النفس ودماغها

فئة :  قراءات في كتب

النفس ودماغها

النفس ودماغها

كارل بوبر

ترجمة عادل مصطفى

النفس والدماغ كلاهما يتموضع في الجسم، الدماغ عضو تجرى عليه مختلف الفحوصات العلمية اليوم بشكل محسوس وشبه محسوس، ويدرس العلم طبيعة علاقته بمختلف أعضاء الجسم، بينما النفس لها حضور مفارق للمحسوس؛ إذ يتعذر القول إن النفس عضو قائم بذاته في جانب موضع محدد من مواضع الجسم، كما يتموضع الدماغ في جمجمة الرأس، ويتموضع القلب في الجانب الأيسر من القفص الصدري. النفس إذن نتيجة تركيبة من العوامل من داخل الجسم، ومن هنا نشأ السؤال حول تركيبة الإنسان؟ والكتاب جعل من الدماغ تابع للنفس؛ فكل دماغ تترتب عنه طبيعة معية للنفس.

فكرة الكتاب

الإنسان كائن مركب من كثير من الأبعاد، والسؤال هنا هل كل مركبات الإنسان هي مركبات تتصل بالمادة والحس؟ أم إنه يتميز بأبعاد تركيبية مفارقة للمادة والطبيعة؟ مع هيمنة العلم والنزعة التجريبية قد احتد النقاش بين الجانب الذي يختزل فهم الانسان في الجانب العلمي المختبري، وذلك بفهم الدماع وطبيعة وظيفته ودوره في علاقته بمختلف أعضاء الجسم، وبين الاتجاه الذي يضيف إلى هذا الجانب بعد آخر يتصف به الإنسان، يصعب الإمساك به، وهو البعد الجواني والباطني في الإنسان الذي يرتبط بالنفس والعقل والتفكير، وهو بعد لا ينفصل عن الدماغ ووظيفته، والذي يبرر هذا الاتجاه هو كون وظيفة الدماغ وظيفة متباينة من شخص إلى آخر، مثلا: في الإقبال على نفس المشكل، قد يتفاعل معه الكثير من الأفراد بطرق متباينة، بالرغم من أنهم يملكون نفس الدماغ، ولهم نفس المستوى التعليمي والعلمي والثقافي، وهذا يعني أن اشتغال الدماغ ومن بعده العقل ليس اشتغالا ميكانيكيا.

لا يمكن أن ننفي العلاقة القائمة بين الجسم من جهة، والنفس والعقل من جهة أخرى؛ فمختلف العوامل والأمراض الجسدية تكون أحيانا سببا في بعض من الاضطرابات النفسية، كما أن الأمراض النفسية بدورها يمكن أن تكون سببا في مرض نفسي معين، لماذا؟ لأن العقل والنفس انعكاس للدماغ ودوره في الجسم، وعنما نتحدث هنا عن الدماغ فلا يمكن عزله لوحده والنظر إليه كعضو داخل جمجمة الرأس بمعزل عن بقية أعضاء الجسم. نحن هنا أمام تركيبة متداخلة تركيبة الجسم بما فيه الدماغ، وتركيبة العقل النفس كنتاج لمختلف وظائف أعضاء الجسم.

يتفاعل الدماغ والجسم بطرائقٍ قوية تؤثِّر في صحَّة الشخص؛ كيف ذلك؟ الجهاز الهضمي متحكم فيه مرتبط بالجهاز الهضمي؛ فالقلق والاكتئاب والخوف وهي أمور تتصل بالدماغ... تؤثر على الجهاز الهضمي، وهذا سيكون له أثر مباشر أو غير مباشر على تشكل نسبة السكر في السكري وضغط الدم...وكل ذلك سيكون له أثر على التركيز والعقل والنفس، وهذه مسالة تختلف من شخص الى لآخر، نقصد العلاقة بين الجسم والعقل. فالعواطف أو المشاعر يمكن أن تؤثِّر في بعض وظائف الجسم، مثل معدَّل ضربات القلب وضغط الدَّم والتعرُّق ونماذج النوم وإفراز حمض المعدة وحركات الأمعاء...

فالتقنيات العلاجية تستند لطب العقل والجسد إلى نظرية ترى أن العَوامِلَ النفسية والعاطفية يمكن أن تؤثِّر في الصحَّة البدنية، وهي تستخدم الأساليبُ السُّلُوكية والنفسية والاجتماعية والروحية لمحاولة الحفاظ على الصحة ومنع حدوث المرض أو معالجته. والحقيقة أن "مشكلة العلاقة بين أجسادنا وعقولنا، وبخاصة مشكلة الصلة بين تراكيب وعمليات دماغية من جهة، وميول وأحداث عقلية من جهة أخرى، هي مشكلة صعبة بالغة الصعوبة".[1]

الكتاب الذي نحن بصدده يقربنا بشكل علمي من مسألة «الجسم/العقل»، وهي من أبرز المسائل التي شغلت الفلاسفةَ على مَدار تاريخ الفكر البشري، وقد أخذت هذه المسألة أبعادًا أخرى جديدة في العصر الحديث؛ نظرًا لاقترانها بالتقدُّم العلمي الفيزيائي والبيولوجي، وسيطرة النزعة المادية على العالَم، وخاصةً بعد الحربَين العالميتَين اللتين تجلَّى فيهما غياب قانون الأخلاق الإنساني، والنظر إلى الإنسان بوصفه ترسًا في آلة، وليس روحًا فريدة تستحقُّ الاحترام والتقدير، فبات أمرًا ملِحًّا الإجابةُ عن السؤال الأبرز: هل الإنسان آلة، أم إنه غايةٌ في ذاته؟ وكان مِن أبرز مَن تصدَّوا للإجابة عن هذا السؤال الفيلسوفُ النمساوي «كارل بوبر»، مستندًا إلى تجاوُز المادية نفسها، ومتَّخذًا من منتَجات العقل البشري مدخلًا رئيسًا للبحث في إشكالية «الجسم/العقل»، معتبِرًا اللغةَ البشرية أوَّلَ منتَجات العقل.

موضوعات الكتاب

يعد "كارل بوبر" وهو فيلسوف نمساوي بريطاني، واحدًا من أبرز فلاسفة العلوم في القرن العشرين. يرى المؤلف بأن "مكانة الإنسانِ قد بلغت حدَّ الشطط، فيُقال إننا ينبغي أن نكون قد تعلمنا من كوبرنيقوس ودارون أن مكانة الإنسان في العالم ليست بالرِّفعة أو الحظوة التي كان يظنها الإنسان يومًا ما. قد يكون ذلك كذلك، إلا أننا منذ كوبرنيقوس قد تعلمنا أن نقدِّر كم هي رائعة ونادرة، وربما فذة، أرضنا الصغيرة في هذا العالم الكبير؛ ومنذ داروِن قد تعلمنا عن التنظيم المذهل لجميع الأشياء الحية على الأرض، وأيضًا عن المكانة الفريدة للإنسان بين رفاقه من المخلوقات".[2] هذه المقولة التي ترى بكون الانسان يتميز بالمكانة الرفيعة ما بين المخلوقات، يمضي الكاتب ليقرب الحديث بشأنها بالاعتماد على التعاون ما بين مختلف التخصصات العلمية التي تبحث في علم الدماغ وعلم الفلسفة... وقد توقف المؤلف عند مجموعة من المواضيع نذكر منها: المادية تتجاوز ذاتَها/ نقد المذهب المادي/ بعض ملاحظات عن النفس/ تعليقات تاريخية على مشكلة العقل-الجسم.

هل الإنسان مثيل للآلة؟

هناك اتجاه يختزل الإنسان في الجسم فقط، ويختزل العقل في وظيفة الدماغ، وبهذا الشكل فهو يميل نحو اتجاه القول إن الإنسان مثيل للآلة، يرى المؤلف أن هذه الإشكالية ليست وليدة اللحظة؛ فالمذهب القائل إن البشر آلات أو روبوتات هو مذهب قديم، فأول صياغة واضحة وقوية لهذا المذهب، فيما يبدو، إلى عنوان كتاب شهير للامتري "الإنسان كآلة" (1747م) في القرن الثامن عشر.

وقد قسم المؤلف الذين يقولون بمقولة "البشر آلات" إلى فئتين:

"أولئك الذين ينكرون وجود أحداث عقلية، أو خبرات شخصية، أو وعي، أو ربما يقولون إن السؤال عما إذا كانت مثل هذه الخبرات موجودة هو سؤال قليل الأهمية، ولا ضير من أن يُترَك دون حسم.

وأولئك الذين يعترفون بوجود الأحداث العقلية، ولكنهم يؤكدون أنها «ظواهر ثانوية» (أو «ظواهر مصاحبة) وأن بالإمكان تفسير كل شيء بدونها، ما دام العالم المادي مغلقًا عِلِّيا. ولكن سواء كانوا ينتمون إلى هذه الفئة أو تلك فإن كلا الفريقين، فيما يبدو لي، لا بد أن يتجاهل واقع المعاناة البشرية وأهمية محاربة المعاناة الزائدة".[3]

مقولة الإنسان آلة، مقولة تنسف جزء مهم في تكوين الإنسان، فإذا تعاملنا مع الإنسان بكونه آلة، فنحن ننفي عليه قيمة العقل والأخلاق والعاطفة والحب...إننا ننسف مختلف المشاعر التي تجعلنا نحيا الحياة ونشعر بها، القول بكون الإنسان آلة، تحيل بين الإنسان وشعوره بالطموح والأمل... إنها مقولة اتسعت في زمن هيمنة العقل المادي خاصة في النصف الأخير من القرن العشرين، و"يجب أن نعترف بعد حربَين عالميَّتَين، وتحت تهديد الوسائل الجديدة للدمار الشامل، أنه كان ثمة تدهور مريع في احترام الحياة الإنسانية لدى بعض طبقات مجتمعنا. هذا ما يجعل من المُلِح والعاجل أن أعيد فيما يلي توكيدَ رأيٍ لا مَحيدَ لنا عنه فيما أعتقد: وهو الرأي القائل إن البشر غايات في ذاتها، وليسوا «مجرد» آلات".[4]

يخلص المؤلف إلى أن مقولة الإنسان آلة، تنسف كل قيمة أخلاقية، فهي مقولة تفكك المبدأ الذي تقوم عليه كينونة الإنسان، بوصفه إنسانا لا حيوانا "المذهب القائل لإن البشر آلات ليس مغلوطًا فحسب، بل خليقًا أيضًا بتقويض أي علم أخلاق إنساني".[5]

[1] كارل بوبر، النفس ودماغها، ترجمة عادل مصطفى، مؤسسة هنداوي 2014م، ص.11

[2] نفسه، ص. 11

[3] نفسه، ص.19

[4] نفسه، ص.19

[5] نفسه، ص.19