بول هيك:الدين ودوره في بسط ثقافة السلام والحوار بين الثقافات
فئة : حوارات
حوار مع الدكتور بول هيك حول: الدين ودوره في بسط ثقافة السلام والحوار بين الثقافات
الأستاذ (Paul Heck) أستاذ في قسم علم اللاهوت والدراسات الدينية في جامعة جورج تاون في واشنطن، وذلك منذ عام 2004. يركز في بحوثه على تأريخ الفكر الديني بخصوص الأديان السماوية، أشرف ولا يزال على عدة أطروحات جامعية في المجال نفسه، ويسعى في جميع منشوراته إلى إلقاء الضوء على الروابط الفكرية والتأريخية بين الأديان السماوية. التقيناه في الرباط وأجرينا معه هذا الحوار.
ذ. أحمد صابر: الدكتور بول هيك، مرحباً بك. كيف تقدم نفسك للقارئ باللغة العربية؟ من هو بول هيك؟
د. بول هيك: السلام عليكم ورحمة الله؛ باختصار شديد، أنا ممن يحاربون ما يوجد في الدنيا اليوم من أوهام تفصل بين الثقافات والديانات. فهذا العصر في حاجة ماسة إلى نشر العلم بمعرفة الناس بعضهم بعضا ومعرفة أديانهم، إذ تسود في الوقت الحاضر أوهام حول الأديان الأخرى، ما يحول دون المزيد التعاون على الخير بين أهالي الديانات؛ فالعلم بالأديان هو ما أبذل جهدا من أجل نشره بين أهل العلم عبر الثقافات والحضارات.
ذ. أحمد صابر: بصفتك مختصا في علم الأديان، كيف تعرف الدين تبعا لمقتضيات الزمن المعرفي الذي يظللنا اليوم، مع العلم أن الدين متعدد بتعدد الثقافات والحضارات؟
د. بول هيك: الدين هو عبارة عما يتركه الله في قلب المؤمن عند الصلاة، ما يوفقه في الحياة من حيث الإحسان إلى غيره والفضيلة في ما يفعله. هل يحق لنا أن نحصر ما يفعله الله لنحطّ من تجارب الإيمان عند الآخر؟ بالعكس، ينبغي أن نتسارع إلى اكتشاف ما يتركه الله في قلب الآخر كائناً من كان. لا أسأل عن دينه، بل أسأل عما في قلبه من مواهب أنزلها الله عليه، وأستفيد من ذلك، وإن كنت على دين غير دينه، فأسأله عن تفاعله مع ما يتركه الله في قلبه. هكذا تتكون صحبة بيني وبينه، ما يمكّنني من المزيد من العلم بما يفعله الله مع خلقه، فلا حد لما يفعله الله، وهكذا أكتشف دين الآخر، ولا يهدد ذلك ديني، بل يزيدني علماً وإيماناً. هل الدين متعدد في نهاية المطاف؟ الإنسان هو محدود ويرى التنوع عبر الأديان، وذلك صحيح فلا يُنكر التنوع فيما بين الأديان، ولكن الله غير محدود ويترك ما يتركه في قلب الإنسان كما يشاء، وهذا صحيح في جميع الأديان. قد يعتقد البعض أن فعل الرحمن يقتصر على دين من الأديان، ويقولون بأن هذا الدين هو صالح للقاء الله. أما ذلك، فلا. من يقول بمثل هذا القول، فهو خائف على نفسه، ويستغل الدين ليثبت نفسه، بل ليتعالى على غيره فهو على حق، والآخر على باطل. لا بأس أن نسأل عما يؤمن به غيرنا لأن الدين متنوع. لماذا يوجد هذا التنوع؟ هل يُخلّ هذا التنوع بصحة الدين؟ هل يوقعنا هذا التنوع في النسبية الدينية؟ العكس هو الصحيح. الصحبة العلمية بيني وبين من هو على دين غير ديني، لا تزيدني إلا علماً بأفعال الله عبر خلقه، أو ليس ذلك هدف من علم الأديان؟ من هو على دين غير ديني أليس هو الآخر في أمانة الله كما أنا في أمانة الله؟ نعم، التعددية الدينية عبر الثقافات والحضارات تدعونا إلى إعادة النظر في معنى الدين نفسه. لا يتنازل أحد عما هو عليه من خصائص ثقافته، يتعامل معها بعقله وقلبه ليكتشف معنى حياته. في الوقت نفسه، توسّع التعددية الدينية من آفاقنا المعرفية من حيث علم الدين، بل علم أفعال الله. قد يعتقد البعض أن هذه التعددية الدينية تفصل بيننا ولكن الخبرة تثبت أنها تغنيني علماً وإيماناً. الانفتاح على التعددية الدينية، يمكّننا من الاطلاع على تعامل الآخر مع ما يتركه الله في قلبه، وذلك لا يضعف شأن الدين في العالم، بل يقوّي ما له من حرمة، ولا يقلل من علم الأديان، بل يُكسب الطالب علماً بدين الآخر، وهو تماماً ما يسعى إليه أهل العلم.
ذ. أحمد صابر: تبعا لهذا، هل هناك مساحة مشتركة بين كل الديانات في نظرتها إلى الإنسان والكون... يمكن معها، أن تتقارب وتتآلف؟
د. بول هيك: لا شك في ذلك؛ من ناحية يُلاحظ التنوع في الآراء في الأديان بخصوص فطرة الإنسان. هل يتوجه الإنسان إلى وجه الله بالفطرة من دون التنزيل؟ ماذا يفسد شأن الفطرة وماذا يصلحه؟ هناك الكثير من الآراء بشأن الفطرة. من ناحية أخرى، لا يخفى على أحد أن كل دين يرفع شأن الإنسان ومكانه في الكون. قد يختلف هذا الدين عن ذلك في تسمية الإنسان؛ هل هو ابن من أبناء الله أو خليفة من خلائف الله؟ سمّه مثلما تريد، فالإنسان هو المخلوق الذي اصطفاه الله من بين سائر المخلوقات. لا شك أن المخلوقات جمعاء هي على صلة بالخالق بصورة أو بأخرى. أما الإنسان، فهو الحيوان الذي سلّطه الله على أمره، وذلك متفق في الأديان الثلاثة، حيث يمتاز الإنسان بتلك السلطة على غيره من المخلوقات؛ الإنسان مهما كان دينه له سلطة على الأرض، سلّطه الله بها ليقوم على أمره. ونجد ذلك القول في الكتب المنزلة كلها. فهل نحن فعلاً، على الاستعداد للعمل به؟ اليهودي والمسيحي والمسلم يقرّ الجميع بأن الله سلّط الإنسان بسلطة من أجل الخير دون الشر. يُفترض أن يجمعنا هذا القول المتفق عليه. إذا كنت أنا من المسلطين لأقوم على أمر الله في الأرض أليس من هو على دين غير ديني هو الآخر على الأمر نفسه؟ هكذا أرى فيه شريكاً في الأمر، وإن اختلف دينه عن ديني. وما يريده الله مني فيما يخص هذه السلطة، فإنه تعالى يريده من غيري، فسلطنا الله بسلطة لنتعاون جميعاً على الخير دون الشر من حيث الإحسان والوفاء بالقول والرعاية بشأن الفقير والمستضعف والمسكين وعيادة المريض وحفظ النظافة والبيئة وما إلى ذلك.
ذ. أحمد صابر: ذهب البعض إلى القول بوحدة الأديان ما رأيك في هذا القول؟
د. بول هيك: أرى في ذلك ما يقلل من مجد الله وكمال هداه؛ نحن نعيش جميعاً في سفينة واحدة، ولنا مصير واحد وما يضرّ بأحد منا فيضرّ بالجميع. أما الدين، فهو أمر الله فيهدي كما يشاء. لا داعي إلى وحدة الأديان، بل إلى الاعتراف بأن الله تعالى يهدينا جميعاً كما يشاء.
ذ. أحمد صابر: هناك من يجعل الدين سببا من الأسباب التي تكون سببا في اشتعال فتيل الحرب والصدام بين الشعوب والثقافات، هل هذا صحيح في رأيك؟ وكيف يمكن تبرئة الدين من هذا الأمر؟
د. بول هيك: مما يُستصعب فهمه هو استعداد الإنسان لقتل آخيه. يرجع هذا الأمر إلى قصة قابيل وهابيل؛ هناك في الإنسان ما يجعله مستعداً ليقتل وليُقتل. نجد ذلك عند جميع الشعوب، وكما نجده عند من له دين، كذلك نجده عند من لا دين له، وفي ملاعب كرة القدم هناك من هو مستعد ليقتل وليُقتل من أجل فريقه، وهناك من هو مستعد ليقتل وليقتل من أجل وطنه، وهناك من هو مستعد ليقتل وليقتل من أجل فكرة أو فرقة. فلنرجع إلى قصة قابيل وهابيل؛ لم يقتنع قابيل بأمر الله وإنما حسد أخاه، ذلك الحسد هو لب القصة، لماذا يحسد الإنسان غيره ولا يقتنع بأمره. في الحقيقة يخاف الإنسان على أمره أمام خالقه؛ هل أنا مقبول أو غير مقبول أمام الله؟ هكذا يقع الإنسان في الالتباس بخصوص أمره أمام الله، ليجمع بين الخوف على النفس والحسد على الغير وحالته أمام الله. قد يعتقد أن قيمته أمام الله تتناقض مع قيمة غيره، فيرى في قيمة الآخر أمام الله ما يهدد قيمته، فيولد فيه طمع في قتل الآخر لإثبات قيمته أمام الله. هكذا يختلط أمره، بل يتخذ هواه إلهاً. من ثَم يُورّط الإنسان دينه في العنف على الاعتقاد أن الاستعداد ليقتل وليقتل هو يظهر ما له من مكانة أمام الله. نعم، الإنسان هو على الاستعداد لقتل أخيه بسبب الحسد، وينسب الأمر إلى دينه، وذلك هو ما يُستخلص من قصة قابيل وهابيل. لذلك ينبغى أن نتفكر في أمر الدين، ماذا يقول عن قيمة الإنسان؟ وماذا يجعل الله للإنسان من قيمة؟ من يفوته القول إنه يعادل قتل نفس بقتل الناس جميعاً؟ أما اليوم، فبرز الهوى في الميدان وذلك في قالب الهوية. نرى من يَقتل ويُقتل من أجل هويته ويعتدي على غيره، وذلك لمجرد الاختلاف في الدين أو المذهب أو الرأي. هكذا ويعتقد مثله أنه على الولاء لله، وفي الحقيقة حالته حالة قابيل، فيخاف على نفسه أمام الله ويحسد غيره لما تُقبّل منه عند الله، ولا يقتنع بأمر الله بل يستولي عليه، ليتخذ هواه إلهاً دون الله، وذلك كله لإثبات نفسه أمام الله. بالفعل الإنسان هو ظلوم جهول.
ذ. أحمد صابر: عندما نتحدث عن الدين في الأعم، نجد قيما ونصوصا مرجعية مؤسسة في أي دين تتشكل وتنشأ على ضوئها تجارب دينية؛ بمعنى أن هناك فرقا بين الدين في صورته الأصلية، وبين التدين المرتهن لما هو اجتماعي وثقافي لدى الناس. في رأيك هل يمكن الفصل المنهجي بين مساحة الدين ومساحة التدين في علاقة الدين بالفرد والمجتمع طمعا في أن يرتبط الناس بجوهر الدين بدل ارتباطهم بأنماط وتجارب دينية كامنة في الماضي وفي التاريخ؟
د. بول هيك: كل دين له مصطلحات ومفاهيم، وعندما ندرس تأريخ هذا الدين أو ذاك، نجد التطور في المعاني لهذه المصطلحات والمفاهيم. على سبيل المثال التوحيد هو من ثوابت الدين، ولكن معنى التوحيد يصطبغ بصبغة حسب السياق وحسب الشخص. كتب محمد عبده رسالته في التوحيد في أواخر القرن التاسع عشر في مصر، وكتب محمد بن عبد الوهاب رسالته في التوحيد في منتصف القرن الثامن عشر في الجزيرة العربية، وكتب يحيى بن عدي رسالته في التوحيد في القرن العاشر، وهو مسيحي عاش في بغداد في ظل الخلافة العباسية. ولابن عربي رؤية في التوحيد ولابن تيمية رؤية في التوحيد وللكندي فيلسوف العرب، رؤية في التوحيد، كما نرى في رسالته في الفلسفة الأولى، ولابن رشد رؤية في التوحيد، كما نرى في كتابه في الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة. والفلاح الذي يزرع مزرعته والتاجر الذي يتجر ببضائعه، بل سائق الحافلة، وهو صابر طول النهار على الازدحام والاكتظاظ، فإن لهم جميعاً رؤية في معنى التوحيد. لذلك يجوز القول إن الدين له ثوابت ولكن الدين غير ثابت. ثوابت الدين هي العقائد التي لا تتغير عبر الزمان، مثل عقيدة التوحيد. أما الدين بمعنى ما يعتقده الإنسان ويعيشه استجابة لواقعه، فهو ما ينصبغ بصبغة حسب السياق وحسب الشخص؛ فالدين هو تفاعل الإنسان مع ما انتقل إليه من عقائد ومصطلحات ومفاهيم، وما أجمع عليه أهل ملته. هكذا أدرس وأدرّس شأن الدين عند الإنسان على ضوء كل ما يحيط به من سياق، وبكوني باحثاً في علم الأديان، أريد أن أفهم هذا الدين أو ذاك كما يفهمه أهله، الأمر الذي يتطلب مني منهاجاً يليق بالأمر، وهذا المنهاج أسميه الصحبة العلمية. من ناحية أقرأ ما للدين من كتب ومفسرات، ولا بد من ذلك لأفهم عقائده ومصطلحاته ومفاهيمه. ومن ناحية أخرى، لا أريد أن أفهم هذا التراث المنسوب إلى الدين إلا كما يفهمه أهله. لذلك، ينبغي أن أصحب ذلك الأهل لأفهم ما يفهمه من الدين. هكذا أصبحت الصحبة مما يقتضيه كسب العلم بهذا الدين أو ذاك، صحبة تدوم وتنبني على الالتزام والثقة، فلا صحبة من دون ذلك. ومن ثم أجد نفسي بين أمرين؛ الأول هو كسب العلم بهذا الدين أو ذلك على ضوء كل ما يحيط به من سياق، ولا بد من ذلك للاطلاع على الدين في سياقه التاريخي، والثاني هو اكتشاف ما للدين من معنى للمؤمن، ما لا أستطيع أن أعرفه إلا بصحبته. نعم، هناك العلم بالدين في سياقه التأريخي، وهناك العلم بمعنى الدين للمؤمن. لا يوجد إنسان لا يعيش ضمن سياقه التأريخي، إلا أن الدين لا يقتصر على ذلك، وإنما يشمل على ما يعرفه الإنسان من معنى في حياته يسيّره فيستلهمه، بل يستلذه يوماً بعد يوم. ولا بد من معرفة سياق الدين التأريخي ولا بد من معرفة ما يعيشه الإنسان من معنى في ذلك السياق نفسه.
ذ. أحمد صابر: ما هو تقييمك لموضوع الحوار بين الأديان خاصة بين المسيحية والإسلام في شقه النظري وشقه العملي؟ وكيف يمكن للحوار بين الأديان اليوم أن ينفصل عما هو عاطفي ووجداني في التعاطي مع القضايا المطروحة إلى تبني المناهج العلمية؟ مثل علوم الأنثروبولوجية وغيرها في التعاطي مع القضايا المختلف حولها بهدف الاقتراب من الحقيقة، طمعا في بناء معرفة دينية منسجمة مع المعرفة العلمية المعاصرة.
د. بول هيك: التعارف بين المسلمين والمسيحيين هو أمر نحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى، يسمع المسيحي أخبار المسيحيين في المشرق، ويتساءل عن الإسلام هل هو العدو؟ وكذلك يسمع المسلم أخبار المسلمين في الجمهورية الإفريقية الوسطى، ويتساءل عن المسيحية هل هي العدو؟ لذلك، لا بد من إظهار ما بين الديانتين من روابط تأريخية وفكرية، هل يُعقل أن أعتبر دين الآخر عدواً وهناك الكثير مما يربطه بديني؟ ولكن الأمر غير سهل، بل يقتضي الكثير من الدروس والبحوث. بالإضافة إلى ذلك، لا بد من إدخال نتائج هذه الدروس والبحوث في المناهج التعيلمية في المدارس، حتى لا يكبر جيل بعد جيل على الجهل بالآخر، الأمر الذي يسهل أمر ما يروج للكراهية. على سبيل المثال، يسمع شاب مسيحي الكلمة (جهاد) ولا يفهم منها إلا الإرهاب، ما يغرس في قلبه الخوف من الإسلام، إلا أن فكرة الجهاد هي فكرة مسيحية كما هي فكرة إسلامية؛ فالمسيحي هو الآخر مدعو إلى أن يخلّص أمره إلى وجه الله، ما يتطلب منه جهودا ليقوم بأعمال صالحة كل يوم في خدمة الآخرين. هكذا ترِد الكلمة في عدة مواضع في رسائل القديس بولس حسب الترجمة العربية للآباء اليسوعيين في لبنان. كذلك يسمع شاب مسلم الكلمة (الثالوث) ولا يفهم منها إلا الشرك، ما يغرس في قلبه الخوف من المسيحية، إلا أن من يحصل على القليل من العلم بالمسيحية، يدرك أن الثالوث لا يندرج في باب الألوهية بل في باب الربوبية، ذلك وعندما يرجع ذلك الشاب إلى دينه الحنيف، فإنه يجد شيئاً من التعدد في باب الربوبية. بطبيعة الحال، المسيحية شيء والإسلام شيء آخر، مع ذلك حان الوقت للتعارف، ومن دون التعارف لا يمكن الاعتراف بوجود الآخر وقيمته. والتعارف هو مقصد من مقاصد الله، فإنه لا يسد الباب أمام انتشار الكراهية فحسب، بل هو أيضاً ما يحتاج الإنسان إليه ليعرف نفسه، فلا يكتشف الإنسان نفسه إلا في مرآة الآخر، وذلك الأمر هو مستحيل من دون التعارف. ومن ثم، يصبح المسيحي صديقاً لمسلم كما يصبح المسلم صديقاً للمسيحي، بل يصبح كلاهما شريكاً للآخر في سبيل الله، ما يفتح الباب أمام التعاون بين الديانتين لصالح الإنسانية. وطالما يشوب الصداقة بين المسيحيين والمسلمين شيء من الشبهات، فإن الدين يبقى متقيداً بل متكبلاً، وذلك لأن الدين يمثّل سلطة لا تعلوه سلطة، وباسم الدين نستطيع أن نضعف قوة الاستبداد وقوة الإرهاب، وباسم الدين نستطيع أن نضعف قوة الجهل وقوة الفقر وقوة الكراهية. هل نحن على الاستعداد للعمل بذلك بل للتعاون عليه في مشاريع مشتركة وكتفاً بكتف لصالح الإنسانية؟ يقتضي الأمر الكثير من الثقة في حين نجد الكثير من الشبهة، كما يقتضي الكثير من الفرح بوجود الآخر، في حين نجد الكثير من الخوف من وجود الآخر، فلا بد من إعادة الالتزام بالتعارف بناء على العلم بدين الآخر، فلا بد من علم يُظهر الروابط الدينية بيننا، لنتمكن من رؤية الخير في دين الآخر ومن الاعتراف بدين الآخر بصورة أو بأخرى. ولولا ذلك، فإن الدين هو من الخاسرين، ونحن في نشر الكراهية من المتورطين.
ذ. أحمد صابر: سبق لإدوارد سعيد وغيره أن فصل في القول بكون الغرب متمركز حول ذاته، وبأنه ينظر إلى كل الثقافات في العالم من خلال مركزيته المبالغ فيها؛ وهذا جعل معرفة الآخر لديه تتشكل استجابة لما هو له علاقة بالسلطة والسياسة والتحكم في مصير الآخرين قصد الحفاظ على مصالحه على حساب مصالح الآخرين؛ واليوم لازالت جهات كثيرة تصور الإسلام في الغرب بأنه دين الخوف والعنف مستغلة جرائم من لا ينتمون لجوهر دين الإسلام الحنيف من أصوليين ومتطرفين وغيرهم، كيف يمكن تجاوز هذا الأمر في الغرب؟
د. بول هيك: منذ عدة عقود اشتد الالتباس حول الاستشراق، هل العلم بتأريخ الإسلام بيد المستشرق أم بيد المسلم؟ وماذا نفهم من الاستشراق؟ ينقّب المشتشرق عن كل ما يحيط بتأريخ الإسلام من تفاصيل فكرية واجتماعية وسياسية، وبالفعل قد يفوق علمه علم المسلم في الأمر، لا بد من تقدير جهود من يسعى إلى فهم التأريخ بكل تفاصيله، ويُفترض أن يكون في كل مجمتع أمثال المستشرقين الذين يمكّنون أهله من الاطلاع على ما لشعوب أخرى من تأريخ من حيث التعارف بين شعوب الإنسانية. ومن المرجو أن يفتح المسؤولون في كل جامعة من جامعات الوطن العربي قسماً للدراسات الأمريكية يكون أصحابه من المطلعين على جميع تفاصيل تأريخ الولايات المتحدة قبل الاستقلال عن التاج البريطاني وبعده، مروراً بالحرب الأهلية في منتصف القرن التاسع عشر وصولاً إلى يومنا هذا، وسيزيل ذلك الكثير مما يتداول من أوهام حول الحضارة الأمريكية، فلا بد من التعارف والتفاهم بين الحضارات، فلا تدوم حضارة لا تبنى على قيم، فلندرس ونستفيد مما يدوم. مع ذلك كله اشتد الالتباس حول الاستشراق، لا يكمن الالتباس في دراسة المستشرق لتأريخ الإسلام، بل في النقص في مقاربته المنهجية. فتفاصيل تأريخ الإسلام شيء وفهم المسلم لدينه شيء آخر. بطبيعة الحال، يتداخل الأمران، ولكن المستشرق هو أعمى بما يفهمه المسلم من تأريخ الإسلام. هل يجوز دراسة التأريخ لدين من الأديان في معزل عن أهله؟ ليس التأريخ بمجرد مجموعة من أحداث ومعارك وقعت في الماضي. التأريخ هو عبارة عن علاقة هذا الشعب أو ذاك بماضيه، وفي ذلك معانٍ تغذي الشعب من حيث نظرته إلى نفسه. أما المستشرق، فيركز على البعد الأول للتأريخ؛ أي تفاصيل الماضي، من دون التعرف على البعد الآخر؛ أي علاقة الشعب بماضيه. أما اليوم فيرى النور جيلا جديدا من أصحاب الاستشراق، ويكون عدد كبير منهم مسلمين هاجر أهلهم إلى الغرب، وتربوا في بيئته الثقافية والمعرفية، ودخلوا في جامعاته، وهم يمثلون مستقبل الاستشراق. وأرى في ذلك خيراً للاستشراق. من ناحية يفهمون الاتجاهات المنهجية والمعرفية في الجامعات الغربية، ويقدرون على التعامل معها، بل يقدّرونها. ومن ناحية أخرى يفهمون ما للمسلمين من نظرة إلى تأريخ الإسلام بكونهم مسلمين. على سبيل المثال، يذهب الكثير من المستشرقين اليوم إلى القول إن ظهور الإسلام نتج عن وجود لجماعات حاخامية قاطنة في الجزيرة العربية آنذاك. أما المستشرقون المسلمون، فيتركون أثراً مهماً في هذا النقاش. نعم، مما لا شك فيه هو أن الدين، مهما كان، هو ينتج عن سياقه، ويمكن القول إن السياق هو مما يمهّد الطريق إلى ظهور هذا الدين أو ذاك. مع ذلك، لا يجوز التبسيط في الأمر. ليس الدين مجرد مجموعة من أفكار سائدة في جماعة معينة لتنقتل في حين ما إلى جماعة أخرى. قد يصح أن الإسلام ظهر في سياق برزت فيه جماعات حاخامية، ولكن السياق شيء وظهور الدين شيء آخر، لأن التأريخ لا يُفهم على ضوء عوامل اجتماعية فقط. لا بد من الانتباه إلى ما لظهور الدين من عوامل روحية تتجاوز أوضاع المجتمع الدينية من حيث تعامل أصحاب الحركة الدينية الجديدة مع البيئة الاجتماعية التي عاشوا فيها. ويأتي هنا دور المستشرقين المسلمين في النقاش، ليذكّروا زملاءهم أن الدين لا يفهم فهماً مادياً فحسب، وذلك كله ليس لصالح الإسلام فقط. إن دور المستشرقين المسلمين يغني النقاشات العلمية من حيث المقاربة إلى فهم الماضي ومعنى التأريخ، وفي ذلك يتكون تدريجياً ما قد نسميه الاستشراق المضاد، ما يسهم في تمييز ما يخص الإسلام في حد ذاته، وما يخص مصالح اقتصادية وسياسية للدول الكبرى منها دول في الغرب ومنها دول في الشرق تربط الإسلام بالقتل والعنف. ولا بد من هذا التفريق بين المصالح التي لا تهتم بشعوب المنطقة مسلمين كانوا أم مسيحيين، والدين ودوره في حماية الشعب من الاستبداد والإرهاب.
ذ. أحمد صابر: ماهي المحاور الرئيسة لمجمل التاريخ المشترك بين أتباع الديانات السماوية؟ وكيف يمكن توظيف ما تشترك فيه في إغناء الحوار بدل نشر الكراهية؟
د. بول هيك: يقال إن تأريخ الأديان ليس إلا مجموعة من المعارك وتبادل الردود، ولكن من يدرس تأريخ الأديان بدقة يدرك أن العكس هو الصحيح. نلاحظ نماذج لا تُحصى من التعايش في تأريخ الأديان. لا بد من إبراز الضوء على هذا الجانب من تأريخ الأديان. تعايش يهود ومسيحيون ومسلمون عبر القرون في الشرق والغرب، وذلك لأن كل الأديان الغاية القصوى منها هي الخير. لا يُنكر الاختلاط بين الديني والسياسي عبر القرون، ولكن الدين يمثل الله في نهاية المطاف ولا يمثل الاستبداد ولا الإرهاب. إذا سألنا المؤمن مهما كان دينه عن أمنياته، لا يقول إنه يريد الشر ولا نشر الشر، بل يريد الخير لأن الدين هو خير وليس شرا. فليبتدئ الحوار بين الأديان من هذه النقطة، ما هو الخير الذي يريده الجميع. من هذه المنطلق، سيصل الحوار إلى المشترك، بل إلى المحبة من دون الكراهية. أما اليوم، فلا مجال للتردد في الأمر، لأن أصواتا كثيرة تقول إن الدين هو سبب الكراهية في العالم، ولكن العلم يثبت العكس.
ذ. أحمد صابر: كلمة أخيرة
د. بول هيك: أقول في النهاية كما قلت في البداية، هناك حاجة ماسة إلى نشر علم الأديان في عالمنا اليوم. وأهنئكم أنتم في مؤسسة مؤمنون بلا حدود على جهودكم وتحقيقاتكم في هذا الصدد. وأدعو الجميع إلى ترك الخوف وإلى روح الاكتشاف، علم الأديان في الانتظار.