بورقيبة والمسألة الديمقراطية 1956 ـ 1963 للكاتبة نورة البورصالي: صرخة ضدّ النسيان
فئة : قراءات في كتب
بورقيبة والمسألة الديمقراطية 1956 ـ 1963
للكاتبة نورة البورصالي: صرخة ضدّ النسيان
من ضروب الخوف أن تدفن الشعوب أشلاء ماضيها، وتطمس ذاكرتها الجريحة وتقبل بتاريخ مقطوع الأوصال ورئيس لا يرى سوى نفسه عنوانا للدولة، ولا يتمثّل عدالة السّماء إلاّ في حكمه.
هل علينا أن نشعر بالخجل؛ لأنّنا اكتفينا بما قدّمه لنا الإعلام من شعارات عن زمن لم يعشه الكثيرون منّا وماض لم نسائله وحقيقة لم نلاحقها؟ ربّما انشغلنا بسنوات متلاحقة أخرى من القمع ونسينا أن لمآسي الحاضر جذور في الزمن وأنّ التاريخ وحدة لا تتجزّأ وصيرورة تتفجّر بعض حلقاتها من اللحظات الأكثر توتّرا.
سنوات طويلة من الرّهبة عاشتها تونس، ساد خلالها الصّمت والخوف، وتورّط فيها كثيرون بالتواطؤ والتكتم.
السياسة فنّ كما قيل دوما، ولكن هي أيضا "لغة لا يقدر الهواء نفسه أن يصنع منها إلا الغبار" كما يقول أدونيس.
نحن بحاجة إلى هذا الغبار، من الغبار خلق الكون وإلى الغبار تحوّل الشهداء ومن الغبار ننحت طريقا للمستقبل، وما فرض علينا سياسيا نحن مطالبون بمناقشته وتصحيحه وإعادة تشكيله خاصّة بعدما تبيّن أنّه من الصعب جدًّا تسييج العقل التونسي.
لا أغالي إذا قلت إن كتاب الأستاذة الباحثة نورة البورصالي "بورقيبة والمسألة الديمقراطية 1956 ـ 1963" شكّل مفاجأة صادمة بالنسبة إلي ونقلة نوعية في وعيي؛ فلقد استطاعت الكاتبة أن تحفر في أشدّ لحظات التاريخ التونسي توتّرا وتخرج أشلاء الماضي، وتبعث الروح قويّة ونابضة في رفات الشهداء وتزرع الحقائق والوقائع المثيرة وتدين القتلة والجلاّدين.
مائتان وواحد وثمانون صفحة كانت كفيلة بزعزعة المشهد وفضح المسكوت عنه وتغيير المسلمات.
ظهر الكتاب في طبعتين بالفرنسية، وصدر أخيرا عن دار نقوش عربية في طبعة معرّبة قام بها بحرفية عالية الكاتب: محمّد عبد الكافي، وهو ينقسم إلى خمسة أجزاء تتضمّن وثائق وحوارات مهمة وشهادات مؤثّرة لضحايا الحكم البورقيبي ولأهالي المعدومين والسجناء السياسيين الذين بقوا على قيد الحياة.
يتنزّل العمل في سياق مراجعة الذاكرة الوطنية والوقوف عند أبرز محطاتها واسترجاع أحداثها الأكثر عنفا ودموية كما يمثّل جوابا عن ظاهرة الحنين إلى زمن بورقيبة التي برزت في السنوات الأخيرة كردّ فعل تجاه هشاشة الحكم وظهور تيار ديني متطرف...فالانتقال الديمقراطي، وإن بدا عسيرا حسب قول الباحثة، فإنّه ينبغي "تجنّب إعادة ما يعتبره البعض أنموذجا للحكم" فما يناهز نصف قرن من حكم بورقيبة وبن علي وما رافق ذلك من استبداد وقمع وانتهاكات واحتجاجات يستوجب تقييما جديدا و"تحديدا للمسؤوليات وردّ الاعتبار لضحايا الاستبداد وإعادة بناء الذاكرة الجماعية".
ترصد الكاتبة المشهد السياسي قبل سنوات قليلة من الاستقلال، وترى أنّه كان يتّسم بالتعددية ولكن منذ الانتخابات الأولى التي جرت في 25 مارس 1956.
سعى الحزب الدستوري الجديد بزعامة بورقيبة إلى الهيمنة على الحياة السياسية وتصفية خصومه وتطويع المنظمات الوطنية وقمع الصحافة وتوظيفها لصالحه، وكرّست جميع الانتخابات حكم الحزب الواحد، لتنتهي الرئاسية منها في مارس 1975 بإعلان بورقيبة رئيسا مدى الحياة.
لم يفت الكاتبة أن تسلّط الضوء على المرأة التي أقصيت من الانتخابات الأولى، رغم مشاركتها في الكفاح فتكشف وثيقة على غاية من الأهمية سلّمها وفد نسائي العام 1955 إلى رئيس الحكومة الطاهر بن عمّار تتضمّن عدّة مطالب من بينها حقّ الاقتراع وإسناد وزارة للمرأة وإنشاء برنامج إجباري لتعليم المرأة...فهل تكون هذه الوثيقة النواة الأولى التي مهّدت لصدور مجلّة الأحوال الشخصية سنة 1959؟
وحول المسألة الديمقراطية، أقرّ المناضل الشيوعي جورج عدا في حوار أجرته الباحثة معه سنة 2006 بأن بورقيبة "كان وفيّا لطموحات الشعب التونسي الكبرى..ولكن لا يجب أن ننسى أن بورقيبة ومن معه كبتوا أنفاس الحريّات ومنعوا الديمقراطية من التجذّر والتطوّر والازدهار وأن تصبح ثقافة الجميع".
ألم تكن الديمقراطية من الطموحات الكبرى للشعب التونسي الذي عاش الاستعمار؟ هل كان بورقيبة يخشى خصومه ويتعلل بخوفه على الدولة أم أن مسألة الديمقراطية تتطلب نضجا وطنيا لم يكن متوفرا آنذاك؟ وكيف نفسّر انقلاب بورقيبة ضدّ من قدّموا له الدعم والمساندة في صراعه ضدّ اليوسفيين، مثل الحزب الشيوعي الذي تحوّل بعد مؤامرة 1962 إلى خصم لدود، فاعتقل عدد من مناضليه أبرزهم المناضل النقابي حسن السعداوي الذي استشهد في 12فبراير 1962 أثناء التحقيق معه في مركز الشرطة.
تسلّط الباحثة الضوء في الجزء الثاني من الكتاب على الفلاقة، فتتعرض إلى ظروف نشأتهم وتبرز دورهم في النضال وتنصفهم وتبيّن مواقفهم؛ فهذه الحركة المسلّحة التي تكوّنت في بداية الخمسينيات وروّعت المستعمر "صلحت لبورقيبة كأداة ضغط على فرنسا أثناء المفاوضات" وتستشهد بما كتبه أندري جوليان عن الفلاّقة بأنهم أصبحوا بعد "تأطيرهم وتسييرهم وإرشادهم متمرّدين مقاومين في سبيل القضيّة الوطنية" وبما كتبته جولييت بسيّس بأنّهم "تنظّموا في شكل جيش وطني...أمّا جريدة "تونس الاشتراكية" فتذكر أنّ "حركة الفلاّقة تعدّت بكثير الحركة الوطنية ولعلّها أفلتت من يدها" مما دعا المقيم العام الفرنسي في مفاوضاته مع بورقيبة إلى فرض شرط تسليم السلاح الذي وإن قبله لزهر الشرايطي وساسي، فإن قسما آخر من الفلاقة بقيادة طاهر لسود رفض هذا الشرط، واختار مواصلة الكفاح في الجبال وقد اتسمت علاقة بورقيبة بالفلاقة إثر ذلك بالعدائية، خاصّة بعد أن انضمّ قسم منهم إلى صالح بن يوسف فأعدم بعضهم مباشرة بعد الاستقلال والبعض الآخر بعد مؤامرة 1962 أبرزهم لزهر الشرايطي وحسن العيادي ووصفهم في خطابات عديدة له بأنّهم "أناس بسطاء ..عقولهم بسيطة ..يتصوّرون أنّهم هزموا فرنسا وجهلة ورعاة..."
تدرج الباحثة في حديثها عن الفلاقة شهادة المناضل محمّد بن سعيد وحوارا مع المؤرّخ عميرة عليّة الصغيّر الذي ذكر أنّ المقاومين الجزائريين لم يكونوا يحبون بورقيبة واعتبروه خائنا للقضيّة المغاربية وأنّ الحياة كانت مثل الجحيم بالنسبة إلى المعمرين بسبب الفلاقة ..
طبع التوتّر أيضا علاقة بورقيبة بالزيتونيين الذين انتمى أكثرهم إلى اليوسفية، فعمل على إقصائهم ناعتا إياهم "بالجمود والانغلاق والعقم الفكري" بينما رأوا فيه "الزعيم الغربي الذي يسعى إلى تحويل المجتمع التونسي إلى مجتمع منبتّ الهويّة" وبرغم نجاح بورقيبة في احتواء الاتحاد العام للطلبة التونسيين مكرّسا بذلك مفهوم الوحدة الصمّاء، فإنّ الطلبة الزيتونيين ظلوا على موقفهم المعادي له.
الخلاف حول المسألة الدينية بدأ جليّا بعد أن انتقد الشيخ عبد الرحمان خليف موقف بورقيبة من الصيام واحتج على تصوير أحد الأفلام الأجنبية في مسجد، فاندلعت في القيروان مطلع العام 1961 مظاهرات سقط أثناءها خمسة قتلى وأوقف الشيخ عبد الرحمان خليف و137 من المتهمين وصدرت بشأنهم أحكام قاسية ..
تتوقّف الكاتبة عند لجان الرعاية الدستورية التي أنشأت في أبريل 1956، وهي حسب جريدة المستقبل التونسي مليشيا الحزب الدستوري الجديد وحسب الأستاذ محمّد ضيف الله هي لجان تضمّ في داخلها فلاّقة مثل لزهر الشرايطي وساسي لسود وحسن العيّادي، وتقوم بتعذيب أتباع صالح بن يوسف وخصوم بورقيبة في مكان يسمى بصبّاط الظلام في المدينة العتيقة ويذكر المناضل المعروف علي بن سالم بأنّ "الجرائم التي اقترفتها هذه العصابات كثيرة.." وأكّد بعض الناجين أنه جرى اختطافهم وتعذيبهم بهدف ابتزاز عائلاتهم، إذ كانوا من طبقة ميسورة.
توثّق الباحثة لجرائم صباط الظلام من خلال شهادات الناجين، ويذكر الأستاذ محمّد ضيف الله وبالاستناد إلى شهادة علي المعاوي بأن الكثير من اليوسفيين لقوا حتفهم في صباط الظلام، وأن هناك بئرا عميقة كانت تلقى فيها جثث القتلى، كانت هذه اللجان موجودة في كامل البلاد وكان مركزها في سيدي بن عيسى ببني خلاّد يحرّكها عمر شاشية وبشير زرق العيون وحسن بن عبد العزيز وحسن الورداني كما ورد اسم الطيّب السحباني وحسن العيّادي الذي كتب في مذكّراته بأن وزير الداخلية "الطيّب المهيري" لا يمكن أن يكون جاهلا بما يدور في صبّاط الظلام، ويقول الأستاذ عبد الرحمان الهيلة بأنّ الكثيرين من أهالي الضحايا لا يعرفون مكان دفن جثث أقربائهم، وأن "صباط الظلام كان رمزا للفاشية والقضاء على حريّة التعبير..."
لم يفت بورقيبة أن ينشأ بعد أيّام من توليه الحكم محكمة القضاء العليا أو ما يعرف بالمحكمة الشعبية أو محكمة أمن الدولة ومهمّتها النظر في القضايا ذات الصبغة السياسية وامتدت صلاحيتها، لتشمل "جرائم الصحافة مثل القدح ونشر أخبار كاذبة... وفي 24مايو 1957 حكمت على صالح بن يوسف غيابيا مع 7 آخرين بالإعدام وعلى 123 موقوفا بأحكام قاسية بالسجن ، واستطاعت يد بورقيبة أن تطال صالح بن يوسف، وهو في فرنكفورت فاغتيل في 14 غشت 1961
وحسب الدكتور محمّد ضيف الله، فإنّ جملة المحاكمات السياسية المتراوحة بين الاستقلال و2009 بلغت 111 كان نصفها في الثمانية أعوام الأولى وقضت ب 62 حكما بالإعدام و43 حكما بالأشغال الشاقة المؤبّدة. وتذكر الكاتبة عددا من الذين مثلوا أمام المحكمة الشعبية أبرزهم أوّل مدير تونسي لمعهد الصادقية بعد الاستقلال، وهو المربي محمّد عطيّة والمحامي الشاذلي الخلادي بتهمة ثلب بلدية تونس...وكذلك عزوز الرباعي للمس من القضاء...والمناضل علي الزليطني المحكوم بعشرين سنة أشغالا شاقة لمعارضته اتفاقيات الاستقلال الداخلي ...
الشهادات التي يتضمنها الكتاب تؤكّد الجانب التسلّطي في شخصية بورقيبة تجاه خصومه وعائلاتهم من أهمّها شهادة مؤثّرة لإلهام عبد الكافي ابنة المناضل محمّد عبد الكافي المحكوم عليه بالإعدام في قضية اليوسفيين الأولى والأميرة جميلة الباجي؛ فقد هدم بيت الأسرة ومنعت الزوجة من العمل وحرمت من جواز سفر، وعانت وضعا ماديا صعبا للغاية وتتساءل إلهام لماذا على العائلات تسديد الثمن؟
نهاية الباي وعائلته كانت أليمة أيضا، فقد وضع في الإقامة الجبرية قبل أن يقع اقتياده مع أفراد عائلته، وهو حافي القدمين وعاري الرأس يرتدي جبّة بسيطة حسب شهادة ابنته زكية زوجة الدكتور بن سالم الذي سجن وعذّب، وتتحدّث عن التعذيب الذي تعرّضت له والدتها بوزارة الداخلية أثناء استنطاقها، فتقول إنّها أصيبت بالبكم وتوفيت على إثر نزيف حاد وانتهت حياة الباي في شقّة ضيّقة بلافيات لم يكن يزورهم فيها سوى المنجي سليم، وهو متنكّر في سفساري.
تتعرّض الكاتبة بكثير من الدقّة والتفاصيل إلى علاقة بورقيبة بالصحافة، فتذكر أن نظام الصحافة الذي تحدّد بموجب مرسوم ملكي في 9 مارس 1956 كان أكثر تحرّرا من خلفه المحدّد في قانون 1975 الذي خصّص نصفه لإجراءات جزائية، فقد عمل بورقيبة منذ محاكمة الطاهر بن عمّار رئيس الحكومة السابق وخاصّة بعد مؤامرة 1962 على قمع الصحافة وإخضاعها للرقابة، فمنعت "منبر التقدّم" التي يديرها سليمان بن سليمان وصدر حكم بتاريخ 29 يناير 1963 يقضي بمنع الصحافة الشيوعية ، ويزخر الكتاب بوثائق واستشهادات مهمة في هذا المجال.
كان لبعض أصدقاء بورقيبة موقف من هذا التوجّه، فقد عارضه محمود الماطري وحذّر أحمد التليلي في رسالة وجّهها له من "القطيعة الفعلية والحقيقية بين الشعب والنظام" ويعيب الدكتور نجيب البوزيري على بورقيبة عدم تشجيعه على الديمقراطية؛ وذلك في حوار مطوّل معه وتطالب السيّدة صوفية بن يوسف بمراجعة التاريخ المسيء إلى زوجها، وترى أن بورقيبة أراد أن يلهي الشعب التونسي باغتيال صالح بن يوسف، حتى ينسى حرب بنزرت بعد عشرين يوما من نهايتها، والتي أودت بحياة آلاف التونسيين.
من أهمّ فصول الكتاب الفصل المتعلّق بمؤامرة ديسمبر 1962 التي أدّت إلى اعتقال المئات ومثل يوم 17 يناير 1963 أمام المحكمة العسكرية 25 متهما حكم على ثلاثة عشر منهم بالإعدام من بينهم لزهر الشرايطي، ونال آخرون أحكاما قاسية بالأشغال الشاقة وفي مايو أعدم حسن العيادي.
تدرج الباحثة في هذا السياق، حوارات وشهادات على غاية من الأهمية للناجين من الإعدام استهلتها بحوار مع قدور بن يشرط الذي كان ضمن فريق بنزرت مع محمّد صالح البراطلي والحبيب حنيني وعلي بن سالم كشك ومحمد قارة وغيرهم، ويذكر أنهم نقلوا إلى سجن غار الملح، ووضعوا في زنزانة اسمها "عنق الجمل" وكانوا يقضون اليوم في الظلام وتعرضوا إلى كلّ أنواع التعذيب، وحرموا من زيارة عائلاتهم، ثمّ نقلوا إلى برج الرمي، حيث وضعوا في عمق ستّة أمتار تحت الأرض.
يكشف محمّد صالح البراطلي في شهادته أسماء من قاموا بتعذيبه في صبّاط الظلام قبل أن يحاكم بالأشغال الشاقة المؤبّدة قضى منها 11 سنة بسجن غار الملح، ثمّ نقل إلى سجن الناظور ، حيث أمضى خمس سنوات في الداموس ...
شهادة أخرى مؤثرة، من مذكّرات تميم الحمادي التونسي تقدّمها شقيقته الصحفية المعروفة رشا التونسي، وقد حكم عليه ب20 عاما أشغالا شاقّة أمضى منها 10 سنوات بعنق الجمل وداموس برج الرومي، وكان تميم أصغر المعتقلين وتتساءل رشا "أين نحن اليوم من كلّ ما أرادوه لنا من حريّة وحقوق؟؟"
الشهيد الصحبي فرحات توفي بسجن غار الملح بعد عام من صدور الحكم ضدّه وقد تعرّض إلى التعذيب وحرم من الدواء وتذكر ابنته حليمة أنّه وقع تسليم الجثّة للعائلة مع شهادة طبيّة تنصّ على أن الوفاة ناتجة عن أزمة قلبية.
أرملة المناضل الشهيد الحبيب حنيني الذي حكم عليه بالإعدام تتساءل في شهادتها لماذا تعدم العائلات؟ فقد صودرت جميع ممتلكات الأسرة واضطرّت الزوجة للعمل بخياطة الملابس، حتى تتمكّن من إعالة أبنائها.
أرملة محمد بن قيزة تقرّ بأن بورقيبة عفا عن زوجها من حكم الإعدام بعد تدخّل وسيلة ولكنه عذّب أشدّ العذاب في كراكة غار الملح وبرج الرومي.
شهادة أخرى مؤثّرة، تتعلّق بالأزهر الشرايطي تعرضها الكاتبة، وهي لبعض أفراد عائلته وتتفق جميعها على أنه قدّم خدمات كبيرة للبلاد، وأن بورقيبة شرّدها وسلبها ممتلكاتها وتذكر زوجته السويسرية أنّها اضطرّت للسكن في مستودع سيّارة مع أبنائها الخمسة قبل أن تلجأ إلى وطنها سنة 1975، عاد ابنه سليم إلى تونس فأوقف في مطار قرطاج وخضع إلى تحقيق مطوّل بوزارة الداخلية. أما شقيقه كريم، فقد انتحر بعد شهر من عودته إلى تونس، حيث فشل في العثور على قبر لوالده وأجوبة لأسئلته الكثيرة.
تتعرض الكاتبة أيضا لتجربة أحمد عثماني الذي عرف التعذيب والزنزانات والضرب بعصب الثيران ونور الدين بن خذر الذي أكّد قبل وفاته في 2005 أنّه "عاجلا أو آجلا سيفتح هذا الملف وما سيفضحه سيكون فظيعا لأولئك الذين يظنون أنّهم أفلتوا من العدالة" كما تشير الباحثة إلى انتفاضة الخبز سنة 1984 التي كادت تعصف بحكم بورقيبة، وتنهي بحثها برسالة وجهتها إلى الرئيس مدير عام مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية على إثر وفاة بورقيبة تطالبه فيها بتخصيص ملفات تجمع بين آراء متقابلة بهدف الإحاطة بتعقيدات شخصية طبعت أكثر من نصف قرن من تاريخنا الوطني".
هي إذن سنوات الرصاص والمشانق في تونس وصرخة ضدّ النسيان، تغرسها الكاتبة في خاصرة التاريخ، فهل هو عشق السلطة الذي يدفع بالحاكم إلى تصفية خصومه؟ أم هو الخوف على الدولة الفتية من مزالق الاختلاف؟ وهل تعيق الديمقراطية حقّا بناء الدولة وتكون شكلا من أشكال خرابها؟ لا أحد ينكر ما قدّمه بورقيبة من تضحيات وخدمات، ولكن لم كلّ شيء؟ لم كلّ هذا التعذيب والتشفي من العائلات؟
كأني وأنا أقرأ هذا الكتاب المرجعي أسير في غابة من الأوجاع وأرى فيها أرواح الشهداء والمعذّبين تخرج من رفاتها دامعة دامية، شكرا السيّدة نورة البورصالي؛ لأنك نذرت قلمك للحقيقة وأزلت الحجب وفتحت مغاليق الماضي، وبرهنت أن الضحيّة أقوى من الجلاّد، وأن التاريخ ليس مجرّد إخبار، وإنّما هو أيضا دروس وعبر وموقف قبل كلّ شيء.