بلاغة القرآن الكريم: تجلّيات سحر البيان ودلالاته في المدوّنات العربية القديمة
فئة : مقالات
نشير في مقدّمة هذا البحث إلى ضرورة التمييز بين أمرين؛ هما: المعجزة والإعجاز، فالمعجزة بما هي ظاهرة على صلة وطيدة بالنبوّة تتلونّ بمقتضيات النبوّة مجال الدرس (نبوّة موسى، نبوّة عيسى بن مريم، نبوة محمّد بن عبد الله، ... إلخ). أمّا الإعجاز فهو مفهوم يقتصر على الجانب البلاغيّ البيانيّ، وهو يكاد يكون خاصا بـ"القرآن الكريم" دون غيره من النصوص المقدّسة للأديان التوحيديّة، وذلك وفق التصوّر الإسلاميّ.
ومن أجل ذلك، عمدنا إلى تتبّع تصوّر جملة من اللغويين العرب للمعجزة، إذ نقتفي أثر الإعجاز في بعض المعاجم والقواميس القديمة قصد تبيّن وجوه التقارب قصد بناء تصوّر متكامل لمنزلة الإعجاز في المدوّنات القديمة.
اتّفقت المعاجم اللّغويّة العربيّة القديمة في مجموعة من المعاني المتعلّقة بمادة (ع، ج، ز) وأشكالها الصرفيّة من أفعال وأسماء مشتقّة، إذ نقرأ في "القاموس المحيط" لـ "مجد الدين الفيروز آبادي"(ت 717 هـ) "التعْجِيزُ: التثْبِيطُ والنِّسْبَةُ إِلَى الْعَجْزِ ومُعْجِزَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَا أَعْجَزَ بِهِ الْخَصْمَ عِنْدَ التَّحَدِّيْ [...] وأَعْجَازُ النَّخْلِ أُصُولُهَا [...] وقَوْلُهُ تَعَالَى مُعَاجِزِيْنَ [..] أَيْ يُعَاجِزُونَ الْأَنْبِيَاءَ وأ وْلِيَاءَهُمْ [...] مُعَانِدِينَ أَومُسَابِقِينَ."[1] أمّا "الخليل بن أحمد الفراهيديّ" (ت 175 هـ) ففي "كتاب العين" رأى أنّ: "عَجَزَ يَعْجَزُ عَجْزًا فَهْوضَعِيفٌ [...] والْعَجُوزُ الْمَرْأَةُ الشَّيخَةُ [...] وعَاجِزٌ فُلاَنٌ: حِينَ ذَهَبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، وبِهَذَا التَّفْسِير: ومَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ. والْعَجُزُ: مُؤَخَّرُ الشَّيْءِ [...] والْعَجُوزُ: الْخَمْرُ."[2] ويضيف "ابن منظور" (ت 711هـ) في "لسان العرب" على ما تقدّم: "الْعَجْزُ: الضُّعْفُ [...] والْمُعْجِزَةُ [...] عَدَمُ الْقُدْرَةِ".[3]
إنّ هذه التّعريفات على اختلافها وتباعدها زمنيا، تُجمع على اعتبار أنّ المعجزة فقدان القدرة والإقرار بالضعف والقدم، ويبدو أنّ وَاضعي هذه التعريفات قد كانوا شديدي الالتصاق بـ"القرآن الكريم"، فهم يقتبسون منه تعريفاتهم أوهم يستدلّون به، فقام اللّغويّ في بعض الأحيان مقام المُفسِّر.
وما يشد انتباه الناظر في مجمل هذه التعريفات الّتي ذكرنا، أنّها تقرن الفعل بالمفعول به في أغلب الأحيان، وذلك ببناء الأفعال للمجهول، ومثال ذلك قوله تعالى: "يُعَاجِزُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَوْلِيَاءَهُمْ" أو تعدية الفعل إلى المفعول به بواسطة حرف الجرّ، وجعل الفاعل ضميرا مستترا، ومثال ذلك قوله تعالى: "مَا أَعْجَزَ بِهِ".
والطريف في الأمر، أنّ الفعل لحظة نسبته إلى النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم يرد على وزن "أَفْعَلَ" أو"أَفْعَلَ بِه". أمّا لحظة نسبته إلى المُكذّبين بالنّبوّة، فيرد الفعل في صيغة المضارع/ الجمع "يُفُاعِلُونَ"، ويبدو أنّ استخدام هاتين الصيغتين شكل من أشكال اقتباس اللّغويين من "القرآن الكريم" لاسيما صيغة "يُفُاعِلُونَ"، زد على ذلك أنّ هذين الوزنين من الناحية الصرفيّة يحملان معاني عديدة تختلف باختلاف السياقات، ففعل "يُعَاجِزُونَ" في أصله فعل ثلاثيّ مزيد بالألف على وزن "فاعل"، وهو يحيل على معان عديدة، نذكر منها ثلاثة-وهي الأبرز في تقديرنا-، الأوّل تتالي الفعل، مثل قولك: "تابعت القراءة"، أمّا المعنى الثّاني، فهو التكثير، مثل قوله تعالى: "مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ".[4] أمّا المعنى الثّالث، فهو المُفَاعَلَةُ؛ أيْ "نسبة حدث الفعل الثّلاثيّ إلى الفاعل متعلّقا بالمفعول صراحة وإلى المفعول متعلّقا بالفاعل ضمنيّا".[5]
وإذا ما تأمّلنا وزن فَاعَلَ ضمن المقام الّذي أُخذت منه التّعريفات ألفيناه دالاّ على من يقع عليه الفعل أو هي دالة على تكلّف الفاعل وصعوبة قيامه بالفعل، وهاتان الخاصيّتان تُنسبان إلى المعاند دون غيره من البشر، زد على ذلك أنّ هذه الأفعال مشحونة بدلالات سلبيّة، فهي علامة على تحدّي المُعاند للإرادة الإلهيّة في سفور ومُمانعة، على أنّ المُمانعة والمُكابرة تظلّ عديمة الجدوى، فهي إلى الضّعف وفقدان القدّرة أقرب.
إنّ هذه المقدّمات تبدو للوهلة الأولى متباعدة متنافرة، فإذا ما تأمّلناها مليّا وجدناها ترفد من منبع واحد وتصّب في مصبّ واحد، فأمّيّة الرسول محمّد من شأنها أنْ تؤكّد صفة الألوهيّة بالنسبة إلى "القرآن الكريم"، فهو كلام إلهيّ صرف من ناحية، ومن شأنها أنْ تؤكّد صدق الرسالة المحمّديّة من ناحية ثانية. أمّا إقرار فحول الشعر الجاهليّ وصنّاعه بخلو "القرآن الكريم" من مظاهر الاعوجاج، فمن شأنه أنْ يدعّم الأمرين اللّذين ذكرناهما سابقا، فإذا بـ "القرآن الكريم" أوضح معجزة للرسول محمّد.[6]
من الواضح أنّ العرب كانوا على وعي تامّ بخصائص "القرآن الكريم"، وفي نفس اللحظة قد تفطّنوا إلى ما يجمعه بسائر الخطابات المشار إليها سابقا من وشائج قربى.
احتار الجاهليّون في شأن "القرآن الكريم" فلا هو بالشعر ولا هو بسجع الكهّان، ولا هو....، ولكنّه مع ذلك على صلة وطيدة بتلك الأنواع من القول في مستوى الصياغة، فالنصّ القرآني لا سيما في الفترة المكّيّة، قد قام في المستوى الأسلوبي (الفاصلة،....) على جملة من الخصائص الخاصة بالشعر وبسجع الكهّان، وقد اعتبر بعض الباحثين"محاكاة القرآن الكريم لهذه الأقوال كان تماشيّا مع الذّائقة السائدة آنذاك وضربا من ضروب الإقناع ووسيلة لكسب المُناصرين، بالنظر إلى ما يتركه القول الموزون المُوقّع من تأثيرات في الوجدان، وما تثيره مضامين الوحي من استغراب يدفع بالعربيّ إلى التمعن والتبصر في الوحي، وتلك خطوة أولى باتّجاه الإيمان بصدق الرسالة المحمّديّة".[7]
إنّ القول بأنّ "القرآن الكريم" أبلغ الكلام بالنظر إلى أنّه يصدر عن ذات كاملة (الذات الإلهية) قد جعل العرب القدامى والمعاصرين[8] يبحثون في وجوه إعجازه ويتوسّعون في ذكر مظاهر عجز فحول الشعر والخطباء عن الإتيان بمثله،[9]حجّتهم في ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء 17/ 88: "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القرآن الكريم لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَو كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا". إذ وظّف المسلمون – القدامى والمعاصرون – هذه الآية القرآن الكريمة ليؤسسوا تصورا مخصوصا للإعجاز القرآن الكريم، باعتباره الخط الفاصل بين قولين متباعدين، وهما: القول الإلهي (القرآن الكريم) والقول البشري (الشعر، الخطبة،...).
المراجع المعتمدة:
-إدريس، محمّد، النبوّة والنظم المعرفية في النصوص المقدّسة: قراءة في سلطة الواقع المعرفي، القرآن الكريم أنموذجا، مجلة الفكر العربي المعاصر، العـــددان 154 / 155 ـ مركز الإنماء القومي، بيروت لبنان، باريس فرنسا، 2011
-الجاحظ، أبو عثمان (ت 255 هـ)، كتاب الحيوان، دار المعارف، ط 3، القاهرة مصر، ( د ت ).
-الخطيب، عبد الكريم، الإعجاز في دراسات السابقين دراسة كاشفة لخصائص البلاغة العربية ومعاييرها (الكتاب الأوّل)، ط 2، دار المعرفة والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 1975
-الإمام الجويني، عبد الملك، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، دار المعرفة للنشر، القاهرة مصر، 1962، (نسخة مصوّرة) .
-ساسي، عمّار، المدخل إلى النحو والبلاغة في إعجاز القرآن الكريم، ط 1، دار المعارف بوفاريك، الجزائر ، 2005
-الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، منشورات الأعلمي للمطبوعات، ط 1، بيروت لبنان، 1988
-الفيروز آبادي، مجد الدّين، القاموس المحيط، تحقيق محمّد عبد الرّحمان المرعشلي، دار إحياء التّراث العربي، ط 1، بيروت لبنان، 1997
-عبد الحميد، محمّد محيي الدّين، دروس في التصريف، المكتبة العصريّة، بيروت لبنان، 1990
-ابن منظور، جمال الدّين، لسان العرب، دار صادر، ط 1، بيروت لبنان، 1998
[1]- راجع ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، دار صادر، ط 1، بيروت لبنان، 1998، مادة (ع، ج، ز)، مج 4، ص 264
[2]- راجع الفراهيدي، الخليل بن أحمد، كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، منشورات الأعلمي للمطبوعات، ط 1، بيروت لبنان، 1988 ، مادة (ع، ج، ز)، مج 5، ص 215
[3] راجع الفيروز آبادي، مجد الدّين، القاموس المحيط، تحقيق محمّد عبد الرّحمان المرعشلي، دار إحياء التّراث العربي، ط 1، بيروت لبنان، 1997، مادة (ع، ج، ز)، مج 1، ص 711
[4] راجع سورة البقرة 245/2 و سورة الحديد11/57
[5] راجع عبد الحميد، محمّد محييّ الدّين، دروس في التّصريف، المكتبة العصريّة، بيروت لبنان، 1990، ص 74
[6]- انظر الإمام الجويني، عبد الملك، كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، دار المعرفة للنشر، القاهرة مصر، 1962، (نسخة مصوّرة)، ص ص585 -587
من الجليّ أنّ مواقف البلاغيين من الإعجاز البيانيّ لـ"لقرآن الكريم" ، وما نشأ عن تلك المواقف من مقدّمات كانا تلبية لمطلب أيديولوجيّ أو تماشيا مع حاجة عقائديّة بالأساس. فَهُم لحظة بنائهم لنظريّاتهم في المعنى كانوا مسكونين بالبعد الكلاميّ والمذهبيّ بالأساس. ومن مظاهر ذلك أنّهم أسقطوا جملة من المفاهيم والمقولات على النّصّ المقدّس- القرآن الكريم- أو هم عمدوا إلى الأخذ بنواصي الشّائع- يومها -من المقولات، ومن بين تلك المقولات الّتي تواتر استخدامها في كتبهم القول بأمّيّة الرّسول - باتت اليوم من المقولات المسلّم بها- ويمكن ردّ ظهور هذا التّصوّر إلى طبيعة الفكر الإسلاميّ في ردوده على النّصارى واليهود. والحقيقة أنّ هذا الطّرح يجد في "القرآن الكريم" و"كتب السّيرة" ما يدعمه، ومثال ذلك ما ورد في سورة العلق التي نقرأ فيها قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". وقد مال أغلب علماء "القرآن الكريم" ومفسّروه- على حدّ علمنا- إلى اعتبار أنّ هذه السّورة أوّل ما نزل من الوحي على محمّد صلى الله عليه وسلم
[7]- راجع إدريس، محمّد، النبوّة والنظم المعرفية في النصوص المقدّسة: قراءة في سلطة الواقع المعرفي، القرآن الكريم أنموذجا، مجلة الفكر العربي المعاصر، العـــ 154 / 155 ـد دان ، مركز الإنماء القومي ، بيروت لبنان، باريس فرنسا، 2011، ص 115 .
[8]- نذكر على سبيل المثال في ما يتعلق بهذه المسألة ما كتبه كل من:
1/ ساسي، عمّار، المدخل إلى النحو والبلاغة في إعجاز القرآن الكريم، ط 1، دار المعارف بوفاريك، الجزائر، 2005 الذي خصص فصولا عديدة للنظر في وجوه الإعجاز البياني استنادا إلى نظريات القدامى (ابن جني والجاحظ والسكاكي وعبد القاهر الجرجاني والراغب الأصفهاني وأبو منصور الثعالبي والزمخشري، وغيرهم كثير...)، راجع على سبيل الذكر الفصل الأول "التحدّي بالإعجاز" من الباب الثاني " في إعجاز القرآن الكريم".
2/ الخطيب، عبد الكريم، الإعجاز في دراسات السابقين دراسة كاشفة لخصائص البلاغة العربية ومعاييرها (الكتاب الأوّل)، ط 2، دار المعرفة والطباعة والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، 1975
[9]- نشير في ما يتصل بهذه المسألة إلى أنّ بعض القدامى اعتبر عجز الشعراء ....إلخ عن الإتيان بقول يضاهي الكلام الإلهي قيمة إنّما هو من باب الصرفة؛ فالجاحظ (ت 255 هـ) ذهب إلى القول:" وصرف [ الله] نفوسهم [ يقصد بلغاء العرب] عن المعارضة للقرآن بعد أنْ تحدّاهم الرسول بنظمه، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلّفه [ ... ] فقد رأيت أصحاب مسيلمة غنّما تعلّقوا بما ألّف لهم مسيلمة من ذلك الكلام الذي يعلم كل من سمعه أنّه إنّما عدا على القرآن الكريم فسلبه، وأخذ بعضه و تعاطى أنْ يقارنه"، كتاب الحيوان، دار المعارف، ط3، القاهرة مصر، (د ت)،ج 4، ص ص 31 -32