الميتافيزيقا الجديدة عند ديكارت
فئة : مقالات
الميتافيزيقا الجديدة عند ديكارت:
ديكارت والميتافيزيقا: بين التجاوز والتأسيس الجديد
تقديم:
تبنى ديكارت في كتابه "حديث الطريقة" موقفا سلبيا من الميتافيزيقا، حيث نعتها بالعقيمة، لأنها فلسفة نظرية بحتة. ودعا، من هذا المنطلق، إلى نبذها وتجاوزها، وتعويضها بفلسفة أخرى عملية. لكن بالموازاة مع ذلك، نجده يخصص كتابا بأكمله حول الميتافيزيقا، يحمل عنوان "تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى"، ويتوقف في بطن هذا الكتاب بالتفصيل، إلى جانب كتاب "حديث الطريقة"، عند القضايا الميتافيزيقية التي تم تناولها في الفلسفة الأرسطية، وأيضا في فلسفة العصور الوسطى، بشقّيها الإسلامي والمسيحي. بل أكثر من ذلك، أن ديكارت يعرف الفلسفة بكونها ميتافيزيقا، بقوله: "الفلسفة بأسرها أشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسة هي الطب والميكانيكا والأخلاق..."[1]. من هنا يحق لنا التساؤل: لماذا تبنى ديكارت موقفا إقصائيا للميتافيزيقا، وفي ذات الوقت أسس قولا فيها؟ لماذا هذا التهميش والاهتمام في آن واحد؟ الجواب في نظرنا هو أن ديكارت يهدف إلى تأسيس ميتافيزيقا جديدة مغايرة تماما للميتافيزيقا القديمة. إذن فما هي الأسباب الكامنة وراء تجاوزه للميتافيزيقا القديمة وتأسيسه للميتافيزيقا الجديدة؟ وما هي مميزات وخصائص الميتافيزيقا البديلة؟
من الثورة العلمية إلى الثورة الفلسفية:
في سنة 1633 أوقفت محكمة التفتيش العالم الإيطالي غاليلي غليلو، وحكمت عليه بالمروق، لقوله بدوران الأرض. وكان ديكارت نفسه يقول بذلك في كتابه "العالم"، الذي بدأ كتابته سنة 1628، فلما بلغه نبأ الحكم على غاليلي، تخلى عن فكرة نشر الكتاب، وراودته فكرة حرق كل أوراقه، مخافة أن يلحقه سوء من الكنيسة، وكتب إلى صديقه الأب مرسن رسالة يقول فيها: إذا كانت حركة الأرض باطلة فإن فلسفتي كلها باطلة، وأنه لا يستطيع أن يفصل تلك النظرية حول حركة الأرض عن كتابه، بل عن فلسفته. وكل فصل بينهما يعرض مذهبه الفلسفي للاهتزاز. ففضل أن يخفي كتابه السالف الذكر، وأن يعوضه بكتاب "مقال في المنهج" سنة 1637، الذي يأتي بالنتائج مفصولة عن المبادئ التي ظلت في مجال المسكوت عنه.
لهذا، فديكارت يتميز بحذر وكتمان شديدين، كان يفكر فيما يقول، ولا يقول كل ما يفكر فيه، بل إنه على حد تعبير صديقه مرسن هو فيلسوف ذو قناع، لا يمكن أن نظفر بفهم فلسفته بالاكتفاء بظاهرها، بل يشترط هذا الفهم أن تقرأ ما خلف السطور. ولاريب أن لهذا الاحتياط مبرره، إذ إن "حكاية غاليلي كانت ما تزال قريبة العهد، ولم يكن ديكارت يحس أية رغبة في أن تتجدد الحكاية على حسابه، وكان يعلم أن رسالته للعالم أخطر بكثير من رسالة الرياضي الفلورنتي، فالعلم –ذلك العلم الذي تظهرنا الرسائل العلمية على أمثلة منه- لا يكفي بأن يطرد الإنسان والأرض من مركز العالم، ولكنه يحطم هذا العالم ويخربه ويفتح بدلا منه الفضاء اللامتناهي"[2].
لا يمكن فهم فلسفة ديكارت إلا من خلال ربطها بالثورة الكوبرنيكية القائلة بدوران الأرض وثبات الشمس، وكل فصل بينهما من شأنه أن يشوه فلسفة الرجل، إذ إن مفهوم الذات المفكرة الذي نحته ديكارت، والذي سيكون مبدأ الميتافيزيقا الجديدة، هو ترجمة لمفهوم علمي وهو الذات الملاحظة الذي كان من توقيع الراهب والعالم نيكولا كوبرنيك. بهذا المعنى، فكل ميتافيزيقا لها سند علمي، وبما أن العلم القديم قد انهار، فمن الطبيعي أن تنهار معه الميتافيزيقا القديمة أيضا. وظهور العلم الجديد الذي دشنه كوبرنيك سيصاحبه ظهور ميتافيزيقا جديدة مع ديكارت. بتعبير آخر، إن ميتافيزيقا أرسطو انهارت دعامتها العلمية المتمثلة في فيزياء السكون، لذلك ستخلي المكان لفيزياء جديدة هي فيزياء الحركة مع غاليلي وميتافيزيقا جديدة مع ديكارت. وأول ما قام به ديكارت بسبب انبثاق هذه الثورة العلمية هو الشك في كل الحقائق التي تربى عليها منذ نعومة أظافره. ويلاحظ أن الشك كمنهج يحضر في جميع كتب ديكارت، لأنه يهدف من خلاله إلى تصحيح طريقة التفكير وليس تصحيح الخطأ، لأن إصلاح الأخطاء هو عملية لا متناهية، لذلك مضى رأسا نحو مصدر هذه الأخطاء؛ أي طريقة التفكير.
من الشك إلى اليقين:
يقول ديكارت: "لقد كانت غايتي أن أثق بصحة ما أعلم وأن أبني علومي على الصخر والصلصال لا على المتحرك من الرمال". وبذلك تكون غاية ديكارت من الشك هو وضع أساس صلب ومتين تبنى عليه الحقيقة. فرهان تأسيس العلم وبلوغ الحقيقة حتم عليه ممارسة الشك، خاصة الشك في الحقائق التي تأتيه عن طريق الحواس، التي ينعتها بالمخادعة. وكل "ما تلقيته حتى الآن على أنه أصدق الأمور وأوثقها قد اكتسبته بالحواس، أو عن طريق الحواس، غير أني وجدت الحواس خداعة، في بعض الأحيان، ومن الحكمة ألا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو مرة واحدة"[3]. ويظهر خداع الحواس في غير ما موضع، "كمثل المصابين بمرض الصفراء يرون كل شيء أصفر اللون، أو كمثل الكواكب وأجسام أخرى بعيدة جدا تبدو لنا أصغر كثيرا مما هي عليه"[4]. نضيف إلى ذلك أيضا: "إلا أن تجاربا كثيرة حطمت بعد ذلك شيئا فشيئا تلك الثقة التي وضعتها في الحواس، إذ لاحظت في مناسبات عديدة أن أبراجا بدت لي عن بعد مستديرة، تبينت عن كثب أنها مربعة، وأن تماثيل عظيمة إذا وضعت في أعلى تلك الأبراج بدت لي صغيرة الحجم، عندما أنظر إليها من أسفل (تلك الأبراج)، وهكذا عثرت في عدد لا يحصى من المناسبات، على خطأ في الأحكام المرتكزة على الحواس الخارجية؛ وليس على الحواس الخارجية فحسب، بل كذلك على الحواس الداخلية؛ إذ هل يوجد شيء حميم وداخلي أكثر من الألم؟ ومع ذلك فقد علمت في الماضي من بعض الناس الذين قطعت أيديهم أو أرجلهم أنه يبدو لهم أحيانا وكأنهم يحسون بالألم في الأجزاء التي قطعت منهم"[5]. وهنا ينتصب السؤال الآتي: لماذا تخدعنا الحواس؟ ومتى تنقل لنا الحقيقة مقلوبة؟ وكيف نحد من خداعها؟
إذا كان الفلاسفة القدماء ينطلقون من إثبات الفكر ثم العالم ثم الله، فإن ديكارت انطلق من إثبات وجود الذات، فالله، فالعالم
تخطئ الحواس لما تقوم بوظائف غير الوظائف الموكولة إليها؛ أي لما يتم تكليفها بوظائف لم توجد من أجلها. وتتحدد وظيفة الحس الخارجي، مثلا، في ادراك اللون والشيء. أما درجة بعد أو قرب هذا الشيء، وكبر حجمه أو صغره، وأعراضه وألوانه، فهي ليست من اختصاصه وإنما من اختصاص العقل. وتتحدد وظيفة الحس الداخلي في الحفاظ على الحياة؛ فالإمساك عن الطعام يوقظ في المعدة ذلك الانفعال الذي يسمى بالجوع، وجفاف الحلقوم يجرنا نحو الشرب. لذلك، فالحواس ليست أداة معرفة، وكل من يعتمد عليها يعرض نفسه للزلل. من هذا المنطلق أصبحت كل العلوم التي تقوم على الحواس موضع شبهة، لأنها معرضة للخطأ دوما، يقول ديكارت: "لعلنا غير مخطئين إذن في الاستنتاج أن علوم الطبيعة والفلك والطب، وسائر العلوم الأخرى التي تدور حول الأشياء المركبة هي عرضة لشك قوي، إن الثقة بها قليلة. أما الحساب والهندسة، وما شكالها من العلوم، التي تنظر في أمور بسيطة جدا، وعامة جدا، دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور في الخارج أو عدم تحقيقها، فهي تحتوي على شيء يقيني، لا سبيل إلى الشك فيها"[6]. لهذا، ستتبوأ الرياضيات مكانة خاصة في فلسفة ديكارت، بل إن المنهج الذي تقوم عليه فلسفته يضرب بجذوره في مبادئ الهندسة التحليلية.
إذا كان شك الشكاك غاية في ذاته، ونسبي، لم يأت على كل شيء، اكتفوا بالشك في المحسوسات والكيفيات دون الكميات والمعقولات. فإن النتيجة هي أنهم لم يخرجوا من دائرة الشك، وظلوا يدورون في حلقة مفرغة. على عكس ذلك، فالشك الديكارتي هو شك منهجي ومؤقت ومطلق، غايته البحث عن الحقيقة وبلوغ اليقين، ومن أجل تحقيق ذلك يقوم ديكارت بمسح الطاولة، وينطلق من الصفر المعرفي، ويشك في كل شيء، إلى درجة أنه شك حتى فيما لا يمكن الشك فيه، لأنه كان يضع نصب عينيه شيئا واحدا وهو الوصول إلى معرفة مؤسسة ويقينية. يقول: "لئن كانت الحواس تخدعنا بعض الأحيان في أشياء صغيرة جدا، وبعيدة عن متناولنا، فهناك أشياء كثيرة أخرى لا يعقل أن نشك فيها، وإن كنا نعرفها بطريق الحواس. مثال: أن ألبس عباءة المنزل، فأجلس هنا قرب النار، وقد مسكت بين يدي تلك الورقة، وأشياء أخرى من هذا القبيل، كيف أستطيع أن أنكر هاتين اليدين وهما يدي، وذلك الجسم وهو جسمي، اللهم إلا إذا أصبحت كبعض المخبولين الذين اختلت أذهانهم"[7]. لكن رهان تأسيس اليقين العلمي يقتضي أن يكون الشك مطلقا وعاما، لا يستثني شيئا.
يقول غيرو (Guéroult) بخصوص الشك الديكارتي: "إلا أننا إذا أردنا الوصول إلى يقين تام وجب علينا أن لا نقبل لدينا أي شيء لا يكون يقينا مطلقا: وبعبارة أخرى، ينبغي أن نسحب الشك على كل ما ليس يقينيا مطلقا، ومن جهة أخرى، علينا أن ننبذ خارجنا كل ما ينسحب عليه هذا الشك، ومن هنا تظهر ثلاث ضرورات هي: ضرورة الشك المنهجي، وضرورة عدم استثناء أي شيء من الشك ما لم يكن هذا الشك مستحيلا استحالة مطلقة، ثم ضرورة اعتبار الأشياء التي ينسحب عليها الشك خاطئة خطأ مؤقتا؛ وذلك ما ينجر عنه ضرورة رفضها رفضا تاما. ويتناسب مع هذه الضرورات الثلاث ثلاثة أشكال للشك الديكارتي: إنه منهجي، إنه شامل، إنه جذري. علاوة على ذلك، فإن طابعه المنهجي يجعل منه مجرد أداة لتأسيس اليقين في العلم، أي لتأسيس وثوقية العلم، وينتج عن ذلك خاصية رابعة: إن الشك الديكارتي مؤقت".[8]
على الرغم من القول إن الشك الديكارتي هو شك مطلق، إلا أن هناك شيئا واحدا يبقى بمعزل عن الشك، وهو الفكر: أنا أفكر. صحيح أنه يمكنني أن أشك في كل شيء، أن أشك ما طاب لي الشك، ولكن لا يمكنني أن أشك في أني أشك، وما دام الشك تفكير، فإنه لا يمكنني أن أشك في كوني أشك؛ أي في كوني أفكر، لأن الشك والتفكير متلازمان. وإذا كنت كائنا مفكرا فهذا يعني بالضرورة أنني موجود. "لا نستطيع ونحن على هذا الشك في كل شيء، أن نشك في أننا موجودون. إن هذه الجملة "أنا موجود" هي حقة جبرا". هكذا أضحى الكوجيطو أرضية صلبة لبناء كل الحقائق، ولم تعد الحواس مرتكزا للتفكير، لأن الأرض تدور، وليس هناك شيء ثابت، وأن نقطة الارتكاز، النقطة الأرخميدية، التي أسس عليها ديكارت بناءه الفلسفي تكمن في القضية الحدسية: "أنا أفكر".
من هذ المنطلق، سيرفض ديكارت التعريف الأرسطي للإنسان، كونه حيوان ناطق، لأن الإنسان، في نظره، لا يتقوم بفكره وجسده، وإنما يتقوم بفكره فقط. يقول: "ما هو الإنسان؟ هل أقول إنه حيوان عاقل؟ كلا ... في أننا لسنا من كل ما اعتقدناه قبلا سوى بالضبط شيء يفكر". يضيف: "إذا انقطعت عن التفكير، انقطعت، ربما، عن الوجود، انقطاعا خالصا..."[9].
هنا تظهر لنا أهمية الكوجيطو الديكارتي، كونه يعلمنا التفكير، ويقودنا إلى الاكتشاف، ويمنعنا من الركون إلى الأحكام المسبقة والنتائج الجاهزة، ويحثنا على عدم التسرع والتعجل في إصدار الأحكام، ويحضنا على تقبل فقط ما هو بديهي وواضح، ورفض كل ما يبدو غامضا ومبهما. بهذا المعنى. فالشك، إذن، هو منهج تحليلي، يصلح التفكير، بتدريبه على أن يمشي خطوة خطوة في اكتشاف الحقائق وبنائها. وبذلك، فهو يشكل ثورة على المنهج القديم الذي يكتفي بعرض النتائج جاهزة، دون أن ندري التسلسل المنطقي الذي قاد إلى تلك النتائج.
تجدر الإشارة، ههنا، إلى أن مفهوم الأنا لم يكن موجودا قبل القرن السابع عشر، إذ كان مرفوضا دينيا ومؤسساتيا، كان يطلق فقط على الإله والمؤسسة الكنسية التي تعتبر نفسها خليفة الله في أرضه. وكل من تجرأ على نعت نفسه بالأنا اعتبر مارقا، لأنه قبل العصر الحديث، كان المجتمع يتكون من طبقتين: مشرعون وقطيع، حيث ينهض المشرعون بوظيفتي التفكير وإصدار والأوامر، ويكتفي القطيع بالطاعة والتنفيذ. وكل من فكر يتهم بالحمق، ويتم الزج به في مستشفى الأمراض العقلية، أو يتهم بالكفر، فيقتاد إلى المشنقة. لكن بفضل المستجدات العلمية التي طفت على السطح، فرض مفهوم الذات نفسه فرضا، وتأكد مع ديكارت أن العقل هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس؛ أي رأسمالا مشتركا بين الجميع، فتكسرت تلك التراتبية الاجتماعية، وصار الجميع سواسية، لا اختلاف بينهم إلا في طريقة استعمال العقل.
لكن، إذا تم إثبات وجود الذات بالفكر: أنا أفكر إذن أنا موجود، فما هو نوع الوجود الذي يتمتع به الأنا لحدود الآن؟ هل هو وجود مادي أم وجود عقلي؟
من الذات إلى الله:
توصلنا مع ديكارت إلى حقيقة أساسية لا يمكن الشك فيها، وهي: أنا أفكر إذن أنا موجود، وأن هذه الحقيقة الجديدة المتوصل إليها، ساقتنا إلى إثارة سؤال أساسي، هو: ما نوع الوجود الذي يتمتع به الأنا؟ هل وجوده وجود فكري أم وجود مادي؟
من البين أن ديكارت عندما قال: أنا أفكر إذن أنا موجود، يقصد أن الوجود الذي يتمتع به الأنا يتأسس على آلية التفكير؛ أي إنه أثبت وجوده على المستوى الفكري وليس على المستوى المادي التجريبي، وأنه متى انقطع عن التفكير انقطع عن الوجود، وأنه موجود طالما أنه يفكر. هكذا فما يعرفه الأنا معرفة يقينية في هذه اللحظة بالذات، هو أنه موجود لأنه يفكر، ولا يعرف شيئا آخر غير هذه الحقيقة. لكن هل هنا عالم آخر خارج عالم الفكر؟
انطلاقا من هذ السؤال، ميز ديكارت بين جوهرين اثنين: بين النفس والجسد؛ فالأولى جوهر روحاني طبيعته التفكير، والثاني جوهر ممتد لا وجود لخاصية التفكير فيه، وإذا كان الجسم ممتد كانت طبيعته مختلفة تماما عن طبيعة النفس، يقول: "إذا انطلقت من تأكيد معرفتي أني موجود، وأن شيئا آخر لا يخص طبيعتي، أو جوهري، سوى أني شيء يفكر، جبرا، استطعت القول بأن جوهري محصور في أني شيء يفكر، أو أني جوهر كل ماهيته أو طبيعته أن يفكر، ليس إلا. وعلى الرغم من أنه قد يكون، بل يجب، كما سأبينه، أن يكون لي جسم اتصلت به اتصالا وثيقا، فلدي فكرة واضحة متميزة عن نفسي، باعتبار أني لست إلا شيئا مفكرا لا شيئا ممتدا، ولدي أيضا فكرة متميزة عن الجسم، باعتبار أنه ليس إلا شيئا ممتدا لا شيئا مفكرا. لذا ثبت عندي أن هذه الأنا، أعني نفسي التي بها أكون أنا ما أنا، تتميز عن جسمي تمييزا تاما حقيقيا. هي قادرة على أن تكون أو أن توجد بدونه"[10].
لكن ديكارت لحد الآن لا زال غير قادر على الإقرار بوجود أجسام خارج فكره، وكل ما توصل إليه هو أنه جوهر مفكر عار من الامتداد. بعبارة أخرى، إن ما يثبته الكوجيطو هو وجود النفس المفكرة، لكنه يترك الأنا في عزلة تامة عن كل ما عداها من الأشياء. فكيف السبيل إذن للخروج من هذه العزلة والوصول إلى اثبات وجود آخر غير وجود النفس المفكرة؟
سيحاول ديكارت أن يخرج الأنا من عزلتها بالاستناد إلى أساس آخر خارج الفكر، هو مصدر كل وجود، وضامن نهائي لكل حقيقة، إنه الله. لكن ادخال فكرة الله كوسيلة لانفلات الذات من عزلتها ووحدانيتها، اقتضى من ديكارت أن يبرهن على وجود الله، لأن الله هو الذي سيضمن له وجود العالم. وأول ما بدأ به ديكارت هو رفضه للبراهين القديمة التي كانت سائدة آنذاك. لكن قبل الوقوف على براهين ديكارت عن وجود الله، لا بد من الإجابة عن السؤال الآتي: لماذا لم يأخذ ديكارت بالبراهين القديمة؟ ما عيبها؟
إن نظرية تحريك الأرض أدت إلى جعل الأرض سماوية والسماء أرضية، فهدمت الفيزياء الأرسطية التي كانت تقسم العالم إلى قسمين: ما فوق فلك القمر وما تحت فلك القمر، فلم نعد أمام الثنائية الشهيرة: فوق/تحت، بل أضحى العالم موحدا. وبالتالي فانهيار العلم الأرسطي صاحبه انهيار الميتافيزيقا الأرسطية أيضا. كيف ذلك؟
أشرنا إلى أن فيزياء أرسطو تقسم العالم إلى فوق/تحت، وقد انبنت ميتافيزيقا أرسطو على هذا التقسيم، حيث إن "تحت" أي الأرض هي بمثابة جسر نمر من خلاله إلى "فوق" أي إلى السماء التي يقطنها الله؛ المحرك الذي لا يتحرك. بمعنى أن ميتافيزيقا أرسطو تتخذ من العالم سلما يتم تسلقه والصعود عبره إلى الله. وستتم استعادة هذا الدليل من طرف كل من ابن رشد وطوما الأكويني، حيث يعتبران أن الصنعة دليل على وجود الصانع؛ أي إن العالم المنظم دليل على وجود الله. وهذا ما لم يتبعه ديكارت، لأنه لا يمكن للعالم الحسي أن يكون واسطة بين الإنسان والله، لأن العالم ندركه بالحواس، والحواس مشكوك فيها، وبالتالي فالعالم مشكوك في أمره أيضا.
في هذا الإطار، يقول ألكسندر كويري: "الكون اليوناني الذي نجده عند أرسطو وفلاسفة القرون الوسطى عالم منظم محدود، منظم من حيث المكان ومن حيث القيمة، عالم مرتب ترتيبا تتقابل فيه درجات الوجود ودرجات القيم، هو سلم يصعد من المادة إلى الله. هذا الكون جميل جدا يروع نفس اليوناني، وينطلق صاحب الزبور بقوله: إن السماء والأرض تسبحان الله، وتمجدان صنع يديه، الحكمة الإلهية تتلألأ في هذا الكون، حيث كل شيء موضوع في مكانه، وحيث كل شيء مرتب على أحسن وجه...وفوق ذلك فإن هذا الكون، والأرض مركزه، مشيد كله لأجل الإنسان. تشرق الشمس وتدور السيارات، والله الغاية القصوى والمحرك الأول، وقمة هذا السلم المرتب، هو الذي ينفخ في الحياة ويبعث الحركة. والإنسان في مثل هذا الكون المصنع لأجله، أو على الأقل المصنوع على قدره موجود في بيئته... لكن العلم الطبيعي الذي أنشأه ديكارت يهدم هذا العلم الجميل هدما تاما. ماذا يصنع مكانه؟ الحق أنه لا يضع شيئا يذكر، لا يضع غير الامتداد والحركة، امتداد لا متناه ذهب منه النظام والترتيب والجمال، ملؤه لا شيء، فيه حركات بغير علة ولا غاية ولا نهاية، انتفت منه الأمكنة الخاصة للأشياء، وتساوت فيه الأمكنة جميعا والأشياء جميعا، فما الأشياء إلا مادة وحركة، ولم تعد الأرض مركزا للكون، بل لم يعد هناك مركز، ولم يعد هناك كون، وليس العالم مرتبا للإنسان، بل ليس مرتبا بالمرة، ولم يعد على قدر الإنسان، بل صار على قدر العقل. هذا هو العالم الواقعي لا العالم الذي تظهرنا عليه حواسنا الخداعة، وإنما هو العالم الذي يجده العقل في ذاته، العقل الخالص الصافي المعصوم من الخطأ"[11].
مادام العالم لم يعد يشكل واسطة بين الإنسان والله عند ديكارت، فقد استلزم الأمر البحث عن برهان آخر؛ أي ميتافيزيقا جديدة لا تجعل المادة واسطة للبرهان على وجود الله، بل البحث عن براهين فكرية خالصة، لذلك سينطلق من الفكر نحو الله مباشرة دون أن يستعين بأية واسطة حسية. وبذلك ستعتبر فكرة الله ثاني فكرة واضحة بعد فكرة الأنا، عكس الميتافيزيقا القديمة التي كانت تصل إلى الله عبر وسائط كثيرة هي بمثابة حواجز، فظلت فكرة الله لديها فكرة غامضة ومبهمة. ومنه نستنتج أنه إذا كان الله في الميتافيزيقا القديمة غاية، فإنه أصبح في الميتافيزيقا الجديدة مجرد وسيلة لخروج الذات من ذاتيتها.
لذلك، فإذا كان الفلاسفة القدماء ينطلقون من إثبات الفكر ثم العالم ثم الله، فإن ديكارت انطلق من إثبات وجود الذات، فالله، فالعالم. يقول أحد المهتمين بفلسفة ديكارت، وهو لابرتونيير: لم يشأ ديكارت أن يعرف وجود الله عن طريقة العالم، بل زعم على عكس ذلك، إن معرفة العالم عن طريقة الله أولى، فلم يعتمد على الأرض للصعود إلى السماء، بل أراد أن يهبط من السماء إلى الأرض، ولم يطلب إلى العالم أن يضمن له وجود الله، بل طلب إلى الله أن يضمن له وجود العالم، وقال إن من أراد أن يتخذ من الطبيعة سلما يتسلقه لبلوغ ما بعد الطبيعة كمن يريد أن يبصر بالأذن ويسمع بالعينين. إذن فكيف أثبت ديكارت وجود الله؟
يقسم ديكارت الأفكار إلى ثلاثة أنواع أساسية، هي: الأفكار الحسية التي تأتي من الخارج عن طريق الحواس، كأن تسمع ضجة أو ترى الشمس أو تحس بالحرارة، وهذه الأفكار ليست موضع ثقة، لأنها حسية، ثم الأفكار المتخيلة التي ركبها الذهن انطلاقا من المحسوسات، كأن تتراءى لنا عرائس البحر أو الأحصنة المجنحة الطائرة. وأخيرا الأفكار الفطرية التي وضعت في العقل بشكل قبلي، كفكرة الكائن الكامل.[12]
يعتبر مفهوم الكائن الكامل مفهوما مركزيا، يقوم عليه كل شيء في ميتافيزيقا ديكارت، من حيث إنه هو ضامن للحقيقة، وأنه سيسعف الأنا في الخروج من انيته. لكن، ما مصدر فكرة الكائن الكامل؟ هنا سيدشن ديكارت طريقة غير مسبوقة في التفكير، وهي السببية الفكرية؛ أي إن للأفكار أسبابا، متجاوزا بذلك السببية المادية التي اعتمدت في الميتافيزيقا القديمة، وتتجلى هذه السببية الفكرية كما يلي:
1 ــ مادمت أشك في كل الأمور فأنا موجود ناقص، لأن المعرفة دليل على الكمال، وما كنت سأعرف أنني موجود ناقص لو لم تكن عندي فكرة الكمال أو اللامتناهي، وأنا لا أقدر على صناعة فكرة الكمال هذه في ذهني، لأن ما هو ناقص عاجز عن خلق ما هو كامل، وبالتالي فهذه الفكرة لا بد لها من علة وضعتها في، وهذه العلة لا يمكن أن تكون غير الله، فهذا الأخير هو الذي وضع الفكرة في.
2 ــ الدليل الثاني هو متمم للدليل الأول، يقول فيه ديكارت: أنا أعرف الآن أنني موجود ناقص، وفي ذهني فكرة الكمال، فماهي علة وجودي؟ إنني لا أستطيع أن أتصور نفسي خالق وجودي، لأنه لو كنت أنا من خلقت نفسي لما حرمتها من الكمال الذي ينقصني، ولو كنت قادرا على أن أمنح نفسي جميع الكمالات لأصبحت موجودا كاملا، إذن لست أنا خالق نفسي، فوجودي إذن تابع لعلة لها كل صور الكمال، وهذه العلة هي الله.
3 ــ خلاصة هذا الدليل كالتالي:
الكامل هو الذي يملك جميع الكمالات
الوجود كمال من هذه الكمالات
إذن الكامل موجود.
4 ــ البرهان الرياضي: نبحث في هذا البرهان عن علاقة ضرورية بين شيئين، هي التي يجب أن نجدها بين الله ووجوده، حيث تكون ماهية الله متضمنة لوجوده، ونجد هذه العلاقة حاصلة بين المثلث وزواياه الثلاث. يقول ديكارت: "في حين أنني إذا عدت إلى تفحص الفكرة التي كانت لي عن كائن كامل وجدت أنها تتضمن الوجود، كما تتضمن فكرة المثلث أن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، أو كما تتضمن فكرة الدائرة أن كل أجزائها متساوية البعد عن مركزها، بل هو أكثر من ذلك بجلاء. وتبعا لذلك، فأن يكون الإله، وهو الكائن الكامل، كائنا أو موجودا، فذلك لا ينقص، على الأقل، يقينا عن أي برهان من براهين الهندسة[13]". ويقول في كتاب "التأملات": "حين أمعن النظر أرى بوضوح أن وجود الله لا ينفصل عن جوهره، كما لا ينفصل جوهر المثلث المستقيم الأضلاع عن أن زواياه الثلاث مساوية لزاويتين قائمتين، وكما لا تنفصل فكرة الوادي عن فكرة الجبل. لذا لا يكون تذهننا لإله (أي لموجود مطلق الكمال) ينقصه الوجود (أي ينقصه بعض الكمال) أقل تناقضا من تذهننا لجبل غير ذي واد"[14].
يشرح غيرو هذا البرهان بالعبارات الآتية: "وفي آن واحد يقع تأسيس البرهان القبلي (البرهان الأنطولوجي)، إذ من بين كل الأفكار الواضحة المتميزة التي أجدها في ذاتي، أكتشف فكرة الإله، وما هو صحيح بالنسبة إلى كل الأفكار الواضحة المتميزة الأخرى، وعلى سبيل المثال بالنسبة إلى فكرة الشكل والعدد، يصح كذلك بالنسبة إلى هذه الفكرة، فأنا أستطيع إذن أن أسند الوجود إسنادا ضروريا لطبيعة الإله. ما دامت هذه الخاصية تبدو بوضوح وتميز منتمية انتماء ضروريا إلى مدلوله. وذلك بقدر من اليقين مساو للذي به أسند إلى شكل من الأشكال أو عدد من الأعداد إحدى الخاصيات التي أرى بوضوح وتميز أنها لا بد من أن تنتمي إليه. وهكذا، فإن الإله موجود".
الإله في الميتافيزيقا القديمة غاية المعرفة، وفي الميتافيزيقا الديكارتية وسيلتها فحسب
ويضيف غيرو أن البرهان الأنطولوجي يعادل في يقينه الاستدلالات الرياضية، وهو مماثل لها من حيث الحجج التي يرتكز عليها. ولذلك، فهو لا يمكن الالتجاء إليه التجاء مشروعا ما لم يقع بعد تأسيس الحقائق الرياضية؛ أي ما لم يقع إرساء القيمة الموضوعية للفكرة الواضحة المتميزة، وذلك على وجه التحديد ما وقع القيام به..."[15].
من الله إلى العالم:
لحد الآن لم يثبت ديكارت إلا حقيقتين: الأولى هي وجود النفس باعتبارها جوهرا مفكرا. والثانية هي وجود الله. إذن كيف انتقل ديكارت من اثبات وجود الله إلى إثبات وجود العالم؟ بعبارة أخرى كيف استنبط ديكارت يقينه بوجود العالم الخارجي من يقينه بوجود الله؟
إذا كنت أحمل في ذهني مجموعة من التصورات والأفكار مثل الامتداد والحركة والزمن ... فإلى جانب هذه التصورات لدي اعتقاد بأن هذه التصورات مطابقة للعالم الخارجي؛ أي إنها أتت إلي من أشياء خارجية مستقلة عن نفسي وعن الله، لهذا فإن هذا الميل نحو الاعتقاد أن فكرة الامتداد التي أتصورها حادثة في نفسي بتأثير شيء خارجي ممتد لا يمكن أن يكون كاذبا وإلا لكان الله مضللا، والله هو الموجود الكامل الصادق الذي لا يضل عباده. إذن، أيقنت بوجود الأشياء لأنني أيقنت بوجود الله. "لقد احتجت إلى مجهود ذهني كبير كي أتذهن جيدا هذه الحقيقة. والآن لا أوقن بها، فقط، كما أوقن بما يبدو لي أنه أكثر الأشياء يقينا، بل ألحظ أيضا أن حقيقة الأشياء الباقية تعتمد عليها اعتمادا مطلقا، حيث يصح لي القول إنه يستحيل، بغير هذه المعرفة، أن أعرف أي شيء آخر معرفة كاملة"[16].
يطرح هذا القول إشكالا حقيقيا، هو أنه: عندما أثبت ديكارت وجود الله اعتمد على مبدأ البداهة، غير أنه لما توصل إلى حقيقة وجود الله عاد، ليؤكد أن كل ما نتصوره على أنه حق، لا لشيء إلا لأن الله موجود، ألسنا هنا أمام دور واضح؟
لقد حاول ديكارت الرد على هذه المسألة من خلال التمييز بين الاستدلالات العقلية أو النظرية والأصول البديهية التي تعرف بالحدس، حيث قال: إننا محتاجون إلى الضمان الإلهي في الاستنتاج والذاكرة. أما في الحقائق البديهية والحدسية، فنحن غير محتاجين إليه.
إن حقيقة العالم الخارجي لا تطلعنا عليها الحواس، فهذه الأخيرة لا تأتينا إلا بالظواهر، وبالتالي وجب علينا الذهاب وراء هذه الظواهر لإدراك الجوهر، هذا الأخير الذي يحمل الأعراض، والذي عرفه ديكارت بكونه الشيء الذي يوجد بذاته، ولا يحتاج في وجوده لشيء آخر ليوجد.
لكن إذا كان هذا هو تعريف الجوهر، فإن الجوهر الوحيد الذي سيكون موجودا هو الله، لأن هذا الأخير هو وحده الموجود بذاته، ولا يحتاج إلى شيء ليوجد، كما ذهب إلى ذلك سبينوزا، هذا ما جعل ديكارت يقوم بتصحيح هذا التعريف للجوهر، بقوله إن معنى الجوهر لا يطلق على الله وعلى المخلوقات بنفس المعنى، فإذا كان الجوهر يطلق على الله، فهو يفيد الموجود الذي يوجد بذاته ولا يحتاج لشيء ليوجده. أما إذا أطلق على المخلوقات، فهو يفيد الشيء الذي يحتاج وجوده إلى وجود الله لا غير. أما الأشياء التي يحتاج وجودها إلى الكائنات المخلوقة، فهي أعراض لا جواهر..
لنأخد مثال الشمعة، يقول ديكارت: "... إن هذه الشمعة لم تفقد بعد حلاوة العسل، ولم يزل فيها شيء من رائحة الزهر الذي أخذت منه، وأن لونها، وحجمها، وشكلها، أشياء ظاهرة للعيان، وهي الآن جامدة باردة نستطيع أن نلمسها، وإذا نقرنا نستطيع أن نسمع صوتها، ولكن إذا وضعناها بالقرب من النار شاهدنا عند ذلك أن طعمها يتغير ورائحتها تتلاشى، ولونها يتبدل، وشكلها يضيع، وحجمها يزيد، وتنقلب إلى سائل، وتسخن حتى تكاد لا تلمس، ولا ينبعث منها صوت مهما ننقر عليها. فهل زالت قطعة الشمع أم إنها باقية، رغم التغيرات التي صارت عليها؟ فهذه معرفة واضحة متميزة، إن ما كنا نعرفه عنها كذلك ليس أمرا محسوسًا، لأن الأشياء التي تقع تحت الحواس من ذوق، وشم، وبصر، ولمس، وسمع، قد تغيرت كلها".[17]
ويستنتج ديكارت من هذا المثال أن ماهية الشمعة ليست هي تلك الرائحة أو اللون أو الصلابة، ولا ذاك الشكل، وأن الحواس لا تدركها في جوهرها، بل تدرك فقط ظواهرها، والذهن وحده القادر على إدراك جوهر قطعة الشمعة، وهذا الشيء الذي يدركه الذهن بوضوح وتميز هو امتدادها، فهو الصفة الأساسية والأولى لقطعة الشمعة، وهو جوهر الجسم. أما الألوان والأشكال والصوت ... فهي متغيرة ثانوية. وبالتالي "فحتى الموضوع المادي البسيط، قطعة الشمع مثلا، تعرف بالنفس وليس بالحواس".[18]
بهذا استطاع ديكارت أن يجرد المادة من كل صفاتها، ولم يبق لها إلا صفة الامتداد والحركة، بل إن ديكارت جعل من الامتداد والحركة الشيئان الوحيدان اللذان يتألف منهما موضوع علم الطبيعة.
من ثم، فإن العالم يمكن تفسيره آليا، وهذا ما عبر عنه ديكارت بقوله: "اعطني امتدادا وحركة أصنع لك العالم"، فجميع أحوال المادة وظواهرها ترجع في نظر ديكارت إلى الحركة، والطبيعة المادية ليست سوى سلسلة من الحركات.
جوهر الأشياء المادية واحد وهو الامتداد، وهو خاضع لقوانين الحركة، وليس في عالم الطبيعة إلا علم واحد، هو علم الميكانيك، وجميع العلوم الأخرى مبنية عليه.
ولما كان الله هو الذي خلق العالم، وهو الموجود الكامل، فإن العالم يجب أن يخضع للقوانين التي أرادها، ولما كان هذا الخالق ثابتا لا يتغير، كانت كمية الحركة في العالم ثابتة.
كل هذا يدل على أن كل شيء في الطبيعة يسير بصورة آلية وفق قوانين مضبوطة لا تتغير، فكان العالم آلة تشتغل وفق قوانين ميكانيكية مضبوطة. وكذلك الأجسام العضوية، فهي خاضعة أيضا لقوانين هذه الآلية. ولعل هذا ما عبر عنه ديكارت بقوله: الحيوان آلة متحركة، فلا وجود في العالم إلا لنوعين من القوانين: قوانين الفكر وقوانين المادة: فكل ما ليس بنفس فهو مادة خاضعة لقوانين المادة، وكل ما هو ليس بمادة فهو نفس خاضعة لقوانين الفكر.
إن وحدة الوجود الإنساني قائمة على التأثير المتبادل بين الجسم والنفس، والوسيط الذي يجمع بين النفس والجسم هو الغدة الصنوبرية. هنا نلاحظ أن ديكارت كان قد ميز بين النفس والجسد، بين المادة والروح، في كل شيء، لكن على مستوى الإنسان سيجمع بينهما.
خاتمة:
إذا كانت الميتافيزيقا الأرسطية تنطلق من العالم المادي للوصول إلى الله، وهدف الممارسة الفلسفية لدى فلاسفة العصر الوسيط، بصفة عامة، هي معرفة الله والبرهنة على وجوده، باعتباره المبدأ الذي يقوم عليه كل شيء، وأن الذات مطلوب طمسها ونسيانها. فإن البناء الديكارتي يبدأ أولا بمعرفة الذات العارفة، ثم معرفة الله، ثم معرفة العالم، كما يفرض ذلك سيره الفكري. ومرد هذا التغير، أولا، إلى الثورة الكوبرنيكية التي تمخض عنها ظهور مفهوم الذات. وثانيا، إلى أن إشكالية ديكارت فيزيائية تهدف إلى خلاص الإنسان في الأرض من خلال معرفة العالم. فالإله في الميتافيزيقا القديمة غاية المعرفة، وفي الميتافيزيقا الديكارتية وسيلتها فحسب، فقد تغيرت طوبولوجية القضايا وأولويات الإشكالات الفلسفية.
المصادر والمراجع:
المصادر:
- رينيه ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1974
- رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، الطبعة الرابعة، 1988
- رينيه ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008
المراجع:
- ألكسندر كويري، ثلاثة دروس في ديكارت، ترجمة يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2017
- فريدريك لوييز، الدروس الأولى في الفلسفة، ترجمة علي بو ملحم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2009
المراجع المعتمدة بوساطة:
- Martial Guérout, Descartes, selon L’ordre des raisons, philosophie de L’esprit, 2 vols. (paris: Aubier, 1953)
[1] رينيه ديكارت، مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة 1974، ص 43
[2] ألكسندر كويري، ثلاثة دروس في ديكارت، ترجمة يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2017، ص 13
[3] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، التأمل الأول، الطبعة الرابعة، 1988، ص 25
[4] رينيه ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص 237
[5] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، التأمل السادس، الطبعة الرابعة، 1988، ص 114
[6] المصدر نفسه، ص ص 28- 29
[7] المصدر نفسه، ص ص 25- 26
[8] Martial Guérout, Descartes, selon L’ordre des raisons, philosophie de L’esprit, 2 vols. (paris: Aubier, 1953), vol. 1, p.32
انظر هامش كتاب حديث الطريقة، روني ديكارت، ترجمة عمر الشارني، ص ص 157- 158
[9] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، التأمل الثاني، الطبعة الرابعة، 1988، ص ص 38-39
[10] المصدر نفسه، ص 116
[11] ألكسندر كويري، ثلاثة دروس في ديكارت، ترجمة يوسف كرم، مؤسسة هنداوي، 2017، ص 34
[12] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، التأمل الأول، الطبعة الرابعة، 1988، ص55
[13] رينيه ديكارت، حديث الطريقة، ترجمة عمر الشارني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص ص 213- 215- 216- 220
[14] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، التأمل الخامس، الطبعة الرابعة، 1988، ص99
[15] Martial Guérout, Descartes, selon L’ordre des raisons, philosophie de L’esprit, 2 vols. (paris: Aubier, 1953), vol. 1, pp. 334-336
انظر الهامش كتاب حديث الطريقة، رينيه ديكارت، ترجمة عمر الشارني، ص 220
[16] رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت-باريس، التأمل الخامس، الطبعة الرابعة، 1988، ص 103
[17] المصدر نفسه، ص ص 46-47
[18] فريدريك لوييز، الدروس الأولى في الفلسفة، ترجمة علي بو ملحم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 2009، ص25