الموت الصناعي
فئة : مقالات
الموت الصناعي
الموت الصناعي عبارة تحدّث عنها ابن خلدون (732هـ - 808هـ) في كتابه "شفاء السائل وتهذيب المسائل"، وعرّفها بأنّها: "إخماد القوى البشريّة كلّها، حتّى يكون السالك ميّت البدن حيّ الروح"[1]. وهي بذلك تختزل جزءًا كبيرًا من السلوك الصوفي، يعمد فيه السالك عبر ما يسمّيه الصوفيّة بالرياضات والمجاهدات ثمّ المقامات والأحوال، إلى التخلّص من حضور البعد المادي والأرضي فيه من أجل تفويق البعد الروحي وتحريره من القيود التي يعتقد الصوفيّة أنّها تشدّ العبد إلى العالم السفلي الفاني، وتحجبه عن العالم الإلهي العلوي الباقي. وقوام هذا الاعتقاد تصوّر لازدواج تركيبة الكائن البشري يحكم بكونه في جزءٍ منه حاملاً لجانب روحي إلهي انطلاقا من فهم الآية "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ"[2]، وفي جزء ثانٍ هو مخلوق من تراب. فهو إذن يختزل في تكوينه العالمين السماوي والأرضي، ومن هنا تسميته بـ"العالم الصغير"[3] أو "الأصغر"[4]، ويعتبر الصوفيّة أنّ في هذه التركيبة الثنائيّة أو المزدوجة دلالة على تكريم الله ابن آدم وتمييزه له بين سائر المخلوقات.
وهذا ما يدفع إلى التساؤل عن أسباب دعوتهم إلى الإخلال بتوازن هذه التركيبة عبر إلغاء جانب منها وهو البدن، بل التساؤل ربّما يطرح بشكل أكثر إلحاحا على مثل هذه الدعوة في الوقت الذي يعترفون فيه بأنّ الجانب المطلوب إخماده هو في الحقيقة الممثّلُ لبشريّة ابن آدم (القوى البشريّة). إذ بمثل هذا التوجّه يكون المطلوب محو هويّة الكائن البشري، واستبداله بكائن روحاني أو شبحِ كائنٍ، بما أنّ البشر جميعهم في عرف الصوفيّة قد مرّوا في خلقهم بطورين طور أرواح محض كانوا فيه ذرّا موجودين بالقوّة، ثمّ طور الوجود الفعلي وقد استوت ذواتهم روحا وجسدا وتمايزت بعضها عن بعضها الآخر. وكأنّ الموت الصناعي بهذا المعنى سعي نحو استعادة الطور الأوّل أو تحيينه، خاصة وقد أسند إليه الصوفيّة مختلف صفات الطهر والصفاء والنقاء.. في حين التبس الطور الثاني بمعاني الدنس والفساد. ومنه نفهم أنّ الصوفيّة ينظرون إلى البشريّة بمنظار النقص والقصور، فيسلبونها كلّ قدرة على أن تكون إيجابيّة.
ومن ثمّ فإنّ مثل هذا الموت الصناعي يصبح علامة على ضرب من التحرّر من هذا الدنس والقصور أو النقص الذي يلتصق بالبدن والبشريّة في عرف الصوفيّة. إنّ الإنسان بمثل هذا التصوّر لا يمكن أن يكون فاعلا ومؤثّرا إلاّ بارتفاعه عن عالمه الأرضي ومحاولته المتواصلة الالتحام بالعالم العلوي أو العالم الروحاني. بل لا يمكن أن تكون له فعلا قيمة ومعنى إلاّ بزوال بشريّته. وبدل أن يتعايش مع هويّته وينسجم مع مكوّناتها نجده يهرع إلى التبرّؤ من جزء لا يتجزّأ منها بالعمل على محوه والقطع معه وإن رمزيّا. ولنا أن نتصوّر إذّاك طبيعة الإنسان المنشود إنتاجه عبر مثل هذا السلوك الصوفي، هل هو ذاك الذي ينغرس في واقعه فيعيشه ويتفاعل معه؟ أم هو ذاك الذي لا يرى واقعه ويتعالى عليه ويصطنع لنفسه عالما وهميّا يعيش فيه؟
إنّ اللجوء إلى الموت الصناعي تعبير عن موقف من العالم عنوانه الأبرز يتمثّل في الرفض، فالصوفي باتباعه هذا النهج يعلن قطعه مع نموذج في الحياة حاصل، ويبحث عن بديل يراه في الارتفاع عن البشريّة وما تفترضه من التصاق بمتطلبات هذه الحياة الأرضيّة التي لا يرى فيها الصوفي إلاّ الفناء والزوال والزيف. لذا يجدّ في طلب حياة أخرى يستشرفها عبر مثل هذا الموت، سيّما وهو يدرك حتميّة الفناء ويعتقد في البعث. وابن خلدون مثله مثل سائر الصوفيّة يستحضر ههنا الحديث المنسوب[5] إلى الرسول ونصّه: "موتوا قبل أن تموتوا"[6]. فالموت الصناعي إذن تحيين للحظة في الخلق أولى من جهة، واستدعاء للحظة البعث بعد الموت من جهة ثانية، فهو يختزن تصوّر الصوفي للعالم الآخر الذي عاشه سابقا بالقوّة ويستشرف أنّه سيعيشه بالفعل بعد الموت الطبيعي، ويعتقد مسبقا أن لا حظّ للبشريّة فيه إطلاقا، وهذا قد يعتبر إقرارا ضمنيّا بأنّ البعث سيقترن بتعطيل البدن أو الجسد وسيحكم بتبعيّته المطلقة، إن وُجد، للروح. وإن كان للصوفيّة في هذا السياق أقوال عدّة ورؤى متباينة.
وإذا تناولنا المسألة من زاوية أخرى ونظرنا في مبررات الصوفيّة للموت الصناعي فإنّنا سنجد في مقدّمتها فكرتي المحبّة والتوحيد، فالصوفيّ في تخلّيه عن مكوّنه البشري وعنايته بمكوّنه الروحي إنّما يقدّم نفسه برهانا على شدّة حبّه لربّه وتطلّعه إلى القرب منه ونيله مرتبة خاصّته. فالموت الصناعي إذن تضحية من أجل الوصول إلى الله. هذا فضلا عن كون التخلّي عن البشريّة عبر إخمادها يترجم سعي الصوفي إلى إزالة مختلف الحجب التي قد تعرض له في طريق تحقيق فعل التوحيد الأمثل وفق عقيدة التصوّف حيث تنتفي الأغيار ويدرك العبد مرتبة من لا يرى في الوجود سوى ربّه. وههنا يقترن الموت الصناعي أكثر بدلالات أخلاقيّة فالقرب من الله يقتضي التحقّق بصفاته والتخلّق بالأخلاق التي أمر بها وحثّ عليها، بل القرب يفترض في أرقى صوره بلوغ درجة المرآة الصقيلة مثلما يذهب إلى ذلك الصوفيّة حيث يرى الله نفسه في عبده. وههنا يكون مبرّر الصوفيّة للقطع مع البشريّة المقابلة في عرفهم للإلهيّة. وههنا أيضا نفهم سبب نعتهم هذه البشريّة بمختلف النعوت السلبيّة.
ولهذا ندرك سبب استعارة الصوفيّة صورة الموت لجعلها أساسا في مذهبهم في مختلف مراحله، وبه نفهم قول حاتم الأصمّ (ت 237هـ): "من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت، موتا أبيض وموتا أسود وموتا أحمر وموتا أخضر فالموت الأبيض الجوع والموت الأسود احتمال أذى الناس والموت الأحمر مخالفة النفس والموت الأخضر طرح الرقاع بعضها على بعض"[7]. فالموت الصناعي عنده أصناف ودرجات تنضاف إلى الموت الطبيعي، وتحكي تفاعل الصوفي مع ذاته ومع الآخر حوله. وهو تفاعل يتّجه نحو التعالي عن الذات والآخر معا، فالموجود لا يرضيه ولا يلبّي انتظاراته، وهو يسعى إلى استدعاء مفقود (لحظة الذر في الخلق الأوّل) وتحقيق منشود (القرب من الله واستشراف ما بعد الموت). إنّه بذلك يتعالى عن هويّته ويرفض عالمها ليعيش في فضاء المتخيّل. بل هو يسلب ذاته القدرة على الفعل ويستدعيها من الله مباشرة، فمن شروط السلوك لدى الصوفيّة "أن يكون العبد بين يدي الله عزّ وجلّ كالميت بين يدي الغاسل يقلّبه كيف شاء، لا يكون له حركة ولا تدبير"[8]. وقد انزلقت هذه الصورة (الميت بين يدي غاسله) من الارتباط بالله إلى الارتباط بالشيخ في أدبيّات الصوفيّة ليصبح السالك رهين إشارات شيخه وأوامره لا يحقّ له الاعتراض عليها أو مناقشتها. فضاقت من ثمّ دائرة قدرته على التصرّف الحرّ والمبادرة الفرديّة في الفعل، وباتت إرادة شيخه مقدّسة ومطلقة.
إنّ الموت الصناعي إذن تربية صوفيّة يحاول السالك اتباعها والتقيّد بها، وبدل أن توجّهه إلى كيفيّة التفاعل مع الحياة ومتطلباتها التاريخيّة أو الواقعيّة، نجدها تدعوه إلى إخماد كلّ ما قد يصله بهذا الواقع ومتعلّقاته، ليحيا في عالم اصطناعي ترسمه له مخيّلته وتحدّد معالمه رؤيته للمقدّس وتصوّره له ولأبعاده. وبدل أن تدعم قابليّته للتفاعل إيجابا مع ذاته وهويّته وتركيبته، نجدها تدفعه إلى التفاعل سلبًا مع هذه الذات عبر إخماد مكوّن رئيس من مكوّناتها، به تقوم بشريّته أو به يستوي كائناً بشريّاً.
[1] ابن خلدون (عبد الرحمن)، شفاء السائل وتهذيب المسائل، تحقيق محمد مطيع الحافظ، بيروت- لبنان، دار الفكر المعاصر/ دمشق-سورية، دار الفكر، ط1، 1996، ص 129
[2] سورة الحجر، الآية 29
[3] انظر مثلا: أبو حامد الغزالي، معارج القدس في مدارج معرفة النفس، ط1، بيروت - لبنان، دار الكتب العلميّة، 1409 هـ/1988م، ص 173
[4] انظر مثلا: محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق وتقديم عثمان يحي، تصدير ومراجعة إبراهيم مدكور، ط2، جمهورية مصر العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1405 هـ/1985م، السفر الثاني، ص230
[5] هذا الحديث كثيرا ما يعتبر من متداول الصوفيّة وموضوعاتهم فقد اعتبره الحافظ ابن حجر غير ثابت وقال القاري هو من كلام الصوفيّة. انظر: العجلوني (إسماعيل بن محمّد)، كشف الخفاء ومزيل الإلباس عمّا اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس، القاهرة، مكتبة القدسي، 1305هـ، ج2، ص 291
[6] ابن خلدون (عبد الرحمن)، شفاء السائل وتهذيب المسائل، ص 129
[7] الأصفهاني (أبو نعيم أحمد)، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، القاهرة، مكتبة الخانجي/ بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1996،ج 8، ص 78
[8] القشيري (أبو القاسم)، الرسالة القشيريّة، شرح وتقديم نواف الجراح، ط1، بيروت-لبنان، دار صادر، 2001، ص 101