بعض ملامح التحليل الأنثربولوجي في إسلامولوجيا محمد أركون
فئة : مقالات
تقديم
تهتم الأنثربولوجيا بالإنسان وتدرسه بوصفه كائنا بيولوجيا اجتماعيا، بهدف تحقيق فهم موضوعي وشامل لسلوكياته وإنتاجاته الثقافية ورموزه المتحكمة في تصوراته الذهنية؛ وكذا تحديد الصفات المتشابهة والقواسم المشتركة بين الكائنات البشرية، رغم اختلاف أجناسها وأعراقها وثقافاتها. ويعرفها كلود ليفي ستروس بقوله: "الأنثربولوجيا بمفهومها الواسع هي التخصص الذي يهتم بدراسة "الظاهرة الإنسانية"، والتي لا جدال في انتمائها إلى مجموعة الظواهر الطبيعية. ورغم ذلك، فهي تمثل بالمقارنة مع ما يمكن ملاحظته في أشكال الحياة الموجودة لدى الكائنات الحية الأخرى، خصائص قارة ومميزة تجعل من الواجب دراستها على نحو مستقل"[1]، وهي بعبارة أوجز، ذلك العلم الذي يدرس جميع الثقافات ويقارن بينها دون أن يحصر نفسه داخل ثقافة بعينها.
وإذا ارتبط هذا العلم زمنا طويلا بظاهرة الاستعمار، فقد أصبح منذ منتصف القرن العشرين آلية من آليات نقد التمركز الثقافي الغربي، ولهذا حظي باهتمام ثلة من مفكري العالم الثالث، إذ منحهم أساسا إبستمولوجيا لنقد انغلاقية العلوم الإنسانية والاجتماعية داخل النموذج الغربي من جهة، والخروج من سياجات الثقافات المحلية التي ينتمون إليها من جهة ثانية، من خلال تفعيل منهجية المقارنة بين مختلف الثقافات والمجتمعات لتشكيل صورة عامة عن الظاهرة الإنسانية. ولا يخفى على قارئ المنجز الأركوني المكانة التي يحتلها التحليل الأنثربولوجي داخله، إذ رأى فيه المجال المعرفي الذي سيخرج كل ثقافة، ومنها الثقافة الإسلامية، من نزعتها المركزية الذاتية وما يتولد عنها من مظاهر التعصب والكره وغيرها من التجليات التي تهدد التعايش السلمي بين المجتمعات. وستحاول هذه الورقة، تقديم نظرة عامة عن مكانة هذا العلم داخل إسلامولوجيا أركون وبعض ملامحها في قراءاته القرآنية.
1) مكانة الأنثربولوجيا داخل إسلامولوجيا أركون
تحظى الأنثربولوجيا[2] بأهمية كبيرة داخل مشروع محمد أركون الفكري، ومعلوم أن الإسلاميات التطبيقية مؤسسة على عمل الأنثربولوجي الفرنسي روجيه باستيد "الأنثربولوجيا التطبيقية"[3]، ومبرر استعانته بهذا العلم هو رفضه واستبعاده للأحكام التصنيفية التفضيلية بين الثقافات، وهو التوجه الذي افتتحه عالم الإناسة الفرنسي كلود ليفي ستروس، الذي وظف مفهوم "نسبية الثقافات" لتفنيد مسألة رقي الثقافة الغربية في مقابل تدني باقي الثقافات الأخرى، إذ لا معنى لأية ثقافة من الثقافات ولا قيمة لها إلا ضمن سياقها الخاص، أضف إلى ذلك تنوع المعتقدات والمؤسسات الاجتماعية وتغيرها بتغير الأمكنة والأزمنة، مما يعني أن المجتمعات ليست محكومة "بقوانين عامة ثابتة، بل باصطلاحات مخصوصة، تتبدل من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى عصر آخر"[4]. وهكذا، فالحضارة الغربية أصبحت مرغمة على التخلي عن النموذج الذي اتخذته لنفسها، وعن فكرة تقديمه للآخرين.
ويوظف أركون مفهومات عديدة من أنثربولوجيا ستراوس، مثل أنظمة القرابة، والأسطورة، بالإضافة إلى مفهوم "نسبية الثقافات" الذي اعتمده أركون في نقد الثقافة الغربية ومركزيتها. كما تحضر أبحاث الأنثربولوجي الفرنسي الآخر جورج بالانديه في أعماله بكثرة، خاصة فيما يتعلق بالآليات السلطوية التي تستخدم لإضفاء المشروعية واحتكار السيادة العليا، يقول أركون: "(...) ولكن عالم الأنثربولوجيا الفرنسي جورج بالانديه كان قد بين لنا أنه لا توجد سلطة سياسية في أي مجتمع بشري كان من دون إخراج مسرحي يؤبد نوعا من الاحتفالات والتقاليد ذات النمط الديني"[5].
ويلح أركون على ضرورة الاستفادة من منجزات هذا العلم الذي غير نظرتنا للمجتمعات، انطلاقا من خمسينيات القرن الماضي، والذي يهمه بالأساس هو الأنثربولوجيا الثقافية والاجتماعية والدينية التي تهتم بدراسة العقائد والتقاليد والفوارق بين المجتمعات والمشترك بينها، والبنيات الرمزية المنتجة للمعنى. يقول: "وقد بينت أيضا أن تحليل الخطاب الديني يتبنى تساؤلات الأنثربولوجيا الدينية والثقافية والاجتماعية للوصول إلى التعرف على المفهومات والتصورات وطرق التأصيل والمعاني التي تنبني عليها جميع الأديان المعروفة في تاريخ المجتمعات الإنسانية"[6]. ويؤكد في كثير من المرات على ضرورة دراسة الأنثربولوجيا وتدريسها، لأنها قادرة على إخراج العقل من سياجاته الدوغمائية إلى التفكير المنفتح والواسع، الذي يهتم بالإنسان ومصالحه على تعدد انتماءاته، وتعلمنا كيفية التعامل مع الثقافات الأخرى بروح منفتحة ومتفهمة، وضرورة تفضيل المعنى على القوة والسلطة، والسلم على العنف، والمعرفة المتنورة على الجهل المقدس والمؤسس. كما أنها في تصوره تمارس عملها كنقد تفكيكي على صعيد معرفي دون تمييز بين الثقافات والمجتمعات البشرية، بعيدا عن كل التأويلات التاريخية الأيديولوجية.
كما يوظف أركون الإمكانات التحليلية للأنثربولوجيا من أجل مقاربات موضوعات من قبيل "العنف والتقديس والحقيقة" بوصفها ظاهرة أنثربولوجية تشمل جميع الثقافات والمجتمعات، وقد بلور مثلثاث أنثربولوجيا، مثل: "العنف والتحريم والحقيقة" و"الوحي والتاريخ والحقيقة" و"اللغة والتاريخ والفكر".
وإلى جانب اهتمام أركون بالأنثربولوجيا الثقافية ـ الاجتماعية، اهتم أيضا بالأنثربولوجيا الدينية[7] التي تختلف عن الإثنولوجيا وعلم التاريخ وعلم اجتماع الأديان، وتتحدد مهمتها الأولى في تحديد ما يميز الرمز المقدس عن الأنواع الأخرى من الرموز. وقد نشأت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويتم تقديمها، إما بوصفها فرعا من فروع الأنثربولوجيا الاجتماعية، حيث يتم تحديد التشريعات الدينية ضمن البنيات الاجتماعية، ويتم البحث عن الوظائف الكامنة وراء هذه التشريعات الدينية داخل المجتمع، أو بوصفها علما مستقلا، حيث تتم دراسة الدين انطلاقا من بعدين: بعد تزامني (سانكروني) ينظر إليه بوصفه مجموعة أو نظاما منسجما من الأفكار والانفعالات والسلوكيات، وبعد تطوري (دياكروني) يدرس الدين في تحولاته وتغيراته. وتهتم الأنثربولوجيا الدينية بالإنسان بعيدا عن الإثنية. وتبحث عن اكتشاف النظام الذي يمكن أن ينطبق على كل الديانات، سواء كانت عالمية أم محلية. كما أنها تتميز بالدينامية، لأنها تنظر إلى الدين بوصفه فاعلا متغيرا متحركا. والديني لا يوجد دائما في الأديان، كما يعتقد، بل في منظومات فكرية لا دينية، نلمسه من خلال بعض الميولات العاطفية والأخلاقية.
ولا يمكننا أن نتفهّم مقاصد الدين ورموزه ووظائفه في مجتمع من المجتمعات، إلا إذا امتلكنا هذه الأرضية المفهومية والمنهجية التي تمكننا من طرح الأسئلة الحقيقية. فمثلما تكوِّن المجتمعات وظائف الدين، يكيِّف الدين، إلى حدٍّ ما، مصير المجتمعات وقيمها التي تؤمن بها جماعة من الجماعات، ويشيّد لها الذاكرات الجماعية المختلفة. لهذا يدعو أركون إلى ضرورة تشكيل أنثربولوجية دينية* وفق أسس علمية دقيقة، ودون خلفيات أيديولوجية، تسعى إلى مقاربة الأديان "التوحيدية" الثلاثة على شاكلة متشابهة. وإذا كانت الدراسات الغربية قد استعملت كل النظريات والمنهجيات التحليلية لإعادة التفكير في الحقيقة المطلقة والعليا للعقيدة اليهودية-المسيحية، فالإسلام ما يزال "منبوذا أو مستبعدا من هذا المشروع العلمي والفكري الكبير"[8].
من المفهومات الخصبة داخل حقل الأنثربولوجيا التي حظيت باهتمام أركون مفهوم الأسطورة، ولا يقصد بالأسطورة تلك الحكاية الخالية من كل أساس واقعي، وإنما هي تعبير رمزي عن وقائع تاريخية وكونية، وهي ترتبط ارتباطا شديدا بالوضع الثقافي للمجتمع الذي ينتجها، ومن وظائفها التعبير عن رغبة الإنسان الجامحة في الخلود وتجاوز أسر التاريخ الأرضي، والبحث عن العظمة والقوة. إنها تعكس مرغوبات الإنسان المضمرة التي تقمعها صرامة الواقع المادي. ومن هنا يرى أركون أن البحث عن الحقيقة التاريخية وراء رمزيات القرآن هو بحث واهم، لأن القرآن مشحون بالنَّفَس الأسطوري، ولن نتخلص من هذا النفس، إلا أعدنا بناء نظام التلقي الإسلامي، كما لا يمكن البحث فيه عن الدليل العقلي، لأنه خطاب منفصل عن البرهان، ولا يستند إلا على المستويات النفسية للمتلقي التي تطلب ترسيخ يقينياتها. فأسلوبه يستغل كل الإمكانات الشاعرية والبلاغية التي تتيحها اللغة العربية، وهو ما يقوي بناءه الرمزي الإيحائي.
ومن الرمزيات التي شكلها القرآن حسب أركون: رمزية الوعي بالخطيئة، رمزية الآخرة، رمزية الأمة، رمزية الحياة والموت، وهي الرمزيات التي تخاطب عواطف الإنسان وهواجسه المؤرقة (الخوف، القوة، الموت، النجاة، الخلود...إلخ)، وتلبي حاجيات نفسية كامنة في أعماقه، خاصة ذلك الإنسان الذي لم يستطع بعد الخروج من طفولته البدائية، والتعويل على إمكاناته العقلية وخبرته التجريبية لصناعة مصيره التاريخي. ولهذا، فالقرآن يدعم الوعي الخيالي الأسطوري على حساب الوعي العقلاني ـ المادي.
2) بعض ملامح التحليل الأنثربولوجي في دراسات أركون القرآنية
سعى أركون في دراسته لنص الفاتحة إلى البحث عن المرجعيات البدئية والأصلية، والعلاقات بينها، أو ما سماه "الذرى القصوى للوجود البشري مثل: الحياة والموت والزمن والحب والقيمة والامتلاك والسلطة والمقدس والعنف"[9]؛ أي كل ما يشكل الكينونة والوجود. ويلح على الخاصية الرمزية والإيحائية التي تتمتع بها اللغة القرآنية، فعلى الرغم من دراسته اللسانية الصارمة والجافة لسورة الفاتحة، والتي عدها مرحلة أولية مهمة جدا، إلا أنه يعترف قائلا: "لا أستطيع أن أتخلص من رمزانية الخير والشر المعبر عنهما في الكلمات التالية: إياك نعبد وصراط مستقيم، وأنعمت، ومغضوب عليهم، ضالين، ولا أستطيع أن أتخلص من مسألة الكينونة المدشنة من قبل (الله، رب، العالمين)، ولا أستطيع أن أتخلص أو أن أنجو من ذروتي الزمن والموت المثارين ضمنيا وكأنهما عبور أو ممر.."[10].
إن الخاصية الرمزية التي تتمتع بها اللغة القرآنية تجعلها أكثر انفتاحا على معان عدة؛ فالنص "هو خزان الاحتمالات الدلالية"[11]، والعبارات المشكلة لنص الفاتحة تعكس تلك الكثافة الدلالية والانفتاحية الواسعة:
ــ الحمد لله رب العالمين: تحيل على علم الأخرويات.
ــ إياك نعبد وإياك نستعين: تحيل على الطقوس والشعائر.
ــ اهدنا الصراط المستقيم: تحيل على علم الأخلاق.
ــ الذين أنعمت عليهم: تحيل على علم النبوة.
ــ غير المغضوب عليهم ولا الضالين: تحيل على التاريخ الروحي للإنسانية.
ولم يستطع الفكر الإسلامي التخلص من الخلفيات اللاهوتية والميتافيزيقية والأخلاقية والمنطقية، وهذا ما عكسته تأويلات المفسرين للثنائية التقابلية "الذين أنعمت عليهم" و"غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، حيث أصبحنا أمام نمطين إنسانيين متضادين: فالإنسان الكامل والصالح والخيّر والتقي الذي يتبع ما أنزل الله مصيره الجنة. أما الإنسان الناقص الضال الذي لم يتبع ما أنزله الله، فمصيره النار والعقاب واللعنة. إلا أن أركون، عكس هذا التصور السائد، يرى "أن مفردات الفاتحة وبناها النحوية عامة جدا ومنفتحة جدا على كافة ممكنات المعنى، إلى درجة أنهما تمارسان دورهما كحقل رمزي تنبثق منه وتسقط عليه مختلف أنواع التحديدات والمعاني"[12]. وكل التركيبات اللغوية والملامح الأسلوبية، والقصص والمتقابلات والنداءات التي يوظفها القرآن ذات غاية محددة تتمثل في "تأجيج الإحساس بالخطيئة والذنب وليس تحديد هذا الإحساس أو تثبيته"[13] كما يدعي الخطاب التفسيري التقليدي.
وفي قراءته لسورة التوبة، وظف أركون "المثلث الأنثربولوجي" الذي يضم ثلاث قوى متداخلة ومتفاعلة هي: الحقيقة، التقديس، العنف[14]. ويرى أن السورة جاءت لتكريس نظام الحقيقة الدينية الجديدة، ولتفرض وجودها صيغت في خطاب تفجيري ثوري انقلابي، قصد تشكيل قطيعة مطلقة مع أنظمة الحقائق السابقة، سواء مع اللاهوت اليهودي أو المسيحي أو الوثني، ولكي يؤسس لنظام الحقيقة الجديدة لجأ القرآن إلى منطق التضاد مع الدين العربي، ومنطق التمايز عن الصياغات الأخرى للحقيقة الدينية (التوراتية والانجيلية)، ومنطق تنشيط "المنافسة المحاكاتية" قصد الدفاع عن نواة الحقيقة، التي تتنافس فيها النسخ التوحيدية الثلاث[15]، بالإضافة إلى تشريع الجهاد (العنف المقدس).
ويتضمن الخطاب القرآني مجموعة من الآيات التي تبيح اللجوء إلى العنف وسيلة لتحقيق مقاصد الدعوة الإسلامية، ورغم عدم ذكر مفردة "عنف" في القرآن إلا أن هناك مفردات دالة عليها مثل: جهاد، قتل، حرب، قصاص، حصر، عدو، عدوان، عقاب، بغي، ظلم...إلخ [16]. ونجد في القرآن أربعة مواقف من العنف هي: موقف يمنعه منعا كليا[17]، وموقف يقلصه إلى درجة المنع[18]، وموقف يجيزه ويأمر به[19]، وموقف يشير إلى حصول مناقشات بين المؤمنين الأوائل حوله[20]. وتباين الموقف القرآني من العنف عائد إلى تغير موازين القوى بين الرسول وأتباعه، وبين الكفار. ففي المراحل الأولى للدعوة كان موقف القرآن ليّنا مع الخصوم بسبب ضعف مجموعة المؤمنين، ولكن سرعان ما تغير هذا الموقف بعد أن استقوت هذه الجماعة، وأصبحت تملك قدرات لقلب الصراع لمصلحتها، حيث إن القرآن أجاز العنف مادام أنه قد انتهى عهد المهادنات والتحالفات مع الأعداء[21]، وهكذا انتهى "زمن الإمكان" وحل محله "زمن الوجوب". وأصبح أمام الآخر خيار واحد هو "الخضوع والاستسلام" للحقيقة الدينية الجديدة. وهذا هو "مضمون سورة التوبة"[22]. أما في "زمن الإمكان"، فكان أمام الآخر أربعة خيارات هي: الدخول في الدين الجديد، أو دفع الجزية بالنسبة إلى أهل الكتاب، أو الدخول في العهد والمهادنة، أو الدخول في حالة حرب.
ولما جاءت سورة التوبة بدأ "زمن الوجوب" ولم يبق أمامه سوى حل واحد هو الاستسلام والدخول في الدين الجديد طوعا أوكرها. والإكراه سيتمثل في الصراع المسلح، وهذا ما تشير إليه سورة التوبة[23]، بل إن الدلالة الضمنية لعبارة "فاقتلوا" الموجودة في آية السيف تعني أيضا بالنسبة إلى جماعة المسلمين "أنه من الممنوع أن تخرجوا من انتسابكم إلى الإيمان الجديد أو الاعتقاد الجديد. وإذا خرجتم، فسوف ينطبق عليكم أمر القتل كما ينطبق على هؤلاء المناهضين للدعوة والذين ينبغي قتلهم"[24].
وآية السيف كما يرى أركون، قد جاءت لتكريس فكرة الجهاد(العنف المقدس) بغية ترسيخ وتقرير الحقيقة الدينية الجديدة المعبر عنها في القرآن، وهي تمثل "ذروة العنف الموظف لخدمة حقوق الله"، والذي يقدم نفسه في الخطاب القرآني بوصفه حليفا ومناصرا للجماعة المختارة في سياق علاقة العهد والميثاق بين الله والمؤمنين به. ويتم التسامي بالجهاد ليكون قربانا وتعبيرا عمليا عن "الطاعة اللامشروطة"[25]. وآية السيف مليئة بالمفردات الدالة على أفعال ذات علاقة بالحرب: القتل، الأخذ، الحصر، التربص... ولم يكن العنف سببه جني الغنائم وتكثير الأموال، وإنما "نشر الحقيقة الجديدة والتعريف بها في الآفاق والأمصار، وحماية معتقديها ممن يهدد وجودهم"[26].
ومن الجوانب التي تحتويها سورة التوبة، حسب أركون، ما تتضمنه من عنف رمزي، فهي لا تسمح للشخص البشري بالتمتع بالكرامة الإنسانية اللائقة به، إلا بقدر ما تسمح به شروط الجماعة الجديدة المختارة، المكونة ما بين 610 و632[27]. كما أنها تشير إلى مكانة الشخص البشري غير المسلم المعارض والمتحالف (بهم، لهم، أولئك...) دون تقديم مبررات لهذا، وهذا معناه في نظر أركون:
ـ تقسيم البشر أيديولوجيا في ضوء الفكرة والمعتقد[28].
ـ تحقير الشخص البشري، وعدم استحقاقه للكرامة الإنسانية، وما يدل على هذا عبارات من قبيل: إهانة، نجاسة، عقوبة...
وهذا كله يعكس عنفا رمزيا لا يمكن تحمله، ولا يمكن الاعتراف بالآخر وتقديره إلا بالخضوع عن طريق أداء العبادات والطقوس، كما يقرر الشطر الثاني من آية "السيف": (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم). والصلاة والزكاة لهما وظيفة من حيث الدمج السياسي والاجتماعي للفرد داخل منظومة الجماعة الجديدة، والبعدان الديني والالتحامي للصلاة والزكاة مرتبطان بالذروة الدينية العليا (الله) التي تضفي المشروعية على الأفعال والسلوكيات[29].
خاتمة
إن ممارسة التفكير الأنثربولوجي بكل آلیاته وقواعده، سيمكن العقل من الخروج من دوغمائیته المغلقة، والابتعاد عن إنتاج خطاب الحقيقة والأحكام المترتبة عنه، كادعاء الدين الحق وتكفير وتضليل باقي الدیانات، والخروج کلّیا من منطق الثنائيات التي تكرس العنف والعنف المضاد، والدخول في منظومة تفكيرية أساسها "ذهنية الأنسنة المنفتحة" التي "تدافع عن حقوق الإنسان وتحرير الوضع البشري من الاضطهادات والقمع والظلم.."[30]؛ أي التفكير بمنطق منفتح يتسامى على الانتماءات الجزئية الضيقة، وينظر إلى الثقافات البشرية نظرة تجعل منها تجليات متعددة وغنية لتجربة الإنسان في التاريخ.
ولا تسعى هذه الآليات المعاصرة في مقاربة الظاهرة الدينية إلى نقض بنية العقائد، وإنما إلى إخراجها من أفقها الضيق الإقصائي، وجعلها تحيل على "مستوى أوسع ومنظومة معرفية أكثر تفتحا وأشمل إحاطة، بما أضافته الحداثة العلمية من نظريات وشروح وتأويلات واكتشافات، ووسائل إحقاق الحق والحقيقة"[31].
يتموقع هذا المجهود الأركوني في البحث والتحليل والمراجعة في سياق هيمنة "العنف السياسي والاجتماعي وانتشار الجهل المعمم والشامل بماضي الإسلام كدين وكنمط من أنماط التفكير والاعتناء بأنسنة الإنسان كثقافة وكمدنية"[32]، إضافة إلى أن السّاحة الإسلامية يطغى عليها استخدام الدين كأيديولوجيا للصراع السياسي، الشيء الذي يلزمنا بالاهتمام بهذا الحقل المعرفي واستثمار مفهوماته ومناهجه لتحقيق فهم موضوعي وعميق للظاهرة الدينية ووظائفها وآليات اشتغالها.
[1] كلود ليفي ستروس، الأنثربولوجيا في مواجهة مشاكل العالم الحديث، ترجمة رشيد بازي، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء ــ المغرب، الطبعة الأولى 2019، ص 18
[2] للتعرف على الأنثربولوجيا ومدارسها وموضوعاتها ينظر: بيرتي. ج. بيلتو، دراسة الأنثربولوجيا: المفهوم والتاريخ، ترجمة كاظم يعد الدين، بغداد، الطبعة الأولى 2010. وسامية محمد جابر، علم الإنسان، مدخل إلى الأنثربولوجيا الاجتماعية والثقافية، دار العلوم العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1991
[3] Roger Bastide: Anthropologie Appliquée , Stock, Paris , 1998
[4] جاك لومبر، مدخل إلى الإثنولوجيا، ترجمة حسن قبيسي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى 1997. ص 98 ـ 99
[5] محمد أركون، العلمنة والدين (الإسلام، المسيحية، الغرب)، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، بيروت 1990، ص 64
[6] محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة ـ بيروت، الطبعة الثانية 2005، ص 6
[7] للتعرف أكثر على الأنثربولوجيا الدينية ومجالاتها وقضاياها، ينظر: روجيه باستيد، الإناسة الدينية، ترجمة سامي الرياحي، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، بيروت، العددان الثالث والثلاثون والرابع والثلاثون 2015. ص 52
* يقصد أركون بالأنثربولوجيا الدينية تعميم وتطبيق المنهجية النقدية العلمية على كل التصورات الدينية التوحيدية وغير التوحيدية، وذلك لفهم الإنسان بشكل أعمق من خلال مقاربة ودراسة كيفيات تعلقه بظاهرة المقدس.
[8] محمد أركون، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 140
[9] المرجع نفسه، ص 141
[10] المرجع نفسه، ص 142
[11] سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقها، منشورات الزمن، البيضاء، 2003، ص 10
[12] محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 143
[13] المرجع نفسه، ص 144
[14] المرجع نفسه، ص 156. وهو مثلث أنثربولوجي عام وشامل ولا يرتبط بثقافة أو دين محددين. ينظر محمد أركون، نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي ـ بيروت ـ لندن، الطبعة الثانية 2012، ص ص 67 ــ 68
[15] محمد أركون، تحرير الوعي الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة ـ بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص 175
[16] المرجع نفسه، ص 171
[17] الأنعام: 7 ـ الحجر: 94 ـ النحل: 125 ـ ق: 39 ـ البقرة: 108 ـ المائدة: 14 ـ العنكبوت: 46 ـ الشورى: 13
[18] البقرة 193 ـ التوبة 36 ـ الحج 37، 38
[19] البقرة: 190، 192، 215 ــ الأنفال: 39 ــ التوبة: 5، 29، 74، 124 ــ محمد: 4، 5، 6
[20] البقرة: 214 ــ آل عمران: 156، 167، 168 ــ النساء: 71، 75، 76، 94 ــ التوبة: 38، 39، 42
[21] محمد أركون، نحو تحرير الوعي الإسلامي، ص 178
[22] المرجع نفسه، ص 179
[23] المرجع نفسه، ص 209
[24] محمد أركون، التشكيل البشري للإسلام، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2013، ص 208
[25] محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 56
[26] محمد أركون، تحرير الوعي الإسلامي، ص 174
[27] محمد أركون، القرآن من التفسير لموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 77
[28] محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي ـ مركز الإنماء العربي، الطبعة الثانية 1996، ص 104
[29] ينظر المرجع نفسه، ص 97 ـ 104. وينظر القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 67 ـ 74 ـ 75
[30] محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 6
[31] المرجع نفسه، ص 7
[32] المرجع نفسه، ص 8