بلاد المغرب والحداثة المختَرَقة
فئة : مقالات
-1- متى انتهى العصر الوسيط في بلاد المغرب؟ ومتى دخل هذا المجال الجغرافي-الثقافي تاريخه الحديث بصورة كاملة؟
يبدو الجواب أمرًا عسيرًا، لأنّ مثل هذا التحديد مرتبط بإشكالية التحقيب التاريخي التي تتطلّب بحثًا عميقًا في التحولات الفكرية والمجتمعية التي عرفها هذا المجال من عالم المسلمين منذ عدة قرون، والتي يُظَنُّ أنّه وقع تجاوزها من خلال تقويض البناء التصوّري والعلائقي الذي ساد قديمًا في بلاد المغرب.
للإجابة لا بد من التذكير بأمرين:
أولهما أنّ بلاد المغرب حملت هذا الاسم لكونها عُدّتْ مجالاً جغرافيًّا بديلاً عن المجال الإسلامي المركزي ومقابلاً للبديل الآخر المعروف ببلاد ما وراء النهر شرقًا. لقد ظلّ المغرب أو المغارب (نسبة إلى التقسيم الذي اعتمده المؤرخون والجغرافيون المسلمون القدامى والذي يعتبر المغرب الإسلامي ثلاثة أقاليم: المغرب الأقصى والمغرب الأوسط والمغرب الأدنى) الهامشَ الممتدَّ غرب المركز الإسلامي المشتمل على مصر والشام والعراق والجزيرة وفارس والبالغ مداه شرقًا في البلاد المفتوحة في القرن الهجري الأول والتي يحدّها نهرا "السيرداريا" و"الآمورداريا".
من هذه التسمية التي تجعل بلاد "المغرب" مجالاً جغرافيًّا نائيًا عن المركز ندرك أنّ هذا التموقع، يمكن أن يفسر عدة "خصائص للشخصية المغاربية". من جهة نجد مصاعب الفتح الإسلامي له وهو الذي استغرق نصف قرن مقارنة بما أمكن تحققه في أقاليم المشرق وبلدانه. ثانيها يوقفنا على ذلك النزوع الواضح للاستقلال عن المركز الإسلامي والذي جسّدته إمارات ونظم إسلامية متوالية منذ ثورة الأمازيغ على ولاة بني أمية في المغرب الأقصى ثم استقلال الأدارسة بعد ذلك. أما الخاصية الثالثة فهي التي جعلت من هذا المجال المغاربي وعلى امتداد فترات مديدة من التاريخ الإسلامي السابقة لظهور الموحدين (القرن السادس الهجري/ الثاني عشر للميلاد) مركزًا يجذب إليه الدعوات والرموز والقضايا الإسلامية التي لا تجد لها مكانة في المركز بما يتيح لها الفاعلية والأتباع في الربوع المغاربية.
-2- بالعودة إلى سؤال البداية ينبغي التذكير بأمر ثان متصل بمغادرة المنطقة المغاربية من العالم الإسلامي بصورة واضحة ونهائية العصر الوسيط إلى "النظام الحديث" وبما يقتضيه من توجه الإنسان في بلاد المغارب إلى تشكيل مستقبله بيديه، أي متى بدأ مصير المغاربة يمثّل بالنسبة إليهم همًّا مُلِحًّا ؟ ومتى بدؤوا يعون ضرورة صياغة مستقبلهم المميّز بتمثل نقدي مدرك ومجدد لخصائصهم التي رافقت العصر الوسيط وميّزته؟
مثل هذا التساؤل يتأكد اليوم عندما نتذكر أنّنا في خصوص بلاد المغارب نكاد لا نهتم بأمر "التحقيب الثقافي والفكري" لهذه المنطقة بل نسارع إلى الوقوع في خلط شنيع بين ذلك التحقيب المنشود وبين تمايزات سياسية وثيقة الصلة بالولاة والأمراء والملوك وما واجهوها من حروب وثورات وهيجات وما انجرّ عنها من سقوط لأنظمة سياسية وتغيير لسلالات حاكمة. مثل هذا الخلط لا يمكّن من سوى تقييمات بسيطة وتصنيفات عامة تتجاهل كل مكونات الوعي القادر على فهم الماضي الثقافي والتصوري والفكر اللازم لتجاوز مصاعب الحاضر وتحدياته.
لذلك فحين نقول إنّ دولة الموحدين في العصر الوسيط كانت أكبر الدول التي حكمت الأقاليم المغاربية والأندلس وأنّها أسقطت دولة المرابطين حتى وأنّها حكمت ما يزيد على القرن إلى أن فقدت السيطرة على المغرب الأقصى على يد المرينيين سنة 668هـ / 1269م، حين نقول هذا فهل يعني ذلك أنّ العقيدة الموحدية بمكوناتها وما ركّزته من تصورات وقواعد لتنظيم الشأن الديني والاجتماعي والحضاري قد زال بزوال الدولة؟
للإجابة يقتضي أن نعي أنّ هناك تحقيبًا آخر ذا خصوصية ثقافية-حضارية هو أهم من التحقيب السياسي في المجال الذي يشغلنا والمتصل بتاريخ الأفكار والمعتقدات والرؤى والآليات والذي كثيرًا ما وقع إهماله في حين أنّه الأجدر بالعناية لإدراك مستلزمات الحاضر ومقتضيات المستقبل. إنّه التحقيب الأقدر على كشف التشبيك الحاصل بين الذهنيات والثوابت وبين ما وقع تثبيته في عناصر الشخصية القاعدية المغاربية وما تكوّن من كل ذلك من تفاعلات شملت المجال الديني والاجتماعي والفكري بصورة متجاوزة للتحقيب السياسي.
لذلك، فعندما نسأل عن نهاية العصر الوسيط في بلاد المغرب ومتى دخل هذا المجال الجغرافي-الثقافي تاريخه الحديث، فإنّ ذلك يستدعي الكشف عما تحقق من متغيرات فكرية وتصورية وقيمية تقوّضت بها أركان النظام الثقافي الوسيط وتغيرت بها حدوده وأنساقه وآلياته.
-3- في هذا نحتاج أن نستحضر مقولات فيلسوف الحضارات فرناند بروديل - Fernand Braudel - (1902-1985) وواحدًا من أشهر المؤرخين الفرنسيين حين أكد في دراسته الكلاسيكية الشهيرة التي أصدرها عن "ديمومة الحضارات ومعينها الذي لا ينضب"[1] أنّ سيرورة التاريخ تعني أنّ تبدّلاته العميقة، وما يستدعيه من منعطفات كبرى، إنّما تتمّ خلال "المدى الطويل"، حيث يستغرق أجيالاً كاملة. لذلك، فما يعتني به واحد من أبرز مؤسسي المدرسة الفرنسيّة في كتابة التاريخ المعروفة باسم "مدرسة الحوليّات" (Les Annales) يتركز في "أنّ الهدف السريّ للتاريخ، ودافعه العميق، ليس شرح ما هو معاصر وتفسيره" بقدر ما هو الوقوف على فعل العوامل الاجتماعية والاقتصاديّة في صياغة تاريخ المجتمعات وفي صياغة "قواعد الحضارات".
مؤدى هذا عند "بروديل" يقتضي منهجيًّا التعاطي مع التاريخ، أولاً، بلغة تأليفيّة عالية تأخذ بعين الاعتبار الجوانب الماديّة للحضارات وما يميزها من بنى اجتماعية واقتصاديّة إلى جانب ضرورة التركيز على العوامل الثقافية والدينية والأطر السياسيّة.
من جهة ثانية، يستلزم ذلك الإعراض التام عن عقلية "المركزية الأوروبيّة" التي لا تستطيع أن تتوصل إلى "القواعد الحضارية للتاريخ" لاستعلاء عموم كتابات المثقّفين الغربيين عن العوالم الأخرى. ثم التيقّن ثالثًا، أنّ عمر الحضارات الإنسانية ممتد جدًّا؛ فهو لا يقاس بالسنوات والعقود بما يجعل تلك الحضارات مديدة العمر على الرغم ممّا يصيبها من حوادث قاتلة لا تقضي عليها بالتلف إلا في بعض الحالات النادرة بقدر ما تؤدي إلى مجرد الخمود والإغفاء.
ما تفيدنا به مقولات "بروديل" فيما نحن بصدده هو أنّ هذه الرؤية للتاريخ، باعتباره معطى حضاريًّا تتضافر فيه عوامل شاملة تشترك فيها الجغرافية والديموغرافية والاقتصاد والسياسة والحروب والمعتقدات الدينية والخصوصيات الثقافية الأمرُ الذي يجعلها قادرة على ترسيم "حدود" وتثبيت "نظم وآليات" تستعصي على التقويض، بل تتمكن من استيعاب المتغيرات الظاهرية المستجدة.
-4- بناء على هذا فلا غرابة إن أمكن القول إنّ "ثقافة العصر الوسيط" ما تزال فاعلة بقوة في بلاد المغرب، لأنّ الجذور العميقة ما تزال مؤثرة على الرغم من العديد من التصدعات التي أحدثتها مظاهر التحوّل العديدة والحديثة.
لإبانة مصاعب هذه "الحداثة المغاربية المخترقة" يجدر بنا أن نشتغل على النصوص والمصادر التي وضعت لتثبت الحياةالدينية والفكرية والتصورية في بلاد المغرب. هذا الاشتغال يتيح لنا مقارنة علمية مع ما هو منتج اليوم من نصوص سياسية وخطاب ديني "حديث" بما يمكّن من استحضار ما ظل فاعلاً معنا إلى اليوم من عصر الموحدين في صراعهم مع خصومهم المرابطين وفيما تجاوز زوال دولتهما بقرون.
لنأخذ عيّنة أولى مما كتبه أحد أعلام شيوخ الإسلام منذ قرنين في الرد على رسالة وردت إلى الربوع المغاربية من الجزيرة العربية "قامعًا" بها ما يراه "ضلالة وزيغًا"، يقول: "فأخبرني هل تكفّر بهذا التوسل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وتكفّر معه سائر من حضر من الصحابة والتابعين، لكونهم جعلوا بينهم وبين الله واسطة من الناس وتشفّعوا إليه بالعبّاس... كلاّ والله وأقسم بالله وتالله بل مكفرهم هو الكافر... فانفض يديك مما ليس إليك ولا تمدّن عينيك إلى من حرمت عليك..."[2].
بعد هذا النص نقرأ في عيّنة ثانية كُتبت بعد قرن من السابقة في بلاد المغارب ينافح فيها كاتبها عن شيخه المتهم بإنكاره الشفاعة والتوسّل، فيقول لمناظره: "ارجع أيها الجاهل المتمرّد إلى تفسير الشيخ تجد ما يقصم ظهرك...(إنّ) انتحالك الشيخ إلى.. .الفسقة الظلمة المخالفين لأهل الحق والصواب وأعظمها تحليل الدماء والأموال بفعل الكبيرة... وانتحالك إياه إلى الضلال والمعتزلة الذين بينه وبينهم أصول فاصلة... هؤلاء يخالفون الحق والصواب في مسائل عديدة أفظعها خلق الأفعال...المعتزلة الملعونون على لسان سبعين نبيًّا". هذا الكلام المكتوب سنة 1904[3] لا يكاد يختلف في طبيعة خطابه عن الكلام الآخر الذي كتب قبله بحوالي قرن.
لو مضينا مع نصوص أخرى أحدث منها حُبِّرت في مناسبات تالية ومعاصرة في بلاد المغارب في المجالين السياسي والديني، لاكتشفنا ما يختفي وراء توالي العقود والقرون من سجالية العنف وصرامة الخطاب التي تعود عند كل تصدٍ للمخالفين.
نحن أمام "فكر" مخترق للعصور لا يبدو أنّ شيئاً ما قد تغير في جوهره: إنّه خطاب يقمع، البيان فيه يلجم العقل بل يكاد يقضي عليه، وهو ما يتيح الفرصة لهذا "الفكر" ألا يراجع فرضياته الأساسية. إنّه نوع من الهروب المقنع من مواجهة التصور الآسر الذي هيمن على العصر الإسلامي الوسيط والقائم على وجود حتمية كونية تتحكم في الوجود الإنساني وفي التاريخ.
من ثم، فإنّ القيام بحفريات في نصوص الخطاب الديني والسياسي المغاربي عبر ما هو متوفر من المؤلفات والمخطوطات والمراسلات والخطب الجمعية والأختام الرمضانية والفتاوى ومن خلال إشكالية التحقيب الثقافي يكشف نزوعًا متوارثًا في حتمية كونية أفرزت على مستوى الفكر وثوقية تقليدية صارت سمة غالبة وجعلت التقهقر هو الطابع المميّز للحياة. أخطر من ذلك أنّ تلك السمة ستزداد تركّزًا في الفترة الحديثة مع تصاعد العدوان الأروبي الذي كان سيتهدف من جملة ما يستهدف تدمير التوازنات الاجتماعية والسياسية التي كانت تقوم عليها المجتمعات المغاربية.
تلك هي المفارقة الكبرى التي تعيشها المنطقة المغاربية اليوم. إنّها وهي أكثر مناطق العالم العربي الإسلامي احتكاكًا بالغرب وتفاعلاً مع نموه الفكري والحضاري، تظل مع ذلك مهددة بفقدان توازنها الحيوي؛ أي بانتكاسة حقيقية في تجربتها الحديثة.
[1] عنوانها La longue, l'inépuisable durée des civilisations وقد نشرت في المرة الأولى سنة 1959 في الموسوعة الفرنسية وضمن كتاب بعنوان "تاريخ الحضارات: الماضي يفسر الحاضر"، ليعاد نشرها سنة 1997 في "طموحات التاريخ".
[2] ابن أبي الضياف، الإتحاف، ج3، ص 64 وما يليها.
[3] صحيفة الحاضرة، عدد 824، سنة 1904