بيولوجيا الدول- مقاربة صرفية

فئة :  مقالات

بيولوجيا الدول- مقاربة صرفية

بيولوجيا الدول- مقاربة صرفية:

مهاد لغوي:

التَّغيُّر في اللغة هو مصدر للفعل الرباعي (تغيَّرَ). وأمّا التَّغيير لغةً، فهو مصدر الفعل الرباعي (غيَّرَ). وثمّة فرق دلاليّ بين الفعلين، يترتّب عليهما اختلاف بين المصدرين؛ فالتغيُّر يفيد تحوّلاً وتطوّراً ذاتيين؛ أي من داخل البنية. وأمّا التغيير، فيفيد تحويلاً وتطويراً خارجيّين؛ أي بفعل عامل أو عوامل من خارج البنية. وثمة دلالة مركبة من تفاعل الفعلين، وهي ما يعرف صرفياً بالمطاوعة، أو بالاستجابة بحسب المفهوم الاجتماعي التاريخي(عند توينبي)، ويكون ذلك من خلال صيغة: غَيَّره فتَغيَّر، أي هو تركيب نحوي تراتبي للمصدرين: تغيير فتغيُّر.

فثمّة نوعان من التطوّر والتطوير أو التحوّل والتحويل، واحد داخليّ ذاتيّ، والآخر خارجيّ بفعل أجنبيّ؛ الأوّل منهما كوانتمي ميكروبي يبدأ من أصغر جزيئات البنية، والثاني كوني تلسكوبي يشرع في الأجزاء الكبرى للبنية؛ الأمر الذي يعني أنّ الأوّل بنيويّ بيولوجيّ طبيعيّ، من سمة البنى الحيّة في الطبيعة التي لها روح وجسد، في حين أنّ الثاني بيئيّ طقسيّ بفعل عوامل مناخيّة واصطناعيّة، وهو أكثر ما يكون في الجمادات الفاقدة للروح.

لقد استجابت اللغة لهذين النوعين من سنن التطوّر والتطوير والتحوّل والتحويل اللذين عرفتهما فاحتوتهما معجميّاً ودلاليّاً، بل كشفت عن النوع المطاوع الذي يوهم بالتغيُّر الذاتي، في حين يكون في حقيقته نتيجةَ استجابة تغيير خارجي.

بين البنيتين المادية والعقلية:

فالتغيُّر سمة طبيعيّة من سمات البيولوجيا، وتشمل كل بنية لها روح، سواء أكانت مادّية بيولوجيّة أم معنويّة عقليّة. والدول إحدى هذه البنى التي ينطوي تطوّرها على هذه السمة؛ أي إنّ المعنوي ينطوي على خصائص تطوّر البيولوجيا، حتى إذا لم تكن بيولوجيّة.

إنّ الدولة كالجسد الحيّ تملك روحاً حضارية تبثّ فيها معنى الحياة، وتخضع لسنن التغيُّر البنيويّ البيولوجيّ، وهو حتميّةٌ ضروريّةٌ لها وخاصّةٌ طبيعيّةٌ فيها. ومثلما أنّ الجسد قد يرافقه تغيير خارجيّ غير طبيعيّ ولا بنيويّ، مثل الحوادث وعمليّات جراحيّة علاجيّة أو تجميليّة، الأمر كذلك يسري على بنية الدول وحدودها وسياساتها ونظمها وجغرافيّاتها وطبيعة تكويناتها وتطوّراتها وتطويراتها؛ فلا بدّ للدولة من تحوُّل وتطوُّر داخليّين يجريان في بنيتها، تقوى من خلالهما وتتقدّم أو تضعف وتتأخّر، لكنّ ما هو غير طبيعيّ أن تحاول البقاء على حالها، لا تقدّماً ولا تأخّراً. وهذا لا يكون إلّا بفعل عوامل خارجيّة غير بنيويّة، أي هذا هو التغيير الخارجيّ، وهو أشبه بمن يحقن جلده بإبر البوتوكس ليحافظ على جلده من تغيُّره وتجعُّده الطبيعيّين، وأشبه بعمليات الشفط والتنحيف غير الطبيعيّة؛ فهذه صناعة غير طبيعيّة تعتمد على آليّة التغيير التي تُوقِف التغيُّر الطبيعيّ. والتغيير قد يكون إيجابيّاً، عندما لا يلغي عوامل التغيُّر الحتميّة. والدول التي تُغيَّر بنيتها صناعيّاً من دون استجابة بنيويّة داخليّة تكون مثل الدجاج المصاب بمرض "أبو عْرِيْفْ/ إنفلونزا الطيور، إمّا أن تتخلّص من حالتها الراهنة، وإما أن تَنْفُق وتزول عن الحياة. وأمّا الدول التي يكون فيها نوع من الاستجابة والمطاوعة لهذا التغيير، فهي قد تكون أشبه بالدجاج المحقون بالهرمونات التي تنتج وزناً زائداً لا ينسجم مع عمر الدجاجة الطبيعيّ، ولا مع تكوينها البيولوجيّ الحيويّ، فيكون لحمها ضارّاً أكثر ممّا هو نافع كما هو الحال مع لحم الدجاج ذي النموِّ الطبيعيّ.

والدولة أنْ تتغيَّرَ، ضعفاً وتأخّراً، أفضل من أنْ تبقى على حالها صناعيّاً، بفعل عوامل خارجيّة وأياد أجنبيّة. حتى أفضل من أن تُخضَع إلى تقديم، فتتقدّم، إنْ كان في تقدّمها ما يتنافى مع قدرة تكوينها البنيويّ الداخليّ؛ إذ في تغيُّرها الطبيعيّ بنية تقدّمها مهما كان عسيراً وصعب التحقّق؛ فالتغيُّر يصحّح نفسه ويطوّرها ذاتيّاً، مثلها مثل الجسد الذي يضحّي ببعض كريّاته البيض أو الحمر لتصحيح مسار مناعة الجسد وتغيُّره نحو السلامة والعافية. فلا بدّ للدولة من التغيُّر صحّة أو مرضاً، أفضل من بقائها سليمة بفعل إبر هرمونيّة مؤقّتة. فمِن المرض تُخلق المناعة؛ وتُبنى الأجسام هكذا، وهكذا تُبنى الدول.

التجربة العربية:

لقد ازدهرت الحضارة العربيّة- الإسلاميّة؛ لأنّها اشتملت على سنّة التغُّير البنيويّ وأعطته حقّه من الحياة؛ فعرفت تطوّراً وتقدّماً، ثمّ مرّ عليها تأخّرٌ وضعفٌ تبعه تصحُّح وتقدّم. لقد شهدت تلك الدولة المترامية الأطراف مساحة والمزدهرة حضاريّاً والقويّة عسكريّاً والنافذة سياسيّاً والمتماسكة بنيويّاً والمتطوّرة سياسيّاً، شهدت تغيُّرات طبيعية متعدّدة ومختلفة، من دولة الرسول الراشدة، إلى الدولة الأمويّة ثمّ العباسيّة، وما تخلّلها من دول مثل المرابطين والموحّدين، ثمّ أعقبها دولة مملوكيّة، ثمّ عثمانيّة. كلّ ذلك كان تغيُّراً بنيويّاً من الداخل.

لكنّ الأمر مع العصر الحديث وتطوّر وسائل التكنولوجيا والصناعة والاتّصال، مع كلّ ذلك غُيِّرت تلك السنن وأهلوها (كما يقول أبو تمّام)، وحلّت سنن التغيير الخارجيّ مكانها، للمحافظة على الوضعِ القائمِ ونظمَه السياسيّةَ أو لتغييره لمصلحة عوامل أجنبيّة كونيّة غير بنيويّة، ممّا كبح جماح التغيُّر البنيويّ الداخليّ.

لقد قُسّمت الدولة العربية- الإسلامية على دول وأقطار بفعل أياد خارجيّة لتصير، أمراً سياسيّاً وجغرافيّاً واقعيّين. وبالمقابل ظهرت حركات راديكاليّة "رجعيّة" - وهي تسمية يرفضها محمود شاكر ويراها مصطلحاً من مخلّفات الاستعمار كما جاء في كتابه أباطيل وأسمار- لكنّها من بنية تلك الدولة، فلم يُكتب لها الحياة ولم تُترك لها فرصة تصحيح ذاتها مناعيّاً من خلال التحسُّن الذاتي. فثمّة تغيُّرات بنيويّة متعدّدة تمّ وأدها بفعل قوى علاجيّة اصطناعيّة خارجيّة، في حين كان من الأفضل أن تُترك لمصيرها البيولوجيّ البنيويّ الداخليّ الذي كان سيتولّى تصحيحها بنفسه وتغييرها، وعندها كان سيكون التغيُّر، وكان لا بدّ أن يُنتِج تقدّمه من ضمن الخيارات التي يخلقها واقعه، وليست تلك التي يفرضها خارجه.

لم نسمح لأنفسنا- ولم تسمح لنا النظم السياسيّة الداخليّة والخارجيّة- أن نكون أكثر شجاعة وواقعية ونقبل تحوُّلنا البنيويّ الداخليّ، لنكون مهيّئين وقادرين على مواجهته ومن ثَمّ تصحيحه/تصحّحه بنيويّاً وأيضاً ذاتيّاً؛ فلا نجاح من دون عثرات، ولا صلاح من دون فساد لا بد منه.

كنّا أكيد سنكابد مخاضات وصعوبات، لكنّنا كنّا أكيد- أيضاً- سنخلق تغيُّراً بنيويّاً يكون فيه استقرارنا وتطوّرنا ولو بعد حين، وهو أفضل مليون مرّة من واقعنا ذي الشكل البوتوكسي المُجّمل الذي يعيش زمن وجوده المَرَضِيّ.

علينا أن نترك لواقعنا السياسي والثقافي والاجتماعي والحضاري أن يسمح لجسده بتقبل تلك الحركات الراديكالية والتنظيمات الكارثية، حتى يتمكن من مواجهتها بمناعته الذاتية، ومعالجتها بنيوياً والخلاص من نتائجها إلى الأبد؛ وإلا فسنظل بين مطرقة الابتزاز الاستعماري وسندان البنى والنظم والمجموعات القروسطية التي تظن أن الحل فيها، وأنها صالحة لكل زمان ومكان وتعيش أسيرة مظلومية واهمة، فنظل نُخبَط ونتخبّط بين المطرقة والسندان إلى دهر الداهرين.

فرَكْبُنا الحضاري العربي رهين سلامنا الداخلي ومواجهة مشاكلنا بنفسنا.

قد تبدو هذه فِكَراً راديكالية غريبة ومَرَضيّة أو رجعيّة متخلّفة، أو خطيرة وكارثيّة، لكنّها عسر لا بد منه؛ إذ تنطوي على فرضيّة تقدّمية مأمولة نحو التطوّر البنيوي الطبيعي والصحيح.

الوجود البيولوجي والمتخيل لإسرائيل:

كان المؤرّخ الإسرائيليّ (يوفال نوح هراري) قد أقام كتابه الشهير (العاقل) على فكرة أنّ الوجود البشريّ هو الوجود الوحيد الذي يُقسم إلى وجودين: بيولوجيّ وآخر متخيّل، على خلاف الكائنات الأخرى التي لا تعرف إلّا الوجود البيولوجيّ فقط.

وقد رأى أنّ الوجود البيولوجيّ يتّسم بالطبيعيّة والواقعيّة، في حين أنّ الوجود المتخيّل الخاصّ بالإنسان العاقل هو وجود وهميّ زائف من صنع الخيال البشريّ.

وجعلَ يوفالُ الهُوِيّاتِ والأديانَ والأوطانَ والشرائعَ والقوانين والاقتصادَ والتاريخَ من ضمن الدائرة الوهميّة المتخيّلة. وجعلَ سبب الحروب والدماء والقتل والصراعات يأتي معظمها من الوجود المتخيّل.

انطلاقاً من أفكار هذا المؤرّخ الإسرائيليّ وتصنيفيه للوجود البشريّ، يمكن تقسيم الوجود الإسرائيليّ إلى بيولوجيّ طبيعيّ وآخر متخيّل وهميّ:

الأوّل أشبه بالزائدة الدوديّة في جسم المنطقة التي إمّا أنْ تُترك لطبيعتها فتفتك بالجسم، وإمّا أن تُستأصل بيولوجيّاً بعمليّة جراحيّة أو بتعديل جينيّ.

وأمّا وجودها المتخيّل المستند على توهُّمات الخيال واختلاقات التاريخ، فهو الوجود الذي تعمل عليه إسرائيل وتسعى إلى تمكينه وتحويله إلى واقع مفروض بالقوّة. وهذا الوجود المتخيّل يستند إلى عاملين: الأوّل المحافظة على وجودها البيولوجيّ في المنطقة(الزائدة الدوديّة) للفتك بهذا الجسد وتسميمه. والثاني يتمّ من طريق دعم كل خلاف عربي-عربي وبثّ سموم الفرقة فيه (وعربي- إسلامي كذلك). ولقد شهدت السنوات الماضية أوجَ نجاح هذه الاستراتيجيّة بوساطة تقوية الوجود العربيّ الوهميّ المتخيّل، القائم على الطائفيّة والمذهبيّة والمناطقيّة والعنصريّات العرقيّة، وبثّ روح الوجود فيها وتمكينها إلى أعلى درجة ممكنة.

ولأنّ الوجود البيولوجيّ هو الطبيعيّ، وهو الأقوى- بحسب يوفال هراري- فإن إسرائيل مهما دُعم وجودها الوهميّ المتخيّل، فإنّ طبيعتها البيولوجيّة الدوديّة الزائدة هي التي ستظهر، وهي التي يؤول إليها وإلى طبيعتها الوجود الإسرائيليّ في كلّ مرّة تحاول أن تتقنّع بالوجود الوهميّ المتخيّل، فإمّا أن تبقى وتفتك بالجسم الحيّ الطبيعيّ في المنطقة، وإمّا أن تزول بعملية جراحيّة (ما لم تقتنّع بمَرَضيّة وجودها البيولوجيّ، وتحاول تعديله ليكون جسماً طبيعياً سليماً متوافقاً مع جسم المنطقة).

والوجود العربيّ مهما قوي فيه الوجود الوهميّ المتخيّل ودُعم (طائفيّاً ومذهبيّاً وعنصريّاً وسياسيّاً)، فإنّ الطبيعة البيولوجيّة الزائدة للوجود الإسرائيليّ ستؤول بالوهميّ العربيّ إلى زوال وإلى استحضار الطبيعة البيولوجيّة الواقعيّة للوجود العربيّ من خلال توحيد هذا الجسم ضد تلك الدودة.

ولقد حاولت العرب، بكلّ دولها، أن تتساهل مع الوجود الإسرائيليّ وتقبل به جزءاً من وجود المنطقة، لكنّ الرواية الوهميّة المتخيّلة للوجود التاريخيّ الإسرائيليّ(وهي الرواية المتطرّفة والمهيمنة عندهم) ما تزال تقطع الطريق على هذا التسامح والقبول بها جزءاً من المنطقة؛ لأنّها تصرّ على إلغاء الوجود الفلسطينيّ المستقلّ، بل إنّ روايتها الوهميّة المتخيّلة تطمع بما هو أبعد من ذلك، وتسعى إلى مد وجودها بما يتجاوز حدودها الوهميّة المتخيّلة وحدودها البيولوجيّة المفروضة كأمر واقع، وبما يتجاوز "الشرعيّة الدوليّة" التي حابتهم على حساب أصحاب الأرض. لقد انفتح العرب عليها، وقدّموا مقترحات- وهي تنازلات في حقيقتها- تسمح بالعيش المتجاور المشترك بما يحفظ الكرامة للوجودين العربيّ والإسرائيليّ، بيد أن الطبيعة البيولوجيّة المَرَضيّة المدعومة بالرواية الوهميّة المتخيّلة للوجود الإسرائيليّ تقف عائقاً قويّاً في وجه هذا التسامح العربيّ؛ وقد قال المتنبي يوماً:

مَنْ أطاقَ التماسَ شيءٍ غلابا     واغتصاباً لم يلتمسْهُ سؤالا

فالوجود العربيّ البيولوجيّ يقتضي زوال الوجود البيولوجيّ الإسرائيليّ(إن بقي على طبيعته المَرَضيّة غير المُرْضية ولا المَرْضيّ عنها)، مثل ما الوجود الإسرائيليّ الوهميّ يقتضي بقاء الوجود العربيّ الوهميّ(طائفيّاً وعرقيّاً ومذهبيّاً وقلاقلَ وعدمَ استقرار).

هذه مقتضيات الطبيعتين البيولوجيّتين العربيّة والإسرائيليّة(بوضعها الراهن)، وهي مقتضيات الوجودين المتخيّلين الوهميّين العربيّ والإسرائيليّ.

ويعلّمنا المؤرّخ الإسرائيليّ بإلحاح وإيمان علميّ علمانيّ صادقين أنّ العاقبة للبيولوجيّ وأن المتخيل إلى زوال.

 

مراجع المقال:

  1. ابن منظور: لسان العرب.
  2. أرنولد توينبي: مختصر دراسة للتاريخ.
  3. ديوان المتنبي.
  4. محمود محمد شاكر: أباطيل وأسمار.
  5. يوفال نوح هراري: العاقل.