية عن حياة عزيزة. أمّا المنتحر، فإنه يتخلّص من وجود أصبح معدوم القيمة
من الصحيح أنّ معظم الناس يرغبون في تولّي أسباب خارجة عنهم للقيام بذلك الفعل بدل أن يتولّوها هم، غير أنّ فئة قليلة ندبت نفسها لذلك الفعل الإشكالي الذي لم ينته أحد إلى الجزم بمشروعيته. ولعل "نتشه" قد استعار ذلك التصور من مُلهمه "شوبنهاور" الذي عُدّ أول مفكّر حديث "بحث مشكلة الموت بطريقة نسقية شاملة"، فقد ذهب إلى أنّ الإنسان، على الرغم من إقدامه على الموت، فما من أحد من بني البشر إلا وسكنه ميل للاعتقاد بعدم قابليته للإفناء؛ أي أنه لا يؤمن بموته الخاص "إن الإنسان لا يستقبل الموت وهو في وعيه الحيّ". يفكر الشخص الذي يقدم على الموت بتركة من جاه أو شهرة أو نسل؛ أي أنه يتطلّع إلى رواية حول موته وتبعات ذلك.
لا يعود الأمر إلى تحلّل أسباب الانتحار، وتفسّخ بواعثه، وانطواء بعضها في نفس المنتحر وقد انطفأت، وأمسى من المحال استنطاقها، بل لأنّ الحقل الدلالي لمفهوم الانتحار غامض كأنه صفحة متغضّنة انتزعت من كتاب الحياة، ورميت في مهبّ الريح، وقد وجد "دوركهايم" صعوبة بالغة في تحديد دلالة كلمة "الانتحار"، فهي فضفاضة، لتضارب الأقوال في طبيعة الفعل الذي تصفه، فقلّبها على وجوهها، ورجّح أنها "كلّ مِيتة تنجم بنحو مباشر أو غير مباشر عن فعل إيجابي أو سلبي، جرى تنفيذه بيد الضحية ذاتها". ولم يطمئن إلى هذا التعريف، وما وجده وافيا؛ فقد أخفق في التمييز بين نوعين من المِيتات شديدتي الاختلاف تنتميان إلى فعل واحد هو قتل النفس: موت شخص مهلوس ألقى بنفسه من نافذة عالية بظنّ أنها بمستوى أرض الشارع، فقضى نحبه، وموت شخص سليم العقل وجّه لنفسه ضربة قاتلة، وهو يعرف ما يفعل؛ فهما فعلان نتج عنهما الموت عن عمد قام بهما شخصان اختلفا في إدراك ماهية ذلك الفعل، وعلى هذا قيّد "دوركهايم" التعريف الآنف الذكر للانتحار بقوله: "نسمّي انتحارا كلّ حالة موت تنجم بنحو مباشر أو غير مباشر عن فعل إيجابي أو سلبي تنفّذه الضحيّة ذاتها، والتي كانت تعلم بالنتيجة المترتبة على فعلها بالضرورة". فليس من الانتحار أيّ فعل لا يعي صاحبه ما سوف يترتب عليه، إنما يدخل في التعريف ذلك الفعل المصحوب بوعي تام بما ينتج عنه. ولعلّ تعريف "دوركهايم" للانتحار يطابق في معناه العام ما قال به "شوبنهاور" من أنّه "ظاهرة قوامها التأكيد القوي للإرادة".
لا يُدرج هذان التعريفان اللذان اقترحهما شوبنهاور ودوركهايم للانتحار في حقل الثقافة، والذي هو مناط تأويل، إلا لفظان مهمّان جدا، وهما: "الضرورة" و"الإرادة"؛ لأنهما يتمرّدان على التعريف المعجمي للألفاظ، ويندرجان في سياق مفاهيم ثقافية لا سبيل لضبط حدودها؛ أي أنهما يغادران وصف الفعل كما هو إلى الإيحاء بدوافعه، وسوف ينحسر، وبالتدريج، مضمون الفعل، ويستأثر بالاهتمام أمر الوعي بضرورته، أو قوة الإرادة في القيام به، ويقع استنطاق الخطاب الواصف للفعل وليس الفعل نفسه الذي يغلب أن يكون مبهما، وحدث أمام عدد قليل من الشهود ارتاعوا منه أو ربما وقع من غير شهود عليه. ولعلّ الموت مولّد شديد الثراء للمرويات المتضاربة؛ فالرواة لا يهتمون بحقيقته بل بأثره فيهم، ورأيهم بما حدث أكثر من وصفهم لما حدث. وعلى هذا، فالانتحار في السياق الثقافي فعل من أفعال السرد، ولعله في سياقات أخرى يكتسب دلالات مختلفة. وحسب "ليسكانو" فقد يكون الانتحار مبعثا للهدوء الذي يحقق السلام "أفكّر في الموت كثيرا، في السرير مستلقيا على ظهري، أشعر بلذّة جسدية حين أتخيّل أنني أتلقّى رصاصة في الصدغ. ما يخطر لي ذلك حتى أشعر بشيء من الهدوء. يتكرّر المشهد، أكرّر المشهد كي أشعر بالهدوء، وبلذّة أعلم أن الحلّ في يدي، وأن في إمكاني أن أنعم بالسلام ذات يوم".
لعلّ الموت مولّد شديد الثراء للمرويات المتضاربة؛ فالرواة لا يهتمون بحقيقته بل بأثره فيهم
نحن، إذن، بإزاء فعل ووصف مشوبين بالمجاز، شأن الأفعال السردية ونعوتها، وهذا الضرب المحدود من أفعال الموت ينبثق من تيار جارف للموت تنتهي به حياة بني البشر بعامتهم، فما من إنسان إلا وضع في اعتباره أنّ الموت حقيقة لا مهرب عنها، إما بعارض أو مرض أو شيخوخة. قال "باسكال"، إنّ كلّ ما أعرفه هو أنه لابدّ لي أن أموت عمّا قريب، ولكنّني لا أجهل شيئا قدر ما أجهل هذا الموت الذي ليس لي عليه يدان". هذا موت محتّم شذّ عنه الموت بقرار من طرف صاحبه، وبذلك ينتظم الموت حول حبكتين: عامّة خاصّة، فحياة عامّة الناس حدث مسترسل ينحلّ بالموت الطبيعي، لكنّ حياة المنتحر حدث محبوك ينحلّ بالموت الإرادي، وما يغذّي حبكتي الموت جملةُ من الحواشي الشارحة مصدرها النصوص الدينية، والأعراف الاجتماعية، والقوانين الوضعية، وعلوم النفس والاجتماع، وهي تتقاسم فعل الموت بنوعيه وصفا وتحليلا وتأويلا، فلا تتفق على شيء من ذلك؛ فينتهي ذلك الفعل الواقعي إلى فعل سردي تتناهبه المعتقدات والأعراف والقوانين والأوصاف من غير أن تفلح في حلّ حبكته التي تنحل باختفاء صاحبه.
حُجبت معضلة الموت الإرادي وراء تحيزات ثقافية أو دينية أو نفسية إلى درجة ما عاد من المتاح كشف حقيقتها بوضوح يشفي الغليل، فأصبحت موئلا للآراء التي تناهبتها، وكلّما تكاثرت وقائعها ازداد غموضها لتضارب أسبابها، وتعارض تفسيراتها، وتكشف لائحة المنتحرين من الأدباء، على سبيل المثال، عن عدد منهم أنهى حياته في ذروة العطاء لأسباب ما برح معظمها مبهما، منهم: ستيفان تسفايغ، وإرنست همنغواي، وأرثر كوستلر، وفرجينيا وولف، وجيرار دي نرفال، سيرغي يسينين، وتيسير سبول، وفالتر بنيامين، ويوكيو مشيميا، وتشيزاري بافيزي، وسيلفيا بلاث، وسواهم كثير.