برنار لايير وسوسيولوجيا الإنسان المتعدّد
فئة : مقالات
تمهيد
تنظر السوسيولوجيا المعاصرة إلى الإنسان بأنه متعدّد القراءات والتأويلات، فهو يساهم في التأثير على البنية من خلال أفعاله ويتأثر بدوره بفعل الظروف والشروط الاجتماعية، وهو حامل مجموعة من الاستعدادات الثابتة والمتغيرة، كما أنه ذات فاعلة يمارس أنشطة الفعل والحركة، وقادر على استثمار نفسه داخل المجتمع الذي ينتمي إليه، ويمتلك بدوره مجموعة من الاستراتيجيات التي تخول له تحقيق مصالحه وأهدافه ضمن الجماعات أو المجموعات التنظيمية في الحياة اليومية.
إن الاهتمام بالسوسيولوجيا المعاصرة في هذه المقالة، هو حاجتنا إلى فهم الواقع الاجتماعي المعقد الذي نعيشه اليوم في حياتنا اليومية. وسوف نحاول أن نسلط الضوء على سوسيولوجيا عالم الاجتماع الفرنسي برنار لايير Bernard Lahire حول "الإنسان المتعدد" L'Homme pluriel الذي يتميز بصيغة الجمع، من خلال التركيز على أهم الأفكار النقدية التي وجهها لايير إلى أستاذه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو[1] Pierre Bourdieu حول "نظرية الممارسة" Théorie de la pratique في إطار أعماله.
أولا: نبذة عن برنار لايير
يمثل برنار لايير (1963 ـ ) أحد أهم علماء الاجتماع المعاصرين الذين اهتموا بتطوير البحث السوسيولوجي على المستوى النظري والتطبيقي بفرنسا، وهو أستاذ في علم الاجتماع بكلية المعلمين العليا بمدينة ليون الفرنسية، وأستاذ زائر في العديد من الجامعات الغربية، حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع عام 1990 في موضوع: "الأشكال الاجتماعية للكتاب والنماذج الاجتماعية الشفوية: تحليل سوسيولوجي لفشل المدرسة" تحت إشراف غي فينسيت Guy Vincent.
ترتكز أبحاث لايير على دراسة الفشل التعليمي في المدارس الابتدائية، والممارسات الثقافية للفرنسيين، وظروف الحياة، والوضع الأدبي للكتاب، والنظرية الاجتماعية، إلخ، وهو في الوقت الراهن يشتغل على تطوير مقترحات لتدريس العلوم الاجتماعية في مرحلة التعليم الابتدائي، كما يعتبر لايير أحد علماء الاجتماع الذين عملوا على تطوير نظرية الممارسة عند بورديو وربطها بالسياق الاجتماعي، وله مؤلفات عديـدة منهـا: "ما هي السوسيولوجيا؟" À quoi sert la sociologie ?، "فرانز كافكا" Franz Kafka، "ثقافـة الأفراد" La culture des individus، "الوضع الأدبي" La Condition littéraire، "من أجل السوسيولوجيا" Pour la sociologie، و"التفسير السوسيولوجي للأحلام" L'interprétation sociologique des rêves.
ثانيا: نقد نظرية الممارسة عند بيير بورديو
تهدف سوسيولوجيا لايير إلى إعادة النظر في طبيعة السوسيولوجيا على مستوى التحقيقات الميدانية والنظرية التي ميزت بورديو منذ منتصف القرن العشرين من أجل فهم الممارسات الاجتماعية والثقافية لدى الأفراد.
وما يجعل بورديو يحتل مكانة مهمة في أعمال لايير هو أصالة أبحاثه التي لعبت دورا كبيرا في تطوير النظرية الاجتماعية، فنظرية الممارسة تعتبر الموضوع الرئيس في سوسيولوجيا بورديو، بسبب قدرتها التفسيرية في كشف طبيعة الظواهر الاجتماعية والثقافية المتنوعة والمتداخلة. فقد حاول بورديو في إطار نظرية الممارسة أن يقدم مشروعا توفيقيا بين النظرة الذاتية والنظرة الموضوعية للعالم الاجتماعي، من أجل توضيح كيفية تمثل الأفراد الفاعلين للشروط الموضوعية البنيوية، وذلك من خلال المعادلة التالية:
(الهابيتوس) (الرأس المال) + الحقل = الممارسة
ويرى بورديو أنه من أجل فهم الممارسة الاجتماعية والثقافية لدى كل طبقة اجتماعية ضمن الحقل الاجتماعي، لابد من العودة إلى "الهابيتوس"[2] Habitus الخاص بالأفراد الذين ينتمون إلى طبقة اجتماعية منسجمة مع ذاتها، ويقول في هذا الصدد:
«يجب العودة إلى مبدأ الممارسات الموحدة؛ أي إلى الهابيتوس الطبقي كشكل مندمج من أشكال الظرف الطبقي والتكييفات التي يفرضها؛ يجب إذن، أن نبني الطبقة الموضوعية كمجموعة من العملاء الموضوعيين ضمن ظروف وجود متجانسة، والخاضعين لتكييفات متجانسة والمنتجين لأنساق من الاستعدادات المتجانسة الخاصة بتوليد ممارسات موحدة...»[3].
إن نظرية بورديو حول الممارسة ترتبط بنوع من الأفعال التي تفرض على الفاعلين ممارستها تلقائيا، دون أن يحتسبوا مجموعة من الإكراهات التي يمكن أن تثقل على اختياراتهم وتوجهاتهم خصوصا تلك المتعلقة بالماضي والتاريخ، حيث يتدخل الهابيتوس لدى الفاعلين، باعتباره أنساقا من الاستعدادات المستدامة والقابلة للنقل، لكي ينتجوا أفعالا بطريقة غير آلية ويجعل من سلوكياتهم وممارساتهم متكيفة مع منطق "الحقل"[4] Champ. وقد أراد بورديو من توظيف مفهوم الهابيتوس كإطار نظري «استيعاب المجتمعي في شكله المستضمر (ما يتركه العالم المجتمعي في كل واحد منا على شكل ميول للفعل ورد الفعل بطريقة معينة، وعلى شكل استلطاف ونفور، وطرائق في الإدراك والتفكير والإحساس). ومن ثم، نقد أسطورة الحرية الفردية في الأساس»[5]، واعتبار "الفاعل" L’acteur في كثير من الأحيان بأنه مجرد "عميل" Agent، يحركه الهابيتوس الذي أنتجته مجموعة من الأوضاع والعلاقات والصراعات التي تتميز بالقوة داخل الحقول الاجتماعية مثل الحقل الثقافي؛ فالهابيتوس عند بورديو عبارة عن ربط بين التنشئة الأولية داخل إطار طبقي ما والخيارات الثقافية للإنسان.
أما بالنسبة إلى لايير، فنجده في كتابه الذي يحمل عنوان: "عالم متعدد الأبعاد" Monde pluriel يقف موقف الرافض حول التعميم المفرط الذي تتميز به سوسيولوجيا بورديو، حيث يقول:
«إذا كانت سوسيولوجيا ب.بورديو عن الاستعدادات لم تتمكن من الاستكشاف المنهجي للآثار الفردية لتعدد مجالات النشاط أو أبواب الفعل، فإن هذا إنما يرجع، بما يشكل مفارقة، إلى أنه فكر في أفراد متجانسين في عالم غير متجانس. وبدلا من مراعاة آثار تعدد الأطر الاجتماعية على الصوغ الاجتماعي، تصرف غالبا كما لو أن فاعلا تشكل اجتماعيا بالفعل (ضمنيا في أسرته الأصلية) قد واجه مواقف غير متجانسة»[6].
يكمن تناقض بورديو في أنه يؤكد أن العالم الاجتماعي غير متجانس ويقوم على التمايز، إلا أنه فكر في فاعلين متجانسين داخل العالم الاجتماعي، فأن تمتلك استعدادا في نظر بورديو «معناه أن تكون ميالا إلى التصرف بانتظام وبطريقة معينة في ظرف معطى»[7]، فالاستعداد هو نظام يميل إلى بناء سلوكيات الفاعلين وذلك بفرض إطار لأفعالهم، حيث تكون ممارستهم داخل الحقل خاضعة للحتمية. وعليه، فإنه اختصر التجربة الإنسانية في خضوعها لتأثير الطبقة المسيطرة التي تمتلك الرأسمال المادي والرمزي، وقام بإهمال عامل التجربة الاجتماعية الذاتية وتأثيرها على خيارات الفرد الثقافية، ولم يراع تعدد السياقات التي تؤثر في الممارسة لدى الفاعلين الاجتماعيين.
لقد سعى لايير أثناء اشتغاله على سوسيولوجيا بورديو إلى تحديد أمرين مهمين ضمن أهدافه العلمية: «أولهما استيعاب درجة تجانس أو تنافر الاستعدادات التي يحملها الفاعلون الأفراد، في ارتباط مع مسارهم البيوغرافي وتجاربهم المدمجة اجتماعيا؛ وثانيهما، تحليل تمفصل الاستعدادات والسياقات التي تعمل فيها، أو بلغة أخرى، فحص مسألة "الاستعدادات ضمن شروطها"...»[8]؛ ذلك أن لايير كان يخالف بورديو في نظرته للفاعل الاجتماعي، باعتباره ذا بعد واحد من حيث تجانس الاستعدادات التي تدفعه إلى إعادة إنتاج علاقات الهيمنة المشكلة للحقول الاجتماعية.
يهدف لايير إلى بلورة فكرة جديدة عن وجود فاعلين غير متجانسين ومتناقضين، بسبب تعدد التجارب التي يحملونها معهم، فهو يرفض وحدة الذات لدى الفرد، ويقول:
«المشاهدة تبدي أن الفاعلين يدمجون مبادئ مختلفة للفعل، بل ومتناقضة أحيانا. يمكن للفرد ذاته أن يكون خلال مدة حياته على التتالي، أو بشكل متواقت بحسب السياق، طالبا في المدرسة، ابنا، أبا، صديقا، عشيقا، حارس مرمى، صبيا، جوقة كنسية، زبونا، مديرا، مقاتلا... وفيما يتجاوز اللعبة البسيطة للأدوار الاجتماعية، فإن هذا التباين يحيل إلى تنوع أنماط التنشئة الاجتماعية...»[9].
وهذا ما يعني أن بورديو في نظر لايير لم يراع تعدد السياقات التي يعيشها الفرد، وبالتالي نجد لايير يقترح ضمن رؤية مجددة لسوسيولوجيا بورديو أن تقوم على التعددية، لا تقبل بالحد أو المنطق الواحد في التفسير، بمعنى أن تأخذ بعين الاعتبار أحكام وسياقات الكشف عن الاختلاف والتمايز أثناء تفسيرها للممارسة وفق المعادلة التالية التي يضعها لايير[10]:
استعدادات + السياق = الممارسة
وتهدف هذه المعادلة التي يقترحها لايير، من حيث عموميتها وبساطتها، إلى أن تكون بمثابة خيط رابط ونقطة أساسية يمكن من خلالها العمل على إعادة الحوار والتواصل بين العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، بالرغم من الاختلاف البارز بين هذه العلوم التي تتخذ مواقف متناقضة تفترض أن وجهة نظرها أفضل من وجهات النظر الأخرى في تحليل وتفسير كل ما هو إنساني واجتماعي، أو كما يقول لايير بأن: «فهم الممارسات أو أشكال السلوك (الإشارات، المواقف، الأقوال) عبر إعادة بناء لأنماط الاستعدادات الذهنية والسلوكية المختزنة التي يحملها الفاعلون (وهي نتاج الاستبطان خبرات اجتماعية ماضية) ولخصائص السياقات الخاصة (طبيعة الجماعة أو المؤسسة أو مجال النشاط، نمط التفاعل أو العلاقة) التي يتطورون ضمنها، هو، في رأيي، السبيل الأصوب والأكثر تركيبا والأكثر إثمارا من الناحية العلمية الذي يسع الباحثين استخدامه»[11].
ثالثا: نحو سوسيولوجيا الإنسان المتعدد
يتميز لايير من خلال مؤلفاته بالدعوة إلى توحيد العلوم الإنسانية والاجتماعية من أجل تحليل وتفسير أشكال التمايز الاجتماعي للوظائف ولمجالات النشاط التي يشهدها العالم الاجتماعي، حيث يرى بأن السوسيولوجيا هي ذلك العلم الذي لا يجب أن ينظر إلى العالم الاجتماعي بأنه عالم واحد، وبأن الإنسان يخضع في تكوينه بما ينسجم مع وسطه الاجتماعي الموحد، بل يفترض في السوسيولوجيا أن تبحث عن أشكال التباينات والاختلافات بين الأفراد والجماعات ضمن سياقات متعددة في عالم متعدد غير منسجم ومتناقض، نظرا إلى تعدد المؤسسات الاجتماعية التي لها تأثير كبير على الممارسة الاجتماعية لدى الأفراد بشكل عام.
إن السؤال الجوهري الذي يطرحه لايير هو: ما هي الشروط الاجتماعية والتاريخية لإنتاج فاعلين متعددين أو بتعبير آخر إنسان جامع؟
يمكن للأفراد حسب لايير، أن يكونوا متجانسين للغاية في بعض المواقف الاجتماعية أو في بعض حالات تاريخية معينة، خاصة إذا واجه الأفراد نفس ظروف التنشئة الاجتماعية مثل آبائهم، حيث لا تكون هناك فجوة كبيرة بين الأجيال من خلال تقاربهم في ظروف التنشئة الاجتماعية، وبدون أن يسقط أحد منهم في تعدد أطر التنشئة الاجتماعية، فهناك مجتمعات تتميز بالوحدة والانسجام لكونها لا تتوفر كثيرا على مؤسسات اجتماعية منافسة للأسرة. وإذا حدث العكس، فإن الأفراد ينتقلون من حالة الوحدة والانسجام إلى حالة التعدد وعدم التجانس.
هذا ولا يمكن بالنسبة إلى لايير الحديث في المجتمعات الحديثة (الغربية) عن انسجام وتوافق على مستوى الهابيتوس الخاص بها، بل عن ظاهرة تعدد أطر التنشئة الاجتماعية التي تساهم في خلق أوضاع متناقضة فيما بينها، لأن تميز الأفراد في الحياة الاجتماعية يخضع أساسا إلى العديد من الظروف والشروط الاجتماعية غير المتجانسة عبر مراحل معينة من حياة الأفراد، فالهابيتوس الخاص بالأفراد لا يكون مستديما وثابتا كما يتصوره بورديو، لأن وجود هابيتوسات ثقافية، باعتبارها أنظمة متجانسة من الاستعدادات حسب لايير، ليس سوى أكثر تواترا من الناحية الإحصائية فقط، فالفرد يكون محددا بشكل متعدد بالتجارب الاجتماعية التي تؤثر عليه طيلة حياته. وبالتالي، فإن أكبر تناقض يميز بورديو أنه وظف الهابيتوس الذي ارتبط بالمجتمعات ذات التنظيم البسيط كنموذج في دراسة المجتمعات ذات التباين القوي والمعقد، والتي بحكم طبيعتها تعمل على إنتاج فاعلين أشد تباينا داخليا وفي ما بينهم، بينما كان يفترض أن يبقى استعماله في دراسة المجتمعات الأقل تباينا.
إن استعدادات الفرد عبر نشوئه تكون متناقضة ومتباينة نظرا لتأثرها بمجموعة من السياقات المتنوعة، مما يشكل لنا فردا ذا مخزون من الاستعدادات المتعددة وغير المتجانسة، لذلك فلايير يدافع عن فكرة الإنسان الجامع الذي لا يعيش في العالم الاجتماعي الواحد، وإنما عن ذلك الفرد الذي يحمل معه خلاصات تجارب متنوعة وليس بالضرورة أن تكون متوافقة دائما، فغالبا ما يكون الفرد تحت تأثير السياق الاجتماعي أثناء ممارسته للفعل دون أن يكون واعيا بتناقضاته، لأن تأثير كل من الأسرة والمدرسة والشارع والمهنة والتجارب المختلفة تكون لها دور في عملية تكوين الإنسان وتحديد اختياراته وأذواقه وحتى على مستوى أفكاره، ويؤكد لايير بقوله:
«كلما تردد الفاعلون على هذه السياقات الاجتماعية (أو التي تخلق الصوغ الاجتماعي) غير المتجانسة وكلما كان هذا التردد مبكرا، في داخل التشكيل الأسري (بحكم الاختلافات الاجتماعية بين أعضائه خاصة) أو بحكم تنوع السياقات التي تخلق الصوغ الاجتماعي (الأسرة، المدرسة، دار الحضانة، المربيات أو أي فاعل آخر أو مؤسسة تحقق الصوغ الاجتماعي)، صاروا حاملين لاستعدادات غير متجانسة وأحيانا متناقضة. والاستعدادات لا تمارس فعلها بشكل مستديم، وإنما فقط من زاوية سياقات الفعل الماثلة. وعندئذ لا نكون بإزاء تجسيد واقعي منهجي لاستعدادات واحدة (لنسق استعدادات واحدة أو لصيغة مولدة للممارسات واحدة)، بل إزاء فعل أكثر تركيبا يجمع بين تنشيط وكبح استعدادات مختزنة مختلفة قد تجتمع فيما بينها في مواقف معينة أو تعمل أحيانا مستقلة بعضها عن البعض الآخر في مواقف أخرى»[12].
يتميز الفرد عند لايير في المجتمعات الحديثة، أنه يمتلك نوعا مغايرا من التطبع يختلف قليلا عن التطبع لدى بورديو الذي يقوم على مبدأ توليدي موحد، ويرجع هذا الاختلاف إلى تعدد التجارب عند الفرد، وهو السبب الذي يجعل من هذا الفرد يحمل معه مخزونا واسعا من الاستعدادات هي في طبيعتها غير مستديمة وتخضع لسياقات متعددة تؤثر كثيرا على أنماط سلوكه بفعل تعدد أطر التنشئة الاجتماعية التي تساهم في تكوينه، وذلك على عكس ما تصوره بورديو حول الفرد بأنه يمتلك استعدادات مستديمة في إطار الحقول الاجتماعية، وهذا ما دفع لايير إلى القول:
«ليس التطبع بوصفه نسق استعدادات مستديمة وقابلة لاتخاذ موقع جديد سوى من حالات الممكن، حالة خاصة بين مجمل المخزونات الفردية من الاستعدادات والكفاءات القابلة للملاحظة، ولا يمكننا أن نفترض، كما يفعل بـ. بورديو، أن كل الاستعدادات مستديمة، ومن ثم، ذات قوة وديمومة متساويتين؛ فكل شيء يتوقف هنا على زمن الصوغ الاجتماعي»[13].
يدافع لايير في معظم أعماله عن فكرة أساسية مفادها أن تميز الأفراد في الحياة الاجتماعية يخضع لمجموعة من الظروف والشروط الاجتماعية غير المتجانسة عبر مراحل معينة من حياة الأفراد، كما يرتبط هذا التميز عنده بتطور العالم الاجتماعي الذي يميز المجتمعات الغربية المعاصرة عن باقي المجتمعات التقليدية، حيث يظهر الاختلاف بين المجتمعات التقليدية والمجتمعات المعاصرة على مستوى التنظيم الاجتماعي. «ففي الأولى (القبيلة أو القرية) كان بإمكان كل واحد أن يمارس ضبطا على الغير. ولم يحصل لتقسيم العمل وتمايز الوظائف الاجتماعية ونطاقات الأنشطة تقدم مهم: كانت مجالات النشاط الاقتصادي والسياسي والقانوني والديني والأخلاقي والإدراكي ... متراكبة ومتداخلة. لقد كان الفاعلون، على مدى حياتهم، خاضعين لشروط ثابتة، ولم يكن لهم الخيار بين أنماط التنشئة الاجتماعية المختلفة، المتضاربة أو المتناقضة. أما في المجتمعات المعاصرة، فعلى العكس، تمايزت نطاقات الأنشطة والمؤسسات والمنتجات الثقافية والأنماط الاجتماعية بشدة، وغدت شروط التنشئة الاجتماعية أقل ثباتا بكثير...»[14].
فالإنسان حسب لايير هو بالضرورة متعدد الأبعاد يحمل معه المجتمع داخله، أي مجموعة من الشروط والظروف والحتميات المتناقضة فيما بينها التي توجد في المجتمع، والتي تجعل من سلوكه ذا طبيعة غير متجانسة مع الذات. فبالنسبة إلى لايير «ما أن يوضع الفاعل في كثرة من السياقات الاجتماعية غير المتجانسة. فإن مخزونه من الاستعدادات أو العادات أو القدرات لن يتوحد. وسيكون له بالتالي ممارسات غير متجانسة أو متناقضة، تتبدل تبعا للسياق الاجتماعي. وهذا ما نلاحظه غالبا حين الدخول في الحياة الزوجية أو بعد ولادة الطفل الأول. فبعض النساء اللاتي تبنين أسلوب حياة المرأة "الحديثة" و"المتحررة". يجدن في هذه المناسبة الدور التقليدي للمرأة في المنزل الذي كن قد استوعبن عاداته دون أن ينتبهن لذلك»[15].
وعلى هذا النحو، يصبح الفاعل حاملا لمشاريع وتجارب غير منسجمة مع ذاته، وهذا الأمر يحوله من إنسان ذي بعد واحد إلى إنسان متعدد الأبعاد بسبب تأثير العوالم الاجتماعية المتعددة التي تقوم بتأطيره وتوجه استعداداته، فالإنسان كما يقول لايير: «يملك فرصا أكبر لأن يكون متعدد الأبعاد، من زاوية استعدادية (وليست هوياتية)، بقدر عيشه في مجتمعات متمايزة تمايزا داخليا كبيرا وبقدر تردده، بشكل مبكر إلى هذا الحد أو ذاك، على سياقات الصوغ اجتماعي متعددة غير متجانسة بل ومتناقضة أحيانا»[16].
إن سوسيولوجيا لايير حول الإنسان الجامع أو المتعدد تدخل ضمن ما يسميه هو "السوسيولوجيا السيكولوجية" Sociologie psychologique التي تهدف، مع الحفاظ على طريقة اجتماعية سوسيولوجية إلى دراسة الواقع الاجتماعي في شكله الفردي والمدمج والمستقل. فالسوسيولوجيا على الصعيد الفردي أو النفسي حسب قول لايير: «تندرج في الموروث الضخم، الذي يهدف، من إيميل دوركهايم وحتى نوربيرت إلياس مرورا بموريس البواش، إلى الربط الدقيق بشكل متزايد بين الحالة النفسية وأطر الحياة الاجتماعية»[17]، وهي تعتبر استجابة منطقية للمشاكل التي تثيرها نظرية تمايز الأفراد في العالم الاجتماعي. وبالتالي، فإن «السوسيولوجيا السيكولوجية التي تسعى إلى فهم الفرد في مشاهد وسياقات مختلفة، تحكم قبضتها على مسألة الحقيقة الاجتماعية تحت شكلها الفردي والمستبطن»[18].
خلاصة
في النهاية، وانطلاقا من هذه النظرة حول الإنسان المتعدد عند لايير، يمكننا أن نستنتج بأن الإنسان الذي يعيش في إطار المجتمعات الحديثة التي تقوم على التمايز الاجتماعي، هو فاعل اجتماعي أشبه بوعاء خاص بالتجارب المتناقضة؛ أي أنه إنسان جامع في أفعاله وممارساته تبعا للشروط والظروف الاجتماعية التي يخضع لها، وهو ما يجعله قابل للقراءة المتعددة ضمن التحليل السوسيولوجي الفردي الذي يهدف أساسا إلى تحديد عناصر الفعل ضمن وضعية معينة لدى الفاعل على الرغم من صعوبة الأمر، لأن سلوكية الفاعل في المجتمعات الحديثة ليست دائما متوقعة، لكي نستطيع أن نراقبها ونحللها، بخلاف المجتمعات التقليدية التي تقوم على التنظيم القبلي، حيث يتميز أفرادها بعدم الاستقلالية، وذلك بسبب سيادة الجماعة على الفرد وقدرتها على احتوائه وإخضاعه من خلال العادات والتقاليد والأعراف والرموز الدينية.
المراجع المعتمدة
الأزدي عبد الجليل بن محمد: بيير بورديو، الفتى المتعدد والمضياف، دار الملتقى، الدار البيضاء، الطبعة 1، 2009
شوفالييه ستيفان وشوفيري كريستيان: معجم بورديو، ترجمة الزهرة إبراهيم، الشركة الجزائرية السورية ودار الجزائر، الطبعة 1، 2013
لايير برنار: الإنسان الجامع، ضمن كتاب جماعي: "علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية ـ أعلام وتواريخ وتيارات"، تحرير: فيليب كابان ـ جان فرانسوا دورتيه، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد، سوريا ـ دمشق، الطبعة 1، 2010
لايير برنار: عالم متعدد الأبعاد، تأملات في وحدة العلوم الاجتماعية، ترجمة بشير السباعي، المشروع القوي للترجمة، دار أفاق للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة 1، 2015
Bourdieu, Pierre. (1979); La Distinction: Critique sociale du jugement, Les Éditions de Minuit.
[1]. بيير بورديو، (1930 ـ 2002)، عالم اجتماع فرنسي، وأحد أهم المصادر والمراجع المعتمدة في التحليل السوسيولوجي للمجتمع، قام بإنجاز دراسات وأبحاث عديدة في مختلف المجالات، من أهم مؤلفاته: التميز، إعادة الإنتاج، بؤس العالم، حرفة عالم الاجتماع، إلخ.
[2]. كثيرا ما يتم ترجمة مفهوم الهابيتوس Habitus في اللغة العربية بالسجية أو الطبع أو السمت التي توجه السلوك بطريقة تلقائية وعفوية.
[3]. Pierre Bourdieu, (1979); La Distinction: Critique sociale du jugement, Les Éditions de Minuit. P. 112
[4]. بالنسبة إلى بيير بورديو هناك مجموعة من الحقول الاجتماعية مثل الحقل الجامعي، الحقل الأدبي...إلخ، التي تتوافق مع قطاعات المجتمع. إنها تعبر عن فضاءات يسودها الصراع والنزاع يتصرف فيها الفاعلين بحسب الاستراتيجية التي يمتلكونها، والتي تتوافق مع الرأس المال الذي يمتلكونه.
[5]. عبد الجليل بن محمد الأزدي، بيير بورديو: الفتى المتعدد والمضياف، دار الملتقى، الدار البيضاء، الطبعة 1، 2009، ص 159
[6]. برنار لايير، عالم متعدد الأبعاد: تأملات في وحدة العلوم الاجتماعية، ترجمة بشير السباعي، المشروع القومي للترجمة، دار أفاق للنشر والتوزيع، مصر، الطبعة 1، 2015، ص 111
[7]. ستيفان شوفالييه وكريستيان شوفيري، معجم بورديو، ترجمة الزهرة إبراهيم، الشركة الجزائرية السورية ودار الجزائر، الطبعة 1، 2013، ص 39
[8]. عبد الجليل بن محمد الأزدي، بيير بورديو: الفتى المتعدد والمضياف، مرجع سابق، ص 160
[9]. برنار لايير، الإنسان الجامع، ضمن كتاب جماعي: "علم الاجتماع: من النظريات الكبرى إلى الشؤون اليومية ـ أعلام وتواريخ وتيارات"، تحرير: فيليب كابان ـ جان فرانسوا دورتيه، ترجمة إياس حسن، دار الفرقد، سوريا ـ دمشق، الطبعة 1، 2010، ص 301
[10]. برنار لايير، عالم متعدد الأبعاد، مرجع سابق، ص 21
[11]. المرجع نفسه، ص، ص 19 ـ 20
[12]. المرجع نفسه، ص 32
[13]. المرجع نفسه، ص 33
[14]. برنار لايير، الإنسان الجامع، مرجع سابق، ص 303
[15]. المرجع نفسه، ص 304
[16]. برنار لايير، عالم متعدد الأبعاد، مرجع سابق، ص 101
[17]. برنار لايير، الإنسان الجامع، مرجع سابق، ص 307
[18]. المرجع نفسه، ص 307