الوجود في الهامش
فئة : مقالات
الوجود في الهامش
هذه محاولة شخصية حالمة قليلًا، للإجابة عن سؤال يطاردني، كيف يجب أن يتواجد المرء في العالم؟ ولكن كما يقول توماس نيجل، لا أشعر أني كفؤ لهذا النوع من الأسئلة.
السحر الخادع للغلاف الجوي
يبدو العالم أمامك مجال مفتوح من التفاعل وكأنه قابل للاختراق، كتلة كبيرة من نسيج يتمزق ويعيد الالتحام، تُصور شفافية الهواء للناظر أنه ليس هناك حدود والمسافة بين اليد وما تريد لمسه عد؛ فالاتحاد بين اللامس والملموس ممكن، تمتد الوصلات العصبية من اليد للشيء في الخارج، فإذا أحدث مثير خارجي فعل ما على الجهة الأخرى لسطح الشيء ستعلم عنها خلايا التحكم في الجمجمة وتمثلها وتستجيب لها، ما يخفيه الهواء تحت شفافيته هو المقاومة، ثقل المادة التي تريد الاستقرار، يرتكز وجودها على فعل محاربة التغيير، دفع ذلك المخترق بعيدًا عنها، هذا الاحتكاك بين اليد والهواء؛ ذلك الفعل غير الملاحظ، كما ينحت الهواء ينحت اليد، كما يشكل وجود الهواء يشكل وجود اليد، يصنع لها بيرسونا، وضع وجودي لها في هذا السياق المحدد، نقطة اتزان بين الثائر والنظام المستقر للأشياء.
في حركة الأشياء في مجال البصر، في التحاماها واصطداماتها المستمرة، نستطيع افتراض قوى خفية، أسباب بدئية تدفع الأشياء في اتجاهات متضادة، سبل سببية متناحرة تخلق توترا دائما بين البيئة ومكوناتها، توتر يمنع تلك البيئة من اتخاذ شكل ثابت، وكأن تلك القوى لا تقبل سوى فرض سيطرة مستمرة، وفي هذا التضاد يتشكل نوع الوجود الممكن، الشكل الذي تتواجد به الأشياء بالنسبة إلى بعضها البعض، ونوع العلاقات التي تربط كل منها بالأخرى، يدفع الكوب المنضدة لأسفل كما تدفعه لأعلى، في هذا البناء لا يكتسب الشيء قيمة ذاتية محضة، حكم يعتمد على عزله التام عن بيئته، إنما تعتمد قيمته على وضعه البيئي، الزماني والمكاني، فيصبح التفاعل مع الشيء هو تفاعل مع نقطة اتزان بين خواصه الذاتية والخواص التي يفرضها عليه وضعه البيئي، يمكن أن نطلق عليها بشكل متعسف اسم بيرسونا الشيء، تلك البيرسونا الخاصة بالشيء، هذه النقطة من الاتزان بين الداخلي والخارجي، وبحكم طبيعة تكوينها، هي نقطة غير ثابتة، وبالتالي بيرسونا الشيء، المجال التفاعلي مع الشيء، هو مجال تغيير مستمر.
هذا التضاد بين السحر الخادع للشفافية وما يدور خلفها، بين الوهم بإمكانية الوصول لأشياء العالم، التحكم بها وابتلاعها داخلنا، وبين تلك النقطة المتغيرة على سطح الشيء، البيرسونا الخاصة به، والتي تتغير باستمرار، هذا التضاد بين وهم الثبات والحركة الخفية، يخلق نوعا آخر من التوتر بين بيرسونا الشيء وشبكة من المعاني تحاول أن تضيف عقدة أخرى في هيكلها المعرفي.
سبك العالم
يقف الجسد في منتصف مكان غامض، هناك صور حوله ولكنها ضبابية، مزدحمة، تشتعل نيران في منتصف الحوائط، وتظلم الأركان البعيدة للغرفة، وتتطاير الأوراق وتمتد فروع الشجر، ويسيل الحبر على الصحف، يتساءل، من مكان فيه بدائي حتى إنه لا يعلم اللغة، ما الذي يجب فعله، ولأنه سؤال غير واضح تمامًا، فقط دافع غريزي يحثه على الفعل، يبدأ بلمس الأشياء حوله بشكل عشوائي، لعل هذا الدافع أن يصمت قليلًا، ولكنه لا يصمت، أبدًا، بل يزيد شراسة، تصور حاسة اللمس له أنه قادر على الامتلاك، على بلع العالم داخله، فيندفع يحاول إرضاءه، تحرقه النار وتلدغه الأفاعي في الظلام، وتتجلى اللغة في هيئة تحذيرات، لا تقرب النار وتجنب الظلام، وتتجلى مرة أخرى في تشكل متع الجسد، في تمثيل الرغبة في المزيد، وتتجلى مرة ثالثة في الآخر، مرة كشيء يحاول ابتلاعه داخل لغته، ومرة كمجال من السحر اللغوي يحاول أن يعرف نفسه من خلاله أو يذوب فيه.
ما هذا القابع في الخارج؟، على هامش هذا السؤال المخيف، يوجد سؤال آخر أقل وطأة، كيف لهذا الخارج أن ينفصل عني؟ ويظهر سؤال ثالث مستنبط من سابقيه، كمرآة لا متناهية الانعكاسات، ما هذا القابع في داخل هذا التعبير “عني”؟ كعنكبوت ينسج شباكه ينسج الإنسان الكلمات في شبكة يحاول بها أسر العالم، النار والظلام في الأركان، الجفاف والرطوبة واهتزازات أفرع الشجر، وكما صنع الفأس والسيارة صنع الموت والحياة والحب والخوف، بناءات من نسيج صوتي مشتقة من هذا الدافع الغريزي البدائي، تحاول إيصال اهتزازات العالم له واهتزازاته الداخلية للعالم، من نافذة كوخ يطل على الغابة لمدن من الحديد والكلمات تتوزع بها الأشجار على استحياء.
تشهد لحظة خروج المولود من باطن أمه مكانين؛ مدينتان يتواجد بهما من اللحظة الأولى التي يغمره بها الضوء، المدينة الأولى فيزيائية، عمارة الخشب والطوب والخرسانة، والأخرى لغوية، عمارة الأصوات والرموز، يسير الطفل في أرض اللغة قبل أن يقف على أرض العالم، يتعلم الإشارة ويتلقى الأوامر، يعبر من خلال تلك البناءات عن الرغبة والغضب والحزن، يسعى في دروبها تجاه أبويه وإخوته، حتى تقوده تلك الدروب لمسار أول وأخير، للنقطة التي يحمل عليها كل شيء، كما الجسد في علاقته بالمدينة الفيزيائية، كذلك تلك النقطة وعلاقتها بالمدينة اللغوية.
تعمل العمارة كمحدد للجسد، ترسم الحد الفاصل بين الداخل والخارج، في البداية هناك طبقة الجلد، الوهم الأول أن كل ما بالداخل خاضع للتحكم، ومن ثم البيت، امتداد أقل من الجسد في درجة التحكم، وتتعدد المستويات بعدها حتى تصل للمدينة، للدولة، وللعالم، مكان خيالي يوجد به الجسد في المركز، ليس مركز العالم ولكن مركز عالمه، مركز لا يمكن الهروب منه، في لحظة وجود الجسد في العمارة تتواجد العمارة حول هذا الجسد، من ناحية تعتمد العمارة على وجود الجسد، ومن ناحية أخرى يعبر الجسد عن نقطة ارتكاز تنتجها العمارة، وكأن كلا الطرفين مرآة للآخر.
يوجد الجسد كصورة، كوحدة واحدة، والعمارة كذلك، وصورة ثالثة للعلاقة بينهما، صورة خلفية تحكم علاقة الجسد بتلك العمارة، تحدد أنماط تواجده خلالها، نقط اتزان بين البيئة الصماء والجسد الذي يخفي الإرادة، تحديد للطرق التي يمكن سلكها وجوديًا، وجود الطفل في منتصف المقعد يختلف عن وجوده على حافته، وترتيب الأثاث يحمل داخله تصور لعلاقة الجسد المستقبلية به، ما يظهر وما يخفى وما يجب أن ينطمس، في سعيه لتكوين علاقة بالعمارة، وسعي العمارة لاحتوائه لا يحاول الجسد فهم أساس العالم انما يحاول الاتزان، التوصل لنقطة يتواجد خلالها بين الأشياء، حيث تختفي عندها أكبر قدر ممكن من القوى الخفية، من تسلسلات الأسباب الكامنة في قلب أشياء العالم.
مثل علاقة الجسد بالعمارة، كمثل الذات باللغة، تشارك صورة الجسد في تكوين الذات وتشارك الذات كبنية لغوية في حمل صورة الجسد كشيء ينتمي لها، سؤال الأسبقية بينهما سؤال صعب الإجابة، وهناك العلاقة المشتبكة بينهما، في البدء هناك التناظر، كما تحدد العمارة الفيزيائية الجسد، ما يدخل وما يخرج، تحدد العمارة اللغوية الذات، اتجاه الاشارات في الجمل، علاقة الفعل بمن يفعله، الترتيب المسبق للعالم الفيزيائي في العمارة يناظره الترتيب المسبق للعالم الثقافي في اللغة، وفي كلتا الحالتين يتم افتراض نقطة مركزية يحمل عليها التصميم، الجسد والذات.
وهناك ثانيا التطابق، تختلف وجهات النظر هنا، الأولى تقر أن الذات سابقة على الجسد، منفصلة عنه ويخضع لها، والثانية تقول إن الأساس السببي للذات هو الجسد، الخلايا والنيورونات، وهنا يظهر أحد أعظم الألغاز، أين توجد الذات؟، في مكان مفارق للطبيعة؟، في اللغة؟، في الجسد؟، في كليهما؟، كيف لنقطة البدء أن تكون نقطة النهاية، كيف لنقطة الإدراك، للنقطة التي تنفتح على العالم تحاول أن تبتلعه، أن تدرك مسارات التغير به، بالعالم المحيط وبالجسد، كيف يعمل، التنبؤ بحالاته المختلفة عند لحظات عدة في الزمن، كيف لتلك النقطة البدائية، التي يؤسس عليها كل شيء، أن تكون منتج نهائي لكل تلك المسارات؟
الوجوه العديدة للعدم
لكل عمارة مجموعة خطابات خاصة بها (النماذج اللغوية التي تحدد نوع الاتصال الممكن من خلالها وعلاقات السلطة بين الأفراد المشتركين في هذا النموذج)، الخطابات التي تنتجها المدرسة تختلف عن الخطابات الموجودة في المنزل أو في ملعب الكرة، وعلى مستوى آخر الخطابات المنتجة في منزل مصري تختلف عنها في منزل أمريكي، ينتج الخطاب نوع الوجود الممكن، يحدد المسارات السببية المسموح لها بالتنافس، وبالتالي يحدد الشكل الممكن للذات داخله، كل خطاب ينتج ذات هي بقدر ما خاصة به، تختلف إشارات الجسد من البيت للمدرسة لبيئة العمل، ليس على مستوى السلوك الخارجي فقط، ولكن على صورة الذات الباطنية أيضا، كيف يرى المرء نفسه، كيف يصبح عقدة في النسيج الاجتماعي للعالم، يدركه ويتفاعل معه من خلالها، تتحدد بقدر كبير من خلال أي بيئة يوجد بها نسبة للحظة التصور، فتصبح الذات، هذه الذات بالتحديد، نقطة الاتزان بين الداخلي والخارجي، وهذا الداخلي بالتبعية هو نفطة اتزان تتأسس على تراكم الخطابات السابقة التي يوجد فيها الفرد، الصفات الأكثر عمقا التي تبلورت من الوجود التاريخي في أماكن/ خطابات عديدة في العالم، الصورة الباطنية للذات تنتج عن تفاعل هذا الداخلي مع الصفات الخاصة بالشبكة البيئية التي تتواجد بها لحظة التصور، فيوجد المرء بين عدة ذوات كل منها تحمل بداخلها البيئة التي ساهمت في تكوينها، عدة نقاط اتزان تتجلى كل واحدة منها في البيئة الخاصة، تحاول أن تلاشي على سطحها أكبر قدر من المسارات السببية الفاعلة داخل تلك البيئة.
ما الذي يوجد في الخلف؟ كيف تتوحد تلك الذوات جميعها في نقطة واحدة، كيف لها أن تكون نقطة يحمل عليها ذلك الذي يتحرك في الشارع أمام المحلات وبين السيارات، توجه له الأسئلة فيلفظ أجوبة، يوضع في ترتيب محدد فيتفاعل معه مرة بتكملة النمط ومرة بالثورة عليه، الدماغ؟، العقل؟ الروح؟ شيء لا نعلم عنه بعد، أو لا نستطيع أن نعلم عنه أبدا؟، أم لا شيء على الإطلاق؟، عدم تدور حوله الصور وتحمل عليه، وهم يقبع في جوهر الوجود.
الاقتراح الأول أن الذات اسم يلحق بمجموعة معقدة من وظائف الدماغ ينشأ عنها وهم الوحدة، أن هناك مجالا واحدا يتواجد داخله العالم الخارجي، هذا الوهم يتأسس على الهيكل البيولوجي للدماغ، وينتج عن تلك التفاعلات الداخلية بين الأجزاء المختلفة له، هو ناتج عمل العديد من الفروع، كما يصف دينيت في نموذجه المسمى نموذج المسودات المتعددة، ليس هناك نقطة واحدة يعرض عليها الحالات العقلية، إنما نماذج متعددة تنشأ في أماكن عدة في الدماغ، مستجيبة لمثير ما خارجي أو داخلي، في عملية تعديل مستمرة لهذه المسودات، والمسودة التي تنجح في الصمود هي ما تشكل تيار الوعي، الوعي هنا هو تجمع عدد كبير من خلايا الدماغ لأداء وظيفة محددة، والذات الموجودة في الخلفية هي نقطة وهمية، مثلها مثل مركز الجاذبية للأجساد الميكانيكية، نقطة متخيلة مفيدة عمليا لتمثيل كل القوى لمؤثرة على الجسد، الذات بالتالي هي هذه النقطة التخيلية التي ينسب إليها كل الأفعال الناتجة عن هذا الجسد، عن ذلك النظام الذي يحدده الغلاف الجلدي، ما يفشل به هذا الاقتراح هو ما ينكره من البداية، وهو أن كل الأحداث في العالم هي أحداث فيزيائية، وما لا يمكن تفسيره على أساس فيزيائي هو وهم غير موجود.
في الجهة المقابلة، يرى المقترح الآخر أن الحالات العقلية لا يمكن اختزالها في أحداث فيزيائية، إن لم تجرب إحساس الألم داخليا، حتى وإن كنت تعلم كل شيء عن ميكانيزمات انتاج الألم فيزيائيًا، سيظل هناك أمر ما تجهله، لن تعرف حتى تتذوق، يعترض دينيت هنا، فإذا كنت تعلم كل المعلومات الممكنة عن الألم، فلابد أن تعلم بالضبط ما هو الألم، إحساس الألم هو مظهر زائف يمكن تفسيره تحت موقف معرفي منه، ولكن من جهة أخرى مستحيل أن يعلم شخص ما كل شيء عن الألم، ما أراه هنا هو اختلاف في نقطة الانطلاق، في حين يرى دينيت أن الخبرة خاضعة للمعرفة، أن تعرف أسباب الألم يساوي أن تعرف ما هو الألم، تكوين موقف معرفي من الألم، موقف قابل للاختبار التجريبي يحاول التفسير السببي للألم والتنبؤ به، هو أفضل ما يمكننا فعله لفهم الألم، ترى الجهة الأخرى، كهيوم مثلا، أن المعرفة هي صورة باهتة من الخبرة، من الانطباعات الحسية الداخلية، لكي تبني فكرة عن شيء في العالم، لابد أن تبنيها على انطباعات، وفكرتنا عن الانطباعات نفسها هي بشكل ما تعتمد على الانطباعات، ويرى موقف ثالث، كتوماس نيجل، أن الألم كخبرة يمكن ضمه تحت الموقف المعرفي ولكن ليس بشكل كامل، سيظل هناك دائمًا عنصر ذاتي به غير خاضع للنظرة الموضوعية.
ما يقف في نهاية هذا الطريق الذي أحاول السير فيه، كضرير يسير وحيدًا في غابة، فكرتان لا أستطيع التخلي عن كونهما تحكمان علاقتي بالعالم، وأن خلف تلك العلاقة بيني وبين العالم، أشعر بي كشائبة لا تستطيع الذوبان في سائل الوجود، شائبة لا يستوعبها هذا الكل العظيم، شائبة تنفتح على العالم، وينفتح هو عليها، هذا الجسد المنحدر يأبى التحلل للعناصر الأولية، هو بشكل ما موجود في العالم، وبشكل آخر يتصادم معه، يأبى أن يوجد فيه بشكل كامل، ويأبى عليه العالم ذلك، كأب يأبى الاعتراف بأبنائه، فأبى أبناؤه -كرد فعل- أن يتقبلوا انتماءهم إليه، تلك المسودات العديدة التي يخبرنا بها دينيت، بشكل ما تطفو على مساحة معتمة، لا تراها الفيزياء؛ لأنها لا ترى سوى الاصطدام، فالاصطدام هو محض وجود الفيزياء، هذا الكون الفيزيائي، هذه الشبكة المنغلقة من الأسباب، تتأسس على عدم قدرة هذه الشائبة أن تذوب، على إدراكها لهذه الحقيقة، وعلى محاولة تقبلها، مرة بإنكار انتمائها بالكامل، مرة بالغضب من وضعها الوجودي، ومرة بمحاولة الوجود داخل العالم بقدر المستطاع، تتأسس النظرة الموضوعية للعالم على عدم قدرة هذا المساحة المعتمة أن توجد بشكل كامل، ما يجعل الفيزياء قادرة على الوقوف خارج الوجود ورصد هيكله، هو ذلك الذي لا يستطيع الوجود أصلا، ذلك العدم.
والفكرة الثانية، هي إرادتي المستمرة للاصطدام، لأن أكون شائبة تعرقل سير الأمور، هذا الغضب الغريزي من الوجود في الخارج، الاعتراض على النظام المستقر للأشياء، على الاتزان الحاصل بين المسارات السببية المتعددة، هذا القلق الناتج عن استقرار الأشياء حولي، هذه الرغبة الملحة في فهم المسارات التي أدت إلى ذلك الاعتراض على هذه السلاسل اللا نهائية من الأسباب، هذه الإرادة التي تحاول تفسير كل شيء، تشبك الأشياء حولي في الأنساق والأشكال، تعطي للأشياء والأشخاص البيرسونا الخاصة بهم، يمتد اعتراضها على العالم ليشمل اعتراض على طبيعتها، كيف لنقطة مظلمة أن تنير الكون؟، كيف لعدم أن يشكل الوجود؟
الوجود في الهامش
كيف يفهم المرء هذا الدافع للاصطدام، ما الذي حث نيلز بور على الهروب من النموذج الذري الكلاسيكي، ما الذي يدفع القديس أوغسطين للتكشف المستمر لذنوبه أمام الله، ما الذي دفع امرؤ القيس للربط بين موج البحر والليل وهمومه، غير إرادة غامضة للاصطدام بالنظام المستقر للأشياء
يسير الإنسان في حديقة العالم يتذبذب بين وضعين؛ أن يوجد كجزء من مسار الأشياء، كائنا ضمن كائنات الغابة، يشم الزهور ويقطف الثمار ويهرب من الأسود، أو أن يوجد خارج مسار الأشياء، أن يدرك العالم كشيء خارجي، يراقب التوزيع العشوائي لأشياء العالم، ويضع بينه وبين العالم هوة، ومن داخلها يصنع لنفسه نافذة تطل على الوجود، تظهر الذات في مرحلة لاحقة، مرة ينسب لها اختبار العالم من الداخل، أنا تشعر وتتذوق وترى توزيع الألوان على أسطح الأشياء، ومرة ينسب لها النظر لعالم من الخارج ومحاولة تكوين موقف منه، أن يوجد المرء بدون ضغط الذات، بدون المحاولات المستمرة لإنشاء علاقة مع العالم، هو أن توجد في الهامش، بينما أن تنسب العالم للذات، الانطباعات والأفكار تصبح انطباعات وأفكار شخص ما ويجب أن يفعل شيء حيالها أو بناءً عليها، تعني أن يوجد المرء في مركز العالم.
الوجود كجزء من العالم يستند على الإحساس قبل أن تعينه اللغة، مرحلة يحدها الأسماء بدون شكل يربط بينها، ت-لك أرض خصبة لا خروج منها، ماذا يعني أن يوجد المرء في الحياة؟ أن يغمره العالم من كل اتجاه، وهو حتى لم يتشكل كملاحظ بعد، بل كعضو حساس يضطرب لاهتزاز العالم، بلا أي اهتزازات داخلية خاصة، تتردد الأعضاء بنفس تردد الخارج، يمكن تعقب ذلك في النظر للبحر، في تلاشي الذات في صوت أمواجه، وفي غمر أضواء السينما لروح المشاهد فلا يرى سوى الخارج، في اللحظات التي لا يوجد بها كملاحظ، فقط حساسية غامضة تستجيب لما يدور على الشاشة، وفي الموسيقى، وفي الصلاة عندما يفقد المرء ذاته، بلا أفكار، بلا أي شيء يحاول تشكيل معنى، فقط غمر الأعلى للأسفل، حدوده ذلك الإدراك الغامض للجزء أنه ينتمي، بشكل هامشي، للكل.
أما الوجود خارج العالم، هو وجود لغوي محض، خطوة للخلف تدرك الإحساس وتتأمله، تندهش له وتحاول تكوين موقف منه، يظهر لتلك النظرة موقف الإحساس الصعب، تضع عناصره بجانب بعضها البعض، تقارن المتشابه والمتنافر، المتكرر والفريد، المتتالي والاستثنائي، وتحاول رسم خريطة لغوية، معنى وشبه معنى لحركة الأشياء في العالم، ومعنى وشبه معنى عن مكاننا داخله، نحن هذه الكائنات الصغيرة المحاطة بالعالم الواسع، ومرة أخرى ندرك أنفسنا كجزء من كل، ولكن هذه المرة بوضوح لغوي يكاد يكون شفاف، يضعنا على سطح الأرض ويضع الأرض في المجموعة الشمسية وينصب المجموعة الشمسية قشة في بحر الكون، هنا أيضًا نجد لنا مكانا في الهامش.
يتباعد وضعا الوجود السابقين؛ الوجود في العالم والوجود خارجه، وغالبا لا يمكن تحقيقهما بشكل كامل، ولكنهما يشتركا في صفة الهامشية، أن يوضع الفرد في مكانه في العالم، ويشتركا في الدافع لهما؛ ذلك الذي يريد الاصطدام، يحشر نفسه في العالم وينهل منه، يحس ويفكر ويوصل الروابط الطبيعية، ومن ثم يحاول التمرد. إنها أنا تحس، وأنا تنصب الهياكل الفكرية، وأنا تفعل وتتقاطع مع العالم، الذي لا يستطيع التشكل في العالم يظهر كتجليات تاريخية في الإحساس، ومواقف تتعالى على التاريخ في الفكر، ويظهر مرة أخيرة، بأكثر الصور غموضًا وأكثرها تعبيرًا عنه، في الفعل، في التدخل في مسار الأشياء والعبث بها، في الاختيارات المختلفة بين العديد من سلاسل الأسباب ممكنة الحدوث، ينتقل هنا الفرد من الهامش للمركز، مركز العالم الذي هو جزء منه.
في الهامش، الذي لا يستطيع التشكل، الذي يصطدم بالعالم، لا يوجد ولا يصطدم، سوى أثر باهت في الخلف، لا مركز يحضر في المشهد، فقط صورة عامة بلا رائي تلتف حوله الألوان والأشكال، يغمر العالم الجسد وتغمر اللغة خلايا الدماغ، في لحظة الوجود داخليًا بالكامل أو خارجيًا بالكامل، لا مكان لذات ينعكس العالم عليها، فقط العالم يحتوى هذا الكيان المغلف بالجلد، يضمه مرة كتفصيلة صغيرة في نظامه البيئي، ومرة كشاهد على دوران الأشياء في فلكها المحتوم، ولكن للانتقال للهامش، للداخلي أو للخارجي، لابد من التحرك من مركز ما، من نقطة فاعلة تريد الاصطدام، من الذي لا يقدر على التشكل ولكنه يريده، هذه الارادة يصحبها قلق، يقود القلق تلك النقطة من الداخل للخارج ومن الخارج للداخل، في عملية توتر أبدية، من الوهم الساحر للغلاف الجوي، الذي يحاول اقناعنا بامكانية ابتلاع العالم، لشبكة من المعاني تحاول أسر العالم، تحاول الإمساك ب بيرسونا الأشياء، سبكها داخل قوالب معرفية، هذا النوع من القلق دليل على ما يدور في الخلف، على ما هو خارج اللغة والاحساس، خارج الداخل والخارج، ما ينطلق من المركز لينشد الهامش، وكأنه لا يريد التشكل سوى ليتلاشى.
خاتمة
قدر الإنسان في عصرنا الحالي أن يعيش في المركز، مهما بلغت العمارة من كبر فهي تتسع لممر يضع المرء في منتصفه، يدور به بين رفوف السوبرماركت وفتارين المنتجات في المولات، في المستشفى كما في المدرسة، وفي شارع المشاة كما في الطريق السريع، كل التصميمات تحمل بداخلها ذلك المركز المفترض، النقطة التي ينظر منها إنسان المستقبل، حتى اللغة اتخذت اشكال جديدة، تتخذ من الشاشات وسيط جديد تلتف فيه، عمارة لغوية تصل باللعبة لمستوى جديد، هنا، يمكن للإنسان أن يخوض حربًا لا أحد يعلم عنها شيء فعلا.
في النظر المبالغ فيه للمستقبل، في الهوس بترتيب الأمور حول نقطة مركزية موجودة فقط داخله، وفي الإضافات المستمرة لمحتوى العالم حول هذه النقطة المتخيلة يوجد تصور متضمن عن الحياة الجيدة، حياة يتواجد كل إنسان فيها من خلال المركز، تفرش الأرض أمامه سجادا أحمر، وتحمل الجمل كلها إشارات إليه، ولأن العالم والمجتمع لا يحتملا مراكز عدة يتحول الأمر في النهاية لصراع دامي حور مراكز متخيلة، لا ينتج عنه سوى الهزيمة تحت وطأة الحياة واتساعها.