الهويات والعبور الآمن في ظل تحدي العولمة
فئة : مقالات
كيف تستطيع الهويات العبور الآمن، وتجاوز تحدي العولمة من جهة، واقتناص ما جاءت به العولمة من فرص من جهة أخرى؟ وذلك حتى تحافظ هذه الهويات على ثباتها وتماسكها، وتستمر في أداء وظائفها. لتحقيق هذا الغرض يمكن الإشارة إلى بعض الشروط والمقتضيات الأساسية، ومنها:
أوّلاً: لا بدَّ من إدراك أنّ وضعيات الهويات ما قبل العولمة، هي غير وضعياتها ما بعد العولمة، والتغيُّر الحاصل، في هذا الشأن، ليس طفيفاً وبسيطاً، أو حدساً وخيالاً، أو جامداً وساكناً، أو خاصّاً وضيّقاً، أو قابلاً للشك والتشكيك، أو خاضعاً للفرض والاحتمال، وإنّما هو تغيّر فعلي وحقيقي.
وقد تعمّد الدارسون على المبالغة في توصيفه، وذلك لشدّة قوته، وتأثيره، واتّساعه، فهناك من وصفه بالتغيّر الجارف، وهناك من وصفه بالتغيّر الكاسح، وهناك من وصفه بالتغيّر الجامح، إلى جانب من وصفه بالطوفان، والانقلاب، والانفجار، وغيرها من توصيفات تنتمي لهذا النسق من التسميات.
والأكيد أنّ التغيّر الذي حصل في عصر العولمة، لم يحصل من قبل في كميته وكيفيته على الإطلاق، ولهذا صحّ القول: إنّ العالم بعد العولمة هو غير العالم قبلها، وأصبح النظر إلى العالم يتحدّد على أساس المفارقة بين ما قبل العولمة، وما بعدها.
وعلى الهويات أن تدرك هذا التغيّر الحاصل في العالم، والذي بات يؤثِّر في وضعياتها، ويبدّل هذه الوضعيات بصورة تكاد تكون جذرية، ومن دون هذا الإدراك والتحسُّب والتفطُّن له، لن يكون بمقدور هذه الهويات الاستجابة لتحديات العولمة، وامتلاك القدرة على التواصل معها.
ثانياً: لم تعد العزلة والانغلاق خياراً مُمكناً لحماية الهويات ذاتاً ووجوداً أمام تحدي العولمة، فقد تراجع هذا الخيار، ويكاد يتلاشى، ولم يعد يحتفظ بتأثيره وفاعليته كما كان في السابق، وذلك بعد أن أصبح العالم مفتوحاً على بعضه، ومتداخلاً بين أجزائه، ومتصاغراً، كما لو أنّه على صورة قرية صغيرة تتصاغر مع مرور الوقت.
وليس هناك مكان للعزلة والانغلاق في ظلّ ما حدث، ويحدث، من تطورات متسارعة ومذهلة في شبكات الإعلام، وتكنولوجيا الاتصالات، التي استطاعت الوصول إلى كلّ زاوية في هذا العالم الواسع المترامي الأطراف.
وبتأثير هذه التطورات، لم تعد هناك أيّ نقطة مهما كان مكانها، وبعدها، وزاويتها، سواء كانت في سهل أم جبل، في بحر أم محيط، في برٍّ أم صحراء، بعيدة عن الضوء، أو خارجة عن الصورة، أو عصية على المراقبة، أو متفلتة عن عدسة الكاميرا، وذلك في سابقة لم تحصل من قبل في تاريخ تطوّر الاجتماع الإنساني، وبشكل يكشف عن مدى سطوة العولمة، وسعة تأثيرها، وقدرتها على تغيير صورة العالم.
والخروج عن العزلة والانغلاق لا يعني، أبداً، الارتماء في أحضان العاصفة، وفتح النوافذ أمام الرياح تهبُّ من كل اتجاه، وتفعل ما تشاء، أو تبني ما يعرف بسياسة الباب المفتوح من دون ضوابط وقيود، ورفع الموانع والحواجز كافةً، فهذا السبيل لا يؤدي إلى الخروج عن العزلة والانغلاق، بقدر ما يؤدي إلى الفوضى والانفلات.
كما أنّ التفاعل والانفتاح لا يعني أبداً التساهل مع موجات التغيير أنّى كان مصدرها، والتبسيط في التعامل معها، وخلق المسوّغات التي تكشف عن سذاجة الوعي، وضعف الإدراك، ونقص الحكمة، فهذا السبيل لا يؤدي إلى التفاعل والانفتاح، كما يُظنّ، بقدر ما يؤدي إلى الفوضى والانفلات أيضاً.
مع ذلك تبقى القاعدة أنّ الهويات المنفتحة أكثر قدرة على التواصل مع العولمة، من الهويات المنغلقة.
ثالثاً: حاجة الهويات إلى التجديد الذاتي، بوصفه شرطاً لا بدَّ منه لمواجهة تحدي العولمة، والتحصُّن من هزّاتها العنيفة، ولمواكبة تطوّراتها السريعة، والاستفادة من حسناتها، وفرصها الجمة، وكي تحافظ هذه الهويات على بقائها، وثباتها، وتماسكها.
والتجديد في هذه الهويات ينبغي أن يكون تجديداً ذاتياً نابعاً من داخل هذه الهويات، ومُعبّراً عن إرادتها المستقلّة، ومتأطِّراً بحاجاتها الحقيقية، ومتحصِّناً من تأثيرات العولمة، وضغوطاتها، وإكراهاتها، وليس تجديداً مفروضاً عليها، أو نابعاً من غير إرادتها، أو مستجيباً لضغوطات خارجية، أو متأثراً بسياسات أجنبية، ولا أن يكون تجديداً منفلتاً، أو فوضوياً، أو متعجِّلاً، تحرِّكه رياح العولمة، وتعبث به، وتسيّره حسب رغباتها وهواها.
والهويات القادرة على التجديد الذاتي، هي الهويات القادرة على التواصل مع العولمة، التواصل بمعنى القدرة على الاستفادة من فرص العولمة، والتحصُّن من مخاطرها، أو التقليل من هذه المخاطر. أمّا الهويات غير القادرة على التجديد الذاتي، فإنّها هويات ستكون فاقدة للقدرة على التواصل مع العولمة استفادة وتحصُّناً.
هذه بعض الشروط والمتطلّبات الأساسية، التي تمكّن الهويات من تخطّي تحدّي العولمة، من جهة الضرر، ومن اقتناص فرصها، من جهة النفع.