الوحي والفلسفة عند الأستاذ علال الفاسي من خلال كتاب أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع
فئة : مقالات
تعتبر قضية "الوحي والفلسفة" من القضايا التي يزخر بها تراثنا العقلي الإسلامي، وقد تجلت بأشكال متفاوتة عند الشخصيات العلمية في ثقافتنا التي جمعت إلى جانب معرفتها العميقة بالعلوم النقلية معرفة بالعلوم العقلية، لكن هذه القضية لم تكن دائمًا لتنتهي إلى ما يراد أن تنتهي إليه من مصالحة بل قد تكشف أحيانًا عن نوع من التوتر يؤدي إلى بعض المآزق في النظر وبعض الشطط في العمل كما هو شأن الباطنية التي أخذت تفسر القرآن بما يبعد عن الخطاب، بعد الخطأ عن الصواب كما يقول علال الفاسي رحمه الله في هذا الكتاب[1].
وقد وقفنا في مناسبة سابقة على علاقة الوحي بالفلسفة عند ابن رشد[2]، ونريد اليوم أن نغتنمها مناسبة ننظر فيها كيف تجلت هذه القضية عند علال الفاسي، وأخمن أنّ دراسة متنه العلمي على ضوء هذه القضية يمكن أن يكشف عن بعض الجدة في نظر الأستاذ إلى الوحي على ضوء تشبعه بمكتسبات المعرفة الفلسفية والعلمية الحديثة. ويمكنني أن أعتبر هذه الورقة مدخلاً لهذه الدراسة المأمولة. مع العلم أنّه سبق لي، بعدما عثرت صدفة على محاضرة الأستاذ "هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة" في مجلة الإيمان، أن نشرت دراسة قريبة من هذا النفس العلمي.
إنّ القصد الأول من هذه المقالة الاحتفاء بكتاب "أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع" وهو الكتاب الذي تضافر على إخراجه كل من الأستاذ المختار باقة والأستاذ سعيد بنسعيد العلوي. والكتاب يتألف من جملة نصوص، نشر جلها وقليل منها رأى النور أول مرة، وعلى الرغم من أنّ المقالات كلها تحمل البصمات الفكرية للزعيم المغربي، فإنّ بعضها كأنّما كتبت من أجل الفلسفة، مثل المقالة الأولى الموسومة بـ"دراسة في الفلسفة"، والثانية الموسومة بـ"هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة"، والثالثة الموسومة بـ"الإنسية في كتاب النشأتين"، والخامسة الموسومة بـ"الشيخ محمد عبده: موقفه من علم الكلام ومن الفلسفة"، دون أن يعني هذا أنّ الروح الفلسفية لا تخترق نصوص الكتاب كله كما سنبين ذلك..
أما السؤال الذي نروم من خلاله النظر في هذا الكتاب القيم فهو: كيف يقدم لنا هذا الكتاب معالم لدراسة علاقة الوحي بالفلسفة عند الأستاذ علال الفاسي؟
دون أن نتحدث عن الجانب الشرعي في شخصية الأستاذ علال الفلسفي، إذ الحياة العلمية التي عاشها، وكتبه التي خلفها، والمحاضرات التي أذاعها في الناس من منابر مختلفة تكشف أنّ الأستاذ كان ريانَ من العلوم الشرعية، وقد مكنت الحياة السياسة التي عاشها الأستاذ دفاعًا عن وطنه، واتصالُه برموز النضال الوطني من جهات مختلفة، وانفتاحُه على الثقافة الغربية، من صقل الشخصية العلمية للأستاذ، مما أضفى على خطابه الإسلامي نكهة كونية تروم رفع الإسلام إلى مستوى العصر.
اختار علال الفاسي السلفية إطارًا لعمله الفكري، وقد كان رموزها الكبار في القديم والحديث هديًا له، لكن يبدو أنّ السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ محمد عبده على الخصوص تركا في علال الفاسي جميل الأثر وأمداه بقوة في الفكر وفي النضال، دون أن نغفل طبعًا رموز السلفية الأوائل في المغرب وبخاصة أبا السلفية في المغرب أبو شعيب الدكالي.
لكنّ السلفية المعاصرة في شخصي جمال الدين ومحمد عبده امتازت بانفتاحها على العصر واستخدام وسائله في الرد على من ناوأ الإسلام من الدهريين والمستشرقين ومن ركن إلى التقليد من المسلمين. لذا سنجد الأستاذ علال الفاسي يتقصى سبيل هذين العلمين دون أن يتحرج من نقد الشيخ محمد عبده كلما بدا له أنّ الشيخ تنكب طريق الصواب في تقدير الأمور، كما تكشف ذلك مقالته التي خص بها الأستاذ الإمام في كتابه هذا[3].
لكن لعل أهم معلم من معالم السلفية المعاصرة عند علال الفاسي يتجلى في هذا الحرص على التوفيق بين الشريعة الإسلامية ومكاسب العصر الحديث الفلسفية والعلمية، لم يكن علال الفاسي بدعًا في ذلك في المغرب الحديث، فقد سبقه إلى ذلك الحجوي، ومحاضرته الشهيرة التي ألقاها بمكناس في أواسط الخمسينات أكبر دليل على ذلك، لكن علال الفاسي يمتاز في أنّ هذا كان همًّا دائمًا له...
ليس القصد هنا أن نتحدث عن هذا الجمع الشهير والوصل المأمول، على الرغم من أنّ حديثنا يندرج في إطار ذلك، بل نريد أن نقف على الطريقة التي فهم بها علال الفاسي الفلسفة والوحي، وكيف حاول أن يجعل من الوحي منهجًا في تقريب فعل التفلسف إلى المسلمين، بعد أن نبذوه وراءهم لقرون لأسباب كثيرة ليس هاهنا مجال تفصيل القول فيها.
عن الفلسفة أولاً
لا يذهب الفاسي مذهب من يجعل الفلسفة خاصة بصنف من الناس شأن التقليد الفلسفي منذ اليونان، بل يبدو أنّه يجعلها أعدل المعارف قسمة بين الناس "فهي قارة في نفوس البشر أجمعين، وإن ظهرت صعبة الإدراك موقوفة على صنف خاص من الناس"[4]، ولعل السبب في هذا القرب الحقيقي هو أنّ الفلسفة نشأت من الدين، مما يجعل فهم أحدهما متوقفًا على الآخر؛ فالفلسفة شرط في فهم الدين والعكس صحيح[5]. يفسر علال الفاسي هذه النشأة الأولى بأنّ كل حضارة نشأت على أساس من دين، وهذه النشأة اتخذت مظهرين مختلفين؛ مظهر الرغبة في تفسير العالم "في صورة رؤى وخيال"[6] فنشأت الخرافات لتفسير الوقائع وتفسير المصير الإنساني ثم نشأت المهن وبعدها ستنشأ الفلسفة[7]. إنّ هذا المظهر الأول مرتبط بتاريخية المعرفة، حيث تكون الخرافات الميتافيزيقية أساس الفلسفة والعلم. أمّا المظهر الآخر فمرتبط بنشأة النواميس؛ حيث ارتبطت نشأة الفلسفة بالطقوس، ففي كل دين طقوس تنظم أعمال الإنسان، كما تنظم الغرائز أعمال الحيوان، والتفكير النظري يتدخل إما لتفسير هذا النظام وإما لتعديله[8]؛ وهي إشارة عميقة لقسمي الفلسفة النظري والعملي. لكن الفلسفة أيضًا لا تنفصل عن العلم، فالفلسفة والعلم وجدا معًا، وكما ستقيم الفلسفة بالدين علاقة مفارقة، فإنّ علاقة مماثلة ستنتظم علاقة الفلسفة بالعلم، بحيث سيقوم العلم بتجديد التفكير الفلسفي[9]، لكن كثرة الأسئلة الفلسفية تظهر قصور العلم مما سيحفز المخيلة لقربها من الوعي[10] ويعطيها دورًا في تقدم المعرفة وهو ما يفتح الفلسفة والعلم معًا على الفن، فضلاً عن أنّ الأنساق الفلسفية هي في حقيقتها مآثر فنية عظيمة. إنّ هذه العلاقات تفتحنا على ارتباط الفلسفة بالثقافة على العموم عندما نتحدث عن فلسفة عصر ما[11]. يُبرز هذا الأمر أنّ الفلسفة ليست فكرًا تأمليًّا عاديًّا، لكنّها تظل مرتبطة في شخص الفيلسوف بالعصر وبالمستقبل أيضًا[12].
نخلص من هذا إلى أنّ الفلسفة ذات علاقة تأسيسية بالدين والعلم والفن وهي تشكل نسيج عصر من العصور.
يدافع علال الفاسي عن أحقية كل الأمم في التفكير الفلسفي معاندًا بذلك موقف من يخص الجنس الآري بالفلسفة وحده، ومن هنا يدعو إلى وضع الفلسفة الإسلامية في مركزها الحقيقي[13]، مميزًا إياها عن الفلسفة الغربية وعلى الخصوص عن الفلسفة في الشرق الأقصى، إذ إنّ تجارب الشعوب في تعاملها مع القضايا الميتافيزيقية أدى إلى اختلاف عادات التفكير؛ فنجد في الشرق الأقصى إمّا حالة النفس الإنسانية في عالم اللاوعي، وإما حالة المعرفة كلها تتجسد في الطاعة العمياء، أما الفلسفة الإسلامية فتعتمد الوعيَ والإرادةَ من جهة والفكرَ والتجربةَ من جهة ثانية[14].
لا يقتصر علال الفاسي على الحديث البارد عن الفلسفة؛ ففي محاضرته القيمة "هل الإسلام في حاجة إلى فلسفة"، يدافع الرجل عن الفلسفة ويحاول عقد صلة قوية لها بالوحي، فكيف دافع علال عن الفلسفة؟
تكمن مشروعية الفلسفة عند علال في نشأتها المرتبطة بفطرة الإنسان التواقة إلى معرفة أسرار الوجود، وهنا يستدعي قولاً منسوبًا لعلي بن أبي طالب: "رحم الله امرأً أعد لنفسه، واستعد لزمنه، وعلم من أين وإلى أين وفي أين؟ أي عرف مركزه ومصدره وأين ينتهي، وذلك ما يفرض عليه العمل بما يقتضيه مبدؤه ومركزه ومنتهاه"[15]، هاهنا لا يصبح التفكير الفلسفي غريبًا عن الثقافة الإسلامية في نشأتها الأولى، ويؤكد هذا الأمر تأويلاً طريفًا لقوله تعالى "هو الذي بعث في الأميين رسولاً، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"، من هذه الآية يستخرج الأستاذ علال عناصر الرسالة المحمدية الأربعة: تبليغ الوحي ثم تربية الناس ثم توجيه الناس إلى الاستفادة من الكتب غير الموحى بها لأنّ هذه يتضمنها قوله تعالى: "يتلو عليهم آياته" ثم دعوتهم إلى النظر في ملكوت الله لاستنتاج الحكمة[16] التي يجعلها الأستاذ صنو العلم والفهم والفقه في شؤون الحياة لينتهي إلى أنّ القرآن يوجه الناس إلى الفلسفة[17]، بقسميها النظري المعرفي والعملي الذي يتجلى في تحقيق الفضائل، لكن علال الفاسي ينقل الفلسفة من مجرد نتائجها إلى البحث في هويتها الحقيقية، فيجد هذه الهوية في المنهج، فالفلسفة عنده هي "الطريق" أي "الفكر الحر، وأسلوب الدرس، والاستقامة في البحث"[18]، منتقدًا الاتجاه الوضعي المنطقي الذي حصر فعل الفلسفة في تحليل اللغة، إنّ الفيلسوف عند علال "يبحث عن الحقيقة، يضع على كل شيء علامة الاستفهام، ليكتشف من أين وما مركزه في الكون؟"، وتبلغ الجرأة بالمفكر المغربي الكبير أن ميز طريق الفلسفة الذي هو طريق العقل عن طريق العرف والإجماع بل طريق الوحي نفسه، فـ"الأسلوب الذي يستعمله الفيلسوف لاستخراج الحقيقة من العقل هو البرهان"[19]، فطريق الفيلسوف العقل وأسلوبه هو البرهان، لا يجد علال الفاسي غضاضة في الاعتراف بطريق للمعرفة غير طريق الفقهاء، وهو الطريق الذي كان يعتبر في زمن مضى الطريق الوحيد للمعرفة، لقد كانت رحلةُ العقل عبر تاريخه الطويل من طاليس إلى العصر الحديث، رحلة انتهت بالثقة في العقل، وقد ساهم المسلمون في هذه الرحلة وخاصة في التقاء كنط بالغزالي، وهذه الثقة الكبرى بالعقل ترجمت بثقة كبيرة في الفلسفة التي أصبحت حسب علال من أحسن طرق التربية وأحسن طرق تكوين المجتمع الصالح[20].
لقد انتصر علال الفاسي للمدارس الفلسفية بضرب من الموضوعية الكاملة، وإن كانت مما تقوم أسسها على غير ما يقتنع به، حتى إنّه اعتبر الماركسية "محاولة.. لنقل الفلسفة إلى خدمة المجتمع"[21]، فرأى جانبها الاجتماعي وأعرض عن أساسها المادي الجدلي، ولعل ذلك من حنكة علال ورغبته في مد جسور الحوار التي كان الكثيرون في عصره يسعون إلى قطعها وبترها. كما أنّه انتقد خطأ رجال الكنيسة في الصراع الذي أحدثوه بين العلم والدين حين كيفوا الجدل على صورة صراع بينهما في حين أنّ العلم عند علال لا يناقض الدين، بل إنّ علال في جرأته المعهودة يعطي الحق للعلم في أن يستقل عن الدين[22].
ـ أهمية الفلسفة وطريقها في المعرفة.
ـ أهمية العلم وطريقه في المعرفة.
مكتسبان كبيران عند الأستاذ علال الفاسي، فكيف للوحي أن يستجيب لمكتسبات العصر الحديث؟
عن الوحي
يترجم علال الفاسي هذه العلاقة من خلال سؤال: هل الإسلام بحاجة إلى فلسفة؟ وهنا نجدنا أمام تقابل صريح بين الوحي والفلسفة؛ الوحي الذي أتى بكل ما يسد حاجة البشر في ميدان العقيدة والعمل وبين الفلسفة بنظرياتها التي تنافس الوحي في الميدان نفسه، هاهنا لا لقاء بين الوحي والفلسفة، لكن بالنظر إلى الوحي، وبخاصة إلى القرآن الكريم في دعوته إلى "النظر والتبصر"، فإنّ الوحي يرغب في اقتناء الحكمة والتلبس بها ليصبح في المسلمين "فلاسفة حكماء"[23]، إنّ الأستاذ علال الفاسي ينفصل هنا عن كل التقليد الفلسفي الإسلامي الأرسطي والأفلاطوني الذي كان يعتبر الفلسفة هي فقط الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية، مع حرص على الجمع بين نظريات الوحي ونظريات الفلاسفة في النظر والعمل، كما كان الشأن مع الفارابي في المشرق وأبي الوليد بن رشد في المغرب، إلى تقليد آخر دشنته المدرسة الفلسفية الإسلامية الحديثة مع شيخ الأزهر مصطفى عبد الرزاق، والتي ترى أنّ فلسفة المسلمين الحقيقية توجد في علم أصول الفقه وفي علم الكلام وليس في نظريات الفلاسفة المشائين، وبعبارة الأستاذ علال الفاسي فـ"الفلسفة الحقيقية هي التي هدى إليها القرآن وأرشد لأدلتها"[24]، وكثيرًا ما يطلق عليها اسم "الفلسفة القرآنية" القائمة على الاستقراء مميزًا إيّاها عن الفلسفة اليونانية القائمة على الصورية. يخرج علال الفاسي بالفلسفة عن كونها نظريات إلى كونها أسلوبًا في النظر قائمًا على العقل ويتوسل بالبرهان، إنّ هذه الفلسفة هي التي أنشأت لنا علم أصول الفقه مع الشافعي، وعلم الكلام مع المعتزلة، وعلم العمران مع ابن خلدون[25]، وبالتالي فلا ينبغي حصر الفلاسفة في أبناء المدرسة اليونانية، ولا ينبغي أن نعتبر كل من انتقد هؤلاء عدوًّا للفلسفة، فمجتمع الفلاسفة أكبر وفضاء الفلسفة أوسع، لذا يردد علال الفاسي مع المدرسة الفلسفية الإسلامية الحديثة أنّ "الإسلام ليس بحاجة إلى فلسفة ينتحلها من غيره"، لكن هل هي دعوة إلى الانغلاق؟ لا يمكن أن نتصور دعوة مثل هذه من علَم فكري كبير في حجم علال الفاسي إذ إنّه بالرغم من تأكيده أنّ للإسلام "من أصول الحكمة والنظر ما يغني عن الفلسفات" فإنّه مع ذلك "لا يرفض الاتصال بها" لكن بشرط، ليس على أساس القبول الأعمى والتقليد المطلق بل "على أساس أن يكون الحكم في نتائجها وأساسها"[26]. أرسل علال الفاسي هذه الدعوة النقدية في زمان عرف فيه الفكر العربي الإسلامي تبني الفلسفات الكبرى وترديدها من وجودية مع عبد الرحمن بدوي ووضعية مع زكي نجيب محمود وماركسية مع كثير من مفكري التيار الماركسي وشخصانية مع الحبابي، وإن بشكل أقل، وغيرهم ممن أدهشتهم فلسفات العصر فانصهروا فيها وصهروا. إنّ الفلسفة عند علال ليست انضواء تحت فلسفات سابقة "ننظر إليها نظرة قداسة" كما يقول[27] إنّما هي استخدام الفكر لبلوغ الحقيقة بالبراهين اليقينية، إنّها دعوة إلى تجديد النظر الفلسفي انطلاقًا من الأصول الثقافية لأمة القرآن والسنة. فالفكر البشري لم ينته حتى نتوقف عنده، يدعو علال الفاسي إلى الارتباط بتيارات العالم لكن من خلال ما عندنا، أن ندرس الكل، لكن نعي أنّنا لنا طريقتنا في مواجهة المسائل، إنّ هذه الصرخة العلالية هي صرخة معاصرة ما يزال صداها يتردد إلى الآن وما زلنا في حاجة إلى التفكير فيها بجدية أكبر.
يقدم لنا علال الفاسي مثالاً على ذلك من خلال نظرته إلى مفهوم الإنسية، فكيف قارب علال هذا المفهوم المعاصر من خلال الفلسفة القرآنية؟
يتخذ الأستاذ علال الفاسي من كتيب صغير كتبه الراغب الأصفهاني وسماه "كتاب النشأتين" مناسبة للحديث عن ما أسماه بـ"الإنسية الإسلامية"، وهذا التركيب يكشف هذه الصلة العميقة التي يريدها علال بين الفلسفة والوحي، إذ إنّ علال سيفحص في هذا الكتاب عن الروح الإنسية التي تسكن الوحي والتي يحاول أن يربطها بالإنسية بوصفها مفهومًا فلسفيًّا نشأ للتعبير عن نظرة جديدة للإنسان نشأت في الغرب من خلال الدفاع عن العقل والفن.
عن الإنسية
في مقالة جميلة يحدد هيدجر معنى الإنسية بما تقتضيه وتتطلبه فيقول: "النـزعة الإنسانية تقتضي ما يلي: لنفكر ونحرص على أن يكون الإنسان إنسانًا لا "همجيًّا"، أي خارج ماهيته. والحال أين تكمـن إنسانية الإنسان؟ إنّـها تستقر في ماهيته." ثم يتساءل: "كيف وانطلاقًا مماذا تتحدد ماهية الإنسان؟"[28]
يجيب علال الفاسي أولاً أنّ الإنسية لا تخص أمة دون أمة فهي ملك مشاع، ولعل الذي دفع علال إلى أن يتحدث عن الإنسية من حيث هي اتجاه يخترق الفلسفة والحضارة المعاصرة، هو ما رآه من احتكار بعضهم لهذا المفهوم حتى إنّ بعض الاتجاهات تقدم نفسها تجسيدًا للإنسية وتنفيه عن غيرها. يلتفت الأستاذ علال إلى التراث الإسلامي يبحث فيه عن "الإنسية الخالدة"، فيجد عند الراغب الأصفهاني حديثًا عن الإنسية بالمعنى المعاصر[29]، فكيف استطاع الوحي أن يسعف علال الفاسي في هذا البيان الفلسفي؟
إذا كانت الإنسية في الغرب قد جعلت من الإنسان مركز الكون، وحررته من أوهاق الفكر الكنسي ورفعت العقل إلى مستوى الحاكم المطلق الذي لا يرد له قول، فإنّ الإنسية في الكتاب العزيز لا تبعد كثيرًا عن هذه المعاني، مع مراعاة لخصوصية تجعل قوام هذه الإنسية "الروح ومظهرها التكليف وسبيلها العمل"[30]، وإذا كان الراغب في هذا الكتيب يطلق الإنسية ويريد بها المعنى المعاصر حسب علال، فإنّنا نعتقد أنّ هذه القراءة المعاصرة للكتاب هي التي أخرجت هذه المعاني، يذكرنا ذلك بما صنعه باحث مغربي كبير مع ابن باجة وباحث جزائري كبير مع ابن مسكويه، قراءة تستخرج ما يضمره تراثنا من عناصر تجدد نظرتنا للوجود؛
الإنسان في القرآن نشأتان، جسمية وهي المقصودة بالنشأة الأولى[31] وفكرية وهي المقصودة بالنشأة الآخرة[32]، وسعادة الإنسان سعادتان؛ دنيا وأخرى، لكن الأهم في ذلك أنّ السعادتين رهينتان بالمعرفة؛ معرفة الإنسان نفسه ومعرفته ربه، وهو ما يُستخلص من قوله تعالى "نسوا الله فنسيهم" وتقرأ الآية هنا قراءة عكسية "أي ذكروا الله فذكرهم نفوسهم وما يجب عليهم من اهتمام بها"[33]، إنّ دراسة الإنسان نفسه بداية المرحلة في عالم المعرفة وبداية معارج التربية الذاتية ليخرج من إنسانيته إلى إنسيته[34]. وأول ما يعرفه المرء هو كثرة الموجودات، يعرف ذلك بقواه المختلفة التي أشار إليها الكتاب في الآية الكريمة "خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج" أي من قوى مختلفة، وما يسمح بمعرفة الإنسان للعالم، أنّ الإنسان ليس في نهاية المطاف إلا عالمًا صغيرًا، كالمختصر من الكتاب، وهو ما يفسر قوله تعالى "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" فالنفس الواحدة هنا هي "ذات العالم" أي العالم الكبير والإنسان، العالم الصغير "صفوة العالم ولبابه وخلاصته وثمرته"[35].
لكن من هو هذا الإنسان؟ إنّ الإنسان مفهوم مشترك، فهو يطلق على كل منتصب القامة ضاحك الوجه ولكن ينطق عن الهوى، إنّهم من الإنس المذكور في قوله تعالى "شياطين الإنس والجن"، فهو إنسان بالصورة المحسوسة فقط أما الإنسان بالحقيقة فلا يكون إلا بالصورة العقلية[36]، ومن هنا أهمية العقل، لكن العقل عند المسلمين على الرغم من أهميته المركزية لا يتحرك خارج دائرة الشرع، وهذا من خصوصية الإنسية الإسلامية؛ فالعقل أساس والشرع بناء "ولن يغني أس، ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء، ما لم يكن أس، والشرع عقل من خارج، والعقل شرع من الداخل، وهما متعاضدان، بل متحدان، "وهنا يأتي الوحي ليقرر هذه الحقيقة في قوله تعالى "نور على نور" أي نور الشرع، ونور العقل "يهدي الله لنوره من يشاء"[37]، إنّ هذا الجمع بين النورين هو هدي الحيوان الناطق الذي "عرف الحق فاعتقده والخير فعمله" وبقدر ما يتعاطى الفعل المختص بالإنسان يقال إنّه أكثر إنسانية[38]، ولم يوجد العالم إلا من أجل هذا الإنسان، فهو الغاية من خلق العالم، ولم يهيأ العالم على الشكل الذي هيئ به إلا ليحيا عليه الإنسان، إنّنا هنا مع دليل العناية الذي سبق أن فصل القول فيه ابن رشد في كتابه مناهج الأدلة، لكن مادام العمل هو المظهر الأكبر لإنسية الإنسان فما على الإنسان إلا أن يعمر الأرض بالعمل المطلوب منه وبالصناعات والمهن، لأنّ الإنسية في الكتاب العزيز تتوقف على تفكير سليم لكن على فعل الخير أكثر، إنّنا هنا نلتقي مع فلسفة الفعل المعاصرة التي تبحث "في المشاكل المتعلقة بالفعل الإنساني، بطبيعته، بأسبابه وبمقاصده" كما نلتقي قبلها بنظرة الوجودية إلى الإنسان أنّه نتيجة أفعاله التي يقوم بها، وتعريف الماركسية للإنسان أنّه مجمل علاقاته الاجتماعية، والذي يتأمل القرآن الكريم لا يجد الحديث عن الإنسان إلا من خلال أفعاله ومقاصد هذه الأفعال، فليس هناك في الكتاب العزيز تعريف للإنسان بالماهية إنّما يعرف الإنسان بأفعاله فقط سواء كان فعل جوارح أو فعل قلب أو فعل تعقل وتفكر. والإنسية الخالدة عند علال تكمن في خروج الإنسان دومًا من نقصه إلى كماله، وهذا الخروج لا يكون إلا بالعلم والعمل.
خاتمة
إنّه لأمر ما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يفسر القرآن الكريم كله بل ترك دلالاته مفتوحة، وقد استفاد المسلمون كثيرًا من انفتاح القرآن الكريم على الدلالات وركبوا فيها مركب التأويل الصعب، لكن خيفة أن تزل أقدامهم حرصوا أن يضعوا لهذا التأويل قوانين تحجزهم عن الشطط في القول، وليس الغرض هنا فتح هذا الباب على مصراعيه إنّما هو مناسبة للقول إنّ الأستاذ علال الفاسي قد وجد في هذا الأمر مناسبة للدفاع عن بعض مكتسبات العصر من خلال نظرة جديدة لبعض آيات الكتاب العزيز، وهو طبعًا ليس في بدعًا في ذلك، لكن ما يهمنا هو أنّ الأستاذ علال يجد الدعوة إلى التفكير الفلسفي في القرآن ويجد الإنسية الخالدة في القرآن ويجد موجهات الفكر السياسي الحديث من اشتراكية وديمقراطية وحرية في القرآن، وهو ضرب من فكر تنويري بدأنا نفتقد كثيرًا من معالمه في ساحة ثقافية يشكلها اليوم أنصاف المتعلمين، ويلوح في أفقها العارض الممطر.
إنّ مفهوم "الفلسفة القرآنية" يلخص تصور علال الفاسي لعلاقة الوحي بالفلسفة، فالفلسفة عند المسلمين لا يمكن إلا أن تخرج من الوحي دون أن يحول ذلك وتفاعلها مع مكاسب العصر الحديث، إنّها الحكمة التي حث القرآن الكريم على تعلمها وجعلها خاصة خاصته، وجعلها الحديث النبوي ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها من غيره. وما دام الوحي خطابًا عالميًّا وجه للناس أجمعين فهو يحمل إمكانيات كبرى من الدلالات وقدرة هائلة على تقبل أكثر من تأويل.
إنّ المسلمين، عند علال الفاسي، أقدر على التعامل مع كل الفلسفات بصيغة نعم ولا، يقبلون دون أن يوصموا بالتقليد، ويرفضون دون أن يقذفوا بالجحود، فتكون الفلسفة التي ينشئونها تعبيرًا عن إشكالاتهم الحقيقية وليس فقط ضربًا من استعارة لمشاكل غيرهم. وهي لعمري نصيحة علالية معاصرة تكتب بدم العيون. لقد كان علال الفاسي بجهة ما فيلسوفًا، وأقصد بهذه الجهة معنى الكلمة الاشتقاقي على الأقل، وإلا فإنّ الرجل كان ذا عقلية جبارة لا تقتحم ميدانًا إلا وأحاطت بجميع جوانبه، وهو في محاضرته عن "حاجة الإسلام إلى الفلسفة" يعطي انطباعًا قويًّا عن تمكنه من معرفة المدارس الفلسفية الغربية، وينتظر أن يتاح له الوقت لعرضها ومناقشتها. وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على الدور الكبير الذي قام به علال الفاسي، ربّما بشكل غير مباشر، في إنجاح الدرس الفلسفي في المغرب، وهو مجال آخر للقول يحتاج إلى تفصيل.
[1] علال الفاسي، أحاديث في الفلسفة والتاريخ والاجتماع، جمع وإعداد وشرح المختار باقة وتقديم ومراجعة سعيد بنسعيد العلوي منشورات مؤسسة علال الفاسي الطبعة الأولى 2014
[2] انظرها في ملف خاص أصدرته مؤسسة مؤمنون بلا حدود عن ابن رشد.
[3] مقالة "الشيخ محمد عبده: موقفه من علم الكلام والفلسفة" المصدر نفسه.
[4] مقالة "دراسة في الفلسفة" المصدر نفسه، ص 21
[5] المصدر نفسه، ص 22
[6] المصدر نفسه، ص 25
[7] المصدر نفسه، ص 25
[8] المصدر نفسه، ص 24
[9] المصدر نفسه، ص 23
[10] المصدر نفسه، ص 25
[11] المصدر نفسه، والصفحة.
[12] المصدر نفسه، ص 23
[13] المصدر نفسه، ص 24
[14] المصدر نفسه، ص ص 26 ـ 27
[15] المصدر نفسه، ص 35
[16] المصدر نفسه، ص 41
[17] المصدر نفسه، 43
[18] المصدر نفسه، ص 35
[19] المصدر نفسه، ص 35
[20] المصدر نفسه، ص 39
[21] المصدر نفسه، ص 39
[22] المصدر نفسه، ص 37
[23] المصدر نفسه، ص 45
[24] المصدر نفسه، ص 46
[25] المصدر نفسه، ص 48
[26] المصدر نفسه، ص 48
[27] المصدر نفسه، ص 49
[28] رسالة في النـزعة الإنسانية، مارتن هايدغـر، ترجمة: عبد الهادي مفتاح.
[29] مقالة في كتاب النشأتين، أحاديث، مصدر سابق، ص 60
[30] المصدر نفسه، ص 52
[31] المصدر نفسه، ص 56
[32] المصدر نفسه، ص 57
[33] المصدر نفسه، ص 58
[34] المصدر نفسه، ص 58
[35] المصدر نفسه، ص 59
[36] المصدر نفسه، ص 57
[37] المصدر نفسه، ص 69
[38] المصدر نفسه، ص 60