الواقع والمأمول في مشروع التقريب بين المذاهب
فئة : مقالات
في القرآن الكريم عديد من الآيات التي تتحدث عن حرية المعتقد وحرية الإرادة وتسخير الكون بكل ما فيه لخدمة لإنسان، فالإنسان مقصود الله، وهو "حرامٌ" "مقدّسٌ" تمامًا كالكعبة، بل هو أكثر قداسة من الكعبة، والنفسُ والدمُ محرّمان، بغض النظر عن انتماء الإنسان العقدي، وتحظى إنسانية الإنسان في تراثنا الإسلاميِّ باهتمام كثيرمن المفكرين والعلماء، حيث ينظر إليه، أي الإنسان، أنه إذا ما تخلّق بأخلاق الله، صار يتحدثُ بالله ويسعى بالله ويسمع بالله ويبصر بالله، حتى أن أحدَهم وصف هذا الإنسان بأنه: "غير مخلوق" نشير بشكلٍ أساسي إلى نظرة الصُّوفي للإنسان، فمما وصلنا من تراثنا الغائب: رسالتان تحت عنوان: "الصُّوفيُّ غيرُ مخلوق".
يتحدثُ القرآنُ الكريم عن شعوبٍ وقبائل خُلقوا ليتعارفوا لا ليتنافروا ويتقاتلوا، ويحلو للجماعات المؤمنة أن تصف جماعتها بـ"الأمّة"، والحديث في القرآن ليس عن أمة بعينها، بل عن " شعوب" ورغم ذلك نجدُ الأمةَ المؤمنةَ التي تتفقُ في العبادة والشهادةِ وإن اختلف الشكل واللفظ تعمل على ترسيخ "قواعد الفُرقة" وتوريثها لأبنائها جيلاً بعد جيل.
فكأن الاقتصارية أساسٌ، والإقصاء عقيدة، واحتكار الحقيقة والصواب أمرٌ بدهيٌّ عند كل فرقةٍ، فالسلفيون صنميون، والمتطرفون هالكون،والسنة مجسّمون، والرافضة من أصحاب الجحيم، والإباضية متشددون، والصُّوفية قبوريون، والقرآنيون خارجون عن الملة.
تُبريء كل طائفة نفسها من "دنس" و "شرك" الطائفة الأخرى، وتمنح العصمة لنفسها ، وتثق بإيمانها، فكلُّ دائرة الشريعة والظاهر من أجلها، أدركت وحدها كنه نقطة المركز والباطن وحدها، كل هذا "مما لا شك فيه"، ولا يسع المؤمن المنتمي إليها النظر في مدى مصداقيته أو وهمه.
يهتم السُّنةُ والشيعة بالتّصوف، وكلا الفريقين ينشر من خلال إصداراته نصوصاً قديمة، ودراسات حديثة في هذا الفنّ، لكنهما تبتعدان حينما يُطلب منهما بياناً عملياً أو إظهاراً أو استفادة حقيقية مما ينشر، فكلاهما يعمل ضد الآخر، مما يجعل مفهوم "الأمة" يتصاغر ، وهنا تُأوّل كل نصوص الشرائع، وتُفتح الخنادق، وتُسَعّر النّيران، وتُمنح الجنةُ بصكوك الولاء والتّوبة، ويُشترط للنّجاة بذلُ النّفسِ، ويُقدّم قربانُ الدّم، لا من أجل العشق والحب، وإنما من أجل نصرة "المذهب".
إن بناء وتمويل المجامع ، وإصدارُ المطبوعات والمطويّات، وعقد المؤتمرات، وكتابة الرسائلُ وإلقاء المحاضرات، وكتابة الرسائلُ لا يُحْدِث طفرةٌ، ولا ينتشلُ "الأمة" من براثن التعصب، ولا يمحو آثار الدماء التي أريقت من جَرّاء هذا الصراع المستمر، ولا تحيي الإنسان من غيابه الدّائم.
نجلبُ من القوائم أشخاصاً لا علاقة لهم بالفكرة ، ولا فكر لديهم يمتلكونه ولا حل يُقترحونه ولا ورقة علمية يقدمونها، نردد كثيرًا من القصص عند هدم الأصنام بعد انتشار الدعوة، وندعو ونبشّر الأمم بعبادة أصنام جديدة ليتها تستحق القرابين.
ننتفض إذا ما دخل "فردٌ" من حيث العدد "فئةً" من "فئاتِ الآخرين" تُفتح المحاكمُ قاعاتها من أجل فضِّ النِّزاع، يستبدُّ الطرفُ القوي برأيه، يقاتلُ الآخر من أجل صورته، يضعُ كلاهما آيات القرآن في لفائف ويطويها، لا يهم!
يمحو كلاهما ما سطرته مطابعه من آيات "التسامح" و"الحرية"، وهو كلامٌ يلقى في الأجواء من أجل الزهو بشيء ما هم بمالِكيه على الحقيقةِ وإن رددوا ذلك في الأبواق في دروس "العصر".
يفتشُ كلٌّ منهم في صدرِ الآخرِ بحثًا عن "علّةٍ ، داء" وبالشبهةِ لا تُدرأُ الأحكام، بل تُنشر المستبطنات من الصُّدور،حتى وإن لم يكن لها حظٌّ من الصّدقِ، وعلى الملأ يُطلبُ إعلانُ البراءة من عللٍ وأدواء لم يُصب منها إلا طالبُ الإثبات لا المتّهم، ويطْلُبُ الشّهادة من لم ينطق بالحق، ولم يُحرّكه سوى الزيف والوهم.
يُهجّر "إنسانٌ" من وطنه، يُفرّق بينه وبين أهله، يحيا عذابات شتّى بسبب الوهمِ والكذب، وأحيانًا يستريحُ إذا ما بتت "الدولة العادلة" في أمره، وعُلّقت مشنقته، ولأن سيوف الانتصارات صدأت من لحظات "الفتح الأول" اكتفوا بأكل لحمه حيًّا ونشر فضيحته على الملأ بدل تقطيعه ميتًا وتوزيع أجزائه على البلاد.
بين الواقعِ والمأمول في مشروع التقريب بين المذاهب والفرق، كان صديقي يقترحُ عليّ أن أخطّ ورقات للنشر، فكانت هذه الكلمات التي صدرت منّي عفو الخاطر، والإنسانُ المُغيّب من وراء القصد!