بين السلفية المستنيرة والسلفية المتزمتة
فئة : مقالات
بين السلفية المستنيرة والسلفية المتزمتة*
هل هناك ما يبرر الكلام عن "سلفية مستنيرة"؛ أي الجمع بين اسمين متضادين في عبارة واحدة، حيث يحيل الأول منهما على السلف، لا على الذات- العقل، معيارا للمعرفة والإيمان، بينما يشير الاسم الثاني إلى أنوار العقل الذاتية التي تؤسس لقيم المعرفة والفعل والحضارة؟ وإذا كان الجمع بين السلفية والعقلانية في عبارة واحدة ممكنا، فهل يقتضي الأمر القيام بتعديلات دلالية جذرية على لفظة "السلفية" كيما تغدو قابلة للتفاعل والانفعال مع ضدها (لفظة الاستنارة)، أم أن وصف السلفية "بالاستنارة" هو أدخل في باب المجاز لا غير؟ من أجل معالجة هذا اللبس الدلالي والعملي الذي يكتنف عبارة "السلفية المستنيرة"، وتبيين المشروع التاريخي الذي تولت "السلفيةُ المستنيرة" قيادتَه وإنجازَه لتحرير العقل والإرادة من قيودهما الداخلية والخارجية من خلال التجربة المغربية، ارتأينا في البداية أن نقوم بمقارنة سريعة بينها وبين السلفية التاريخية أو الحنبلية من خلال أحد نصوصها المشهورة، ثم بينها وبين السلفيات المتشددة في الأزمنة الحديثة.[1]
أولا- رهان السلفية المذهبية:
كان القصد من رجوع "السلفية المستنيرة" إلى النصين المؤسسين للحضارة العربية الإسلامية، القرآن والحديث، هو بالضبط تحرير الإسلام من معاداته للعقل ورفضه لحرية الإرادة، سعيا وراء استقلال البلاد وتحريرها من تبعيتها الخارجية. أن يكون العقل والحرية هما مدار "السلفية المستنيرة" للرعيل الأول من الوطنيين المغاربة، ومن بينهم محمد بن العربي العلوي الذي نحتفي بذكراه اليوم، معناه أنها كانت تؤمن بأن الانتصار في معركة الانعتاق من الاستعمار لا يمكن أن يتحقق بدون عقل مستنير ومنفتح على مكتسبات الحداثة العلمية والحضارية، وبدون إرادة مستقلة بذاتها عن قيود الماضي وإملاءات الحاضر الذي يهيمن عليه المستعمر.
غير أن العقود الأخيرة فاجأتنا بانتشار هائل لدلالة جديدة لمصطلح "السلفية" قائم على تصور محافظ ومنغلق للإسلام، تصور جوهره العداء لكل ما هو جديد ولكل من يستعمل عقله أو خياله أو إرادته استعمالا حرا، سواء كان فردا أو جماعة أو دولة، وتكفير كل إبداعات العقل والخيال العلمية والعملية والفنية. هكذا تمت العودة إلى الدلالة المحافظة والمنجذبة إلى تجربة ماض عتيق، لا توجد مناسبة بينه وبين زماننا، دلالة خالية من التحدي العلمي والحضاري، وغارقة في أساطير وأوهام تغذي إيديولوجية متطرفة قوامها العنف الرمزي والمادي. وأدى تحويل السلفية من معنى إعادة قراءة الإسلام قراءة منفتحة لتطوير أنظمته النظرية والعملية، إلى معنى قراءة متزمتة ومنطوية على نفسها، مكتفية بذاتها، وراضية بانسحابها من التاريخ، إلى إباحة اقتراف جرائم سياسية وثقافية مهولة باسم الحكم لله، كحرق المكتبات وطمس المعالم الثقافية والحضارية، وتفجير المساجد أثناء صلاة الجمعة والأعياد الدينية، ونشر ثقافة الحقد والتعصب والاضطهاد والظلم والإقصاء والتكفير والقتل من أجل "إحياء" نموذج للحكم والحياة، يعتقدون أنه سماوي المصدر.
ومن مفارقات هذا التشدد السلفي، قيامه على إحياء الذاكرة التاريخية "للمذهب" من أجل تدمير الذاكرة الشاملة للإسلام ككل؛ فتم إفراغ الإسلام من محتواه الحضاري وبُعده الأخلاقي والإنساني، وتقديمه في صورة مشوهة لا مروءة تراقبه، ولا ضمير يحاسبه، وليس هناك مشروع مستقبلي يحركه نحو الأمام. وبينما استُثمِر الإسلام، في زمن "السلفية المستنيرة" المقاوِمة للاستعمار، بوصفه أفقاً للعدل والعدالة، كاد يصير في زمن السلفية المتشددة كابوسا ينشر العنف والظلم والتمييز والإقصاء في كل مكان تهيمن فيه. فأضحت كل المكتسبات السياسية والفكرية والمؤسسية والعلمية والحقوقية التي ضحّى الإنسان كثيرا من أجل انتزاعها توطيدا لمسيرة العدالة، أضحت كلها قيماً كافرةً ينبغي استبعادها، إما لكونها تنطوي على شيء من الكرامة والحرية والعقل أو لكونها من ابتكار الكفار. في هذا الجو المشحون بالعنف الرمزي والمادي إزاء كل ما تُشتَمّ منه نسائم الحرية والاستقلال الفكري، لم يعد الإنسان يُعرَّف بكونه "كائنا عاقلا" بالفطرة أو "كائنا سياسيا" بالطبع، وإنما بوصفه كائنا محبا للسلف الصالح شغوفا بتقليدهم. لذلك، ومن أجل الاقتراب من هذه الظاهرة الغريبة والعصية عن الفهم، سيكون علينا أن نعود إلى تراث بعض تيارات السلفية الحنبلية، حيث سنجد عاملين أساسيين يفسران هذه العداوة الجنونية للعلم والعلماء الغريبة عن الإسلام؛ أولهما تمييزهم بين "العلم النافع" و"العلم غير النافع"، وبين العلم المهم والعلم الأهم؛ فالعلم الديني، أو النقلي، هو "العلم النافع"، والعلم العقلي بأنواعه المختلفة هو "العلم غير النافع" أو العلم المذموم، هذا إن لم يكن ليس علماً على الإطلاق. وهذا الحكم بعدم النفع يصدق أولا على العلوم العقلية كالمنطق والرياضيات والطبيعيات والطب إلخ، كما يصدق ثانيا على العلوم الإسلامية المنقوعة بالعقل أو بالذوق كعلمَيْ الكلام والتصوف، وثالثا على العلوم التي تقع بينهما، كعلم الأنساب وعلوم العربية. أما السبب الثاني لكراهيتهم للعلوم العقلية الطبيعية والإسلامية واللغوية والأنتروبولوجية، فهو سبب بيداغوجي يتمثل في خوفهم من أن تشوش العلوم العقلية على العلم النقلي، أو بالأحرى على الإيمان الديني. فما هي صفات العلم النافع، ولماذا كانت العلوم العقلية الطبيعية ذميمة وغير نافعة في نظرهم إلى هذا الحد؟
نبدأ أولا بتعريف أوّلي "للعلم النافع" ولمداه كما تصوره الحنابلة؛ فالعلم النافع هو العلم المُتلَقَّى، أو العلم النقلي. وقد يضيق مدى هذا العلم ليقتصر فقط على "الكِتاب والسنة"؛ إلا أنه قد يتسع ليمتد إلى أقوال الصحابة وأفعالهم، فيصبح العلم، كما يقول الإمام الأوزاعي »ما جاء به أصحاب محمد ص. فما كان غير ذلك فليس بعلم«[2] وقد يمتد مدى العلم النافع، ليشمل تراث التابعين من الأقوال والأفعال. عندئذ يصبح "العلم النافع" هو علم الكتاب والسنة وفهم الصحابة والتابعين لمعانيهما[3]. وهذا معناه أن الخلف بالنسبة إليهم ليس مؤهلا أصلا لفهم النص الديني، ولا مخولا لتأويله.
هذا عن المدى الذي يغطيه "العلم النافع" من التراث ورجاله. أما عن المعنى الذاتي "لنفع" العلم النافع، فهو أن تحصل به معرفة الله، ومعرفة ما يرضاه وما يَكرَهه، والعمل به[4]. واضح أن "النفع" يتجاوز حدود المعرفة التي تخص مجال العقيدة والمعاملات، إلى مجال الانفعالات والوجدان؛ فالنفع أيضا هو أن يحدث في قلب المؤمن خشوع وانكسار وذل وقناعة، أن يشعر بالهيبة والإجلال والخشية والمحبة والتعظيم إزاء الله.[5] والثمرة المرجوة من كل تجليات هذا النفع »الهرب من الدنيا، وأعظمها الرئاسة والشهرة والمدح«.[6]
تخضع معرفة وسلوك وانفعال السلفية التاريخية إذن، لطقس خاص هو الاقتداء والتقيد بالنصوص وبالصحابة والتابعين من غير اجتهاد أو إعمال للفكر، إيمانا منهم أن علم هؤلاء - الصحابة والتابعين - هو العلم الحقيقي، والعلم الأكمل، والأقل تكلفاً بالقياس إلى علم اللاحقين عليهم[7]. وهذا يعني أن علم السلف فوق الزمان والتاريخ؛ أي غير قابل للتجاوز، وكأن الأمر يتعلق بنهاية أو منتهى العلم الديني عند الجيليْن الأول والثاني من مؤسسي الإسلام.
أما "العلم غير النافع"، فهو العلم النابع من ذات الإنسان، لا الآتي من خارجها، وهو علم غير نافع في نفسه، وغير نافع لغيره، بل قد يكون ضرُّه أكثر من نفعه[8]. ولذلك حذّر متشددو الحنابلة من التوسع في العلوم العقلية، كالحساب والفلك والطب والكيمياء وعلوم العربية لغةً ونحواً الخ، لأنها »مما يُشغِل عن العلم الأهم«، ولأنها علوم أولها شُغلٌ وآخرها بَغيٌ[9]. أما علم الكلام، الذي هو مبدئيا علمٌ للدفاع عن الإسلام، فهو في رأي هؤلاء المتشددين من العلوم المذمومة التي يجب الابتعاد عنها، أولا لأنه أحدث القول بأدلة العقول في أمور يُمنَع الكلام فيها، كالقدَر وذات الله تعالى وصفاته، وثانيا لأن الخوض فيه -علم الكلام- يُغلِق باب العمل ويَفتح باب الجدال والمِراء اللذين يُذهِبان بنور العلم... ويُقسيان القلب ويُورِثان الضِّغْنَ... والنفاق.[10]
ومما يكرس بطلان العلم العقلي وافتقاره إلى الخير والمنفعة عند الحنابلةُ، أنه يُفضِي إلى انحرافات نفسية وتشوهات أخلاقية كأن »يُكسِبَ صاحبه الزهو والفخر والخُيَلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا، والمنافسة فيها، وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه... [و] عدم قبول الحق والانقياد إليه والتكبر على من يقول الحق، خصوصاً إن كان دونهم في أعين الناس... وهذا بخلاف ماكان عليه السلف من احتقار نفوسهم وازدرائها باطناً وظاهراً... ».[11] وتم استغلال هذه الميول الدنيوية للعلوم العقلية المحضة أو العلوم اللاعقلية الشارحة للدين (التصوف) كحجة للحكم عليها بأنها شر محض[12]. كثير من الحنابلة، كأحمد بن حنبل وابن رجب الحنبلي وابن تيمية،أوصوا بالابتعاد عن استعمال العلوم العقلية في حل القضايا الشرعية قدر الإمكان، إما لكونها غير دقيقة، أو لأنها تلتبس بالسحر، أو باعتبارها علوما غير إسلامية، أي كافرة. هكذا نجد سلفيي الحنابلة يحذرون من الاستعمال المفرط لعلم الحساب الفلكي في تحديد الأهلّة وأوقات الصلاة والقِبلة، ولا يسمحون بالاستئناس بعلم الجبر والمقابلة لحل مشاكل الميراث في حدود معينة لكونه علما غير إسلامي، (والحال أنه ابتكار الحضارة الإسلامية في القرن التاسع الميلادي). وذهبت العداوة بالحنابلة لكل ما هو عقلي وعلمي إلى حد إنكار الحقائق الطبيعية الواقعية؛ فهذا أحمد ابن حنبل يُنكِر »على المنجمين قولهم إن الزوال يختلف في البلدان«[13]، لأن من شأن هذه الحقيقة العلمية في نظره أن تشوش على العقائد الدينية والشعائر الشرعية.
ولم يقف تشدد غلاة الحنابلة عند تحريم العلم العقلي على المستوى النظري، بل تعداه إلى المستوى العملي، فكانوا لا يتورعون عن تحريض عوامّهم على محاصرة وملاحقة كل مَن يخالف مذهبهم ويقدم تأويلا مغايرا لاعتقاداتهم المتشددة من العلماء في بيوتهم ورميهم بالحجارة، أو زرع السم في أكلهم، أو محاكمتهم وإتلاف كتبهم بحجة مخالفتهم لآراء السلف الصالح. وهذا ما حصل بالفعل للطبري المؤرخ والمفسر، وللفقيهين الشافعيين البوري وأبي بكر بن فورك. وبإنكار الحق في التوسع في المعرفة والاجتهاد في الحكم وفي اختيار السلوك والمعتقد الذي يرتئيه المرء، يصبح الإنسان ذا بعد واحد؛ أي كائنا دينيا محضا لا يرى من العالم إلا الجانب الديني، وينسى الجانب الدنيوي. والحال أن الإسلام إن كان يُعرف بشيء، فهو نهيه الإنسان عن الرهبنة، وتنويهه بأهمية البعد الدنيوي، محمّلا إياه مسؤولية إعمار الأرض بالعمل والتفكير والإبداع.
وضمن هذه البيئة الفكرية والعَقَدية المنغلقة والمتصلبة، تم التنويه بثقافة الشرح والتفسير، ضدا على ثقافة المخالفة والإبداع والتوسع في المعرفة بذريعة أن: »ما حدث بعدهم [الصحابة والتابعين] من التوسع لا خير في كثير منه، إلا أن يكون شرحاً لكلام يتعلق من كلامهم. وأما ما كان مخالفاً لكلامهم فأكثره باطل أو لا منفعة فيه«.[14]
ومعنى هذا أن السلفية الحنبلية تطالب الخَلَف بتفويض إرادته لغيره من السلف، وتوكيله بالتفكير نيابة عنه. فتكون نجاةُ الخَلَف في الاكتفاء بتقليد السلف الصالح في طريقة فهمهم للشريعة وأسلوب تطبيقهم لأوامرها وكيفية عيشهم. هكذا يُعطّل هذا التيار من السلفية المتشددة الأمانة التي حمّلها الله للإنسان بتعطيله الفكر والإرادة، العقل والحرية معاً.
ثانيا- البعد المستنير في السلفية الوطنية:
أتحول الآن للكلام عن السلفية الوطنية المستنيرة التي كانت فيها كلمة السلفية مرادفة لمقاومة الاستعمار. وقد استعارت الحركة الوطنية كلمة "السلفية" شعاراً لها أولا لقدرتها على التعبئة وطي حقبة الانحطاط الطويلة بشروحها وحواشيها، بدروشاتها وتخاذلاتها، والذهاب توا إلى المَنبَعين الأصيلين للإسلام: القرآن والسنة لإعادة قراءتهما وفق ما تمليه تحديات الحداثة؛ وثانيا للحد من حالة الانقسام المذهبي للأمة وجمع الكلمة لتحقيق الهدف المستعجل، وهو التحرر من احتلال الأجنبي. بهذا المعنى يمكن اعتبار "السلفية" فتوى مزدوجة للحركة الوطنية: فهي فتوى وطنية بحق البلاد في الحرية السياسية، وهي فتوى حضارية بالحق في الحداثة وإعادة فتح باب الاجتهاد في الشريعة.
كما لعب شعار السلفية دورا آخر في علاج جنون العداء للعقل والحرية الذي ورثته الثقافة المغربية من عصور الانحطاط. وقد اتخذ هذا العدوان الداخلي على العقل وجهين، وجه مُحاصرةِ استعماله في حدود ضيقة، ووجه الإعراض عنه كليا وتقديم بديل له يتمثل في الجذب والتواكل وانتظار الكرامة. وكانت الحركة الوطنية تُولِي مواجهة هذا العدوان الداخلي المزدوج على العقل أهمية استثنائية، لأن العقل هو السلاح الرئيس لمواجهة العدوان الخارجي للاستعمار، إذ إثبات الجدارة العقلية للشعب المغربي كان بالنسبة لها شرطا قبْلِيا لتحقيق الانتصار على المحتل. ومتى تم التسليم بأن إعادة الاعتبار للعقل هي أول خطوة في معركة الحرية، فسيكون مصير الحرية والتحرير، وبخاصة التحرير السياسي، مرهونا بمصير العقل والعقلانية. وهذا يدل على أن الحركة الوطنية كانت واعية تمام الوعي بأن "المقاومة العقلية" لا تقل أهمية عن "المقاومة السياسية" وعن "المقاومة المسلحة"، إذ بدون استعادة الذات لعقلها الفعال، وبدون استعادة الإرادة لاستقلالها الذاتي، لا يمكن مقاومة الاستعمار وتحرير البلاد منه أبداً.
وقد استعمل الاستعمار حجة فقدان أبناء هذا الوطن لقدرتِهم على تدبير شؤونهم تدبيرا عقلانيا وديمقراطيا ذريعة لتبرير احتلاله. وبالفعل، فقد وصل تدهور العقل المغربي، قُبيل الاستعمار، إلى مستوى من الانحطاط لا يُصدّق، حيث كادت وظائفه تتقلص في وظيفة واحدة هي المنع والتحريم، بدل الإباحة والترخيص. وقد شمل التحريم كل شيء تقريبا في حياة الناس، ابتداء من تحريم مزاولة الطب لمقاومة تفشي وباء الطاعون المُعدي في القرن التاسع عشر بدعوى مزاحمة الإرادة الإلهية، ومنع إصلاح التعليم وإعادة تنظيم الإدارة والجيش بالعلوم الحديثة بذريعة أنها واردة من بلاد الكفار، إلى تحريم استعمال المطبعة والقهوة والشاي الخ. باختصار أمسى العلم الطبيعي علما غير نافع، لذلك وجب تحريمه أو الحد من استعماله، حتى لا يزاحم "العلم النافع" المنذور لنيل سعادة الآخرة.
أمام هذا التخاذل المعرفي والتاريخي الذي وصلته الذات المغربية، كان على رواد الحركة الوطنية القيامُ بنوع من الانقلاب الضمني على مفهوم "العلم النافع"، كيلا يبقى مقتصرا فقط على "العلم النقلي"، فوسعوا معناه ليشمل "العلم العقلي"، أو العلم الطبيعي، دون رغبة في الخلط بينهما، ولا في استحواذ أحدهما على الآخر. فجعلوا خَلاص "العلم النقلي" نيل سعادة الآخرة، بينما خصوا غاية "العلم العقلي" بتحقيق سعادة الدنيا. ولكل سعادة من السعادتين مكانتها وقيمتها في الإسلام، حيث لا يحق إلغاء إحداهما لصالح الأخرى؛ فالإسلام وسطي الطبيعة، ويحب المؤمن القوي، فهو خير من المؤمن الضعيف، وقوة المؤمن تتضاعف، إن هي جمعت بين قوة الإيمان وقوة العقل، وسعادته تزداد إن وفّقت بين السعادتين الدنيوية والأخروية.
من جهة أخرى، نعتقد أن "السلفية الوطنية" قامت بانقلاب ضمني آخر على اللَّبس الدلالي الذي أحدثه المتشددون من سلفيي الحنابلة بين العلم والإيمان الذين استبدلوا اسم الإيمان باسم العلم، فوضعوا "العلم النافع" مكان الإيمان، والحال أن الإيمان لا يمكن أن يكون علما، حتى لو تم وصفه بنعت "المتلقَّى"، إذ الإيمان هو تصديق بالقلب بعقائد الوحي، بغض النظر عن مطابقتها للواقع والعقل أو مخالفتها لهما. في حين أن العلم، الذي هو تصديق بالعقل والعيان لحقائق الوجود، لا يقبل بأيَّ مظهر من مظاهر التناقض سواء مع الواقع أو مع العقل، وإلا تحوَّل إلى ضده. طبعا ليس هناك مانع من وصف الإيمان بالعلم، فنقول العلم الإيماني، لكن شريطة أن يتخذ العلم معنى مجازيا يقتضي التأويل، لا البرهان العقلي، لأن الإيمان، بلغة الغزالي، من طور فوق طور العقل.
من هنا نستطيع القول إن "السلفية الوطنية"، وإن كانت تشترك مع "السلفية العالمية" المتشددة في مبدإ الرجوع إلى المنابع الأولى للإسلام، فإنها تعتبر نفسها مشروعا حداثيا، لأن القصد من إحالتها على المنابع الأولى لم يكن هو العودة إلى الماضي والقعود فيه، وإنما القفز منه إلى الأمام بنبذ التقليد والخمول والتخاذل والتواطؤ مع المحتل الأجنبي من جهة، وإعادة النظر في معايير العلم النافع من جهة أخرى.
وبسَعيها إلى تحقيق الذات باعتبارها ذاتا عاقلة وحرة، كانت "السلفية الوطنية" ترنو إلى تحقيق الحضور التاريخي للوطن في فضاء العالم المتحضر بوعي مزدوج ومتوتر. فبعد أن تكوّنت لديها قناعة واضحة بأن لا مهرب لها من العقلانية والحداثة، إن هي أرادت إنجاز التحرير الوطني، انتهت إلى القول بأنه لا يمكن حمل العقل الحداثي إلى الفضاء الثقافي للمغرب إلا عبر الوساطة الدينية، إذ أن محاربة الاستعمار بعقل جديد خارج من جوف الدين كان يشكل مطلبا عزيزا على الحركة الوطنية.
ولم تكتف السلفية الوطنية فقط بالرجوع إلى الأصول الإسلامية الأولى، رغبة في إعادة الاعتبار للتفكير والاجتهاد تمهيدا لتجديد الممارسة والفعل، بل رأت أن من واجبها أيضا الإقدام على الانفتاح على العقل والحضارة الحديثة. وهذا ما يفسر إقبال كثير من سلفيي الحركة الوطنية على النهل من الثقافة التنويرية الكونية. ونفهم من هذا الربط بين الرجوع والانفتاح، أن الرجوع إلى الأصول لم يكن يعني بالنسبة إليهم العودة إلى أزمنة الانحطاط، بل الخروج منها إلى أزمنة الحداثة. كما لم تكن الغاية من عودة "السلفية الوطنية" إلى النبع الأول للإسلام إلغاء غنى الذات بتسفيه العقل واحتقار العلم والتنقيص من حرية الإنسان وكرامته وتحويله إلى كائن ذي بعد واحد وهوية واحدة، بل كان الهدف من تلك العودة فتح كل باب من شأنه أن يثري الذات وينوّع أبعادها وانتماءاتها وهوياتها، لتصبح جامعة بين الوطنية والمواطنة والإيمان بالله في آن واحد، مما يجعلها قادرة على المقاومة والتحدي. فيكون الطريق إلى إغناء الذات هو تحريرها، بدل تكبيلها بشتى أنواع القيود والأغلال كما تريد "السلفية المذهبية".
نفهم من هذا أن "السلفية الوطنية والمستنيرة" استمدت مشروعيتها الحداثية من كفاحها السياسي والفكري في الميدان من أجل التحرير المزدوج للذات والبلاد من الاستعمار ومن العقل الذي أدى إلى الاستعمار، ضمن مشروع تاريخي مأمول يضمن العدالة والمساواة والكرامة للمواطنين. لذلك قد يذهب بنا الظن إلى أن هناك ما يشبه المفارقة في تسمية عقيدة الحركة الوطنية "بالسلفية"، إذ كانت في حقيقة أمرها منذورة للخلَف لا للسلف، للمستقبل لا للماضي؛ أي لخلق إنسان جديد قادر على التحدي والانخراط في معترك الحداثة. وهذا ما جعل سلفية الحركة الوطنية المستنيرة بناءة، في مقابل "السلفية الجهادية" التي لا شغل لها سوى الهدم والتدمير، تدمير أي شيء يلوح أمامها يشير إلى مبادرة الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع.[15]
خاتمة: ما بعد السلفية
نخلص مما سبق إلى أنه لا يحق لنا أن نتعامل مع اسم السلفية بمعنى واحد، إذ السلفية سلفيات؛ فهيجنس تنضوي تحته ضروب مختلفة من السلفيات تتراوح بين حَدّي السلفية المستنيرة، والسلفية اللا تنويرية: فسَلَفية ابن تيمية ليست هي سلفية ابن حزم، وسلفية علال الفاسي ليست كسلفية محمد عبده، وسلفية هذا الأخير ليس لها الدلالة نفسها التي لسلفية حسن البنا. وازداد تعقد المشهد الدلالي للسلفية، في العقدين الأخيرين، حينما طغت على الرأي العام الإسلامي سلفيات من نوع جديد، وهي سلفيات مذهبية متعصبة تشترك معظمها في مناوءة الوطنية لصالح العالمية، ومعاداة الأنوار لصالح الخلط والتشويش، والحقد على الحداثة والتقدم لصالح السلفية والمحافظة. فجمعت بذلك بين الدعوة إلى نبذ العقل وتغييبه، وتفكيك الأوطان والدول، طمعا في إنشاء دولة عالمية وهمية تُطبَّق فيها الشريعة كما يتصورها نفر منها. وقد استعملت هذه السلفيات المذهبية من أجل تحقيق مآربها أشكالا من السفسطة وقلب المعاني لتدمير الذات، وتشويه الإسلام، وإفراغه من طاقته الإبداعية وإشعاعه الحضاري. كانت هذه السلفيات المذهبية تعاند في أن لا ترى الواقع كما هو، وإنما كما يتمثل في خيالها عبر متون المذهب العتيقة، فتزداد انغلاقا على انغلاق، وجنونا على جنون، كلما تضاعفت انتصارات الحداثة السياسية والحضارية وازدادت فتوحات العقل والعلم التي لا تتوقف أبدا. ومع ذلك؛ أي بالرغم من دعوتها التقاعسية وطبيعتها المتخاذلة أمام تحديات الزمن المتدفق، نجدها تستحوذ على قلوب الجمهور، مما يذكرنا بصواب موقف ابن رشد من هذا الأخير. ولعل الأمل في إقامة دولة إسلامية عالمية شمولية تُطبَّق فيها أحكام الشريعة الإسلامية تطبيقا حرفيا دون مراعاة لحركة الزمن ومن غير تقدير لتطور التاريخ، هو ما أجّج ويؤجج الطابع العدواني للسلفية المذهبية حيال العقل والحرية والديمقراطية.
فشتان إذن، بين سلفية وطنية تنويرية تقيم وزنا للزمن والتطور، وسلفية عالمية معادية للعقلانية تعتبر الإسلام كلا متراصاً لا يتجزأ، يخترق كل الأزمنة وكل الأمكنة. وهذا ما يفسر تحول الصراع بسرعة من الصراع على مستوى العقل العملي إلى صراع على مستوى العقل العقدي؛ فبدلا من وضع العدالة في الحقوق المادية والمعرفية والاجتماعية والوطنية في صميم المشاريع السياسية للعقل السلفي المذهبي المتشدد، تُعطَى الأولوية للقضايا الشكلية والجزئية واتخاذها ذريعة لإعلان الحرب ضد الجميع، بل وضد الحياة نفسها.
من أجل هذا، لم نخف انتصارنا للسلفية المستنيرة، أو بالأحرى "السلفية المنهجية"، أولا لكونها كانت تعتقد بأن الإسلام هو أقرب الأديان السماوية إلى الحداثة، وثانيا لأنها قامت بدور تاريخي إيجابي وحاسم بالنسبة لتاريخنا الحديث. غير أن هذا لا يعني أن القصد من وراء تنويهنا بها، أننا نرى فيها السبيل الممكن الوحيد لمواجهة تحديات التحديث ودرء مخاطر الأصوليات الإسلامية والغربية على ذواتنا. ذلك أننا نعتقد بأن السلفية المستنيرة تقتضي بطبيعتها العقلانية ضرورة تجاوزها إلى ما بعدها.
طبعا، هذا لن ينسينا أبداً بأن "السلفية الوطنية" شكلت تجربة سياسية وفكرية فذة، حيث استطاعت حفظ الذات من الاندثار والتبديد وأكسبتها مناعة بفضل عقلانيتها ومعقوليتها؛ مما يعني أن من بين العوامل التي جعلت السلفية الوطنية سلفيةً مستنيرة ومنهجية، أنها كانت ذات طبيعة سياسية. إلا أنها، مع ذلك، كانت تجربة محدودة بأفقها التاريخي، وبمهمتها السياسية والإيديولوجية المحددة التي أنجزتها بقدر كبير من الكفاءة، وهي تحرير الوطن من نير الاحتلال الأجنبي. ومما يدل على تاريخية ومحدودية السلفية الوطنية، أن بعضاً من روادها الكبار، كالشيخ محمد بن العربي العلوي، فضّل الالتحاق باليسار المغربي بمجرد ما أَنجزَت الحركة الوطنية هدفها الأساسي. وهذا ما يعزز ما ذهبنا إليه من أن زمن السلفيات الوطنية قد ولَّى، وحل محله زمن السياسة، أو السياسات الوطنية، باعتبارها صراعا عقلانيا وديمقراطيا وتحاوريا من أجل إعطاء مضمون مستقبلي للمجتمعات والدول، وبوصفها – السياسة- تعقلا ومرونة وتكيّفا ومراعاة لمقتضيات الواقع، سعيا للتوافق وتعزيزا لدور الدولة الوطنية المدنية القوية. على أن تجري كل هذه الفعاليات العقلية والعملية، التي تدخل تحت مسمى السياسة، في فضاء محايد هو الذي يمكن تسميته بالعلمانية، خصوصا إذا فهمنا هذه الأخيرة على أنها في آن واحد أداة لحماية الإيمان من تدخل الدولة، ومحاولةً لتأويل الدين، كي يكون فعالا في الحداثة ومستجيباً للتحديات والحاجيات الواقعية والمعقولة للناس والمجتمعات والأفراد.
*- مجلة يتفكرون، العدد 2، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، خريف 2013
[1]- قدمنا هذه الورقة في ندوة نظمها "مركز محمد بنسعيد آيت يدر للأبحاث والدراسات" في المكتبة الوطنية بالرباط يوم 5/4/.2013
[2]- الحافظ بن رجب الحنبلي، بيان فضل علم الخلف على السلف، تحقيق محمد بناصر العجمي، بيروت، دار البشائر الإسلامية، 2003، ص 68-69
[3]-ينتهي ابن رجب إلى القول« فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث، وفيما ورد عنهم من الكلام في مسائل الحلال والحرام، والزهد والرقائق والمعارف وغير ذلك، والاجتهاد على تمييز صحيحه من سقيمه أولا، ثم الاجتهاد على الوقوف في معانيه وتفهمه ثانياً، وفي ذلك كفاية لمن عقل»، نفسه، ص 72
[4]-انظر نفسه ص 73؛ ويضيف »وكان السلف يقولون إن العلماء ثلاثة: عالم باللَه عالم بأمر اللَه، وعالم باللَه ليس بعالم بأمره، وعالم بأمر اللَه ليس بعالم باللَه، وأكملهم الأول، وهو الذي يخشى الله ويعرف أحكامه؛ فالشأن كله في أن العبد يستدل بالعلم على ربه فيعرفه؛ فإذا عرف ربه فقد وجده منه قريباً، ومتى وجده منه قريباً قربه إليه وأجاب دعاءه«، نفسه، ص 77
[5]- نفسه، ص 73؛ كما يقول في المعنى نفسه: «فمتى كان العلم نافعاً ووقر في القلب، فقد خشع القلب للَّه وانكسر له، وذل هيبةً وإجلالاً وخشيةً ومحبةً وتعظيماً. ومتى خشع القلب للَّه وذل وانكسر له قنعت النفس بيسير الحلال من الدنيا وشبعت به »، نفسه، ص 74
[6]-نفسه، ص 82
[7]-وهم بهذا يحتجون بقول مأثور عن عمر بن عبد العزيز: «خذوا من الرأي ما يوافق من كان قبلكم، فإنهم كانوا أعلم منكم»، ص 57؛ ويضيف: "فمن كثر علمه وقلّ قوله، فهو الممدوح، ومن كان بالعكس فهو مذموم.... فأفضل العلوم في تفسير القرآن ومعاني الحديث، والكلام في الحلال والحرام ما كان مأثوراً عن الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى أن ينتهي إلى أئمة الإسلام المشهورين المقتدَى بهم الذين سميناهم فيما سبق..."، نفسه، ص 66
[8]-يعرّف العلم النافع بقوله: «هذا إن كان علمه علماً يمكن الانتفاع به وهو المتلقى عن الكتاب والسنة؛ فإن كان متلقى من غير ذلك فهو غير نافع في نفسه ولا يمكن الانتفاع به، بل ضره أكثر من نفعه»، نفسه، ص 49-79
[9]-وعبّر أحد الحنابلة، وهو القاسم بن مخيمرة، عن كراهته لعلم النحو قائلا «أوله شغل وآخره بغي... ولهذا يقال إن العربية في الكلام كالملح في الطعام، يعني أنه يؤخذ منها ما يُصلِح الكلام، كما يؤخذ من الملح ما يُصلِح الطعام، وما زاد على ذلك فإنه يفسده؛ وكذلك علم الحساب يحتاج منه إلى ما يعرف به حساب ما يقع من قسمة الفرائض والوصايا، والأموال التي تقسم بين المستحقين لها، والزائد على ذلك مما لا ينتفع به»، نفسه، ص 49-50
[10]- نفسه، ص 59-60، انظر ص 54
[11]- نفسه، ص 79-80
[12]-«فأما الدخول مع ذلك في كلام المتكلمين أو الفلاسفة فشر محض... وقد اتسع الخرق في هذا الباب ودخل فيه قوم إلى أنواع الزندقة والنفاق ودعوى أن أولياء اللَه أفضل من الأنبياء، أو أنهم مستغنون عنهم، وإلى التنقص بما جاءت به الرسل من الشرائع، وإلى دعوى الحلول والاتحاد أو القول بوحدة الوجود، وغير ذلك من أصول الكفر والفسوق والعصيان»، نفسه، ص 70-71
[13]-نفسه، ص 47
[14]- نفسه.
[15]- وأراني هنا مضطرا أن أورد مثالا بسيطا يوضح الفرق بين السلفيتين، وهو مثال اللباس بالنسبة للمرأة والرجل معا. فقد آلت "السلفية الوطنية" على نفسها أن تقوم بتحرير رمزي للمرأة بدعوتها إلى اتخاذ اللباس الحديث دون أن تعترض على تحديث اللباس التقليدي المغربي، والأمر نفسه بالنسبة للرجل. في حين قادت "السلفية المذهبية الحنبلية" حملة تدعو إلى إلغاء اللباس الوطني واللباس الحديث وتعويضه بلباس موحد مُخل بالمروءة في هذا الزمان.