النشأة التعاقدية لدولة الرسول وتأسيس الوحدة الوطنية
فئة : مقالات
لقد تأسست دولة الرسول بناءً على "عقد اجتماعي"، ويمثل ذلك العقد اتفاقًا وتعاقدًا بين الرسول وبين أهل يثرب، فانتقلوا من "حالة الفوضى الأولى" و"حالة اللادولة"، إلى حالة "النظام" و"الدولة"؛ تمامًا كما وصف فلاسفة العقد الاجتماعي، وكأنّهم قرأوا تاريخنا وصاغوه مبادئَ فلسفية سياسية عليا. وقصرنا نحن في قراءة السيرة قراءة سياسية معاصرة، وذهبنا نطالع كتب ما سمي بالسياسة الشرعية والأحكام السلطانية؛ وهي كتب أملاها واقعٌ قد تغير وأُلفتْ تحت إشراف حكام مستبدين، ومع ذلك وُصفت بالشرعية! فأين نحن الآن من فكرة التعاقد التي نسيها المسلمون نسيانًا؟ لقد ذهبت فرق ضالة تشرعن للظلم والقتل والحرق والتكفير والتفجير والله ورسوله بريئان من كل ما يفعله السفهاء والمتطرفون والإرهابيون منا نحن المسلمين.
في هذا المقال سأتناول - بإيجاز يقتضيه المقام - فكرةً ربما تكون جديدةً، وهي فكرةُ النشأةِ التعاقدية للدولة الإسلامية. ثم أفرع عن هذه الفكرة الرئيسة، فكرةَ المواطنة وغيرها من الأفكار التي هي نتيجة مباشرة للفكرة الأم فكرة "التعاقدية".
مقدمة
قبل أن تصبحَ مشكلةُ الحكم في الإسلام مشكلةً للحكم، وقبل أن يختلف الصحابة رضوان الله عليهم حول مسألة الحكم، وقبل أن تُكتب المؤلفات في القرون التالية التي تناولت مشكلة الحكم، قبل أن تؤلف ما يعرف بكتب "السياسة الشرعية"، أو "الأحكام السلطانية"، تلك الكتب التي حاولت التنظير السياسي للحكم في الإسلام والتي كُتبت تحت ضغوط مشكلات عصرها وربما تحت "رعاية" أو "رقابة" سلاطينها وحكامها، الذين تسموا بأسماء الخلفاء، أقول قبل كل ذلك علينا أن نعودَ إلى النبع الأول الذي نبعت منه فكرةُ الدولة في الإسلام، ويجب أن نعود أولاً إلى المصدر الصافي والقواعد المؤسسة للمدينة/ دولة الرسول. فهذه - في ظني - هي البداية الصحيحة لمناقشة فكرة الدولة وفكرة المواطنة معًا.
في هذا المقال سأتناول - بإيجاز يقتضيه المقام - فكرة ربما تكون جديدة، وهي فكرة النشأة التعاقدية للدولة الإسلامية. ثم أفرع عن هذه الفكرة الرئيسة، فكرة المواطنة وغيرها من الأفكار التي هي نتيجة مباشرة للفكرة الأم فكرة "التعاقدية". ولكن قبل ذلك يحسن أن أتناول فكرة التعاقد أو العقد الاجتماعي ونشأتها في الغرب الأوربي حتى نستطيع أن نعرف موقع فكرة النشأة التعاقدية الإسلامية من فكرة التعاقد الاجتماعي الأوربية:
أولاً: نشأة فكرة التعاقد في العالم الغربي
إنّ الأفكار توجد أولاً ثم بعد ذلك يمكن أن تتحول هذه الأفكار إلى مؤسسات، وقد يستغرق الأمر - في عمر الأمم - عشرات السنوات أو مئاتها!
إنّ فكرة "التعاقد" هي الفكرة التي قامت على أساسها معظم الأشكال المعاصرة للإجراءات الديمقراطية (الجمعية الدستورية، كتابة الدساتير، تشكيل المجالس النيابية، حقوق الإنسان، التشريعات القانونية، المؤسسات الدولية، وغيرها من الإجراءات التي قامت على فكرة التعاقد أساسًا، بين الحاكم والمحكومين (انتخابات المجالس، انتخابات الرئاسة إلخ) فالديمقراطيات المعاصرة هى نتائج مباشرة لفكرة التعاقد التي أسس لها حديثًا "توماس هوبز" و"جون لوك" و"جان جاك روسو". والتي ربما ظهرت لأول مرة في كتاب "الجمهورية" للفيلسوف اليوناني "أفلاطون". بدأت فكرةً بسيطة علي يد "جلوكون" في كتاب الجمهورية ثم تطورت الفكرة عبر قرون وبمساهمة الفكر السياسي التعاقدي أصبحت الفكرة على ما هي عليه في القرن العشرين والواحد والعشرين مرورًا بالقرن السابع عشر والثامن عشر في أوربا.
1- جلوكون (القرن الخامس والرابع قبل الميلاد)
في مطلع كتاب الجمهورية لأفلاطون يسأل سقراط محاوريه السؤالَ الكبيرَ: ما العدالة؟ ومن بين عدة إجابات تأتي إجابة جلوكون (وهو شقيق أفلاطون) إنّ العدالة تكمن في "التعاقد". فلم يُرجع جلوكون العدالة إلى إرادة الأقوى، كما ذهب "ثراسيماخوس السوفسطائي" ومن بعده بقرون فلاسفة القوة كميكافيللي)، وإنّما رأى أنّ كل من يمارس العدالة يفعل ذلك قسرًا، وعلى الرغم منه، لا اقتناعًا منه بأنّها خير. وينتهى جلوكون إلى أنّ حياة الظلم - مهما قيل عنها - فهى أهنأ من حياة العادل، فوفقًا للطبيعة، تكون ممارسة الظلم خيراً (أي بالنسبة إلى من يمارس الظلم)، ومعاناة الظلم شرًا (أي بالنسبة إلى من يقع عليه الظلم) ولكنهم يؤكدون أنّ كفة الألم في الشر ترجح على كفة النفع في الخير فإذا ما تبادل الناس ممارسة الظلم ومعاناته دون أن يتمكنوا من تجنب أحد الأمرين واكتساب الآخر، فإنّهم يدركون أخيرًا أنّه خير لهم أن يتفقوا سويًّا على منع كليهما. ومن هنا تنشأ القوانين والاتفاقات المتبادلة: فيسمون ما يأمر به القانون أمرًا مشروعًا عادلاً. ذلك هو أصل العدالة وماهيتها. فهي حل وسط أو توفيق بين خير الأمور، وهو أن يقترف المرء الظلم دون أن يعاقب، وشر الأمور، وهو أن يعاني الظلم دون أن تتوافر لديه القدرة على الانتقام لنفسه؛ فهم لذلك يتحملون العدالة التي هي وسط بين الأمرين، لا بوصفها خيرًا، بل بوصفها أهون الشر، ومن حيث هي خُلق يمجده الناس لعجزهم عن ارتكاب الظلم.
إنّ جلوكون يرى الظلم من شيم النفوس، وفعل الناس له حسن، ووقوعه عليهم قبيح، فلما رأى الناس أنهم يَظْلمون ويُظْلمون، فيجربون لذته ومرارته، اتفقوا فيما بينهم ألا يظلم بعضهم بعضًا، فشرعوا القوانين والعرف، وسموا القانون عدلاً.
وهي نظرية يمكن أن توصف بأنّها نظرية تعاقدية؛ وهي تضع لأول مرة تقابلاً بين الطبيعة وبين العرف أو الاتفاق بين البشر، وتعد هذه أول إشارة مبهمة إلى فكرة العقد الاجتماعي، التي ترد كل القوانين البشرية إلى اتفاق تعاقدي بين الناس؛ فتكون العدالة هي اتفاق الناس ومواضعاتهم، وهذه النظرية سوف تبشر بما سوف نجده بعد ذلك في نظرية "العقد الاجتماعي"، عند توماس هوبز (Hobbs)، ولوك (Locke)، وروسو (Rousseau).
يُعد الفيلسوفان الإنجليزيان "توماس هوبز" (1588-1679) Thomas Hobbes و"جون لوك" (1632-1704) John Locke هما أهم آباء الفكر السياسي الأوربي المعاصر، وقد نادى كلاهما بنظرية "العقد الاجتماعي" التي تبناها الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو 1712-1778"، الذي تعد كتاباته "إنجيل الثورة الفرنسية". ونظرية العقد الاجتماعي تعتبر الحاكم مجرد "متعاقد" مع الشعب، وهذا التعاقد يحدد حقوق كل منهما (أي الحاكم والشعب) وواجباته.
2- توماس هوبز (مؤسس فكرة التعاقد غير الديمقراطي)
عرض هوبز نظريته في كتابه الشهير اللفياثان= التنين (Leviathan) (1651)، وهذه النظرية تقوم على فرضٍ نظري هو: تصور أنّ الناس كانوا يعيشون في حالة الطبيعة (State of Nature )، وهي حالة من "الفوضى الأولى: حالة الإنسان الطبيعية قبل ظهور المجتمع السياسي Pre-political state "؛ حالة - عند توماس هوبز - يقاتل فيها الناس بعضهم بعضًا (حرب الكل ضد الكل) ولا يأمن أحد على حياته أو ممتلكاته (الفوضى الشاملة)، وللخروج من هذه الحالة الفوضوية حيث يكون (الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان) "تعاقد" المجتمع مع أحد أفراده: (الحاكم) ليكون مسؤولاً عن تنظيم الدولة وحفظ حقوق أفراد الشعب وممتلكاتهم (العقد الاجتماعي والتحول إلى المجتمع المنظم). ومن هذه النظرية "الاتفاقية التعاقدية" نشأت فكرة "الدساتير" وفكرة وجود "جمعية تأسيسية" تقوم على صياغة بنود هذا "العقد الاجتماعي" وكذلك نشأت فكرة حقوق الإنسان، وإنشاء المنظمات والمؤسسات الدولية وغيرها مما يكون أصله فكرة التعاقد. وحالة الطبيعة افتراض منطقي وليست مرحلة تاريخية. ومن نتائج التعاقد عند هوبز:
- السعي إلى السلام بدلاً من الحرب والحياة بدلاً من الموت والأمن بدلاً من الخوف
- العقل الطبيعي يقضي بأن يتحول الناس من حالة الفوضى إلى حالة المجتمع المنظم.
- العقد الاجتماعي والتنازل للسيد أو الحاكم The sovereignعن كل الحقوق.
- الحاكم ليس طرفًا في العقد الاجتماعي وبالتالي لا يجوز للمواطنين محاسبته أو الثورة عليه.
- حقوق الحاكم مطلقة والقانون من صنعه.
- للشعب حق الأمن والمحافظة على النفس فقط (سلام مسلوبي الإرادة!!).
- ينتهي دور الشعب بمجرد اختيار الحاكم
ولقد صحح الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الأخطاء التي وقع فيها هوبز، وقدم نظرية مختلفة في التفاصيل ولكنها متفقة في الأساس الذي قامت عليه أعني، العقد الاجتماعي:
3- جون لوك (مؤسس فكرة التعاقد الديمقراطي)
عرض لوك نظريته في كتابه الشهير مقالتان في الحكومة المدنية Two Treaties of Government (1690):
كتاب لوك السابق الذكر يمثل رداً على كتاب "سير روبرت فيلمر" عن حق الملوك المقدس في كتاب فيلمر (1680) Patriarcha (الحكم الأبوي) لتأييد حكم آل ستيوارت المستبد (سلطة آدم لأبنائه قد وصلت إلى الملوك الحاليين - حق الملك على شعبه كحق الأب على أبنائه؟!!) فقد أبطل لوك حجة فيلمر الواهية بقوله: إنّ أبناء آدم كثيرون والتحقق من الوريث الشرعي فيهم أمر مشكوك فيه ومن هنا فإنّ الأرجح أن يكون معظم الملوك الحاليين مغتصبين! ثم راح لوك يفند مبدأ الوراثة في المجال السياسي فافترض أنّ البشر قد عاشوا في حالة من الطبيعة في تعاون وأمن وسلام ينظمه القانون الطبيعي، وأنّ الناس قد ولدوا أحرارًا. وهنا نسأل لوك: أولاً: لماذا ينتقل البشر إذن - وهم آمنون - إلى المجتمع المنظم؟ ولماذا يقبل الفرد قيدًا يحد من حريته في المجتمع المنظم، ويجيب لوك:
- إنّ قانون الطبيعة لا يصوغ نفسه بنفسه (فنحتاج إلى السلطة التشريعية).
- إنّ قانون الطبيعة لا يطبق نفسه بنفسه (فنحتاج إلى السلطة القضائية والسلطة التنفيذية).
- إنّ قوانين الطبيعة إلزامية من الداخل وتحتاج إلى سلطة تجعلها ملزمة من الخارج ولذلك ينشأ العقد الاجتماعي.
وعلى هذا النحو فإنّ "الدولة" هي السلطة التي تطبق القانون الطبيعي، بتقرير العقد الاجتماعي بينها وبين المواطنين أو المحكومين. وينتج عن العقد الاجتماعي عند جون لوك النتائج الآتية:
1- تقرير حق الأغلبية باعتبارها مصدر السلطة التشريعية والتنفيذية.
2- تنازل المواطنين عن حقوقهم بالقدر الذي يضمن قيام السلطة العليا بواجباتها.
3- الحاكم طرف في العقد حتى لا يجنح إلى الظلم والاستبداد.
4- سلطة الملك ليست مطلقة بل محدودة بحرية المحكومين ومقيدة بقيدين:
أ- تنفيذ القانون الطبيعي
ب- الالتزام بالعقد الاجتماعي
5- أي إخلال بالمسؤولية يستوجب عزل الملك.
6- سلطة الملك مؤقتة وليست أبدية.
7- الحرية بكل أنواعها السياسية - الاقتصادية - الدينية.
8- الفرد هو المحور والدولة غايتها الدفاع عن حريات الفرد.
ثانيًا: النشأة التعاقدية للدولة الإسلامية
هل تعرفون أنّ الدولة الإسلامية قامت أساسًا على "تعاقد اجتماعي" واقعي تاريخي فعلي (وليس مجرد افتراض نظري كما هو عند فلاسفة العقد الاجتماعي الأوربيين!)؛ وذلك حين قامت "أول جمعية تأسيسية في الإسلام" بصياغة "البنود المؤسسة لبنية الدولة= العقد الاجتماعي"، التي سيقيمها محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة/ دولة المدينة. لقد اتفق النبي مع أهل "يثرب" في هذه الجمعية التأسيسية الأولى على قواعد قيام دولة الإسلام (التي ستقوم في يثرب والتي سيصبح اسمها المدينة المنورة بعد دخول النبي - بناء على ما أقرته الجمعية التأسيسية - إليها)؛ إنّ هذه الجمعية التأسيسية الأولى التي أقامت الدولة الإسلامية على "أسس تعاقدية" وعلى أساس "عقد اجتماعي مؤسس للدولة"؛ هو ما نعرفه في تاريخنا باسم "بيعتي العقبة الأولى والثانية". إنّها بضاعتنا ردت إلينا:
1- بيعة العقبة الأولى/ تكوين الجمعية التأسيسية الأولى
كان ستة نفر من أهل يثرب أسلموا في موسم الحج سنة 11 من النبوة، ووعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ رسالته في قومهم. وكان من جراء ذلك أن جاء في الموسم التالي ـ موسم الحج سنة 12 من النبوة، (يوليو سنة 621م). وهذه البيعة أسست لأخلاقيات الجماعة فهي بمثابة عقد اجتماعي أخلاقي. فالأخلاق أولاً والسياسة ثانيًا.
التقى اثنا عشر رجلاً برسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة بمنى فبايعوه . روى البخاري عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعالوا بايعوني على
- ألا تشركوا بالله شيئًا،
- ولا تسرقوا،
- ولا تزنوا،
- ولا تقتلوا أولادكم،
- ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم،
- ولا تعصوني في معروف.
فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله، فأمـره إلى الله؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عـنه". قــال: فبايعته - وفي نسخة: فبايعناه - على ذلك. وبعد أن تمت البيعة وانتهى الموسم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء المبايعين أول سفير في يثرب؛ ليعلم المسلمين فيها شرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، وليقوم بنشر الإسلام بين الذين لم يزالوا على الشرك، واختار لهذه السفارة شابًا من شباب الإسلام من السابقين الأولين، وهو مُصْعَب بن عُمَيْر العبدري رضي الله عنه.
2- بيعة العقبة الثانية/ اكتمال الجمعية التأسيسية
في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ (يونيو سنة 622م) ـ حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، جاؤوا ضمن حجاج قومهم من المشركين يقول كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه:
خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، ومعنا عبد الله بن عمرو بن حَرَام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، أخذناه معناـ وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرناـ فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنّك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنّا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبًا للنار غدًا. ثم دعوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبًا. قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القَطَا، مستخفين، حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلًا، وامرأتان من نسائنا؛ نُسَيْبَة بنت كعب ـ أم عُمَارة ـ من بني مازن بن النجار، وأسماء بنت عمرو ـ أم منيع ـ من بني سلمة. فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا، ومعه عمه: العباس بن عبد المطلب ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إلا أنّه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، وكان أول متكلم.
بداية المحادثة/ مفاوضات الجمعية التأسيسية الأولى
وبعد أن تكامل المجلس بدأت المحادثات لإبرام هذا العقد السياسي، وكان أول المتكلمين هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تكلم ليشرح لهم ـ بكل صراحة ـ خطورة المسؤولية التي ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال:
يا معشر الخزرج ـ وكان العرب يسمون الأنصار خزرجـًا، خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن محمدًا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه ومنعة في بلده. وإنّه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنّكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنّكم مُسْلِمُوه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه. فإنّه في عز ومنعة من قومه وبلده.
قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت. وألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بيانه، ثم تمت البيعة.
بنود البيعة/ تأسيس الدولة العربية الإسلامية الأولى
وقد روى ذلك الإمام أحمد عن جابر مفصلًا. قال جابر: قلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال:
- على السمع والطاعة في النشاط والكسل.
- وعلى النفقة في العسر واليسر.
- وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- وعلى أن تقوموا في الله، لا تأخذكم في الله لومة لائم.
- وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.
هكذا نشأت الدولة الإسلامية على التعاقد بين النبي وبين أهل يثرب، دولة الرسول دولة أسست على رضاء تام يتحمل فيه كل طرف مسؤولياته تجاه الدولة. وهذه الدولة ربما كانت أول دولة في التاريخ تقوم على اتفاق تاريخي حقيقي واقعي، أول مثل في التاريخ يقوم على فكرة التعاقدية لا القوة ولا الغلبة ولا الغزو ولا الحروب وقد تحققت في نشأة الدولة الإسلامية الأولى الشروط التي افترضها - نظريًّا - فلاسفة العقد الاجتماعي من الأوربيين، وأهمها شرطان:
الشرط الأول حالة الفوضى الأولى: وقد تمثلت هذه الحالة في الحروب الطاحنة بين الأوس والخزرج والتي استمرت لمدة مائة عام على الأقل، تلك الحالة التي وصفها توماس هوبز بحرب الكل ضد الكل، الحالة التي كان الإنسان فيها ذئبًا لأخيه الإنسان!
الشرط الثاني: حالة النظام/ الدولة: وقد تمثلت في رضاء أهل يثرب بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا وحاكمًا يحكمهم وينهي ما بينهم من حالة الفوضى إلى النظام، ومن اللادولة إلى الدولة.
ومنذ أن وطئت قدمه الشريفة صلى الله عليه وسلم أرض يثرب اجتمع مع وجهاء القوم فيها وأرسى فيها "برضاهم التعاقدي التام" أول دستور في تاريخ الدولة العربية الإسلامية هو "وثيقة أو صحيفة المدينة" في السنة الأولى من الهجرة (عام 622م) واستمر هذا النهج التعاقدي من محمد صلى الله عليه وسلم حتى قبيل وفاته بسنوات قليلة ففي السنة العاشرة للهجرة عام (632م) عقد مع نصارى نجران باليمن وثيقة دستورية أخرى تؤسس للمواطنة أيضًا هي "وثيقة نصارى نجران". لنحلل باختصار ما جاء بالوثيقتين الدستوريتين من مبادئ:
ثالثًا: تأسيس فكرة المواطنة
1- دستور المدينة/ وثيقة المدينة - الصحيفة - الكتاب (1هـــ/ 622 م)
سأوجز أهم ما جاء بدستور المدينة معتمدًا على مقدمة كتاب الدكتور محمد عمارة "الوثائق الدستورية في دولة النبوة والخلافة"، وذلك على النحو الآتي:
طرفا العقد
الطرف الأول هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون والطرف الثاني هم: "أهل هذه الصحيفة" ممن لم يدخل في الإسلام.
صياغة العقد
جاءت صياغة بنود العقد ثمرة لمشاورة الرسول لوجوه الرعية الذين يسمون "أهل هذه الصحيفة".
المبادئ العليا للعقد
صيغ هذا الدستور لينظم القواعد الأساسية لدولة المدينة ومواطنيها. فهو نص ينظم شؤون الدولة ويقنن العلاقات الدنيوية بين رعيتها بالدرجة الأولى.
القرآن والدستور
صيغ هذا الدستور بعد أن نزل قسم كبير من القرآن الكريم فكان ذلك دليلاً على أنّ القرآن بالنسبة إلى دستور الدولة هو الإطار فيه "المبادئ" وبه "الروح" والمقاصد والضوابط والغايات، وليس هو نص الدستور ومواده ذاتها وقوانينه عينها.
فوجود القرآن الكريم لا يغني - كما يقول الدكتور محمد عمارة - في نظام الدولة، عن الدستور الذي يضبط القواعد وينظم الحقوق ويحكم العلاقات ويصوغ جميع ذلك صياغة دستورية محكمة الدلالة بينة الحدود. وعلى ذلك تسقط كل الدعاوى التي ترفع شعارات من قبيل: القرآن دستورنا.
ليست دولة دينية
على الرغم من أنّ الحاكم للدولة كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ينزل وحي السماء إلا أنّ هذه الدولة لم تكن دولة دينية بالمعنى الذي عرفته مجتمعات غير إسلامية، وفلسفات غير إسلامية، والتي تسربت بعض من مقولاتها إلى بعض فرق المسلمين.
رعية سياسية
وبناءً على ذلك كانت رعية هذه الدولة "رعية سياسية" اتخذت من المعيار السياسي والإطار القومي ميزانًا حددت وميزت به الرعية من الأغيار.
التسوية في المواطنة
نص هذا الدستور على أنّ المؤمنين والمسلمين هم (أمة واحدة من دون الناس) فهم "أمة الدين" وجماعته المؤمنون به - ثم نص على أنّ (يهود بني عوف - ومن ماثلهم من اليهود العرب) أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم)! فقرر التسوية في "المواطنة" وحقوقها وواجباتها بين هذه الرعية "السياسية" وأقر هذا التمايز الديني القائم داخل هذا الإطار "القومي-الحضاري-السياسي".
الدستور شكلاً وفعلاً
إنّ أمة اقترن تأسيس دولتها الإسلامية الأولى بالدستور المكتوب، لا يليق بها أن تنكص على أعقابها، فيحكمها الاستبداد متحللاً من ضوابط الدستور "شكلاً" و"فعلاً" - كما يحدث حينًا - و"فعلاً" - على الرغم من وجود الشكل" - كما يحدث في كثير من الأحايين.
2- وثيقة نصارى نجران (10هـ / 632م)
وهى الوثيقة الدستورية لنصارى نجران باليمن، ولكنها تظل شاملة لكل النصارى عبر الزمان والمكان. وفيها تقررت كامل حقوق المواطنة وواجباتها داخل الدولة الإسلامية: لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. أما أبرز أفكار المعاهدة فألخصها من مقدمة كتاب الدكتور محمد عمارة المذكور آنفًا.
- كامل حقوق المواطنة
""لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"
- شركاء في الوطن
"حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم وفيما عليهم"
- التعددية الدينية
قنن هذا العهد قيام رعية الدولة على "التعددية الدينية"
- أقام الأسرة على التعددية الدينية
جاء هذا العهد ليقرر للزوجة الكتابية كامل الحرية والاختيار في الاعتقاد الديني.. وفي تكليف زوجها المسلم أن ييسر لها الذهاب إلى دور عبادتها، والأخذ عن رؤساء دينها.
- حماية الكنائس ودور العبادة
تعهد رسول الله بذلك وقال: "وأن أحمي جانبهم، وأذب عنهم، وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا.. وأن أحرس ملتهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي وأهل الإسلام ملتي".
- تعهد الدولة بترميم الكنائس وبنائها
فقال: "ولهم إن احتاجوا في مرمة بيعهم وصوامعهم، أو أي شيء من مصالح أمورهم ودينهم، إلى رفد (= مساعدة) - من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها، أن يُرفدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك دينً عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم، ووفاء بعهد رسول الله وموهبة لهم، ومنة لله ورسوله عليهم".
- تحريم أخذ الأبنية للمساجد
وقررت هذه الوثيقة الدستورية تحريم إدخال أي شيء من أبنية غير المسلمين في شيء من أبنية المسلمين ومساجدهم.
- التسوية في الخراج
كما سوت بين الرعية - على اختلاف دياناتهم - في أمور الخراج.
- الجزية بدلاً من الجندية
وجعلت الجزية بدلاً من الانخراط في الجندية والقيام بفريضة حماية الوطن والمواطنين.
- تحريم الإكراه في الدين
وقد حرمت الإكراه في الدين
- الجدال بالتي هي أحسن
وقررت الجدال بالتي هي أحسن.
- العدل بينهم
وقررت العدل "فمن سأل منهم حقًا، فبينهم النَّصف غير ظالمين ولا مظلومين".
- عقوبة مخالفة الوثيقة
فمن خالف ذلك "فقد خالف عهد الله وعصى ميثاق رسوله، وهو عند الله من الكاذبين".
- واجبات أهل الكتاب
وفي مقابل كل هذه الحقوق طلبت الوثيقة من المسيحيين أن تكون براءتهم كاملة من أعداء هذه الأمة - التي هي أمتهم - وهذه الدولة - التي هي دولة جميع رعيتها ومواطنيها.
أين نحن الآن من تعاليم هذه الوثائق التعاقدية؛ بل أين نحن الآن من فكرة التعاقد التي نسيها المسلمون نسيانًا؟ لقد ذهبت فرق ضالة تشرعن الظلم والقتل والحرق والتكفير والتفجير والله ورسوله بريئان من كل ما يفعله السفهاء والمتطرفون والإرهابيون منا نحن المسلمين.
خاتمة: النتائج
1- تأسست دولة الرسول على عقد اجتماعي سياسي بين الرسول وبين أهل يثرب، فانتقلوا من "حالة الفوضى الأولى" و"حالة اللادولة"، إلى حالة "النظام" و"الدولة"؛ تمامًا كما وصف فلاسفة العقد الاجتماعي، وكأنّهم قرؤوا تاريخنا وصاغوه مبادئ فلسفية سياسية عليا. وقصرنا نحن في قراءة السيرة قراءة سياسية معاصرة، وذهبنا نطالع كتب ما سمي بالسياسة الشرعية والأحكام السلطانية؛ وهي كتب أملاها واقع تغير وألفت تحت إشراف حكام مستبدين، ومع ذلك وصفت بالشرعية!
2- ولم تتأسس الدولة العربية الإسلامية الأولى على أيّ دعوى "دينية" أو "استبدادية" أو "عسكرية"، بل على "رضاء" قانوني وسياسي واجتماعي واضح المعالم قد تبين في بيعتي العقبة الأولى والثانية. وبذلك تنهار كل دعوى "غير تعاقدية" لنشأة الدولة في الإسلام.
3- وجود القرآن الكريم لا يغني - كما يقول الدكتور محمد عمارة - في نظام الدولة، عن الدستور الذي يضبط القواعد وينظم الحقوق ويحكم العلاقات ويصوغ جميع ذلك صياغة دستورية محكمة الدلالة بينة الحدود. وبذلك تسقط كل الدعاوى التي ترفع شعارات من قبيل: "القرآن دستورنا".
4- اليهود والنصارى لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين. وبذلك تتهاوى دعاوى اعتبار أهل الكتاب مواطنين من الدرجة الثانية بل هم مواطنون من الدرجة الأولى وشركاء لإخوانهم من المسلمين في الوطن شراكة تامة غير منقوصة.
المراجع:
1- أفلاطون: جمهورية أفلاطون، ترجمة ودراسة الدكتور فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974م.
2- توماس هوبز: اللفياثان، الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم دكتور/ رضوان السيد، دار كلمة، أبو ظبي، دار الفارابي، بيروت 2011م.
3- جان جاك روسو: في العقد الاجتماعي، أو مبادىء القانون السياسي، ترجمة وتقديم وتعليق، عبد العزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011م.
4- جون لوك: في الحكم المدني، نقله إلى العربية ماجد فخري، مجموعة الروائع الإنسانية، الأونسكو، اللجنة الدولية لترجمة الروائع، بيروت، 1959م.
5- صفي الرحمن المباركفوري: الرحيق المختوم، الطبعة الحادية والعشرون، دار الوفاء، المنصورة، 2010م.
6- محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، الطبعة السادسة، دار النفائس، بيروت، 1987م.
7- محمد عمارة: الوثائق الدستورية في دولة النبوة والخلافة الراشدة، هدية مجلة الأزهر، شهر شوال 1432ه.