بين إيمان العجائز وبؤس الفكر الراديكالي
فئة : مقالات
بين إيمان العجائز وبؤس الفكر الراديكالي
حين نتحدث عن الأديان، فالمقصود بها بناء متكامل ومتناسق من أفكار وطرائق تفكير الإنسان في نفسه وفي العالم الذي يعيش فيه، وعلى إثرها تتحدد سلوكياته وأفعاله وقراراته، فهي جزء مهّم من الحياة الإنسانية، ورغم أنّ أغلبيّة الناس عبر التاريخ، وبِغض النظر عن اسم أديانهم ونوع معتقداتهم، كان يغلب على إيمانهم ظاهرة التسليم المقلّد والبسيط، إلاّ أنّ الآن في عصرنا الحالي ونظراً لما تثيره الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من جدل فكري جريء وبلا حدود من جهة، وما يشهده العالم من تطّور علمي مادي وتقني رهيب وغير مسبوق من جهة أخرى، لم يعد الإنسان المؤمن ذلك العامي المرتاح فكريًّا ونفسيًّا لما ورثه من معتقدات وأساطير، بل صار يقارنها ويحاكمها بمصادر أخرى من خارج الصندوق، سواء بإرادته كباحث أو من دونها نتيجة سرعة وكثافة تدفق المعلومات عبر النت في محيطه المنظور والمسموع، وبين تمحيصه للموروث الديني وتشبثه بإيمان العجائز، أو انتقاله إلى الراديكالية كحصن دوغمائي منيع ضد كل ما يزعزع أركان الإيمان وما تنتجه من طمأنينة نفسيّة لصاحبها، لا بأس أن نتساءل حول كيفيّة انتقال المتديّن بين هذه المراحل الثلاث، أو بتعبير آخر، كيف يمكننا فهم ترك المؤمن لذلك الإيمان البسيط المليء بالطمأنينة الروحيّة، والقفز إلى إيمان متشبّع بالقلق والشكوك والنقد للأديان بتاريخها وطقوسها وقصصها؟ أو التحوّل إلى الالتزام الحازم بالدين ونصوصه الحرفيّة على المنهج الرجعي؟
إذا كانت المجتمعات الغربية قد تجاوزت إشكالية الدين/العلم منذ انفجار الثورة الصناعية في القرن السابع عشر نتيجة أعمال علميّة، وأخرى فلسفيّة وسياسيّة وأدبيّة بعضها سابقة هذه الثورة وأخرى لاحقة، مثل كتاب "كوبرنيكوس" الذي قضى على فكرة وجود الأرض كمحور تدور من حولها الأجرام، وبالتالي سقوط أسطورة البشر هم مركز الكون، وكتاب "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" الذي أطلق رصاصة الرحمة على وهم مركزية الأرض، وقد ألفه "نيوتن" رغم غضب الكنيسة، وكتاب "أصل الأنواع" الذي أعاد البشر لترتيبهم الطبيعي بين الكائنات الطبيعيّة، وأعمال "فرويد" التي كشفت زيف الكثير من الأفكار والمعتقدات؛ إذ هي سوى تعبير عن عصاب نفسي كامن، وكتاب "رأس المال" لكارل ماركس وغيرها كثير ... إلاّ أنّ مجتمعات العالم المتخلف وخاصة جنوب شرق آسيا، إفريقيا وأمريكا الجنوبية لا تزال تعيش جدليّة الدين والعلم ... بالنسبة إلى عالمنا الإسلامي وهو ما يهمّنا، فكثيراً ما يمارس رجال الدين مغالطة الهروب إلى الأمام، زاعمين عدم وجود نزاع بين الدين والعلم، وأنّ ما يتّم تصويره كخلاف بينهما ما هو في الحقيقة سوى خلاف لفظي، أو سوء فهم وتفسير، أو شبهات ومؤامرات يثيرها أعداء الدين الأشرار، وفي أحسن الأحوال يقولون لا علاقة بينهما أصلاً؛ فكل طرف له مجاله ولا يتدخل في مجال الطرف الآخر ... ورغم أنّ الأديان تحتوي على معتقدات وتصّورات وقصص حول الكون والإنسان وأصلهما ونشأتهما وطبيعتهما ومصيرهما في الحياة وبعد الموت، إلاّ أنّ جوهر الإشكال ليس في الاختلاف الكبير بين هذه المعتقدات المقدسّة والمقررات والاكتشافات العلميّة (من يستند على هذه الاختلافات للهجوم على الأديان والطعن فيها وفي المؤمنين بها، فهو أصلاً لم يفهم الأديان فهماً علميًّا، وإن كان يتحدث بلسان علمي أكاديمي، بل وما يمارسه من نقد يعد من الإسهال الفكري ولو سبق اسمه لقب الدكتور أو المفكر ... وكذلك ذلك المؤمن الراديكالي الذي لم يستطع الوقوف أمام الصدمة الحضارية، فتجده يرفض ويشكّك ويطعن في كل المعلومات والنظريات والقوانين العلميّة التي تتعارض مع عقليته الدينيّة، بل ويشهر سيف التكفير بلسانه وبيده إن استطاع في وجه كل عالم وباحث ومفكر يهدد سلامة معتقداته ولو على حساب الأمانة العلميّة)، بل الإشكال الحقيقي يكمن في الخلاف المنهجي بينهما من حيث الوصول إلى المعارف واليقينيات، فإن كان المنهج العلمي يقوم على الملاحظة والتجريب والاستدلال وعلى أساسها يحدد مدى صحة النتائج التي يصل إليها، فإن منهج الأديان للوصول إلى المعارف يقوم على الرجوع إلى نصوص تعتبر إلهيّة عند المؤمنين بها، وعلى كتابات من اجتهدوا في فهم وشرح وتفسير هذه النصوص، وهذا المنهج الأخير يستند أساساً على الثقة المطلقة بالنص باعتبار مصدره السماويّ، وعلى الثقة العمياء بالقدماء الذين اجتهدوا في تفسيره وتأويله واستنباط الأحكام منه؛ إذ يعتبرون علماء وحكماء ولا يمكن تجاوز كتبهم ومدوناتهم في فهم الدين. ولهذا تتجه باستمرار أنظار المؤمنين وخاصة ذوي الفكر الرجعي ومن خلفهم العوام إلى الماضي، لهم تسليم يصل إلى حد القناعة أنّ كل المعارف والحقائق تم كشفها في نقطة محددة في التاريخ (زمن نزول الوحي وما بعده بقليل)، ومن هنا نفهم تصادمهم ونزاعهم الدائم مع النظريات والاكتشافات العلميّة الحديثة إما برفضها وتكذيبها، أو الزعم أنها ليست بجديدة، بل موجودة من قبل في كتبهم الدينيّة، وبالتالي وجود استمرارية لامتناهية في تأويل النصوص وتأويل التأويل تحت شعار الإعجاز العلمي أو استنباط المعارف الكامنة ...
إنّ التاريخ يشهد أنّ الغرب لم يخرج من عالم الظلمات إلى عالم العلم والأنوار إلاّ بنزاع شديد بين الكنيسة والمؤسسات العلميّة، فما أن تظهر نظرية علميّة حديثة حول موضوع ما إلاّ وتقابلها مفاهيم دينيّة تقليديّة حول الموضوع نفسه (من نقاط التشابه بين الدين والعالم اشتراكهما في مهمة تفسير العالم وأحداثه وتحديد الأسباب)، وبعد صراع قد يصل لسنوات، تنتصر النظرة العلميّة ويضطر رجال الدين إلى التراجع والانسحاب بتأويل نصوصهم، وخلال ثلاثة قرون وبعد سلسلة طويلة من التراجعات والحسم في قضايا مهمّة لصالح العلم، أدركت الكنيسة خطأ الوقوف في وجه هذا الأخير، وجاء آخر مجمع مسكوني فاتيكاني في ستينيات القرن الماضي بقرار في رسالة العلمانيين (مؤلف من ستّة فصول) في ما معناه أنّ الدين لا يضيره التنازل للعلم عن الأمور التي لا تمسّ روحه (المسائل الإيمانية الميتافيزيقية)، والمؤسف أنّ عالمنا الإسلامي وبالتحديد خلال الزمن العباسي كان له السبق فقد عاش هذا الجدل الديني العلمي وتمكّن من تعديل الكفة بين أهل العقل وعلى رأسهم المعتزلة والفلاسفة وأهل النقل وعلى رأسهم الحنابلة والأشاعرة، فعلى سبيل المثال معضلة المصدر الأول للعالم، بين نظرة علميّة تقول بمادة أولى تطّور منها كل شيء مع عدم التمكّن من تحديد مصدر هذه المادة وماهيتها، ونظرة دينيّة مفادها أن الله تعالى هو مصدر العالم، سواء بخلق مادة أولى أو من دونها وأنه تعالى غير معلول (واجب الوجود) وهنا سندخل في استدلال دائري (يجوز عقلاً أن نفترض أيضاً أنّ المادة الأولى التي أقّرها العلم غير معلولة الوجود)، ولهذا قال فلاسفة الإسلام بقدم العالم وقالت المعتزلة بشيئية المعدوم، وحتى ابن تيمية قال بالقدم النوعي للعالم وكلهم اضطروا إلى استخدام مصطلحات وتعقيدات كلاميّة تجنّباً لغضب رجال الدين، فالشاهد أنّ التجاذب بين المؤمن المتشبّع بالثقافة العلميّة والفلسفيّة والمؤمن المتشبّع بالثقافة الدينيّة النصيّة الحرفيّة موجود في تاريخنا، بل وقد تجدّد مرة أخرى مع الشيخ الأزهري محمد عبده ومدرسته التنويريّة قبل أن تغيب شمسها لعدة عوامل منها خارجيّة كالظرف التاريخي والسياسي للمنطقة، وداخلية وهي أنّ العقل في هذه المدرسة ظل أسطورياً رغم تحرره نسبياً وبالتالي بعيداً عن الممارسة العلميّة الحقيقيّة رغم مناداته عليها وهذا الخلل بالضبط ما تجاوزه ولو نسبياً أيضاً الفكر الإسلامي الحداثي.
الآن نعود إلى إشكالية المقال، والتي نعيشها في واقعنا وليست بالمجاز وإن كانت من المسكوت عنه نظراً لما تثيره من حساسيّة، ما موقف المثقف عندنا الذي يحترم العلم ولكنه نشأ كأغلبية أفراد المجتمع وسط تربية وتعاليم وأفكار دينيّة بعضها تخالف صريح العلوم الحديثة، بلا شك أنّه سيعاني من التوتر الفكري والاضطراب النفسي، ومدى التأثير على حالته النفسيّة هو ما سيحدد شخصيته، فهناك من يضغط على نفسه لإخفاء هذه المشكلة فتغوص في أعماق المشاعر مع المكبوتات، ومن حيث لا يدري أي بصورة متستّرة فهي التي تؤثر في تفكيره وفي سلوكه، وهناك طرف آخر وكذلك نتيجة ما يقع له من قلق بسبب هذه الإشكالية، فإنه يهرول بسرعة إلى التمسّك بالمذهب المتشدّد في الدين، فتصير كل سلوكياته وأفكاره عبارة عن تعصّب؛ وذلك بالغلوّ في الشكليّات وممارسة الطقوس، وإشهار العنف والعداء لكل من ينتقد مذهبه أو التراث أو القدماء ولكل من يحمل أفكاراً تقدميّة، بل وحتى علميّة (أحد الطلبة رفض كتابة درس الوراثة في حصة العلوم الطبيعية؛ لأنّ الأستاذ قال من الناحية العلميّة كلما كان النسل قريباً بالدم، كلما كان ضعيفاً ومعرضاً للأمراض والتشوهات الخلقيّة، وبالنسبة إلى الطالب فهذا يتصادم مع قناعة مقدسّة يحملها، وهي أنّ كل النسل البشري جاء من زواج ابن آدم مع أخته)، وهناك على النقيض من يصاب بانسلاخ هوياتي رهيب تحت شعار الانفتاح على العلم والعلمانية، والراجح أن هؤلاء ضد الدين كجوهر إلاّ أنّهم لا يقدرون على الإفصاح فيستغلون تلك الشكوك والانتقادات الموجّة للموروث الديني، في حين تبقى الطبقة الكبرى، وإن يشعرون بالمشكلة، فإنّها تمّر عليهم مرور الكرام فلا يدركونها، فلا فرق بين إيمان هؤلاء المثقفين وإيمان العامة وإيمان العجائز، والراجح أنّ هذا هو سبب الشلل الفكري الذي نعاني منه؛ لأن تفاقم ظاهرة اللامبالاة والانفصام تؤدي إلى تعطيل آلية التفكير وإلى توسيع الفجوة بين العلم الحقيقي والعلم والمزيف، ومنه لن يكون عندنا المثقف المنتج بفعاليّة بل مثقف المقاهي.