انقلاب المعبد: سلطة القارئ وروح التلَّقي لديه
فئة : مقالات
تحاول الكتابات المعاصرة في جملتها أن تعتمدَ آليَّات في قراءة الواقع والتراث. وهذه القراءة تظهر في شكلها النهائي كنصٍّ ينفتح معناه من خلال القراءة. وأنا هنا أُحاول أن أجمع بين النص الذي هو "انقلاب المعبد"([1])، وبين جملة من التعليقات واجهتها بشكل غير مقصود حين كنت أبحث عن نسخة إلكترونيَّة إلى جانب نسختي الورقيَّة، ولكنَّني أثناء بحثي وجدت مجموعةً من القراء تركوا تعليقاتهم على الكتاب، وحين أخذت بالقراءة وجدتها قراءات تستحق التأمل والدراسة؛ فعزمت على تصفحها وقراءتها نقدياً.([2])
التعليق الأول: أهمُّ كتاب قرأتُهُ في حياتي بعد البوصلة القرآنيّة، لن يعيد ترتيب أوراق اللعب من جديد كما فعلت البوصلة، لكنَّه سيقلب الطاولة بأكملها، لم يعد يفيد التجديد، لم يعد بالمقدور سوى إنقاذ النبي من الإسلام التاريخي، الانقلاب على كلّ شيء آخر، لم تبتعد الناس عن الدين، الدين هو الذي ابتعد عن الناس، انتظروا مراجعة قرائيَّة ونقديَّة طويلة".
يبدو هذا التعليق أنَّه يقدّم المديح، ويجد في هذا الكتاب أثراً محموداً على القارئ، لهذا وصف قراءته للكتاب بأنَّها مؤثرة في حياة القارئ، ولكنَّه من ناحية ثانية يعطي توصيفاً سريعاً كالومضة بأنَّ هذا الكتاب تجاوز جهد المجدّدين من أهل القراءات التي كانت تنشد التجديد وإعادة الحياة للتراث ورتق ما تهتك منه، ولكنَّ هذه القراءة التي جاءت بها روح النص هي تجاوز للتجديد صوب قلب الطاولة على هذا الإرث الذي لم يعد تجديدُهُ ممكناً؛ ولكنَّ ما هو متيسر هو إنقاذ النبي من تلك القراءات التراثيَّة، أو بحسب ما سمَّاه الإسلام التاريخيّ، وكأنَّه هنا يميز بين النبي وبين الإسلام التاريخيّ الذي تمَّت إقامته على تلك التجربة، وكأنَّ صاحب التعليق هنا يميز على طريقة عبد الكريم سروش بين الإسلام في ذاته متمثلاً هنا في النبي وبين التراث الإسلامي، فهو تراث تاريخي ويمثل قراءات تاريخيَّة ارتبطت برهانات أهلها وما كان ممكناً وقتها. لهذا يعلّل ابتعاد الناس عن الإسلام بسبب تلك القراءات التاريخيَّة التي أسماها الإسلام التاريخيّ.
التعليق الثاني: "الحلّ الوجوديّ للدين" كتاب يستحق القراءة بالفعل، فهو يوضح الفكرة الوجوديَّة التي يقترحها المؤلف، والتي تختلف تمام الاختلاف عن الوجوديَّة التي نعرفها فهي لا تشبه بأيّ حال من الأحوال تلك الوجوديَّة "الإلحاديَّة" الذائعة الصيت، بل هي وجوديَّة إنسانيَّة تصلح وتتوافق مع كلّ البشر الذين لم تجرفهم الحياة الماديَّة بعيداً عن قلوبهم وبشريتهم. هي فكرة جذابة، تجمع بيننا جميعاً، وتفتح أمام أعيننا العظمة الحقيقيَّة.
ويبدو أنَّ هذا التعليق يقرّر أنَّ الدراسة تأخذ طابعاً وجوديَّاً، ولكنَّه لا يراها تتشابه مع الفهم الوجودي العدمي، ويؤكد الجانب الديني على الكونيَّة، وأعتقد أنَّ المعلق كان يريد التأكيد على الأفق الدينيّ الذي يتسم بالإنسانيَّة وطابعها الكونيّ، ممَّا يعني أنَّه يرى ضرورة التأكيد على الجمع بين الدين والانفتاح الكونيّ الذي يمنح الدين طابعاً إنسيَّاً كونيَّاً.
من دون أن يميِّز المشتركات التي يمكن أن تغدو قاسماً مشتركاً بين الوجوديَّة وهذه القراءة، مثل الحريَّة والقلق والتناهي ...إلخ([3])، وكما يقول مصطفى ملكيان عن تفوُّق الوجوديَّة على غيرها: "الوجوديَّة قد تفوق سائر الفلسفات في فهم وتفسير نظرة الدين للإنسان، وقد تبزُّ الأرسطيَّة، أو الأفلاطونيَّة المحدثة، أو التوماويَّة وغيرها من المدارس في فهم وتفسير أنطولوجيا الدين وميتافيزياه، والمذاهب الرواقيَّة، وربما فاق غيره في فهم وتفسير الأخلاق الدينيَّة والسلوك الديني."([4]).
التعليق الثالث: كاتب ذكي، له إشارات مدهشة، ويستعمل لغة متفوقة في توصيل مراده، ولكنَّه غير منهجي في كتابه هذا، إضافة الوجوديَّة المؤمنة وسؤال المعنى إلى الدين قلبٌ للتصور القائم على الصورة والهيكل للدين. هذه فكرة المؤلف الجوهريَّة. فالذكاء، الدهشة، اللغة، الابتعاد عن قيود المنهجيَّة، التأكيد على العامل الديني من خلال وضع السؤال عن المعنى للدين القريب من القلب والبعيد عن الهياكل، معايير تجعلنا نرصد انهماك المعلق باللغة الشذريَّة التي عرفت بها هذه الكتابات منذ نيتشه، وكير كجارد التي تؤكد على النقد والعمل على البحث عن المغايرة وإعادة طرح الأُسس للنقد والتساؤل.
لهذا يقول المعلق وهو يساير النص وينفعل مع مراميه بالقول هكذا كسبنا الدين وخسرنا الصلاة، ارتفعت المعابد وهبط الانسان). إذ تتمثل خصائص الكتابة الشذريَّة في مجموعة من الخاصيات والسمات، مثل: التركيز، والاختزال، والاقتضاب، والاقتصاد، والتحرك السريع، والتخلص من الحشو والإطناب والاستطراد، والاعتماد على بلاغة التكثيف. إذ تقدّم الشذرة عصارة التجارب الذاتيَّة أو الموضوعيَّة، أو تكون خاتمة لتجارب ذهنيَّة ووجدانيَّة، خاضعة بدورها لانطباعات ذاتيَّة أو موضوعيَّة، أو لضغوطات داخليَّة أو خارجيَّة، أو لإكراهات لا نسقيَّة".([5])
التعليق الرابع: نجده عند جبران الذي يقدّم في هذا الكتاب حلاً لأزمة الدين وهو (الحلّ الوجودي)، حيث إنَّ الله خلق الإنسان وجعله مسؤولاً عن حياته بما منحه له من (حريَّة، إرادة، وعي، إبداع). لهذا عليه أن يدخل إلى الحياة بالخروج عليها، وأن يكفر بالمعبد ليؤمن بالله (كما وضح في المقدّمة). ويتطرَّق في بداية الكتاب إلى مشكلة الدين في الوقت الحاضر التي تظهر في أنَّ المعبد أقحم نفسه في كلّ ميادين الحياة حتى تدخل في شكل اللحية، ألعاب الأطفال، المسرح، الموسيقى، كرة القدم ...، فلم يترك شيئاً إلَّا وربطه به، ويبدو أنَّه يركز هنا على أمرٍ حيوي هو الحل الوجودي بوصفه الهدفَ الأساسَ للكتاب الذي يعني بالضرورة استعادة الجانب الفردي في مقابل المؤسسة الدينيَّة التي تحتكر الحقيقة، ويرجع الأمر إلى الفرد في جمعه بين الحريَّة والمسؤوليَّة والقلق، وهو عدم الحصانة وغياب الكمال عن الهدف البشر، وهما محكومان بالحريَّة. وتعارض الكتابة الشذريَّة في الفلسفة الحديثة والمعاصرة الغربيّة كلَّ فكرٍ نسقيٍ، وتستعمل غالباً كسلاح هجائي ضدّ الزمن الراهن. روحها هي روح التمرُّد، والثورة، والرفض، والاختلاف، والتفكيك. وهي حقيقة مقلقة مبنيَّة على أسئلة ما ورائيَّة وميتافيزيقيَّة عويصة، تعمل على الهدم والتقويض والتشظية. كما أنَّها فكر نقدي، لا نسقي، ولا قوانين لها غير قوانين الأنا.
إنَّ هذا التعليق يشير إلى الجانب النقدي الذي كان يمهّد له، ونحن نجد أنَّ الكاتب له أسلوبه في الكتابة، إذ إنَّ الكتابة الشذريَّة هي كتابة إشكاليَّة بامتياز، تطرح الأسئلة أكثر ممَّا تطرح الأجوبة. إنَّها أسلوب عالم فقد ثقته بقيمه وأشكاله، عالم يحنُّ إلى بدء جديد.
ولهذا، فإنَّ الشذرة كما عبَّر عن ذلك فريدريش شليغل، فن يخاطب المستقبل والأجيال القادمة، ويظلُّ معاصروه عاجزين في أغلب الأحيان عن فهمه أو تقبّله. ومن هنا، فقد اختار كثير من الفلاسفة والمتصوفة والمفكرين استعمال الشذرات طريقة في التعبير والتفكير والتصريح. بمعنى أنَّ الكتابة الشذريَّة هي كتابة التفسخ والتفكك والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقيَّة الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدّد.([6])
التعليق الخامس: يرى أنَّ الكاتب لا يتحدَّث عن الإسلام ولا عن الإلحاد ولا عن غيره، وإنَّما عن دين آخر ابتدعه من عنده، لا يوجد باحث منصف مسلماً كان أو ملحداً يقبل الكلام المطروح في الكتاب، فالكاتب لم يؤسّس لمنهجيَّة فكريَّة محترمة في كتابه، كما يوهمك العنوان، وإنَّما طرح شذرات من خواطره هنا وهناك متبوعة بكلمة "أس" وكلمة "المعبد" و"الكهنة" فقط لا غير، حاول الكاتب أن يصل حبل أفكاره بالإسلام، ولكنّه فشل أيَّما فشل ...، وربَّما من الخطأ تسمية ذلك بالفشل لأنَّه لم يحاول أصلاً، فمثله كمثل شخص جلس يصف بناء شاهقاً بحسب مزاجه من دون أن يشاهده.
وهذا التعليق يضع تحديد أساس بين الكتابة الشذريَّة والكتابة المنهجيَّة التي تعتمد على أطروحة ومنهج، وتحاول عرض المشكلة بلغة مفهوميَّة، وتستند الكتابة الشذريَّة (l'écriture fragmentaire) أو الكتابة المقطعيَّة أو أسلوب النبذة (Aphorisme)، كما عند نيتشه، إلى الاقتضاب، والتكثيف، والتبئير، والتركيز، والإرصاد، والنفور من التحليل العقلي المنطقي، وتفادي الكتابة النسقيَّة. وتُعدُّ هذه الطريقة في الكتابة خاصيَّة غريبة عن ساحتنا الثقافيَّة والإبداعيَّة كما تعودنا عليها لسنوات مضت، على الرغم من وجودها في تراثنا العربي بشكل من الأشكال، ولاسيَّما المنتج الصوفي والعرفاني، وأيضاً في كثير من المصنفات التراثيَّة القائمة على التقطيع والتشذير والاختزال، وخاصة الكتب الفلسفيَّة والأدبيَّة والدينيَّة منها.
وإذا كان أغلب المؤلفين يميلون إلى الكتابة النسقيَّة والتحليل المنطقي الصارم المبني على قوة الحجاج والاستدلال والبرهان العقلي والتحليل المتماسك اتساقاً وانسجاماً، فقد بدأت الكتابات المعاصرة، سواء أكانت من الأدب العام أم من الأدب الخاص، تعتمد على الكتابة الشذريَّة المقطعيَّة القائمة على شعريَّة الانفصال، وتتكىء على بلاغة التشظي، وتتهرَّب من التحليلات العلميَّة والمنطقيَّة العقليَّة الجافة والمنفرة، لتعوضها بكتابات شاعريَّة وتأمليَّة ذهنيَّة أو وجدانيَّة. وبذلك تحضر الذات، ويطفو الخيال الخارق، ويعلو التخييل المجنح، ويسمو الانزياح، وتتقطع النصوص فوق صفحة البياض فراغاً وامتلاء وانفصالاً وبعثرة، فتختلط الأجناس والأنواع ليتشكَّل منها نص شذري أو كتاب شذري، وذلك في شكل مقطوعات وفقرات ومقتبسات، بينها بياضات واصلة وفواصل تتأرجح بين النطق والصمت. وفي تعليق آخر يبدو أنَّه تعليق يحاول استثمار القراءة الشذريَّة في عرض المضامين ذاتها التي يعرضها صاحب الكتاب، والتي تتناص إلى حد كبير مع علي شريعتي في المضمون والرؤية، ولكنَّها تختلف في الأسلوب الشذريّ، إذ يقول التعليق: "البحث عن قراءة أخرى للإسلام من جديد عن طريق الوجهة الوجوديَّة للإنسان تاريخياً، أي البحث عن الإسلام في صمت سلمان الفارسي، لا في كتب الرازي، في منفى أبي ذر لا في قرشيَّة الخليفة ...، في كوخ علي لا في قصور معاوية، في صليب الحلاج لا في عقليَّة ابن سينا. ثم يتعدَّى الأمر ذلك الإطار التاريخي والجغرافي ليعاد نحت الوجوديَّة، سواء عن طريق الإسلام المجهول، والمهمَّش والمقموع برموزه، أو عن طريق من يمثله من رموز خارجه وقبله وبعده، ولا بأس حينها أن يبقى كيركيجارد إلى جنب أبي ذر وغاندي...، فهذا التوصيف يميل إلى الفعل الوجودي لا الى التجريد الفلسفي ولا إلى التسلط السياسي، إنَّه فعل مقاوم إيديولوجي كثيراً ما تجلَّى في أدبيات علي شريعتي وهو يحرّض على التغيير ونفي شكل من أشكال الدين.([7])
ونجد القارئ في الجزء الثاني من تعليقه يصف حالة التلقي وقراءة مؤلفات المؤلف، يقول: "تجربتي الثانية بعد (جمهورية النبي)([8]) مع الرائع عبد الرزاق الجبران، أكاد أجزم بأنَّ إبداعات المفكر لها أثر وجودي عظيم على القارئ. أنصح بقراءته لمن أراد حقاً أن يكون له دور في الانتقال لمستوى أعلى من الإنسانية. أمَّا المثقلون بالتراث وطائفيته وأحزابه فسيكون قلب صفحات الكتاب عبئاً عليهم".
وبعد دعوته إلى تشجيع غيره على القراءة يضع (ملاحظة)، يقول فيها: "منذ فترة لم أشعر بأنني بحاجة للتعمق أكثر وقراءة المزيد ومن ثمَّ الرجوع لإعادة قراءة عمل ما".
وهناك تعليق آخر يصف تجربة التلقي لهذا النص فيقول: "دمار الإسلام ليس مسؤولية كيد الآخرين كما تصرُّ الجوامع، وإنَّما مسؤولية خيانة. هذا بالتأكيد واحد من الكتب التي ما إن تفرغ منها حتى تجد أنَّك أنت لست أنت أو كما كنت! كتاب ثوري متمرّد بقوة، أو كما يردّد الكاتب "انقلابي"، يخرج عن كلّ ما هو مألوف ومتعارف عليه في تراثنا و"لاشعورنا" الإسلامي، يعيد صياغة مفهوم الدين بالنسبة إلى الإنسان، أو كما يقول الكاتب: "يعيد الدين للإنسان بدلاً من أن يعيد الإنسان إلى الدين. الكتاب ثقيل نوعاً ما، وربما يحتاج لخلفية عامَّة عن الفكر أو الفلسفة ليتحقق الفهم التام، ولكن بالرغم من ذلك يمكن للقارئ العادي أن يخرج منه بقدر هائل من الفائدة، ففي النهاية هو يتركك وعقلك".
ويبدو لي أنَّ هذا التعليق بقدر ما هو توصيف للتجربة هو أيضاً دعوة للآخرين إلى الانغماس في هذه التجربة، وهو فعل تحريضي على القراءة، وإن كان يحذر منها كونها تحتاج إلى لوازم قبليَّة حتى تتحقق الفائدة منها، ويفترض أن يكون لدى القارئ خلفيَّة معرفيَّة فلسفيَّة، وهذا يتطلب جهداً لا يخلو من فائدة. وفي تعليق آخر يخلق قطيعة مع بعض القراءات والتعليقات السابقة، ويضع لهذا التعليق خطاً داكناً، وكأنَّه يريد التنبيه على أمر ما فيقول: "في هذا الكتاب ينفي عبد الرزاق الجبران كونه باحثاً وجودياً يسعى لتغطية الدين بالعقل أو سعيه إلى عصرنة الدين ليوافق العصر كالعديد من الباحثين التنويريين، بل يعرف نفسه كمسلم رأى رمال أبي ذر في منفاه وصليب الحلاج وغربة علي بن أبي طالب، إسلام شامل يضم أدياناً ومللاً وفرقاً عدَّة، بعيداً عن الأسماء "الحقيقة ليست بعيدة...، الأسماء تبعدها". فالكاتب لم يكن باحثاً في مجال الفلسفة الوجوديَّة، على الرغم من أنَّه دعا إلى هذا صراحة([9])، ولا في فلسفة الدين، ولا يهمُّه البحث المعرفي في علم الكلام الجديد ولا في اللاهوت، إنَّ هدفه مختلف تماماً، إنَّه يسعى إلى ما سعى إليه أستاذه علي شريعتي بتوظيف الدين في التغيير المجتمعي، أي كإيديولوجيا كما أقرَّها شريعتي.
والقارئ هنا يقدّم توجُّهات إلى القرَّاء الآخرين بقوله: "من الأفضل قراءة هذا الكتاب أولاً قبل قراءة كتابه الأخر "جمهورية النَّبي، باعتبار "انقلاب المعبد" مقدّمة فلسفيَّة للجمهوريَّة، يدعو إلى الانقلاب على المعبد وهجرة الدين البشري الأرضي".
ولاشكَّ أنَّ القارئ هنا ملمٌّ إلى حد كبير بجهود المؤلف ويقوم بتصنيفها كمقدمات نظريَّة فلسفيَّة يفترض الإلمام بها قبل الدخول في غيرها. وفي تعليق آخر هو عبارة عن نص من الكتاب اختاره القارئ ليكون دليلاً على متابعته لأبرز فكرة في الكتاب، وهي تظهر في نص التعليق، فيقول: "كتاب ذو مستوى فلسفي عالٍ، استغرق وقتاً طويلاً...، إلا أنّه قام بخلق فكرة جديدة عن مفهوم الدين لديَّ، لم يعد هناك حلٌّ إلا بالانقلاب على كهنة المعابد وإعادة دين النبي (دين الإنسان) إلى الناس، فالغاية من الدين أنسنة البشر وليس تديينه، كتاب جديد تمَّ الإعجاب به وبجدارة."
ويبدو لي هنا أنَّ النص يقترح مفهومين، الأول: أنَّه لم يعد هناك حل، أي أنَّه لا يجد الإصلاح ممكناً، وهي فكرة الثورة التي كان شريعتي يلمح إليها كثيراً مع نظام الشاه، والتي يحاول جبران أن يقتنصها ويعيد إنتاجها عراقياً بعد التغيير، فهو لا ينطلق من واقعه وجهده الإصلاحي فيه، بل يردّد ما يقوله شريعتي عبر سياسة الانقلاب والثورة ونفي هذا الشكل من الدين، وهذا هو هدف مشروعه في التحريض الإيديولوجي على نفي هذا الشكل السكوني من الدين كما وصفه إقبال، والتبرير هو المفهوم الثاني "أنسنة الدين"، طبعاً هو هنا لا يقدّم توصيفاً معرفيّاً، على الرغم من توظيفات نيتشه وكيركجارد الوجوديَّة، فهو لا يقدّم حلاً أو تحولاً معرفيَّاً، بل يحرّض لدين إيديولوجي ثوري، كما عبَّر عنه شريعتي عبر استعارات صوفيَّة ومجازات إيديولوجيَّة، على الرغم من أنَّ أنسنة الدين مفهوم معرفي ولاهوتي جاءت به النهضة الغربيَّة واللاهوت الجديد في الغرب، وفي العالم العربيّ جاءت أطروحة محمد أركون وإدوارد سعيد مخالفة لما يريده شريعتي وجبران.([10])
ويبدو أنَّ هذا التأويل للمفاهيم وإخراجها من أرضيتها المعرفيَّة والفلسفيَّة وزجّها في أرضية أخرى تُؤدلج الدين وتحوّله من المعرفة إلى الإيديولوجيا، على الرغم من أنَّ التلقي بفعل الخلط أحدث إرباكاً في التلقي. فعلي شريعتي كان ينتقد نمطاً من التدين التقليدي، ولا نريد توظيف مصطلحه ونستبدله بمصطلح أركون الدين التيولوجي السابق على انتشار الإيديولوجيا التي كان شريعتي واحداً من منظّريها، أو ما يعرف بالإسلام السياسي الذي جاءت الكثير من النقود عليه من: داريوش شايغان، وأركون، وسروش وشبستري ونصر حامد أبو زيد وعبد الجبار الرفاعي،([11]) كلُّ هؤلاء قدَّموا توصيفاً نقديَّاً له، أي أنَّ شريعتي ينتقد التدين التقليدي التيولوجي قبل الإيديولوجيا، وأطروحته تصبُّ في هذا الهدف، وهو يستعير المقولات اليساريَّة في النقد، أمَّا عبر الرزاق الجبران فإنَّه يستعير المقولة ويطبقها من دون أن يميز بين الإسلام الذي انتقده شريعتي والإسلام الإيديولوجي الذي دعا إليه ونظَّر له، فهذا الالتباس حاضر بعمق وبحاجة إلى معالجة. ولعل هذا هو السبب في التلقي وسوء القراءة في بعض التعليقات التي أنتجت تأويلاً وجوديَّاً لما يقوله الجبران ومن هذه التعليقات:
1- "قارن بين الوجوديَّة الإنسانيَّة وبين من يتستر بلباس الدين بصورة معاكسة، ويتشدق بمعرفته بتعاليمه وهو بعيد كلَّ البعد عن حقيقة الدين. الجبران يطالب بالوجوديَّة الإنسانيَّة كونها الحل الأمثل كما رأى وأوضح ذلك من عدة زوايا، الوجوديَّة التي تحدث عنها الجبران ليست وجوديَّة سارتر ولا كيركجارد إنَّما وجوديَّة تعترف بقيم الإسلام التي شوَّهها الكثير، وجوديَّة تعترف بالسنن الإلهيَّة. باختصار الجبران أبدع في حديثه عن الوجوديَّة وتعمقه في مفهومها ...".
2- "لست أنا حين انتهيت من قراءة هذا الكتاب، تكلَّم الكاتب عن سبب تأخُّر المسلمين ورجعيتهم. وأخطاء باسم الدين والوجوديَّة، سأقرأ الكتاب مرَّة أخرى كي أحصل الفائدة الكبرى منه، لغة الكاتب تعتبر صعبة لمن لا يعتاد على هذا الأسلوب، ولم يعجبني في الكاتب تقديسه للأشخاص وانتقاده للأشخاص مثل ابن سينا، ما قاله يعتبر صحيحاً، ولكن أفضّل تقديس الأفكار عن تقديس الأشخاص".([12])
3- "بداية الكتاب جميلة جذابة، لكن حين تدخل في صلب الموضوع تكتشف عناية الكاتب باللغة وإظهار مقدرته على حساب الفكرة، يبني على افتراضات غير مذكورة الأدلة، كما أنَّ فيه مغالطات ويناقض نفسه في أكثر من موضع، وقد كان الكتاب على خلاف ما سمعته عنه عموماً والانبهار الذي كان يحيط بالكتاب".
4- "قدَّم الجبران نظريَّة وجوديَّة دينيَّة تقوم على هدم المعبد؛ لأنَّه لا يمكن وجود إصلاح قائم على دين مزيف، والمقصود بالوجوديَّة هنا هي مثل وجوديَّة مارتن هايدجر، ولكنَّ مشكلة الجبران أنَّه لا يقدّم نظريَّة واضحة وواقعيَّة، وأفكار الكتاب تفتقد للترابط وعباراته اللغويَّة مختلة إلى حدٍّ كبير."
الخاتمة
لا شكَّ أنّ التعليقات هي أشكال متنوعة من القراءة تختلف باختلاف القراء، وفي الوقت نفسه هي كتابة آنيَّة مباشرة غير متشابهة؛ لأنَّ القراء لا يوحّدهم سوى نصّ الكتاب في تلقيهم له، ولكنَّهم مختلفون بالأحكام المسبقة والمكون الثقافي لكلّ منهم. وعلى الرغم من هذا، فقد قدَّموا نوعاً مميزاً من التهميش أو التوقيع على هامش النص، وكأنَّنا أمام تروس متنوعة في الأشكال والثقافة والأحكام المسبقة لدى كلّ واحد من هؤلاء القراء، وهم يقدّمون توصيفهم للكتاب.
لائحة المراجع والهوامش
ـ إدوارد سعيد، الأنسية والنقد الديمقراطي، ترجمة: فواز طرابلسي، دار الآداب، ط2، بيروت 2005.
ـ جميل حمداوي: مقاربة النص الموازي وأنماط التخييل في روايات بنسالم حميش، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة محمد الأول بوجدة، السنة الجامعيَّة: 2000-2001م.
ـ داريوش شايغان: ما الثورة الدينيَّة؟ ترجمة: محمد الرحموني، دار الفكر الجديد، النجف الأشرف.
ـ عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير، ط1، بيروت، 2016.
ـ عبد الرحمن بدوي، الإنسانيَّة والوجوديَّة في الفكر العربي، دار القلم، بيروت 1982.
ـ عبد الرزاق الجبران، الحلُّ الوجوديّ للدين، انقلاب المعبد، دار الفكر الجديد، ط1، النجف الاشرف، 2007.
ـ عبد الرزاق الجبران، جمهورية النبي، ط1، بيروت، 2007.
ـ علي شريعتي، التشيُّع العلوي والتشيُّع الصفوي، ترجمة حيدر مجيد، دار الأمير، السلسلة الكاملة.
ـ محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ت: هاشم صالح، دار الساقي، ط1، بيروت، 1997.
ـ مصطفى ميكان، العقلانيَّة والمعنويَّة، مقاربات في فلسفة الدين، دار تنوير، ط2، بيروت، 2012.
ـ يمنى طريف الخولي، الوجوديَّة الدينيَّة، دراسة في فلسفة باول تيليش، دار قباء، ط1، القاهرة، 1998.
المواقع الإلكترونيَّة: https://www.goodreads.com/book/show/12373779
[1]ـ عبد الرزاق الجبران، الحلّ الوجودي للدين، انقلاب المعبد، دار الانتشار العربي، بيروت.
[2]ـ أغلب التعليقات موجودة على إعلان الكتاب: https://www.goodreads.com/book/show/12373779
[3]- انظر في هذا الصدد: "الوجوديَّة واللاهوت الجديد" التي يمثلها الفيلسوف الفرنسي بول يوهانس أوسكار تيليشPaul.J.O.Tillich 1965 ـ 1886، ومن أجل تأصيل الأمر أكثر يمكن العودة إلى المصادر الآتية:
ـ يمنى طريف الخولي، الوجوديَّة الدينيَّة، دراسة في فلسفة باول تيليش، دار قباء، ط1، القاهرة، 1998، ص 11
وانظر: عبد الرزاق الجبران، الحل الوجودي للدين، انقلاب المعبد، فقرة 6، 5
[4]ـ مصطفى مليكان، العقلانيَّة والمعنويَّة، مقاربات في فلسفة الدين، دار تنوير، ط2، بيروت، 2012، ص 11
[5]ـ جميل حمداوي: مقاربة النص الموازي وأنماط التخييل في روايات بنسالم حميش، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، جامعة محمَّد الأول بوجدة، السنة الجامعيَّة: 2000-2001م، ص 194. وانظر أيضاً: بول تيليش، الحب والقوة والعدالة، ترجمة: كامل يوسف حسين.
[6]ـ جميل حمداوي: مقاربة النص الموازي وأنماط التخييل في روايات بنسالم حميش، المرجع نفسه.
[7]ـ علي شريعتي، التشيُّع العلوي والتشيُّع الصفوي، ترجمة حيدر مجيد، دار الأمير، السلسلة الكاملة 13
[8]ـ عبد الرزاق الجبران، جمهورية النبي، ط1، بيروت، 2007
[9]ـ انظر: عبد الرزاق الجبران، الحلُّ الوجودي للدين، انقلاب المعبد، دار الفكر الجديد، ط1، النجف الأشرف، 2007
[10]ـ انظر: إدوارد سعيد الأنسيَّة والنقد الديمقراطي، ترجمة: فواز طرابلسي، دار الآداب، ط2، بيروت 2005، ص35. وانظر: عبد الرحمن بدوي، الإنسانيَّة والوجوديَّة في الفكر العربي، دار القلم، بيروت 1982، ص15-16. وانظر: محمد أركون، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ت: هاشم صالح، دار الساقي، ط1، بيروت، 1997، ص 17
[11]ـ داريوش شايغان: ما الثورة الدينيَّة؟ ترجمة: محمد الرحموني، دار الفكر الجديد، النجف الأشرف، ص17، وانظر أيضاً: عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير، ط1، بيروت، 2016
[12]ـ هذا الموقف من الفكر التجريدي على العموم، ويأتي مثال ابن سينا عن شريعتي وعند سروش وعند الجبران هنا، فهو نقد لنمط من نسقيَّة فكريَّة؛ لأنَّ الكتابة الشذريَّة هي كتابة التفسخ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقيَّة الصارمَّة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدَّد.