النسوية الإسلامية، إشكاليّات المفهوم ومتطلّبات الواقع
فئة : مقالات
النسوية الإسلامية، إشكاليّات المفهوم ومتطلّبات الواقع*
عنون ابن خلدون الفصل الثالث والعشرين من مقدّمته بـ "أنّ المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته"...، وصك مفاهيمه. ولا يُعدّ مصطلح النسوية الإسلامية استثناء في هذا الإطار. فاشتقاق النسويّة يعني أنّ لها بالمقابل ذكوريّة، فإذا ما أضيفت إليها الإسلامية اتضحت المعضلة المفاهيمية التي تكمن في الرغبة إمّا ببيان أنّه كما توجد ذكورية في الإسلام فالإسلام أيضاً به نسوية، أو أنّه كما توجد نسوية غربية فهناك نسوية إسلامية أيضاً. فالإسلام وفقاً لذلك لم يأتِ لتحقيق توازن بين الجنسين قائم على التكامل المفضي إلى الكمال من خلال إدراك الفارق بينهما. يصرّ دعاة النسوية الإسلامية هنا على التعامل مع المرأة كأنها كائن معاق ذو احتياجات خاصة، وأنّه ما بقي فقط من مشكلات، وبالتالي فهم يسعون لاسترداد هذه الاحتياجات لهذا الكائن في الإطار المعرفي السائد، ولا ضير في الاستفادة من أيّ إطار معرفي يساهم في هذ الاتجاه.
نعلم أنّ الواقع أضخم من إمكانية القفز عليه، غير أنّ انبراء معظم الأقلام والكتابات للدفاع عن المرأة وحقوقها المسلوبة بدون محاولة التـأصيل المعرفي لهذه المشكلة أمر لا نعتقد بجدواه على المدى الطويل، لا سيما في مجال كالمجال الإسلامي أغنى من أن يتم إفقاره بهذه الطريقة.
انطلاقاً ممّا سبق، يسعى هذا المقال إلى استعراض بداية صك هذا المفهوم سريعاً في السياق الغربي، ثم يعرج إلى انعكاسه عند إسلاميي ومسلمي دول الجنوب تنظيراً وتفعيلاً. ثم ينتقل المقال إلى بحث معضلات النسوية الغربية في التعامل مع المرأة المسلمة في الغرب، ومثيلاتها التي تواجهها المرأة المسلمة في واقعها المسلم في دول الجنوب. ثم يختم المقال بمحاولة فتح أفق جديد للقضايا المأزومة كقضية المرأة وعلاقتها بالرجل ودورها في المساحات المختلفة.
بداية بتاريخ صك المفهوم، فقد ظهر مصطلح النسوية لأول مرّة في فرنسا أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر على يد أوبرتين أوكلير (Hubertine Auclert) التي قدمته في كتابها (la Citoyenne) المواطنة، حيث نددت فيه بالسلطة الذكورية، وطالبت بتمكين المرأة كجزء من وعود الثورة الفرنسية. غير أنّ المفهوم كغيره لم يضمر، بل استمر في النمو متخذاً تعريفات متعددة وملهماً العديد من الحركات كما تقول كارين أوفين (Karen Offen) مؤرخة النسوية. مع العقد الأول من القرن العشرين بدأ المفهوم في الارتحال إلى إنجلترا ثم إلى الولايات المتحدة. لم يمرّ عقد إلا وكان المفهوم قد شق طريقه إلى دول العالم الإسلامي، بادئاً بمصر من خلال ظهور مصطلح "النسائية[1]".
يُعدّ مفهوم النسوية الإسلامية مفهوماً حديثاً نسبياً إذا ما قورن بالنسوية بشكل عام. ترجع بدايات ظهور المصطلح إلى تسعينيات القرن العشرين. فقد أوضح الباحثون الإيرانيون أمثال أفصانه نجم أبادي ونيرة توحيدي وزيبا مير حسيني صعود مصطلح النسوية الإسلامية واستخدامه في إيران[2] على يد العديد من النساء والرجال من خلال الكتابة في صحيفة زنان، صحيفة طهران النسائية، التي أسستها شهلا شركت في 1992، حيث ترى الأخيرة أنّ حل مشكلة المرأة يكمن في تطوير أربعة مجالات: الدين، والثقافة، والقانون، والتعليم[3]. كما استخدمت مي يماني، الباحثة السعودية، المصطلح نفسه في كتابها المعنون الإسلام والنسوية عام 1996. كما استخدمه كل من يشيم أرات (Yeşım Arat) وفريد أكار (Feride Acar) في مقالاتهما، فضلاً عن نيلويفر جويله (Nilüfer Göle) في كتابها الحداثة الممنوعة والذي نشر بالتركية في عام 1991 وبالإنجليزية في 1996، للإشارة إلى نموذج معرفي نسوي جديد آخذ في الظهور في تركيا. وفي جنوب أفريقيا، استخدمت الناشطة النسوية شميمة شيخ المصطلح ذاته في تسعينيات القرن المنصرم، كما استخدمه أقرانها من النساء والرجال على حد سواء. مع منتصف التسعينيات بات ظاهراً للعيان أنّ مصطلحاً جديداً وهو النسوية الإسلامية في طريقه نحو الصك المفاهيمي بعد ما قدّمه العديد من الباحثين المسلمين وتداولوه في الزاوية البعيدة من الأمّة الإسلامية[4].
لعل من الطبيعي أنّ أول ما انعكس عليه هذا المفهوم الجديد، هو محاولة تقديم قراءة جديدة للقرآن، كمحاولة لتبيئته داخل السياق الإسلامي. في هذا الإطار، قام العديد من الباحثات المسلمات بوصف ما وجدنه من مساواة جندرية في القرآن والعدالة الاجتماعية المرتبطة بها على أنّها نسوية إسلامية، كما حاولت أخريات البعد عن هذا المصطلح بتقديم قراءة أنثوية للقرآن وغيره من النصوص المقدّسة.
ومن اللافت للانتباه أنّه ليست كل من تدافع عن النسوية الإسلامية وتتبناها بالضرورة ترى نفسها إسلامية. يمكن القول إنّ العديد ممّن انخرطن في مفصلة خطاب النسوية الإسلامية ومارسنه أكدنّ هويتهنّ الإسلامية من البداية. تشمل هذه المجموعة الباحثين في الصحيفة الإيرانية زنان، والمفسرين في جنوب أفريقيا، ومجموعة الأخوات المسلمات في ماليزيا. بينما أحجم العديد من منتجي خطاب النسوية الإسلامية أو التفسير القرآني الجندري الجديد عن تعريف أنفسهم بنسويين/نسويات إسلاميين/إسلاميات أو حتى نسويين/نسويات. ولا ترى فاطمة مرنيسي، مؤلفة كتاب "المرأة والإسلام: تحقيق تاريخي وعقيدي (نشر أولاً بعنوان الحريم السياسي في 1978، وبالإنجليزية عام 1991)، لا ترى منتجة النص المؤسس للنسوية الإسلامية أنها نسوية إسلامية، فهي نسوية علمانية[5].
بيد أنّ الأمر ليس بهذا الجمود، فالانتماء الفكري يتغير، فبعض منتِجات النصوص النسوية الإسلامية اللاتي كنّ دوماً يعرّفن أنفسهن بإسلاميات، عزفن عن هذه الهويّة في الآونة الأخيرة، ويرى البعض أمينة ودود، عالمة الدين المسلمة الأمريكية من أصول أفريقية دليلاً على ذلك. إلا أنّ دعاة النسوية دائماً ما احتفظوا بمساحة للدين بداخل تنظيراتهم. فقد استطاع الخطاب النسوي المؤسس في مصر أن يرتكز على الخطاب الإصلاحي الإسلامي والخطاب العلماني القومي. وعادة ما يعرض النسويون العلمانيون (عادة ما يطلق عليهم نسويون بدون إضافات) أطروحات إسلامية في مطالبتهم بحقوق المرأة في التعليم والعمل والحقوق السياسية بالتوازي مع الخطاب القومي. فعندما يلتمس النسويون أيّة تغييرات فيما هو سائد بشأن الشخصية الإسلامية عادة ما يقدمون أطروحات إسلامية تعزز مطالبهم[6].
يستخدم النسويون الإسلاميون الخطاب الإسلامي باعتباره خطاباً أساسياً، وإن لم يكن الخطاب الوحيد، في مطالبتهم بحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية. ويرتكز الخطاب النسوي الإسلامي في إيران على خطابات علمانية ومنهجيات علمانية أيضاً لتقوية ودعم دعواه. فعلى سبيل المثال، قامت أمينة ودود في تفسيرها النسوي للقرآن بالجمع بين المنهجيات التقليدية الإسلامية وما أنتجته مدارس العلوم الاجتماعية والخطابات العلمانية في مجال الحقوق والعدالة مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بأرضية إسلامية مركزية.
من الطبيعي ألا يجد المرء فرقاً كبيراً في مطالب النسوية الإسلامية والنسويّة العلمانية تجاه قضية تحرير المرأة، إلا أنه عندما يسعى الطرفان إلى العمل المشترك، فغالباً ما يتم إجهاض مساعيهم من قبل قوى سياسية ما. فقد حدث ذلك عقب نجاح ائتلاف مكون من العديد من الاتجاهات الداعمة لحقوق المرأة في اليمن في منع تفعيل تشريع مجحف خاص بالأحوال الشخصية في 1997[7].
إذا كانت هذه انعكاسات الخطاب النسوي الغربي، فكيف استطاع النسويون الإسلاميون تشكيل خطاب نسوي إسلامي له "ركائزه"؟ سواء دعوناه خطاباً نسويّاً إسلاميّاً أو لاهوتاً نسويّاً إسلاميّاً، كما يروق للباحث اللبناني حسني عبود أن يدعوه، فثمة ركائز "إسلامية" لهذا الخطاب مشتقة من القرآن والسنّة النبوية. يرى أصحاب هذا الاتجاه أنّ القرآن أكد المساواه بين سائر بني البشر، بيد أنّ الفقه الذكوري انتهك المساواة بين الرجل والمرأة والتي بلغت أوجها في القرن التاسع وتشبعت بدرجة كبيرة بالأفكار الأبوية التي سادت تلك الفترة. فهذا الفقه الأبوي الذي استطاع لي عنق الرسالة، هو السبب في الوضع الذكوري للشريعة الآن. ولم تسلم الأحاديث النبوية هي الأخرى من هذه المشكلة، فهي ذات مشكلة تأسيسية كونها نُقلت عن الرسول إلا أنها تظل في النهاية موضع تساؤل وبحث في صحتها ودقتها وصحة نسبتها إلى الرسول، بالإضافة إلى اقتطاعها في العديد من الأحايين من سياقاتها، ما يمهد لاستخدام العديد منها لدعم الأفكار الأبوية وتحويلها لممارسات شرعية تصبّ في النهاية في غير مصلحة المرأة.
ولذا تكمن أولويات النسوية الإسلامية في التعامل المباشر مع النص المؤسس للإسلام، وهو القرآن الكريم. ومع ذلك، فرغم سعي بعض النسويات إلى تركيز جهودهن في تفسير القرآن (أمينة ودود، رفت حسن، وفاطمة ناصيف الباحثة السعودية)، ذهبت أخريات إلى البحث في القوانين الداعمة للشريعة (كاللبنانية عزيزة الحبري، والباكستانية شاهين ساردار علي)، في حين طرقت نسويات باب الحديث الشريف (كالمغربية فاطمة المرنيسي، والتركية هدايت توكسال).
ومع ذلك، لم يستطع دعاة النسوية الفكاك من عقال المنهجية الإسلامية التقليدية بأدواتها البحثية في الاجتهاد والتفسير جنباً إلى جنب مع الأدوات الخاصة باللغويات، التاريخ، النقد الأدبي، الاجتماع، الأنثربولوجي.. إلخ. ويظهر ذلك جلياً في مقاربتهن للقرآن، فقد أضافوا فقط تصوراتهن النسوية، معللات غيابها في السابق بسيطرة التفسيرات الأبوية التي تتسم بالمركزية الذكورية.
وتوضيحاً لذلك بدأت التفسيرات النسوية في حركة أشبه برد الفعل في البحث في آي القرآن الكريم عمّا يدعم وجهة نظرهن، مشيرات إلى أنّ هذا ما غاب عن جلّ أعمال الفقه التقليدي، وهو ما أدى إلى سيطرة فقه ذكوري عكس عقلية الثقافات الأبوية المسيطرة وقتذاك. من ذلك على سبيل المثال: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ"[8]، حيث جاءت الآية بـ: لتعارفوا، وليس بـ: لتحتقروا بعضكم بعضاً، فضلاً عن أنّ معيار الأفضلية عند الله هو التقوى والعمل الصالح وليس الجنس ذكراً كان أم أنثى.
وتميّز التفسيرات النسويّة بين الحالات الدائمة المستمرة غير المقيدة بالزمان وبين تلك المحددة أو الطارئة. فترى أنّ ثمة ممارسات محكومة وتمّ التغاضي عنها كطريق لحث الناس على التماس سبل أكثر عدلاً حيال التفاعلات البشرية. وقد أوردت التفسيرات النسوية ثلاث مقاربات:
أولاً: استدعاء بعض آي القرآن التي ارتبطت بتفسيرات مغلوطة، كتلك المتعلقة بالخلق أو أحداث الجنة وما فيها من سيادة النظرة الذكورية وعلوّها على وضع المرأة ومكانتها.
ثانياً: الاستشهاد بالآيات التي توضح بشكل لا لبس فيه المساواة بين الجنسين.
ثالثاً: تفكيك الآيات التي تهتم بإبراز الاختلاف بين الرجل والمرأة على نحو يبرر هيمنة الرجل وسيطرته.
وكمثال على التفسيرات القرآنية النسوية الحديثة يمكن ذكر الآية التالية: "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّل اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ للْغَيْب بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا"[9]. فبالرغم من المساواة الأساسية بين الجنسين، إلا أنّ الآية تبين مواطن الاختلاف بينهما، لا سيما الاختلافات البيولوجية التي تعوّل عليها الآية هنا، فهي ضرورية لاستمرار النوع البشري. وهو ما يستتبع اختلافاً في المهام في ظروف وأوقات معينة، فالزوج يتوجب عليه القيام بالمهام المادية لدعم الحياة الأسرية، وهو ما أشار إليه القرآن بـ "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ" نظراً لما فضلهم الله به. وهذا ما تقول به أمينة ودود، ورفت حسن، وعزيزة الحبري، وفاطة ناصيف، وغيرهن ممن اعتبرن أنّ القوامة المقصود بها هنا الإنفاق على المنزل ومتطلبات الأسرة، نظير قيام المرأة بالحمل والرضاعة والتربية، فهذا هو الظرف الطارئ الذي يستوجب القوامة، وليست جائزة طول الوقت كما يرى المفسرون التقليديون[10]. غير أنّ هؤلاء أصررن على تجاهل بقية الآية، فما كان ذلك ليكلفهن عناء التفكير والبحث عن حجج بهذه الطريقة، فالآية ببساطة تقول "بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ" فالأمر ليس بالإطلاق، حتى مع وجود اختلافات بيولوجية، والواقع يشهد بذلك، فالعديد من الأسر تعولها الزوجة أو الأم أو أنثى بشكل عام.
كما ألقى التفسير النسوي بظلاله على العديد من الآيات، ليبرهن أنّ الأصل في الأمور هو المساواة التامة بين الرجل والمرأة. إذ تقول الآية: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، أي أنها اعترفت بالولاية والمسؤولية لكلا الجنسين؛ الرجل والمرأة.
رغم أنّ النسوية الإسلاميّة يمكن أن تؤدّي دوراً مهمّاً في تحسين حياة الفرد والمجتمع، إلا أنها غير مرشحة لأن تلعب هذا الدور على المدى البعيد، كما سلفت الإشارة. ولعلّ هذا ما يبرر التناقض الذي تعيشه المرأة المسلمة مغتربة عن وطنها الأم، حيث تجلب معها ممارسات اعتادت عليها من ثقافتها الأصلية، فرضت عليها وعايشتها باسم الإسلام. وقد يقول قائل إنّ النسوية الإسلامية هنا تساعد مثل هؤلاء النسوة على فك الارتباط بين العادات والتقاليد وبين الإسلام، إلا أنّ الإشكالية مازالت في أنها ستفك الارتباط لكن لن تساعد سوى على قبول المعروض بأريحية والبحث عن تبيئته دون محاولة تفكيكه ونقده أو السمو عليه ووضعه في محله. وهو ما يعني أنّ جلّ ما تستطيع النسوية الإسلامية تقديمه هو محاولة تقديم طرق إسلامية في فهم المساواة الجندرية، والتمكّن من مزيد من الفرص الاجتماعية، وتطوير إمكانياتهن الخاصة. ففي سياق ذم العنف الموجه للمرأة، كالضرب المذكور في القرآن، ترى النسوية الإسلامية أنّ الإسلام بريء من ذلك. ومع إدراكهنّ أنّ ذلك قد لا يضع نهاية لمثل هذه الممارسات، إلا أنهنّ يرونها خطوة على طريق ألف ميل. وقد قدمت العديد من النسويات المسلمات أطروحات شتى بشأن تفسير آية الضرب الواردة في القرآن، منها على سبيل المثال: أطروحة الباحثة سعدية الشيخ في جنوب أفريقيا، بعنوان "الزوجات المضروبات في المجتمع المسلم في كيب تاون الغربية: البنى الدينية للنوع، الزواج، الجنس والعنف" وذلك عام 1996، كما ناقشت في أطروحتها للدكتوراه مفهوم الجنس في النصوص الإسلامية.
وعودة مرّة أخرى لمعاناة المرأة المسلمة في الغرب، نجد هذه المعاناه تتخذ وجهين شديدي الالتصاق، وهما الوجة النسوي وذلك العنصري. بداية تجدر الإشارة إلى أنّ الحركة النسوية في الغرب كانت أكثر نضجاً من مثيلتها الإسلامية في الاعتراف بالمخاطر التي قد تعتريها تنظيرياً، ربما يرجع ذلك إلى فارق الزمن، إلا أنه يرجع أيضاً إلى الطبيعة التكوينية المتوائمة للحركة التي مكنتها من محاولة نقدها وتطويرها، والحذر من كونها مجرد ردة فعل. تشير كريستين دلفي، في كتابها "فرق تسد" إلى مخاطر التعامل مع حقوق المرأة على أنّها النقيض المتطرف لوضع الرجل. فقد أشارت إلى ضرورة إعادة صياغة المشكلة بشكل يجعلنا نعرف على وجه التحديد طبيعة هذه السلطة الأبوية التي لا نريدها، على ألا تكون مجرد إعداد وضع معين (وضع الرجل)، والتعامل معه على أنه وضع كوني تسعى النسوية إلى قلبه (ليكون وضع المرأة)[11].
لعل من ضمن ما تعاني منه النسوية الإسلامية، ليس فقط كونها رد فعل يأتي على الجانب الآخر، لكن أيضاً من ضمن خصائص رد الفعل أنه لا يمكنه المبادرة، وبالتالي عدم تمكنه من صياغة رؤية متكاملة. يتضح ذلك جلياً في عدم درايته بما تعاني منه المرأة المسلمة المغتربة، إذ أنّ مشكلتها ليست مشكلة جندر/نسوية فقط لكنها مشكلة مركّبة، إذ يضاف إليها أزمة العنصرية، وهذا ما أشارت إليه دلفي في كتابها سالف الذكر.
تشير دلفي إلى ضرورة التصدي للنسويات، اللاتي يشتركن مع غيرهن في كونهن ضحايا لهذه الكونية الفارغة، الساعية إلى صك كونيتها المتمركزة حول عنصريتها وفرضها على الجماعات الخاضعة الأخرى. تسهب دلفي في المساحة الدلالية للنسوية، وترى أنّ تحرير المرأة أو الدفاع عن حريتها لا يكمن فقط في تحريرها من إسار عاداتها وتقاليدها التي ربما أجبرتها على الخضوع لذكور العائلة في المظهر والملبس، بل يكمن أيضاً في تحريرها من تسليعها. وهي نقطة التوازن بين تحريرها من لباسها التقليدي الذي ربما شمل حجاباً وتحريرها من لباسها الجديد الذي ربما عاملها كسلعة جنسية لا أكثر ولا أقل. فقد عارضت الحركة النسوية في سبعينيات القرن المنصرم الأنثوية الغربية القائمة على التعري ومستحضرات التجميل، مثل معارضتها للحجاب باعتبارهما شكلين من أشكال الاغتراب المفروض على النساء.
يمكن القول إنّ ما دفع دلفي لبحث موضوع الحجاب وعلاقته بالنسوية هو مسألة الإجبار الذي تعانيه المرأة حيال لباسها في المجتمعات العربية والإسلامية. لم تخض دلفي في فرضية الحجاب دينياً، وإنما عالجت الموضوع من منظور أكثر واقعية ورمزية وهو فرضه من قبل بعض الدول كإيران بعد الثورة، حيث فرض الحجاب على النساء، وحاولته الجزائر عندما حاول الإسلاميون إجبار النساء في المناطق الخاضعة لسيطرتهم على ارتداء الحجاب. وهو ما دفع أندريه جلوكسمان (Andre Glucksmann) إلى القول إنّ الحجاب هو عملية إرهابية[12].
إذا صحت مقولة أندريه جلوكسمان أعلاه بشأن الحجاب، فإنّ دلفي ترى أنّ معكوس هذه المقولة ليس بصحيح. بعبارة أخرى، لا يجب النظر إلى سيادة الحجاب في منطقة ما على أنه دليل قمع وسطوة ذكورية، حتى تشهر النسوية سلاحها في وجهها. من ناحية أخرى، فإنّ محاولة التغلب على ذلك بسنّ قانون يمنع الحجاب ضماناً لحرية المرأة، يضمر في الوقت ذاته عنصرية بغيضة حيال تلك الفئات التي قررت ارتداءه بمحض إرادتها، كما أنها لا ترى عيباً في الخضوع "لذكورية" عائلتها.
إذا كان الفكاك من الذكورية قد يوقع في فك العنصرية، فقد رأت دلفي أنّ النظام الأبوي والعنصري متشابهان في أنّ كلاً منهما يعطي الفرد وضعاً اجتماعياً بناء على عدة معايير تميز الجماعات عن بعضها بعضاً. أي أنّ وضع الفرد مجتمعياً من البداية هو وضع عنصري. غير أنّ كل نظام منهما يفرض معاييره الخاصة مشكلاً بذلك نوعين من الأفراد. تكمن معضلة النضال ضد الأبوية والعنصرية في التداخل الشديد بينهما، فلو كان لكل منهما مجتمعه الخاص لأمكن الإجهاز عليه، لكن الواقع يشهد بتعقد الوضع، فالعنصرية التي تقضي بوجود جماعتين، حيث تمارس الاضطهاد ضد إحداها، فإنّ كلتا الجماعتين فيهما بعد جندري والعكس صحيح. وهو ما يوضح بعداً جديداً لأزمة النظرية النسوية برمّتها: ذلك أنّ تحسن حال النساء في جماعة ما سيأتي على حساب ذكور هذه الجماعة وليس الذكور بشكل عام. وهو ما يعني أننا نحسّن ظروف هؤلاء النسوة بقدر كبير من العنصرية ناجمة عن تقييد الذكور بشكل انتقائي، ولذا فإنّ تحقيق التوازن بين مكافحة العنصرية والذكورية يُعدّ أمراً ليس من السهولة بمكان.
من ضمن الإشكاليات التي تواجه النسوية الإسلامية، كما يرى بعض الباحثين لا سيما في إيران[13]، أنها لا تسعى إلى تقديم أيّة تصورات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للدولة أو حتى على مستوى المجتمع المدني. ويرى هؤلاء أنّ النسوية الإسلامية ما تزال في العديد من جوانبها أيديولوجية نخبوية، وحتى إذا أمعنا النظر في التقدم التشريعي الذي أحرزته (إن وجد في بعض الحالات) فإنها بذلك قد طغت على المشكلات الاقتصادية والمجتمعية التي تعانيها المرأة. قد يرى البعض أنّ المشكلة الحقيقة في هذه الأمور هو أنها ما تزال تشرعن الإسلام كنظام يصلح لحكم الحياه السياسية، وأنّ النسوية الإسلامية بهذه الطريقة لن تستطيع أن تحرز تقدماً ملموساً ما دامت لا تتخذ المعايير العالمية مرشداً لها بعيداً عن القرآن كنص مقدّس ومؤسس.
يعاني هذا الفريق وغيره ممّن يرون استحالة تقديم الإسلام كأرضية معرفية للتقدّم من مشكلة جدّ حقيقة، فهو لم يرَ مناهج معرفية إسلامية من شأنها أن تجب الواقع المرير الذي تعيشه المرأة. وهو ما ينقلنا إلى القول إنّ النسوية الإسلامية لا ترى إلا المرأة التي تعاني في المجتمع. فواقع الأمر أنّ المجتمعات الإسلامية برمّتها تعاني أشد المعاناة، وكلٌّ يعاني بطريقته. ولعل ما يجب أن تفكر فيه أي "أيديولوجيات" تنعت نفسها بالإسلامية، هو كيفية السمو على حالة "المغلوب" ومحاولة تقديم نظرية معرفية/ أنطولوجية حقيقية مستمدة من الإسلام، يمكنها أن تسمو على ترهات المناهج التقليدية التراثية التي لم تؤدِ سوى إلى تماهيها مع الإسلام، وتعقيمه.
* نشر هذا المقال في: "النسوية الإسلامية"، إشراف وتنسيق بسام الجمل وأنس الطريقي، سلسلة ملفات بحثية، قسم الدراسات الدينية، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[1]- Margot Badran, Feminism in Islam: Secular and religious convergences, (Oxford: one world, n.d), p. 242.
[2]- Valentine M. Moghadam, “Islamic Feminism and Its Discontents: Toward a Resolution of the
Debate”, Journal of Women in Culture and Society, 2002, vol. 27, no. 4, p. 1142.
[3]- Ibid 1144.
[4]- Badran opcit. 232-234.
[5]- Ibid. p244.
[6]- Ibid.p246.
[7]- Ibid. p247.
[8]ـ سورة الحجرات الآية 13
[9]ـ سورة النساء الآية 34
[10]- Badran. Opcit. P248-249.
[11]- Christine Delphy, Separate and Dominate: Feminism and Racism After the War on Terror (trans. David Broder), (London& New York, Verso, 2015), p. 139.
[12]- Ibid. p247.
[13]- Moghadam.opcit. 1148-1166.