الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني

فئة :  قراءات في كتب

الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني

الهجرة إلى الإنسانية

فتحي المسكيني

الهجرة إلى الإنسانية

صيغة عنوان الكتاب "الهجرة إلى الإنسانية" مركبة من مفهومين لهما دلالات كبيرة في حياة الإنسان ووجوده؛ فالجزء الكبير من التاريخ الإنساني، تشكل في سياق هجرة الإنسان وتنقله من مكان إلى آخر، وهو يصحب معه مختلف تصوراته الثقافية عن ذاته وعن العالم، فحركة الإنسان وهجرته لا تتوقف في حيز المكان، بل تمتد إلى عالم الثقافة والأفكار والمسلمات، وبالتالي بإمكان الإنسان أن يهاجر من أفكار وقناعات أقل إنسانية إلى قناعات وتصورات وأفكار أكثر إنسانية من سابقتها.

ارتبط مفهوم الهجرة بشكل عام بانتقال الناس أفرادا أو جماعات من مواطنهم الأصلية إلى مواطن أخرى، والاستقرار فيها بشكل دائم أو مؤقت. الهجرة لها أسباب ودواع كثيرة: منها ما يعود إلى اختيارات الناس عن طواعية منهم، كالهجرة من أجل العلم والتعلم وكسب المعرفة، والعمل... ومنها ما هو ما خارج عن إرادتهم؛ إذ يجدون أنفسهم مكرهين على الهجرة نتيجة الحروب وما تتسبب فيه الظواهر الطبيعة أحيانا (مثل الجفاف والزلازل...) فيجدون أنفسهم مجبرين على الهجرة بحثا عن الأمن والاستقرار ومستوى أفضل للعيش... وقد ترتبط الهجرة من بلد إلى آخر بهدف نجاح دعوة إصلاحية تهدف إلى تغيير حال الناس وأحوالهم من الأسوأ إلى الأحسن. الحديث عن الهجرة في السياق الثقافي الإسلامي ارتبط في جزء كبير منه بهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، والحقيقة أن هجرة الرسول هجرة مركبة لا تقف عند مفهوم الهجرة من بلد مكة إلى المدينة بقدر ما تتجاوز المكان إلى عالم الفكر والثقافة وتصورات الناس عن العالم؛ فهي هجرة في البدء من أفكار ميتة إلى أفكار حية تعلي من قيمة العلم والعمل والإيمان...

أما مفهوم الإنسانية، فهو يوحي بأن يعيش الإنسان حياة تتعالى عن الجانب الحيواني فيه، ويعلي من الجانب الروحي والثقافي الذي يميزه عن غيره من الكائنات؛ فالإنسانية تستند إلى وجهة نظر تفيد أن جميع البشر يستحقون الاحترام والكرامة، ويجب معاملتهم على هذا النحو.

فكرة الكتاب

الكتاب يطوف بالقارئ حول مسائل فلسفيّة وقد خاضها بجرأة وحس إبداعي غني بالنقد والتحليل، ترتب عنه فتح أفق للتفكير بقالب فلسفي في الشّأن اليومي، والمكان والزمان والذات والآخر... فالتأسيس لمنهج يساعدنا على فهم مصادر أنفسنا العميقة.

موضوعات الكتاب موضوعات شديدة التنوُّع، يجمعها ذلك الهاجسُ الذي لَطالما شغَل «المسكيني» في أكثرِ ما كتَب، وهو الدعوة إلى أن نُحسِن الضيافة الفلسفية لأسئلة الحاضر ومشكلاته وتحدِّياته. فعبْرَ فصول الكتاب المقتضبة، نجد «المسكيني» يفتح طريقًا للتفلسُف من خلال أسئلةٍ راهنة تمسُّ الواقع العربي، فيفحص مفاهيم مثل: «الشهادة»، و«الانتحار»، و«التعايش»، ويُبرز أسئلة الجنس والجسد، ويتأمَّل في ظواهر مثل الإلحاد الجديد والمعلوماتية وغيرهما، ويناقش بعض الأعمال الأدبية الحديثة؛ كلُّ ذلك تحت أُفق إنساني غير مُقولَب، وبدِقَّة لغوية ومفاهيمية كبيرة.

يضم الكتاب حزمة من المقالات، وهي موزعة على عشرة أبواب وقد عالجت الكثير من المواضيع من بينها: نرسيس والحطيئة أو لماذا نكره أنفسنا؟ المراهقة الملحدة أو ماذا تبقَّى من الأب؟ الهُوية والكراهية أو هل تحتاج الشعوب إلى الانفعالات الحزينة؟ الشعوب والمعنى…أو نحو جوار بلا ادَّعاءات كونية. شعوب تنتصر…ومجتمعات تنجح «العروبة» أو المصير بلا مستقبل. تفاهة القتل…أو هل ثمة فرق بين الإرهاب الديني والعدمية الأوروبية؟ شعوب في الأسر…أو اعتقال المكان وموت السياسة.

تجربة النفي (الهجرة) والفلسفة

جعل المؤلف من مقالة هل عاد ابن رشد من المنفى؟ توطئة للكتاب، وهي مقالة تقرّبنا من موضوع النفي، والنفي هنا شبيه بالهجرة التي لا نرغب فيها أحيانا، وتفرضها علينا أحداث ووقائع... تستحق هذه المقالة أن تكون توطئة لما جاء بعدها من المقالات المتنوعة؛ فالسؤال إلى أيّ مدى نكون أقرب إلى الإنسانية، ونحن قد احتوتنا الهجرة طوعا أو كرها، وإلى أيّ حد يمكن للمواطنين أهل البلد أن يكونوا أكثر إنسانية من الذين حلّوا في ما بينهم. وهذه إشكالية تضعنا أمام سؤال التعددية الثقافية، وحقوق الأقليات، وإشكالية الجوار بين الدول والجماعات...عبر العالم.

يقرُّ المؤلف أن الفلسفة والمنفى بينهما صِلة رحم سابقة. ويستحضر في هذا السياق، نفي أرسطو نفسه إلى أثينا طوعًا بعد أن اتُّهم بالتجديف. وللقدماء تراث أخلاقي حول مقام المنفى. قال سيناك: «ليس ثمة ما يخسره المرء في المنفى، فمن أي جهة نظرت إلى السماء تكون المسافة هي نفسها بين ما هو إلهي وما هو إنساني.» ولقد عانى من المنفى عديد الفلاسفة مثل هوبز وروسو وماركس وأدورنو ونغري … لكن دور الاسم العظيم هو أن يقف على الحدود الأخلاقية بين عقول الإنسانية: أن يدعوها إلى نادٍ واحد من أجل صداقة كونية. وأن يجمع بينها حول مائدة العقل. إن المنفى جزء من الانتماء إلى الإنسانية. وبقدر ما يمتلك مفكِّرٌ ما من حظوظ الكونية هو يمتلك من إمكانيات المنفى.[1] المنفى إذَن هو مقام التفلسُف بامتياز. إنك لن تتفلسف إلا بقدر ما تستعمل عقلك في شكل منفى ما، على نحو حدودي، في «خارج» أخلاقي بلا ملامح ثابتة.[2]

حدث نفي إلى أليسانة، وهي مدينة في الأندلس حينها، حدث مهم في حياة ابن رشد، فنفي ابن رشد إلى مدينة «الآخر» اللاهوتي للملة، وهو مكان حيث توجد حدود قاسية بين مَن هو «منَّا» ومَن هو «ليس منا»، و«حصن» يحمي الداخل، و«حفير» يحمي من الخارج، وحيث يسكن أناس لا يمكن «مداخلتهم»، وهم «أغنياء» عن غيرهم، وبهم «حذر» ممَّن يقصدهم. يتساءل المسكيني عن اختيار هذا المكان للنفي بالذات؛ هل تم اختيار أليسانة، وهذا النوع من المكان بالذات، من أجل إعطاء عملية «نفي الفيلسوف» ملامح معيَّنة؟ لماذا تم استعمال «الآخر» الديني كمكان لنفي ابن رشد؟ هل يفترض ذلك أن الفيلسوف هو «آخر» نموذجي لا يشبهه إلا الآخر الديني؟ وأن نفيه لا يمكن أن يتم إلا بواسطة جهاز الغيرية الذي تتوفَّر عليه ثقافة ما؟[3]

المنفى أحيانا يخلق شخصية الفيلسوف إلى درجة، تصبح شخصيته أكبر من فلسفته، فابن رشد في نظر المسكيني، شخصيته أكبر من فلسفته "في واقع الأمر لم يكُن ابن رشد فيلسوفًا بالمعنى الحديث: هو ليس له إشكالية مُبتكَرة أو حدس أصلي لا يشاركه فيه أيُّ فيلسوف آخَر، أو تأويل لمعنى الكينونة في العالم لم يُسبَق إليه، ولم تُخطِئ أوروبا في نعته باسم الشارح الكبير".[4]

في واقع الأمر، لم ينف ابن رشد أكثر من مرة من لدن الذات والآخر، نفي في حياته ونفي بعد مماته "من طرف سلطة الآخر اللاهوتي لتلك الملة عندما حصرته في مجرَّد مهنة «الشارح الكبير» وحاربت أيَّ استعمال فلسفي له في فهم ماهية الدين المسيحي".[5]

صحيح أن ابن رشد لم ينف مرة واحدة في حياته، وقد نفي جثمانه بعد مماته "إلى قرطبة بعد أن دفن في مراكش، وبرحيل جثمانه رحلت الفلسفة معه إلى الضفة الأخرى، سواء كان ذلك الرحيل إكراها أو اختيارا؛ فهو يحمل أبعادا رمزية، وقد كان شاهدا على رحيل جثمانه الشيخ الأكبر ابن عربي (558 هـ/ 638هـ)، وهو يصف الحدث بشكل مؤثر في كتابه الفتوحات المكية قوله: "ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية، فأقيم لي رحمه الله في الواقعة في صورة ضرب بيني وبينه فيها حجاب رقيق أنظر إليه منه ولا يبصرني، ولا يعرف مكاني وقد شغل بنفسه عني فقلت إنه غير مراد لما نحن عليه فما اجتمعت به حتى درج؛ وذلك سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش ونقل إلى قرطبة وبها قبره، ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسين محمد بن جبير كاتب السيد أبي سعيد وصاحبي أبو الحكم عمر وابن السراج الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه، هذا الإمام وهذه أعماله يعني تواليفه، فقال له ابن جبير يا ولدي نعم ما نظرت لا فض فوك فقيدتها عندي موعظة وتذكرة رحم الله جميعهم وما بقي من تلك الجماعة غيري، وقلنا في ذلك: هذا الإمام وهذه أعماله * يا ليت شعري هل أتت آماله".[6]

لا فائدة من وراء القول: "ابن رشد لم يعُد إذَن من المنفى، لكن علينا أن نقول إنه لا يمكن أن نَنفي إلا ما ينتمي إلينا. وحين نُفي ابن رشد إلى أليسانة أو إلى أوروبا، فهو قد حمل المكان معه؛ إذْ لا يمكن تجريد أي كان من مكانه. والفلسفة سياسةُ مكان لا يمكن لأي دولة أن تؤقلمها (في المعنى الذي افترعه دولوز). الفيلسوف في مكانه دائمًا. تحتاجه الدولة كي تفكر لأول مرَّة، لكنها سريعًا ما تنزعج من مفعول الحقيقة الذي ينبجس منه".[7]

[1] فتحي المسكيني، الهجرة إلى الإنسانية، دار هنداوي، ط.1، 2024م، مقالة هل عاد ابن رشد من المنفى؟ ص. 12

[2] نفسه، ص. 14

[3] نفسه، ص.12

[4] نفسه، ص. 12

[5] نفسه، ص.13

[6] محيي الدين ابن عربي؛ الفتوحات المكية؛ ج.1؛ (دون تاريخ الطبعة) ص. 104

[7] الهجرة إلى الإنسانية، ص.15