الموضوعية والذاتية في التاريخ*

فئة :  ترجمات

الموضوعية والذاتية في التاريخ*

الموضوعية والذاتية في التاريخ*

ملخص:

يطرح الفيلسوف بول ريكور إشكال الموضوعية والذاتية في التاريخ، ويقاربه على عدة مستويات: ففي مستوى أول، يسجل الفيلسوف أن انتماء موضوع التاريخ إلى الماضي لا يجرده من قيمته كعلم، بل يفضي به إلى إضافة "إقليم جديد إلى الإمبراطورية المتنوعة للموضوعية"؛ لأن بناء الوقائع التاريخية كوقائع علمية يقوم على نشاط منهجي نقدي لا يقل موضوعية عن ذلك الذي تقوم عليه العلوم الأخرى. وفي مستوى ثان، يقف الفيلسوف على مظاهر حضور الذاتية في عمل المؤرخين، ويلاحظ أن الأمر لا يتعلق بذاتية رديئة أو على غير هدى؛ لأنها تقوم على فصل المؤرخ بين أنا البحث والأنا المنفعل وعلى تعليق ذاتيته اليومية، مما يجعلها ذاتية علمية لا تستقيم موضوعية التاريخ بدونها. وفي مستوى أخير، يطرق الفيلسوف باب القراءة الفلسفية لتاريخ المؤرخين، هذه القراءة التي تتخذ منحيين: منحى كُلّي يرى في التاريخ وحدةً ومَقْدَمًا لمعنى وتجليا للوعي، ويرنو المطابقة بين التاريخ العام وتاريخ الفلسفة، وهذا المنحى يمثله فلاسفة عقلانيون أبرزهم هيجل، ومنحى جزئي يمثله الفيلسوف الوجودي، الذي لا يحفل بالتاريخ العام ولا بتاريخ الفلسفة في كليته، بقدر ما ينصب اهتمامه على فلسفة معينة، والنظر في الكيفية التي تتشابك فيها إشكالية عصر ما كما كل تأثيرات الماضي. ويخلص ريكور إلى أن هذه القراءة الفلسفية المزدوجة تلقي الضوء على مفارقة ملازمة للتاريخ تتمثل في أننا نتحدث عنه بالمفرد والجمع في الوقت عينه، كتاريخ موحد للإنسانية، وكمراكز للإنسانية متعددة جذريا، وبينما تذكي القراءة الأولى نزعة تفاؤلية في التاريخ كمقدم للوعي، تدفع القراءة الثانية إلى رؤية تراجيدية للتاريخ البشري كبدء من جديد على الدوام، وهذه القراءة الفلسفية لها أهميتها بالنسبة إلى المؤرخ المحترف؛ إذ تجعله يتأرجح بين تاريخ حدثي وآخر بنيوي، وتمكنه من التمييز بين موضوعية جيدة وأخرى رديئة، وتتيح له، وهذا الأهم، إدراك أن موضوع التاريخ هو الذات الإنسانية نفسها***.

النص المترجم:

إن الإشكال المطروح إشكال منهجي قبل كل شيء، يتيح إعادة المقاربة من الأساس للأسئلة البيداغوجية الخالصة المتعلقة بتناسق العبر أو الدروس المستفادة. لكن خلف هذا الإشكال يمكن الإمساك ومعاودة النظر فلسفيا في "المكاسب" «intérêts» الأكثر أهمية التي تراهن عليها المعرفة التاريخية. وأستعير كلمة "مكسب" من كانط Kant: فأثناء حل نقائض العقل الخالص - ومن ضمنها نقيضة السببية الضرورية والسببية الحرة- يتوقف كانط ليقدر المكاسب الموضوعة في الميزان من هذا الموقف أو ذاك. ويتعلق الأمر، بدون شك، بمكاسب عقلية خالصة؛ أو على حد تعبير كانط، بـ "بمكسب العقل في هذا الصراع مع نفسه".

ويتعين التعاطي بالكيفية نفسها مع الخيارين الظاهرين المعطيين لنا: المكسبان المختلفان تمثلهما الكلمتان الآتيتان: الموضوعية والذاتية، كانتظارين من طبيعة مختلفة واتجاه مختلف.

إننا ننتظر من التاريخ موضوعية معينة؛ أي موضوعية تلائمه. ويتعين علينا الانطلاق من هذا الجانب وليس من الجانب الآخر. لكن، ما الذي نترقبه خلف هذا العنوان؟ الموضوعية يجب أن تُؤخذ هنا بمعناها الإبستيمولوجي الدقيق: الموضوعي ما قام الفكر المنهجي ببلورته وتنظيمه وفهمه، وما يمكنه، بهذه الكيفية، أن يجعله مفهوما. وهذا صحيح بالنسبة إلى العلوم الفيزيائية، والعلوم البيولوجية، وصحيح أيضا بالنسبة إلى التاريخ. وبالنتيجة، ننتظر من التاريخ أن يرتقي بماضي المجتمعات البشرية إلى مقام الموضوعية. وهذا لا يعني أن هذه الموضوعية هي موضوعية الفيزياء أو البيولوجيا: هناك مستويات من الموضوعية بقدر ما هناك من المسالك المنهجية. وإذن، ننتظر من التاريخ أن يضيف إقليما جديدا إلى الإمبراطورية المتنوعة للموضوعية.

وهذا الانتظار يستدعي انتظارا آخر: نتوقع من المؤرخ نوعية معينة من الذاتية، وليس أي ذاتية كانت، بل ذاتية من شأنها أن تكون ملائمة تماما للموضوعية التي تناسب التاريخ. فنحن إزاء ذاتية لازمة، أي مطلوبة من الموضوعية المنتظرة. وندرك بالنتيجة وجود ذاتية جيدة وأخرى رديئة – وننتظر تمييزا بين الذاتية الجيدة والذاتية الرديئة – عبر مزاولة مهنة المؤرخ ذاتها.

وهذا ليس كل شيء: تحت مسمى الذاتية ننتظر شيئا ما أكثر خطورة من الذاتية الجيدة للمؤرخ، ننتظر أن يكون التاريخ تاريخا للناس، وأن يساعد تاريخ الناس هذا القارئ، المستنير بتاريخ المؤرخين، في بناء ذاتية من مقام أعلى، ليس ذاتيتي الخاصة، بل ذاتية الإنسان. لكن هذا المكسب وهذا الانتظار للانتقال- بواسطة التاريخ- من الأنا إلى الإنسان، ليس إبستيمولوجيا تماما، بل فلسفي محض؛ لأن ذاتية تأملية هي ما ننتظره من قراءة وتمحيص آثار المؤرخ. وهذا المكسب لم يعد يهم المؤرخ الذي يكتب التاريخ، بل يهم القارئ – ولاسيما القارئ الفلسفي-، أي القارئ الذي ينتهي عنده كل كتاب وكل أثر، بكل النتائج المترتبة عن ذلك.

هكذا سيكون مسارنا من موضوعية التاريخ إلى ذاتية المؤرخ، ومنهما معا إلى الذاتية الفلسفية (من أجل استخدام لفظ محايد لا يحكم بصورة مسبقة على التحليل اللاحق).

مهنة المؤرخ والموضوعية في التاريخ

ننتظر من التاريخ موضوعية معينة؛ أي الموضوعية التي تلائمه. والكيفية التي يولد بها التاريخ تشهد لنا على ذلك؛ فالتاريخ يتولى دائما تصويب الترتيبات الرسمية والبرجماتية التي تقوم بها المجتمعات التقليدية لماضيها. وهذا التصويب ليس من روح أخرى مقارنة بذلك الذي يمثله علم الفيزياء في علاقته بالتنظيم الأول للمظاهر في الإدراك وفي الكوسمولوجيات التي تظل قائمة عليه[1].

لكن، من سيخبرنا عن ما تكونه هذه الموضوعية الكونية؟ فالفيلسوف ليس لديه دروس يعطيها للمؤرخ هنا. إذ إن مزاولة مهنة علمية، على الدوام، هي نفسها التي تُفقه الفيلسوف. وإذن يتعين علينا الإنصات أولا للمؤرخ عندما يتأمل مهنته؛ لأن هذه الأخيرة هي مقياس الموضوعية التي تلائم التاريخ، مثلما أن هذه المهنة مقياس الذاتية الجيدة والرديئة، التي تطلبها هذه الموضوعية.

يعلم الجميع أن عنوان "مهنة المؤرخ" Métier d’historien مضافا إلى "دفاعا عن التاريخ" Apologie pour l’histoire يعود إلى مارك بلوخ Marc Bloch. وهذا الكتاب، غير المكتمل لسوء الحظ، يتضمن كل ما يلزم لوضع الأسس الأولى لبحثنا. وعناوين فصول المنهج- الملاحظة التاريخية- النقد- التحليل التاريخي- لا تدع مجالا للشك: إنها تشير إلى موضوعية قيد الإنجاز.

ويتعين الإشادة بمارك بلوخ في تسميته لمقاربة المؤرخ للماضي بـ "الملاحظة": إنه يبرز، بالاعتماد على لفظ سيمياند Simiand، الذي يسمي التاريخ "معرفة بواسطة آثار"، أن هذا القيد الظاهر للمؤرخ بألا يكون أبدا أمام موضوعه الماضي، بل أمام أثره فقط، لا يُفقد التاريخ قيمته كعلم: إدراك التاريخ في آثاره الوثائقية بمثابة ملاحظة بالمعنى القوي للفظ؛ لأن الملاحظة لا تعني أبدا تسجيل واقعة خام. وإعادة تكوين حدث، أو بالأحرى سلسلة من الأحداث، أو وضعية، أو مؤسسة انطلاقا من الوثائق، يعني بلورة مسلك للموضوعية من نوع خاص، لكنه بمنأى عن كل شك؛ لأن إعادة التكوين هذه تفترض أن الوثيقة استُنطقتْ وأُجبِرتْ على الحديث، وأن المؤرخ استقبل معناها، وذلك بإلقاء فرضية عمل نحوها. وهذا البحث هو الذي يرفع، في الوقت نفسه، الأثر إلى مقام الوثيقة الدالة، كما يرفع الماضي ذاته إلى مقام الواقعة التاريخية. فالوثيقة لم تكن وثيقة قبل أن يفكر المؤرخ في أن يوجه إليها سؤالا. وهكذا، يبني المؤرخ، إذا جاز التعبير، بالانطلاق من الوثيقة في ما قبله ومن ملاحظتها، يبني، من خلال هذا ذاته، وقائع تاريخية. ومن هذه الزاوية، لا تختلف الواقعة التاريخية جوهريا عن الوقائع العلمية الأخرى، تلك التي قال عنها كانغليم Canguilhem، في محاضرة شبيهة بهذه: "الواقعة العلمية هي ما ينتجه العلم وهو ينتج نفسه". وهذه هي الموضوعية بالضبط: إنها نتيجة للنشاط المنهجي، ولهذا يحمل هذا النشاط الاسم الجميل الذي هو "النقد".

ويجب بعد ذلك توجيه الشكر لمارك بلوخ لإطلاقه على نشاط المؤرخ الذي ينشد "التفسير" اسم "التحليل"، قبل تسمية هذا النشاط بـ "التركيب". إنه على صواب أَلْفَ مرةٍ في نفي أن المؤرخ تكمن مهمته في استعادة الأشياء "بالصورة التي وقعت بها في الماضي". فالتاريخ لا يطمح لأن يُعاش ثانية، بل يتوخى إعادة تركيبٍ وإعادة تكوينٍ - بمعنى تركيبِ وتكوينِ تعاقبٍ استرجاعي. وتكمن الموضوعية في التاريخ بالضبط في الإعراض عن التطابق والإحياء؛ أي في هذا الطموح لبلورة تعاقبات للوقائع على مستوى ذكاء تاريخي. ويشير مارك بلوخ إلى القدر الهائل من التجريد الذي يتطلبه عمل كهذا؛ لأنه لا وجود لتفسير دون تكوين "سلاسل" من الظواهر: سلسلة اقتصادية، وأخرى سياسية، وثالثة ثقافية إلخ. فإذا لم نستطع أن نرصد، وأن نتعرف الوظيفة نفسها في الأحداث الأخرى، فلن يكون هناك ما يُفهم. فلا وجود للتاريخ إلا لأن "ظواهر" معينة تظل قارة: "باعتبار أن تحديد الظواهر الإنسانية يجري من الأقدم إلى الأحدث، فإنها تخضع قبل كل شيء لسلسلة من الظواهر المتماثلة، وتصنيفها حسب كل جنس، يعني إذن تعريةَ خطوطٍ للقوة ذات فعالية رئيسية" (74). ولا وجود لتركيب تاريخي إلا لأن التاريخ أولا بمثابة تحليل، وليس تماهيا عاطفيا. والمؤرخ، شأنه شأن أي عالم آخر، يطلب العلاقات بين الظواهر التي ميز بينها. وسنُلِحّ بقدر ما يلزم، انطلاقا من هذا، على ضرورة فهم المجموعات والروابط العضوية التي تتعدى كل علِّية تحليلية. وسنقيم إذن، بقدر ما يستدعي الأمر ذلك، تقابلا بين الفهم والتفسير. ولا يمكننا أن نجعل من هذا التمييز مفتاح المقاربة المنهجية التاريخية، وكما يصرح مارك بلوخ: "مسعى إعادة التركيب هذا لا يمكن أن يكون إلا لاحقا للتحليل. وبتعبير أفضل: ليست إعادة التركيب غير امتداد للتحليل كعلة لوجوده. وكيف يمكن، في التحليل البدائي، القائم على التأمل أكثر منه على الملاحظة، التعرف على العلاقات مادام أنه لا شيء متمايز؟" (78)

ليس الفهم إذن، نقيضا للتفسير، بل على أقصى تقدير المكمل والنظير. إنه يحمل سمة التحليل – التحليلات- الذي جعله ممكنا. ويحتفظ إلى النهاية بهذه السمة: فوَعْيُ العصر الذي يحاول المؤرخ، في تركيباته الأكثر اتساعا، إعادة تكوينه، تُغذيه كل التفاعلات وكل العلاقات وكل العلاقات المتشعبة التي استكشفها المؤرخ بواسطة التحليل. والواقعة التاريخية الكلية؛ أي "الماضي الكامل"، على وجه الدقة، بمثابة فكرة، بالمعنى الكانطي؛ أي الحَدُّ الذي لا يُنال أبدا لجُهْدِ إدماجٍ أكثر شساعةً على الدوام، وأكثر تركيبا باستمرار. وعبارة "التاريخ الكامل" هي "الفكرة المنظِّمة" idée régulatrice لهذا الجهد. وهذا ليس بمعطى مباشر؛ لأنه لا شيء أكثر توسطا من كُليةٍ: إنها نتاج تصور منظِّم يعبر عن الجهد الأعلى في تنظيم التاريخ من طرف المؤرخ. إنه، إذا شئنا الحديث بلغة أخرى (لكنها علمية)، ثمرة "للنظرية"، بالمعنى الذي نتحدث به عن "النظرية الفيزيائية".

وليس من "تصور منظم" من شأنه أيضا أن يغطي كل التاريخ: عصر ما يزال نتاجا للتحليل، والتاريخ لن يقترح على فهمنا أبدا غير "أجزاء كلية" (إذا تحدثنا بلغة ليبنتز Leibniz)، بمعنى "تركيبات تحليلية" (إذا استخدمنا عبارة جريئة من الاستنباط المتعالي لكانط).

وهكذا، ومن هذا الجانب أو ذاك، التاريخ وفيٌّ لمَعناه الاشتقاقي: إنه بمثابة "بحث" recherche؛ إذ ليس استنطاقا قلقا حول تاريخيتنا المحبطة، وبشأن طريقتنا في العيش والانغماس في الزمن، بل بمثابة تصدٍّ لهذا الوضع التاريخي: تصد بواسطة اختيار التاريخ، بواسطة اختيار معرفة معينة، وإرادة فهم عقلانية، وإقامة ما يطلق عليه فوستل دي كولانج Fustel de coulanges "علم المجتمعات البشرية"، وما يسميه مارك بلوخ "مسعى عقليا للتحليل".

وقصد الموضوعية هذا لا يقف في حدود النقد الوثائقي، كما يمكن أن تعتقد نزعةٌ وضعية ضيقة، بل يحفز التركيبات الكبرى ذاتها، وعقلانيتُه المقاربةُ من ذات عِرق العقلانية المقاربة لعلم الفيزياء الحديث؛ والتاريخ لا مجال لأن يكون لديه مركب نقص إزاء هذا الأخير.

موضوعية التاريخ وذاتية المؤرخ

يتعين الآن موضعة النقد الحديث، في علاقة بمهنة المؤرخ هذه، وإذن في علاقة بقصد وبمسعى الموضوعية؛ هذا النقد الذي ألح كثيرا، منذ نصف قرن، على دور ذاتية المؤرخ في بلورة التاريخ.

ويبدو لي، بالفعل، عدم إمكان تأمل هذه الذاتية في حد ذاتها، دون أن نعرف أولا ما تنهض به: أي على وجه الدقة مسعى عقلي للتحليل. وتقتضي الحيطة إذن أن نسلك وفق طريقة التقليد التأملي؛ بمعنى أن نبحث عن هذه الذاتية في قصدها، وفي مسعاها، وآثارها. لا وجود لفيزياء دون فيزيائيين؛ أي بدون محاولات وأخطاء وعمليات تخبط وتوقعات واكتشافات فريدة. والثورة الكانطية لم تكن كامنة في تقديس لذاتية العلماء، بل في اكتشاف هذه الذاتية التي تجعل أن هناك صعوبات. والنظر في ذاتية المؤرخ يعني البحث بالكيفية ذاتها عن الذاتية قيد التنفيذ في مهنة المؤرخ.

لكن إذا كان هنالك إشكال خاص بالمؤرخ، فهذا يرتبط بسمات الموضوعية التي لم نذكرها بعد، والتي تجعل من الموضوعية التاريخية موضوعية غير كاملة مقارنة بتلك المتحققة، أو على الأقل تلك المقترب منها في العلوم الأخرى. وسأقدم هذه السمات دون محاولة التقليل، تدريجيا، من شأن التباينات الظاهرة بين هذه المرحلة من النظر وبين المرحلة السابقة:

1- السمة الأولى تحيل على فكرة الاختيار التاريخي، فهذا الأخير لم نستنفذ بأي حال معناه بالقول إن المؤرخ يختار عقلانية التاريخ ذاتها. واختيار العقلانية هذا يستلزم اختيارا آخر، في اشتغال المؤرخ ذاته. وهذا الاختيار الآخر يرتبط بما يمكن تسميته تقدير الأهمية jugement d’importance، الذي يحكم اصطفاء الأحداث والعوامل. فالتاريخ، لا يحتفظ من خلال المؤرخ، ولا يحلل ولا يُقيم صلة إلا بين الأحداث المهمة. وعلى هذا المستوى، تتدخل ذاتية المؤرخ بمعنى أصيل مقارنة بذاتية الفيزيائي، وذلك في صورة خطاطات تأويلية. وبالنتيجة، تكتسي كفاءة المستنطِق، ها هنا، أهمية في عملية اصطفاء الوثائق المستنطَقة ذاتها. وبتعبير أفضل، حكم الأهمية هو الذي يخلق الاستمرارية عبر استبعاد الكمالي: فالمعيش هو الذي يعوزه التماسك، وتمزقه التفاهة: والسرد التاريخي récit هو المتصل والدال بفضل استمراريته. وهكذا، فعقلانية التاريخ ذاتها تقوم على حكم الأهمية هذا، والذي، رغم ذلك، يفتقر لمعيار موثوق. وبشأن هذه النقطة، كان ريمون أرون Raymand Aron على حق في القول إن "النظرية تسبق التاريخ".

2- علاوة على ذلك، فالتاريخ يقوم بدرجات متفاوتة على تصور فجّ للسببية، بِحَسَبِهِ يحيل السبب تارة على "الظاهرة التي تأتي في النهاية، والأقل ثباتا، والأكثر استثناء في النظام العام للعالم" (مارك بلوخ)، وتارة على كوكبة من القوى البطيئة التطور، وتارة على بنية قارة. ويشكل مؤلف بروديل Braudel- "البحر الأبيض المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فليب الثاني" La Méditerranée et le monde méditerranéen à l’époque de Phillipe II سابقة من زاوية نظر المنهج، وذلك بجهده من أجل فك تشابك هذه العلاقات السببية وتنظيمها: لقد أرسى أولا النشاط القار للإطار المتوسطي، وحدد، بعد ذلك، القوى الخاصة لكن المستقرة نسبيا للنصف الثاني من القرن السادس عشر، وحدد أخيرا تيار الأحداث، بيد أن هذا التنظيم سيظل على الدوام هشا؛ لأن التركيب الكلي لعمليات محدودة الانسجام، قائمة هي نفسها ومبنية تحديدا بواسطة التحليل، يطرح إشكالا مستعصيا على الحل. وفي كل الأحوال، من بين العمليات المبنية، يتعين إقحام دوافع نفسية، ملطخة على الدوام بسيكولوجيا الحس المشترك. إن معنى السبب الذي يستخدمه المؤرخ ذاته، يظل في الغالب ساذجا، وقبل-نقدي يتأرجح بين الحتمية والاحتمال: التاريخ محكوم عليه بأن يستخدم جنبا إلى جنب خطاطات تفسير متعددة، دون إخضاعها للنظر وتمييزها عن الشروط التي ليست بمحددات، والدوافع التي ليست بعمليات سببية، وعن عمليات السببية التي ليست مجالات للتأثير، وعن المُيسرات facilitations إلخ. وباختصار، "يمارس" المؤرخ أنماطا من التفسيرات يتعدى حدود تأمله وهذا الأمر طبيعي: فالتفسير ينجز ويشتغل به، قبل أن يُتملك تأمليا.

3- توجد سمة أخرى لهذه الموضوعية الناقصة تعود إلى ما يمكن تسميته بظاهرة "التباعد التاريخي". فأن يفهم المرء عقليا يعني محاولة التعرف والتَّبَيُّن (يسمي كانط التركيب الذهني تركيبا للتعرف من جديد في المفهوم). والحال أن التاريخ له كمهمة تسمية ما تغير وما اندثر، وما صار آخر. فالديالكتيك العتيق للهُوَ هُوَ le même والآخر ينبثق من جديد هنا، والمؤرخ المحترف يصادفه في الصورة المحسوسة لصعوبات اللغة التاريخية، وبالأخص في معجم التسميات: كيف نسمي ونفهم في لغة معاصرة وفي لسان قومي راهن، مؤسسة أو وضعية اندثرت، اللهم عبر اللجوء إلى تماثلات وظيفية نعمل لاحقا على تصويبها بالاستناد على أوجه الاختلاف. لِنُشِرْ فقط إلى الصعوبات المرتبطة بكلمات من قبيل الطغيان، ونظام القن، والإقطاع، والدولة، إلخ. فكل كلمة إلا وتشهد على كفاح المؤرخ من أجل إيجاد معجم يتيح في الآن نفسه التحديد والتمييز. ولهذا، فاللغة التاريخية يكتنفها الغموض بالضرورة. والزمن التاريخي هو الذي يجابه هنا الذكاء الاستيعابي بأثره الممتنع عن الاستيعاب، وتباينه أو اختلافه. والمؤرخ ليس بوسعه الإفلات من طبيعة الزمن هذه، حيث تعرفنا، منذ أفلوطين Plotin، على الظاهرة غير القابلة للاختزال المتمثلة في التباعد عن الذات، والامتداد والرحابة، وباختصار في الغيرية الأصلية.

نوجد هنا أمام مصدر من مصادر الطابع غير الدقيق وأيضا غير الصارم للتاريخ؛ فالمؤرخ لن يجد نفسه أبدا في وضعية عالم الرياضيات الذي يسمي، ومن خلال التسمية يخط محيط المفهوم ذاته: "أسمي مستقيما تقاطع سطحين...".

وبالمقابل، ما يحل محل نشاط التسمية الأساسي هذا، الذي يمكن علما دقيقا من الوقوف وجها لوجه أمام موضوعه، هو كفاءة معينة من المؤرخ على التباعد والانتقال على سبيل الافتراض إلى حاضر آخر، فالعصر الذي يقوم بدراسته يتخذه كحاضر مرجعي وكمركز للأفق الزمني: يوجد مستقبل لهذا الحاضر، يتشكل من انتظار وجهل وتوقعات ومخاوف الناس آنئذ، وليس مما نعرف نحن أنه حدث. ويوجد أيضا ماض لهذا الحاضر، والذي هو ذاكرة الناس قديما، وليس ما نعرفه نحن عن ماضيهم. والحال أن هذا الانتقال إلى حاضر آخر، والمرتبط بنمط الموضوعية في التاريخ، هو بالفعل ضرب من الخيال، وهو خيال زماني إن شئنا القول، مادام أن حاضرا آخر يُتمثل ويوضع في صميم "التباعد الزماني"، في صميم "الماضي". ومن الأكيد أن هذا الخيال، يعبر عن إفساح المجال أمام ذاتية تستبعدها علوم الفضاء والمادة وعلوم الحياة ذاتها. ومن قبيل الموهبة النادرة معرفة تقريب الماضي التاريخي منا، مع الحفاظ على المسافة التاريخية، وبتعبير أفضل: مع إقامة وعي بالتباعد وبالعمق الزماني في ذهن القارئ.

4- وأخيرا، السمة الأخيرة، لكن ليس الأقل أهمية، بل السمة الأخيرة والحاسمة: ما يريد التاريخ تفسيره وفهمه في نهاية المطاف، هو الناس. فالماضي الذي نحن بعيدون عنه هو الماضي الإنساني، والتباعد الزماني يضاف إليه هذا التباعد النوعي الذي يرتبط بكون الآخر هو إنسان آخر.

نصادف هنا إشكال الماضي الكامل؛ لأن ما عاشه الناس الآخرون هو بالضبط ما يحاول المؤرخ استعادته بواسطة كُليةِ شبكةِ العلاقاتِ السببية. فالطابع الإنساني الذي لا ينضب للماضي هو الذي يفرض إذن مهمة الفهم الكاملة. والحقيقة المطلقة للمعيش الإنساني الماضي هي التي تحاول أن تُستعاد في عملية إعادة بناء أكثر تمفصلا على الدوام، وفي تركيبات تحليلية أكثر تمايزا وتنظيما باستمرار.

والحال أن هذا الماضي الكامل للناس في الماضي سبق وذكرنا أنه كان فكرة؛ أي حد صيغة تقريبية ذهنية. ويتعين القول أيضا، إنه الحد المستبق بواسطة جهد تعاطف يتعدى مجرد الانتقال المتخيل إلى حاضر آخر، وكانتقال حقٍّ إلى حياة أخرى للإنسان. وهذا التعاطف يوجد في مستهل ومنتهى الصيغة التقريبية الذهنية، التي تحدثنا عنها، ويعطي الانطلاقة لعمل المؤرخ على شاكلة علاقة مباشرة أولى، ويشتغل آنئذ كتقارب يَقِظِ مع الموضوع المدروس، ويتولد مرة أخرى، علاوة على ذلك، كعلاقة مباشرة أخيرة؛ أي كمكافأة، بعد الانتهاء من تحليل طويل. والتحليل العقلي بمثابة مرحلة منهجية بين تعاطف خام وتعاطف مستنير.

ولهذا، فالتاريخ تحفزه إرادة للقاء volonté de rencontre أكثر منه إرادة للتفسير volonté d’explication. والمؤرخ يتجه إلى الناس في الماضي بتجربته الإنسانية الخاصة. واللحظة التي تبلغ فيها ذاتية المؤرخ مستوى مذهلا هي تلك التي يقوم فيها التاريخ، فيما يتعدى كل كرونولوجيا نقدية، بالكشف عن قيم حياة الناس في الماضي. وهذا الاستحضار للقيم، والذي هو في النهاية الاستحضار الوحيد المتاح لنا بلوغه، لعدم استطاعتنا أن نحيا من جديد ما عاشوه، ليس ممكنا إلا إذا كان المؤرخ "منشغلا" بصورة حيوية بهذه القيم، ولديه انجذاب إزاءها. وهذا لا يعني أن المؤرخ يجب عليه أن يعتنق إيمان أبطاله؛ إذ إنه آنئذ لا يكتب التاريخ إلا فيما ندر، بل إنه يحرر تمجيديات apologétiques، ولربما سيرا تقديسية hagiographies؛ لكن يجب عليه أن يكون قادرا على القبول فرضيا بإيمان أبطاله، وهو ما يعد كيفية للنفاذ إلى إشكالية هذا الإيمان، مع "تعليقه" و"تحييده" كإيمان معتنق راهنا.

وهذا التبني، الذي جرى تعليقه وتحييده، لمعتقد الناس في الماضي، هو التعاطف الخاص بالمؤرخ. إنه يضع ذروةً لما أطلقنا عليه أعلاه تخيل حاضر آخر بواسطة تحويل زماني، فهذا الأخير إذن هو أيضا تحويل إلى ذاتية أخرى، متبناة كزاوية نظر. وهذه الضرورة ترتبط بهذه الوضعية الجذرية للمؤرخ: المؤرخ يشكل جزءًا من التاريخ، ليس فقط بهذا المعنى المبتذل المتمثل في أن الماضي هو ماضي حاضره، بل بهذا المعنى حيث الناس يشكلون جزءا من الإنسانية ذاتها. فالتاريخ إذن إحدى الكيفيات التي "يجدد" بها الناس انتماءهم إلى الإنسانية نفسها. إنه مجال لتواصل الكائنات الواعية، مجال تشطره المرحلة المنهجية المرتبطة بالأثر والوثيقة، وإذن مجال متمايز عن الحوار حيث الآخر يجيب، لكنه ليس مجالا يشطر البين-ذاتية بالكامل، هذه البين-ذاتية التي تظل على الدوام مفتوحة وموضع نقاش.

نلامس هنا هذا الحد الأقصى الآخر، حيث موضوعية التاريخ تكشف عن ذاتية التاريخ عينها، وليس فقط عن ذاتية المؤرخ.

وقبل الإقدام على هذه الخطوة الجديدة، لنعد إلى الخلف من أجل التركيب.

هل تهدم هذه الاعتبارات الجولة الأولى من تحليلاتنا للموضوعية التاريخية؟ وهل يعد هذا التطفل لذاتية المؤرخ، كما يزعم ذلك، علامة على "انحلال الموضوع"؟ أبدا: لقد حددنا فقط ضرب الموضوعية المستفاد من مهنة المؤرخ؛ أي الموضوعية التاريخية من ضمن كل الموضوعيات، وباختصار قمنا بتكوين الموضوعية التاريخية كمقابل لذاتية المؤرخ.

ولهذا، فالذاتية المتوخاة ليست ذاتية مهما تكن، بل هي على وجه الدقة ذاتية المؤرخ: حكم الأهمية، مركب خطاطات السببية، التحويل إلى حاضر متخيل، التعاطف مع أناس آخرين، ومع قيم أخرى، وأخيرا هذه القدرة على اللقاء بالغير الذي كان في الماضي؛ كل هذا يكسب ذاتية المؤرخ قدرا أكبر من ثراء التناغمات مقارنة بما تتضمنه على سبيل المثال ذاتية الفيزيائي. لكن هذه الذاتية ليست، بالرغم من ذلك، ذاتية على غير هدى.

لم نقل شيئا عندما قلنا إن التاريخ وثيق الصلة بالمؤرخ؛ لأنه من يكون المؤرخ؟ فبذات الكيفية التي يكون بها الموضوع المدرَك مرتبطا بما يسميه هوسرل Husserl بالجسم القويم استيتيقيا؛ أي بجهاز حسي سليم، فإن الموضوع العلمي وثيق الصلة على الدوام بذهن سليم، وعلاقة النسبة هذه لا شأن لها بأي نزعة نسبية مهما تكن، كما لا شأن لها بنزعة ذاتية لإرادة الحياة، أو لإرادة القوة، أو لست أدري؟ إن ذاتية المؤرخ تمثل، شأنها شأن كل ذاتية علمية، تفوق ذاتية جيدة على ذاتية رديئة.

وبعد العمل المضني للنقد الفلسفي الذي بلغ ذروته مع كتاب ريمون أرون، يتعين الآن، على الأرجح، طرح السؤال: ما الذاتية الجيدة، وما الذاتية الرديئة؟ وكما يقر بذلك هنري مارو Henri Marrou، الذي يخص، مع ذلك، المدرسة النقدية باهتمام بالغ، نجد على مستوى أعلى- على مستوى هذا التاريخ المعمق والموسع في الوقت نفسه، الذي ينادي به مارك بلوخ ولوسيان فيفر Lucien Febvre- القيم التي كان لها لدى الوضعية معنى ضيقا، لكنه أصيل: "التقدم (في المنهج العلمي) يتحقق عبر التجاوز وليس عبر رد الفعل: نحن لا ننازع في صلاحية مسلمات المنهج الوضعي إلا ظاهريا: فهذه المسلمات تظل ذات صلاحية على المستوى حيث توجد، بيد أن المناقشة تتموضع خطوة إلى الأمام: لقد غيَّرنا موضع اللفة[2]." فالوضعية لم تتعد مستوى النقد الوثائقي، ونموذجها الفيزيائي كان بدوره فقيرا، ودون علاقة كبيرة مع فيزياء الفيزيائيين. بيد أن الوضعية، إذا ما تغاضينا عن نزعتها الصنمية إزاء الواقعة -هذه النزعة الخاطئة في الفيزياء نفسها حيث لا وجود لوقائع بديهية أو بادية للعيان- تُذكرنا بأنه لا حكم الأهمية، ولا النظرية، ولا الخيال الزماني، ولا التعاطف بالأخص؛ ليس من شأنها أن تُسقط المؤرخ في أي حماقة ذاتية. فهذه الاستعدادات بمثابة أبعاد للموضوعية التاريخية نفسها.

بعد أن قلنا وكررنا القول إن التاريخ يعكس ذاتية المؤرخ، يتعين القول إن مهنة المؤرخ تهذب ذاتية المؤرخ. فالتاريخ يصنع المؤرخ بقدر ما يصنع المؤرخ التاريخ. وبتعبير أفضل: مهنة المؤرخ تصنع التاريخ والمؤرخ. فقديما كان العقل مقابلا للإحساس والخيال: أما راهنا، فإننا نعيد إدماجهما بكيفية معينة في العقلانية، لكن العقلانية التي ينشدها المؤرخ، في المقابل، تجعل أن الشرخ يخترق قلب الإحساس والخيال نفسه، شاطرا ما سأطلق عليه أنا البحث moi de recherche عن الأنا المنفعل moi pathétique: أنا الضغائن، والأحقاد، والاتهامات. لنُنْصت لمارك بلوخ مرة أخرى: "الفهم ليس هو الحكم". والقول المأثور القديم "بلا غضب ولا تحيز" sine ira nec studio لا يسري فقط على مستوى النقد الوثائقي، ومعناه يصير أكثر دقة وأعلى قيمة على مستوى التركيب الأرفع. ولا يجب مع ذلك التغافل عن ملاحظة أن هذا الأنا المنفعل ليس هو بالضرورة الذي ينحرف: يمكن أن ينجم هذا أيضا عن "اللامبالاة" الظاهرة للنقد المفرط، التي تقلل من شأن كل مجد تليد، وتحط من قدر كل القيم التي تصادفها: هذه العدوانية الفكرية تنتمي إلى الأنا الانفعالي شأنها شأن الانفعال السياسي الذي صُرف عن المعركة السياسية المعاصرة وصار متعلقا بالماضي.

ليس من تاريخ إذن دون تعليق أو وضع بين قوسين époché للذاتية اليومية، ودون إقامة لأنا البحث هذا الذي يأخذ منه التاريخ اسمه الجميل؛ لأن التاريخ historia هو بالضبط هذا "الاستعداد" و"هذا الإذعان للامنتظر"، وهذا "الانفتاح على الغير"، حيث الذاتية الرديئة صارت متجاوزة.

وهكذا تكتمل هذه السلسلة من التأملات: الموضوعية بدتْ لنا أولا باعتبارها القصد العلمي للتاريخ: إنها تسم الآن المسافة بين الذاتية الجيدة والذاتية الرديئة للمؤرخ: لقد صارت الموضوعية "إتيقية" بعد أن كانت "منطقية".

التاريخ والذاتية الفلسفية

هل هذه الاعتبارات بشأن ذاتية المؤرخ، وهذا الفصل في المؤرخ ذاته، بين ذاتيةٍ للبحث وذاتيةٍ انفعالية، يستنفذان النظر بشأن الذاتية في التاريخ؟

لنتذكر نقطة انطلاقنا و"المكاسب" المتعددة المنشودة من التاريخ: مازلنا ننتظر من التاريخ الكشف عن ذاتية أخرى غير ذاتية المؤرخ الذي يمتهن التاريخ، هذه الذاتية التي ستكون ذاتية التاريخ نفسها، والتي ستكون التاريخ ذاته.

لكن هذه الذاتية من الممكن أنها لم تعد ترتبط بمهنة المؤرخ، بل بعمل قارئ التاريخ؛ أي بِهَاوِي التاريخ الذي نكونه جميعا، والذي يكونه الفيلسوف لأسباب خاصة تماما؛ لأن تاريخ المؤرخ بمثابة عمل مكتوب أو مُدَرَّس، والذي لا يكتمل، شأنه شأن كل عمل مكتوب أو مُدرس، إلا في الجمهور. وهذه "الاستعادة"، من لدن القارئ الفلسفي، للتاريخ بالصورة التي كُتب بها من طرف المؤرخ، هي التي تثير الإشكالات التي سننكب عليها الآن.

سأدع جانبا تماما استخدام التاريخ كترفيه وكتسلية بسماع وقراءة أشياء "فريدة"، وباختصار، كنزعة انفتاح على الغريب في الزمان، وإن كانت حركة التباعد عن الذات هذه تنتمي كما رأينا آنفا، إلى الوعي التاريخي، مما يجعلها، بهذا المعنى، مرحلة ضرورية من أجل استخدام أكثر فلسفية؛ لأن التاريخ إذا لم يُشعرنا بالتباعد، فكيف يمكن أن نجد من خلاله ذاتية أقل أنانية، وأكثر توسطا، ومن أجل قول كل شيء، أكثر إنسانية؟ ولن أتحدث أيضا عن التاريخ كمصدر للعبر: على أن تحقق الوعي الذي سنتحدث عنه بمثابة استعادة للقيم التي ظهرت في التاريخ، ويفيد بكيفية ما في تثقيفنا، حتى وإن لم نكن نختزل الاستخدام الرئيسي للتاريخ إلى هذا الشاغل الديداكتيكي: ففضلا عن ذلك، يثقفنا التاريخ عندما ننظر فيه كما ينبغي.

سأنظر هنا إذن بصورة حصرية في الاستخدام الذي من شأن الفيلسوف القيام به لتاريخ المؤرخين: الفيلسوف له كيفية خاصة لأن يكمل في ذاته عمل المؤرخ، وهذه الكيفية تكمن في خلق تزامن بين "تحقيق" الوعي بذاته، وبين "عمليةِ استعادةٍ" للتاريخ.

ولست أُخفي أن هذه الفكرة لا تنسجم مع كل التصورات بشأن الفلسفة، لكنني أعتقد، مع ذلك، أنها تنطبق على مجموع الفلسفات التي يمكن وصفها، إلى حد بعيد، بالتأملية، مهما تكن شرارتها الأولى لدى سقراط، أو كانط، أو هوسرل. فكل هذه الفلسفات تنشد الذاتية الحقة، والنشاط الحق للوعي. وما يتعين علينا اكتشافه وإعادة اكتشافه بدون توقف هو أن هذا المسار من النفس moi إلى الأنا je – الذي نطلق عليه تحقق الوعي- يمر عبر نظر معين في التاريخ، وأن هذا المرور للنظر عبر التاريخ واحدة من الكيفيات، أي الكيفية الفلسفية لاستكمال عمل المؤرخ في قارئ.

وهذا الاكتمال لتاريخ المؤرخين في النشاط الفلسفي يمكن أن يسير في اتجاهين: في اتجاه "منطق للفلسفة" بالبحث عن معنى متماسك من خلال التاريخ، وفي اتجاه "حوار" فريد في كل مرة وحصري في كل مرة مع فلاسفة منفردين وفلسفات منفردة.

1. التاريخ كـ "مَقْدَمِ" « avènement » لمعنى

لنسلك المسار الأول، مسار كونت Comte، وهيجلHegel، وبرانشفيغBrunschvicg، وهوسرلHusserl في أواخر حياته، وإريك فايل Éric Weil؛ وهذا بالرغم من الاختلافات الكبرى التي تسم تأويل هؤلاء للعقل وأيضا للتاريخ؛ فكل هؤلاء الفلاسفة يشتركون في القناعة نفسها: الوضوح الذي أنشده شأنٌ ذاتيٌّ يمر عبر تاريخ للوعي. والطريق "المختصرة" لمعرفة الذات والطريق "الطويلة" لتاريخ الوعي تسيران جنبا إلى جنب. فأنا في حاجة إلى التاريخ من أجل الخروج من ذاتيتي الخاصة، والشعور في نفسي وفي ما يتعدى نفسي بوجود الإنسان l’être homme، بوجود الإنسانية Menschsein. ونموذج هوسرل، الذي أعرفه بصورة أفضل، مميز بهذا الخصوص: فهذا المفكر، الذاتي بامتياز، أجبرته الأحداث على تأويل فلسفته تاريخيا: كان يتعين أن تضع النازية كل الفلسفة السقراطية والمتعالية في قفص الاتهام، من أجل أن ينشد أستاذ فريبورغ الاستناد على التقليد العريق للفلسفة التأملية وأن يجد فيه معنى الغرب.

هذه هي الكلمة الكبرى: المعنى. فمن خلال التاريخ أتوخى تبرير معنى تاريخ "الـ" وعي.

ولا ينبغي الاستعجال في التوجه إلى العوائق التي تعترض ادعاء كهذا. ولنحاول أولا، أن نفهم جيدا ما ينتظره الفيلسوف من نهج كهذا وما يفترضه حقا من أجل الإقدام عليه.

ينتظر الفيلسوف أن يجد تبريره في تزامن معين بين المسلك "المختصر" لمعرفة الذات، وبين المسلك "الطويل" للتاريخ. فشعور الفيلسوف بالتهديد والاضطراب -وحتى بالإذلال- في أعماق نفسه، هو ما يحثه على اللجوء إلى التاريخ. إنه يريد، وقد تملكه الشك في نفسه، استعادة معناه الخاص، عبر الإمساك من جديد بمعنى التاريخ فيما دون وعيه الخاص. وهذا هو الفيلسوف الذي يكتب بدوره التاريخ، ويمتهن التاريخ، أي تاريخ الباعث المتعالي، تاريخ الكوجيطو. فالتبرير هو ما ينتظره الفيلسوف من تاريخ الوعي هذا.

لنتحدث الآن عن ما يفترضه هذا الانتظار: إنه يفترض أن هذا التزامن بين معنى وعيي ومعنى التاريخ ممكن، كما يعتقد في غائية معينة للتاريخ. وبتعبير آخر، التاريخ كتيار من الأحداث يجب أن يكون بالصورة التي تجعل الإنسان يقدم عبر هذا التيار؛ أي بالصورة التي يكون بها مقدم للإنسان متأتيا عبر واسطة.

ندرك إذن أن هذا الافتراض مزدوج: من جانب العقل، ومن جانب التاريخ؛ فمن جانب العقل: يفترض الفيلسوف أن العقل يُطوِّر تاريخًا؛ لأنه من مستوى اللزوم، والمهمة، وما يجب أن يكون، والفكرة المنظِّمة؛ ولأن مهمة ما لا تتحقق إلا في التاريخ. ومن جانب التاريخ: يفترض الفيلسوف أن التاريخ يستمد خاصيته الإنسانية المميزة من انبثاق ورسوخ معين لقيم يمكن للفيلسوف إحياءها وفهمها كتطور للوعي. وهذا هو الافتراض المزدوج للفيلسوف: إنه تقدير مزدوج يقوم به الفيلسوف من جهة للخاصية التاريخية historicité للعقل، ومن جهة أخرى لدلالة التاريخ. وتمثل نشأة وتطور الفلسفة لدى الإغريق وفي الغرب، بالنسبة إليه، شهادة وضمانة على أن هذا التقدير المزدوج لم يكن بدون جدوى. وتاريخ الفلسفة يبدو له بمثابة صلة الوصل بين الخاصية التاريخية للعقل وبين دلالة التاريخ.

هذا ما ينتظره الفيلسوف- على الأقل الفيلسوف السقراطي المتعالي التأملي- من التاريخ وما يفترضه في انتظاره. وأخمن بأي حذر ينظر المؤرخ المحترف إلى مسعى كهذا، وتحفظاته يجب أن تساعدنا في تقدير أهمية وحدود الاستخدام الفلسفي للتاريخ.

بداية سيرفض المؤرخ المحترف بصورة قاطعة المطابقة بين التاريخ وتاريخ الفلسفة، وبصورة أكبر بين التاريخ وتاريخ الوعي، وأخيرا بين التاريخ وبين مَقْدَم أو تجلّ ما؛ وسيقول، بدون شك، إن معنى التاريخ وغائية التاريخ تفلت منه كلية، وبأن الأمر لا يتعلق بسؤال أصيل بالنسبة إلى "مهنة المؤرخ"، وبأن افتراض معنى ليس ضروريا حتى بالنسبة إلـى "الدفاع عن التاريخ". وعملية التوسيع والتعميق التي يطمح القيام بها بالنسبة إلى التاريخ، ينشدهما ليس من جانب المعنى العقلي، بل بالأحرى من جانب التعقيد وغنى الروابط بين الجغرافي، والاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، إلخ. فالإنسانية، بالنسبة إليه، تتنوع إلى ما لا نهاية في واقعها الفعلي، أكثر مما تتوحد في معناها المبدئي. وبالجملة، المؤرخ سيحتاط من الفلسفة، ومن فلسفة التاريخ أكثر من أي شيء آخر؛ إذ سيتخوف من أن تسحق هذه الأخيرة التاريخ تحت وطأة روح النسق، وأن تقتله كبحث أو تحقيق. وسيقيم إذن تعارضا بين الموضوعية التي حققها مع ذاتيته كمؤرخ، وبين الذاتية الفلسفية التي ينشد الفيلسوف إغراقهما معا فيها.

إن مقاومات وممانعات المؤرخ هذه مشروعة تماما. وتكشف لنا عن المعنى الحق لتاريخ للوعي. والفيلسوف ليس له أن يطلب هذا الأخير من المؤرخ، وإذا ما طلبه منه، فالمؤرخ على صواب في الامتناع عن ذلك؛ لأن تاريخ الوعي مسعى للفيلسوف ولمؤرخ الفلسفة إن شئنا: لكن تاريخ الفلسفة هي مهمة الفيلسوف.

لماذا؟ لأن الفيلسوف هو الذي يؤلف هذا التاريخ، بواسطة عملية من درجة ثانية، بواسطة عملية "إعادة نظر". فالفيلسوف طرح على التاريخ (تاريخ المؤرخين) ضربا معينا من الأسئلة تعبر عن "اختيار الفيلسوف"، بالمعنى الذي تحدثنا به أعلاه عن "اختيار المؤرخ". وتتعلق هذه الأسئلة بانبثاق قيم المعرفة، والفاعلية، والحياة والوجود، عبر زمان المجتمعات البشرية. وباعتباره عقد العزم على إعطاء الأفضلية لهذه القراءة، فإنه يظل وفيا لهذا المشروع أثناء إنجازه. وبما أن له بدوره ذاتية محدودة، ويقارب معنى التاريخ هذا بتصور مسبق لما يجري البحث عنه (لأن الذي لا يبحث عن شيء، لن يجد أي شيء)، فإن الفيلسوف هو ذلك الذي يجد في التاريخ المعنى الذي حَدَسَهُ فيه. فهل نحن بإزاء حلقة مفرغة؟ لا قطعا، لأن هذا المعنى بالضبط يظل من قبيل الشعور المسبق، مادام أن تاريخا ما لم يهب توسطه من أجل الارتقاء بهذا الشعور المسبق بالمعنى، إلى فهم حق ومتمايز ومتمفصل. وبوسعنا على الدوام نقد مختلف أشكال تاريخ الوعي -دروس الفلسفة الوضعية Cours de philosophie positive لكونت، و"فينومينولوجيا الروح" Phénoménologie de l’esprit لهيجل، و"تقدم الوعي في الفلسفة الغربية" Progrès de la conscience dans la philosophie occidentale لبرانشفيغ، "وأزمة العلوم الأوروبية" Krisis der europäischen Wissenschaften لهوسرل، و"منطق الفلسفة" Logique de la philosophie لإريك فايل. لكن الطريقة الوحيدة لنقدها هي إقامة تاريخ آخر للوعي أفضل من تاريخهم، أي أكثر اتساعا وأكثر تماسكا، أو الإقدام على شيء ما مختلف، الأمر الذي سنتحدث عنه لاحقا.

بيد أننا بمجرد أن ندرك أن هذا الضرب من التاريخ بمثابة تأليف من الدرجة الثانية، وبأنه ممارسة للمسؤولية الفلسفية، وليس معطى لتاريخ المؤرخين، ناهيك عن أن يكون واقعا مطلقا أو تاريخا في ذاته؛ ولا نرى أي اعتراض يمكن للمؤرخ المحترف الدفع به ضد مسعى كهذا. وبلغة إريك فايل سأقول إن تاريخ المؤرخين يقوم بالكشف عن "مواقف" إنسانية، والفيلسوف يرفع، من خلال عملية إعادة النظر التي يقوم بها، "المواقف" إلى مرتبة "المقولات"، ويبحث عن نظام متماسك للمقولات في "خطاب متماسك". وبَيِّنٌ أن تاريخ الروح هذا آنئذ هو بصورة مسبقة "منطق للفلسفة"، وليس تاريخا للمؤرخ.

ويبدو لي أن هذا التوضيح من شأنه أن يقلل بالأخص من الجسامة والتطاول الذي يمثله، بالنسبة إلى المؤرخ، ادعاء الفلاسفة مقاربة التاريخ كمقدم أو تجلّ لمعنى.

فمادام أن هذا المعنى يظهر من خلال نشاط "استعادة" نوعي، فإن الفارق يظل قائما بين الحدث événement والمَقْدَم أو التجلي avènement. وتاريخ المؤرخين ليس مطمورا تحت هذا التاريخ الدال، بل على العكس، تاريخ المؤرخين مُفترَضٌ على الدوام باعتباره الحاضنة الكبرى للمواقف الذي يستعيدها الفيلسوف ويعيد النظر فيها. وأكثر من ذلك، إذا لم يكن تاريخ المؤرخين سعيدا بتغذية تاريخ الفلسفة، إلا أنه بمثابة تحذير دائم ضد منزلقات هذا الأخير: إنه هنا من أجل تذكير الفيلسوف العقلاني بأهمية ما يتغاضى عنه، وبأهمية ما يُعرِضُ عن النظر فيه بسبب "اختيار" الفيلسوف العقلاني الذي يقوم به. فتاريخ المؤرخين يذكِّر الفيلسوف عن أي لا معنى كلُّ معنى مستفادٌ. وبالرغم من ذلك، فالفيلسوف لن يربكه مشهد الحماقات والإخفاقات والأطماع الذي يَعْرِضُه التاريخ؛ لأنه يعلم أن تاريخه لا يُعْثر عليه، بل يُستعاد انطلاقا من مهمات tâches العقل.

بيد أنه يتعين الذهاب إلى ما هو أبعد: تاريخ الوعي هذا لا يتخلى عن اللامعنى (على الأقل من زاوية نظر النقد الفلسفي)؛ لأنه يُعرض أيضا عن الفردي، وعن غير القابل للتعميم، وعن الاستثنائي. ألا يمثل الطابع الفريد والمباين لكل فلسفة مظهرا من التاريخ لا يقل أهمية عن حركة الكل أو المجموع؟

2. التاريخ كمجال للبين-ذاتية

وهكذا انتهى بنا المطاف إلى القراءة الأخرى للتاريخ: عوض طلب الاتساع والنسق، يمكن للمؤرخ أن ينشد الحميمية والتفرد: يمكنه الانكباب على فلسفة معينة، والبحث عن الكيفية التي تتشابك فيها كل إشكالية عصر ما، وكل تأثيرات الماضي: عوض وضع هذه الفلسفة ضمن حركة التاريخ، سينظر في ماضي هذه الفلسفة باعتباره الحافز الذي تخضع له وتنطوي عليه. وباختصار، بدل أن يتطور التاريخ كحركة، فإنه يتركز في أشخاص وأعمال œuvres. والفيلسوف المؤرخ سيحاول آنئذ بلوغ السؤال الذي وحده الفيلسوف الآخر صادفه وطرحه؛ أي السؤال الحي الذي يتماهى معه المفكر. وهذه المتابعة الطويلة لكاتب ما أو لعدد محدود من الكُتاب تميل نحو ضرب العلاقة الوطيدة والمميزة التي يمكن أن تربط رجلا بأصدقائه. وعمق العلاقة يستبعد إمكانية أن يمتد هذا النوع من التواصل، ليشمل كل الفلاسفة وكل المفكرين وكل الناس.

وهذه الكيفية الفلسفية للتعاطي مع التاريخ لا تقل إزعاجا بالنسبة للمؤرخ المحترف من سابقتها، كما أن المؤرخ الذي يتأمل وضعيته الخاصة في المجال الكلي للإنسانية، سيكون عليه أن يتمثل التاريخ الذي يمتهنه، باعتباره مندمجا في التواصل الكلي للكائنات الواعية. والمجال الذي يقتطعه التاريخ ضمن هذه الكلية البين-ذاتية محددة فقط منهجيا من خلال شرط معرفة بواسطة آثار، وإذن من خلال الدور البدئي للوثيقة. ولهذا، فاللقاء في التاريخ ليس حوارا أبدا؛ لأن الشرط الأول للحوار هو أن يجيب الآخر: التاريخ ميدان تواصل بدون تبادلية. لكنه، بوصفه مشروطا بهذا القيد، بمثابة نوع من الصداقة الأحادية الجانب، على منوال حالات العشق هذه التي ظلت على الدوام من طرف واحد.

هل اختيار كبار الفلاسفة كمركز اهتمام هو الذي سيصدم المؤرخ؟ بيد أن مؤرخ الفلسفة لا يدعي أن التاريخ يبلغ ذروته في بعض العبقريات الفلسفية؛ إذ إنه قام فقط باختيار آخر غير اختيار المؤرخ: اختيار أفراد استثنائيين ولعملهم، باعتبار أن هذا العمل فريدٌ ولا يقبل الاختزال إلى عموميات، وإلى أضرب يمكن تبنيها (الواقعية، التجريبية، العقلانية، إلخ). واختيار هذه القراءة يترتب عنه أن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لا ينظر إليها إلا كتأثير وكوضعية وكظروف ميسِّرة لظهور هذا المفكر المبدع، أو لانبثاق هذا العمل الفكري المتميز. فهذا المبدع وهذا العمل الفكري يمثلان آنئذ مركز الثقل، والوعاء، والحامل الوحيد لكل التأثيرات المتلقاة كما التأثيرات الصادرة. والتاريخ مدرك آنئذ كسلسلة من الانبثاقات المتقطعة، كل واحد منها يقتضي ملاقاة جديدة في كل مرة، متفانية في كل مرة.

لقد حرصت على الاستحضار المتوازي لهاتين القراءتين للتاريخ من لدن الفلاسفة؛ فتاريخ المؤرخين هو بالضبط بالصورة التي يمكن ويجب أن "يُنظر فيه من جديد" من طرف الفيلسوف في هذين الأسلوبين المختلفين، اللذين يُعدان كيفيتين مختلفتين لإظهار ذاتية التاريخ، مرة أولى كوعي إنساني واحد معناه يتقدم كسلسلة متصلة من اللحظات المنطقية، ومرة ثانية كبروز متعدد، وكسلسلة متصلة من الانبثاقات لكل منها معنى خاص. والفيلسوف الأكثر هيجيلية، والأكثر إصرارا على قراءة التاريخ كعودة للروح إلى ذاته، لا يمكنه منع أن يظل ظهور فلاسفة، مثل ديكارت، وهيوم، وكانط، حدثا لا يقبل الاختزال إلى تجلّ للعقل، من خلال الخطاب الجزئي الذي يمثله كل واحد منهم في الخطاب الكلي.

وهذه الإمكانية المزدوجة للقراءة الفلسفية من شأنها أن تكون بناءة للمؤرخ المحترف؛ لأنها تُخرج إلى واضحة النهار مفارقة مضمرة في كل تاريخ، وإن لم تكن تخرج إلى دائرة الضوء إلا عبر هذه الاستعادة للتاريخ العام في تاريخ للوعي أو تاريخ للكائنات الواعية. وهذه المفارقة المضمرة هي كالآتي: نحن نتحدث عن التاريخ بالمفرد؛ لأننا ننتظر أن يقوم معنى إنساني بتوحيد وإضفاء طابع معقول على هذا التاريخ الموحَّد للإنسانية. وهذا الرهان الضمني هو ما ينشد إبرازه الفيلسوف العقلاني، الذي يكتب تاريخا للوعي. لكننا نتحدث أيضا عن الناس؛ أي عن الناس بالجمع، ونعرّف التاريخ باعتباره العلم المتعلق بالناس في الماضي؛ لأننا ننتظر بروز أشخاص كمراكز للإنسانية متعددة جذريا. وهذا النزر هو ما يخرجه الفيلسوف الوجودي إلى واضحة النهار من خلال الانكباب على الأعمال الفريدة، حيث ينتظم الكوسموس حول مركز استثنائي من الوجود والفكر.

والتاريخ، بالنسبة إلينا نحن الناس الآخرين، افتراضيا، متصل ومتقطع: متصل كمعنى\ تجاه سير واحد، ومتقطع ككوكبة من الأشخاص. وهكذا تتفكك، في تحقق الوعي الفلسفي بالتاريخ، عقلانيتُه الافتراضية وطابعه التاريخي الافتراضي. وقد نُبرز بيسر أن هذا الازدواج يمس ليس فقط تمثلنا للزمان، الذي تظهر بنيته متناقضة على مستوى تحقق الوعي الفلسفي بالتاريخ، بل تمثلنا للحقيقة؛ لأن نقيضة الزمن التاريخي ليست نقيضة المعنى واللامعنى، كما لو أن المعنى لم يكن إلا من جانب واحد، بل نقيضة معنى التاريخ ذاته. ومفهوم المعنى ليس مستنفذا بمفهوم النمو، والتتابع. وعُقد التاريخ التي هي الأحداث ليست أبدا مواطن للعقلانية، بل بالأحرى مراكز منظمة، وهي بهذا الصدد مراكز للدلالة. وعلى عكس القراءة الأولى، بوسعنا القول، مع ب. ثيفيناز P. Thévenaz، إن الحدث الأكثر واقعية هو ذلك الذي يفرض نفسه أكثر على الوعي كمركز منظم للصيرورة التاريخية. وقوة التدفق الخاصة به، هي إشعاعه ذاته، الذي يفرضه التاريخ علينا، وهو الذي يسند عقلانيته ويضفي عليه معناه. فدلالة التاريخ ليست خارج الأحداث، وإذا كان للتاريخ معنى، فلأن حدثا أو مجموعة من الأحداث المركزية (بالطبع تتداخل على الدوام في وعي بالطابع التاريخي) تعطيه معناه، ولأن الحدث هو منذ البدء المعنى ذاته... ("الحدث والطابع التاريخي"، ضمن "الإنسان والتاريخ" ص.: 223-224 L’événement et l’historicité, in L’homme et l’histoire). فالتاريخ إذن يمكن أن يُقرأ كنمو ممتد للمعنى، وكإشعاع للمعنى انطلاقا من مراكز منظِّمة متعددة، دون أن يكون بوسع أي إنسان منغمس في التاريخ تنظيم المعنى الكلي لهذه المعاني المشعة. وكل سرد تاريخي إلا ويشارك في مظهَرَي المعنى: كوحدة تركيب، يركز على النظام الكلي حيث تتوحد الأحداث، وكحكي درامي، يجري من عقدة إلى عقدة، ومن غِلظة إلى أخرى.

وأخيرا نقيضة الزمان التاريخي هذه هي سر ترددنا بين "مزاجين" أساسيين للبشر إزاء تاريخهم: فبينما قراءة التاريخ كمَقْدَمٍ للوعي يميل إلى نزعة تفاؤلية في الفكرة، تفضي قراءة التاريخ كانبثاق لمراكز للوعي بالأحرى إلى رؤية تراجيدية لالتباس الإنسان، الذي يبدأ من جديد على الدوام، ويمكن أن يخلف الموعد على الدوام.

وقد يكون من ماهية كل تاريخ الانفتاح على هذه القراءة المزدوجة، وعلى هذا التأرجح الأساسي، وإن كانت إعادة النظر في التاريخ كتاريخ فلسفي للذاتية وحدها الكفيلة بإنضاج وكسر الطلاق الضمني. فعلى الأقل هذا الطلاق، على مستوى نظر في التاريخ، يسلط الضوء بصورة تراجعية، ويبرر صعوبات المؤرخ، المتأرجح بين المظهر الحدثي والمظهر البنيوي للتاريخ، بين الشخصيات العابرة والقوى التي تتطور ببطء، وحتى الأشكال المستقرة للبيئة الجغرافية. ويجب على المؤرخ أن ينكب على الجانبين معا؛ لأنه يشتغل في ما يتعدى الفصل بين تاريخين للذاتية. إنه لا يكتب تاريخا للذاتية، بل تاريخا للبشر في كل مظاهره الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية. والانقسامات الفلسفية لاحقة لاختيار الفيلسوف. لكن ضرورة هذه الانقسامات يفسر لاحقا أن الصعوبات المنهجية للمؤرخ ذات أساس، وبأنه، بالرغم من احترازاته، يجب عليه أن ينكب في الوقت عينه على تاريخ حدثي وتاريخ بنيوي.

وهذا ربما ليس المكسب الوحيد الذي يمكن للمؤرخ أن يحققه من الاستعادة الفلسفية لعمله الخاص؛ فهو لا يجري تنويره فقط بعد حين بالالتباسات الملازمة لنشاطه، بل أيضا بشأن مقصده الأساسي. والفعل الفلسفي كشف عن الإنسان كوعي، وكذاتية. وهذا الفعل له قيمة تذكير، وربما أحيانا قيمة منبه بالنسبة إلى المؤرخ. إنه يذكر المؤرخ بأن تبرير عمله هو الإنسان؛ أي الإنسان والقيم التي يكتشفها أو يبلورها في حضاراته. وهذا التذكير يرن أحيانا كمنبه عندما يغريه نفي مقصده الأساسي ويستسلم لإغراء موضوعية زائفة: تلك التي ترتبط بتاريخ، حيث لا وجود لغير بنيات، وقوى، ومؤسسات، وليس بشرا وقيما إنسانية. وهكذا يكشف الفعل الفلسفي، في الحدود القصوى، شرخا بين موضوعية حقة وموضوعية زائفة، وسأقول عن طيب خاطر، بين الموضوعية وبين نزعة موضوعية objectivisme تستبعد الإنسان.

إن مهنة المؤرخ بدت لنا كافية للتمييز بين الذاتية الجيدة والذاتية الرديئة للمؤرخ. ومسؤولية النظر الفلسفي ستكون ربما التمييز بين الموضوعية الجيدة والموضوعية الرديئة للمؤرخ؛ لأن النظر هو الذي يؤكد بدون توقف أن موضوع التاريخ هو الذات الإنسانية نفسها.

* مصدر النص:

Ricoeur (Paul), Objectivité et Subjectivité dans l’Histoire in Histoire et vérité, Éditions Seuil (collection Points Essais), Paris, 1955-2001, p.: 27-50

*** المترجم.

[1]- لقد جرى مؤخرا بيان أن ثوسديد – المتمايز عن هيرودوت- كان يحفزه شغف السببية الصارمة ذاته شأنه شأن أناكساغور ولوقيبوس وديموقريط، والبحث نفسه عن المبدأ المحرك مثل الفيزياء قبل-السقراطية. ومبدأ الحركة هذا يجري البحث عنه في المجتمعات البشرية، مثلما يبحث عنه الفيزيائيون في أشياء الطبيعة.

[2]- De la logique à l’éthique en histoire, in Revue de Métaphysique et de Morale, 1949, n° 3-4, p.257.

- أوكد هنا على موافقتي الجوهرية على ما جاء في كتاب هنري إريني مارو "في المعرفة التاريخية":

De la connaissnce historique, Éd. du Seuil, 1954