تأمّلات الإمبراطور الفيلسوف ماركوس أورليوس
فئة : مقالات
مقدمة:
ينتمي نص "التأملات" لـ"ماركوس أورليوس"[1] إلى مجال الفلسفة ولا ينحصر فيه، إذ يمتد إلى حقل السيرة الذاتية؛ فهو يؤسّس موقعه في البين - بين التي تصل وتفصل بين الفلسفة والسيرة الذاتية. وهذا راجع بالأساس إلى خاصية نص السيرة الذاتية. فمصطلح السيرة الذاتية في اللغات الأوروبية autobiographie، في حرفيّته، يتكوّن من ثلاثة عناصر متضافرة ومتفاعلة تؤسس لخصوبة هذا الحقل الشاسع Auto-bio-graphie[2]: Auto الذاتي وBio الحياة وGraphie الصورة والكتابة. فالذاتي l’autos يحيل على الهوية وعلى الأنا الواعي بذاتيته، وهو في نفس الوقت يشكّل مبدأ الوجود المستقل الذي، وإن كان متأخرًا عن الوجود البيولوجي، فإنه جوهري لشعور الذات بوجودها. أما البيولوجي أو bios، فهو يؤمّن استمرارية حيوية وحياتية للهوية عبر الوجود العضوي الفردي. وأما الكتابة graphein ، فهي الأداة والتقنية التي تصور بها الذات نفسها وترسمها عبر اللغة والكلمات[3]. وهكذا فالسيرة الذاتية نسيج من الخيوط المتشابكة التي تتألف من الذات والحياة والكتابة. وبعبارة أوجز: هي نص تكتبه ذات عن حياتها، أو بوسعنا القول مع جورج ماي: "السيرة الذاتية هي سيرة كتبها من كان موضوعا لها."[4]
اجتمع في شخصية ماركوس الحاكم والفيلسوف ما حقّق حلم أفلاطون، ولقّب بـ "الفيلسوف على العرش" و"الإمبراطور الفيلسوف"
الفلسفة ونصّية السيرة الذاتية:
تتجلى خصوصية العلاقة بين السيرة الذاتية والفلسفة في نقطة جوهرية: تمثل السيرة الذاتية بالنسبة إلى كاتبها - الفيلسوف تأملا ذاتيا في مسيرة الحياة والفكر، أو لنقل إن نص السيرة الذاتية هو انعكاس تأمل الفيلسوف في حياته ومنجزه وأعماله. ففي هذا النص تلتقي تجربة الفكر مع تجربة الحياة في إدغام مرآوي، إذ لا تتيح لنا كتب الفيلسوف ومؤلفاته ما تبوح به السيرة الذاتية. "فالسيرة الذاتية تفترض إمكانية أن يكون العارف هو نفسه موضوع المعرفة أو المعروف، والراوي هو نفسه موضوع الرواية أو المروي عليه."[5] ولكم يدهشني أن يكتب الفيلسوف عن كل شيء إلا عن ذاته! كما لو أنه فقط فكر مجرد لم يعش يوما بين الناس، ولم يحتك باليومي والعام من شؤون مجتمعه. وأجد ذلك من المفارقات: أن تتوارى الحياة الواقعية للفلاسفة إلى الهامش مع أنهم لا يكفون عن الحديث في "منهج الحياة السعيدة" ... لا أجد مسوغا لهذا التحفظ المتعالي عن واقعية الحياة في إضراب الفلاسفة عن الحديث عن حياتهم الخاصة. فقوة الفكر لا تتجلى في النصوص، بل في الحياة إسوة بسقراط الذي تحفظ عن الكتابة وعاش فلسفته في دروب الحياة...
ينطلق ج هيلو سلفرمان Silverman من ملاحظة مهمة بخصوص السيرة الذاتية: "ما يثير الغرابة بشأن النصوص السّيرية هو ظهورها في أمكنة غريبة، أمكنة تقع، على نحو بارز، خارج الميدان الأدبي."[6] لقد توزع مجال ظهورها بين الفلسفة، السياسة، اللاهوت، علم النفس، الموسيقى والأنثروبولوجيا... خارج حدود الأدب.
لقد خرجنا من إشكالية الجنس الأدبي المحدّد للسيرة الذاتية ومن متاهات الأنواع، لنجد أنفسنا في فضاء مفتوح ترتسم معالمه على حدود غير مرسمة بين الأدب وغير الأدب. إذا كان لا بد من تحديد انتماء لنص السيرة الذاتية، فسيكون هذا الانتماء هو نصّيته. فالنص كما يقول سلفرمان "هو ما لا يمكن حسمه indecidable "[7] وعدم إمكانية الحسم هاته تعود لنصية النص، بل هي سمة إجرائية لهذه النصية.[8] فعدم القدرة على تحديد هوية النص ليس عجزا أو اضطرابا لدى القارئ، بل إن النص نفسه "ليس شيئا بحاجة إلى تحديد هويته."[9]
النصية هي التي تؤسس نصا بوصفه نصا بشكل معين. ونصية نص ما تنتج معرفة بشأن النص[10]. النص اختلاف عينه لا يكف عن مراوغة أحادية المعنى والتملص من أحدية الدلالة من خلال تعددية القراءة والتأويل. وإذا كان النص هو ما لا يمكن الحسم فيه، فإن نصيته بدورها لا يمكن حسمها، لأنها تحدث في المكان الذي يند فيه النص عن التعريف [...] أي حيث يمحو النص نفسه من أجل ما دعاه بول دي مان الطمس "disfiguration"[11]. ومن جهة أخرى، توفر النصية للنص بنية المعنى. فإذا كان النص هو ما يُقرأ، فإن نصيته هي كيف يُقرأ. "وكما أشار إدوارد سعيد، فإن النصية هي ممارسة. فمن خلال النصية، يجعل النص نفسه ذا معنى، وذا وجود، ويحدث نفسَه بطريقة معينة."[12]
خلاصة القول، إن السيرة الذاتية تتمتع بخصوصية فريدة لا ترتهن لنظرية الأجناس أو الأنواع الأدبية ما دامت غير محصورة في مجال الأدب، بل هي كتابة بينية توزعت جذورها في حقول متنوعة في فضاء ما بين الأدب وغير الأدب. وهذا هو الذي سيسمح لنا باعتبار نصوص السيرة الذاتية للفلاسفة نصوصا فلسفية تستكمل "أنساقهم الفلسفية" وتضيء أعمالهم وتعكس فلسفتهم عن ذواتهم وتجربتهم في الحياة، وتعد انعكاسا لمعيشهم اليومي كمواطنين وأرباب أسر (سقراط) أو كأباطرة (أورليوس) أو مسارهم التكويني (ديكارت، مل) وكأفراد ساعين وراء المجد والصيت (هيوم) أو كثائرين إلى حد الجنون (نيتشه)، وتسجل كذلك تجاربهم العاطفية (روسو) وإخفاقاتهم (جون استوارت مل) وأزماتهم الروحية (أوغسطين) وتجربة السجن والإعدام (سقراط، بوئثيوس)...
إن المنظور المنفتح الذي نتبنّاه بخصوص السيرة الذاتية يسمح لنا بإدراج الأجناس البينيّة المتاخمة كما أسلفنا. ولعل الصبغة الفلسفية التي تكتسيها هذه الخواطر وتبلورها وتجذّرها في إشكالات الحياة هو الذي يقرّبها من فلك السيرة الذاتية. خصوصا وأن حميميتها وذاتيتها يزكّي هذا الطرح. فقد عنون ماركوس أوريليوس نصّه بعنوان: "تأملات من أجل نفسي"، وهي حقّا تأملات منبثقة من تجربة خاصّة في الحياة. ونلاحظ هذا التطابق بين الخواطر والتأملات منعكسا في تلاقي الفلسفة والحياة: فليست الفلسفة سوى "فن الحياة" ars vivendi كما قال شيشرون[13]، أو هي العيش وفق العقل. وهذا النص دليل يصدّق هذا الزعم: إذ لا يحفل أوريليوس بمباحث المنطق والطبيعيات، بل يتّجه بفكره صوب أخلاقيات الحياة: "لم أضع وقتي في تحليل الأدب أو المنطق، أو أشغل نفسي ببحث الظواهر الكونية..."[14]
ماركوس أورليوس: الفيلسوف الإمبراطور
ولد ماركوس (مرقس) أوريليوس عام 121م في روما في أسرة نبيلة ذات مجد تتّصل باسم "نوما" Numa أحد ملوك روما الأوائل. وكان والده، أنيوس فيروس، يتولى منصب الحاكم القضائي كما شغل جده لأبيه منصب القنصل لعدة ولايات. ولما توفي والده، إبان طفولته، كفله جده، ثم إن الإمبراطور أدريانوس أُعجب بشخصية ماركوس وأوعز إلى خلفه من بعده الإمبراطور أنطونيوس بتبنّيه الذي أعطاه اسم ماركوس أوريليوس أنطونينوس، بعد أن كان اسمه الحقيقي ماكوس أنيوس فيروس؛ وزوّجه ابنته فاوستينا عام 145م[15]. ولمّا توفي الإمبراطور أنطونينوس عام 161م تربّع ماركوس على عرش إمبراطورية روما في متم الأربعين من عمره. ولكنه أشرك معه أخاه بالتبني، لوكيوس فيروس، في الحكم. الشيء الذي أغضب مجلس الشيوخ. والواقع أن هذا القرار يعتبر من سقطات الإمبراطور الفيلسوف الذي سنّ سُنّة ستكون لها عواقب وخيمة في مستقبل الحكم[16].
ورث ماركوس إمبراطورية مترامية الأطراف حفّت بها الفتن والأزمات. وبلغ الأمر أن صارت مهدّدة بالغزو. فاضطر إلى تعبئة الجيش الذي قاده بنفسه لدفع خطر القبائل الجرمانية، ثم بعث بشريكه في الحكم إلى الشرق لإخماد ثورة في بلاد فارس. وكانت الحملة قد تكلّلت بالنجاح لولا أنها حملت معها وباء الطاعون الذي انتقل بالعدوى من الجنود العائدين من ساحات القتال وتفشّى في أرجاء روما. وثالثة الأثافي هي الفيضانات التي أتلفت المحاصيل الزراعية، فكانت المجاعة والأوبئة والأمراض والفاقة. وحتى يتجنّب تمرّد الجنود، اضطرّ ماركوس إلى بيع الجواهر الملكية لسداد الرواتب[17].
خصّص ماركوس الكتاب الأول من تأملاته في إبراز ما تعلّمه - من الفضائل الأخلاقية - من كل من ساهموا في بناء شخصيته
وتقاطرت عليه المتاعب من كل حدب وصوب، ففي سنة 169م توفي فيروس جليسه على العرش، ليتركه وحيدا في الحكم. وفي عام 175م، تمرّد قائد جيوشه في آسيا وأعلن نفسه إمبراطور روما. وقبل أن يصل ماركوس آسيا للقضاء على الانشقاق لقي الخائن حتفه على يد بعض ضباطه. فأُخمدت الفتنة في مهدها. وما كاد ماركوس ينعم بهدوئه بعد هذه الفتن، حتى تلقّى نبأ مفجعا بوفاة زوجته فاوستينا. هذا الصدع سيحمل ندوب حزنه طيلة حياته، ولكن الحياة تستمر مع ذلك؛ فاستأنف حملاته العسكرية لإعادة الأمن والاستقرار. وقد أصيب بداء مميت خلال إحدى حملاته ومات في معسكره عام 180م. وفي ذلك قال إرنست رينان قولته الشهيرة: "كان يوم وفاته مشؤوما على الفلسفة وعلى المدنية"[18].
لقد اجتمع في شخصية ماركوس الحاكم والفيلسوف ما حقّق حلم أفلاطون، ولقّب بـ "الفيلسوف على العرش" و"الإمبراطور الفيلسوف". ولكنّه لم يتحمّس لطوباوية أفلاطون: "لا تؤمّل في جمهورية أفلاطون الطوباوية، بل اقنع بأصغر خطوة إلى الأمام، ولا تستهن بهذا الإنجاز. ما أتفه أولئك البؤساء الذين ينخرطون في الأمور السياسية، ويظنون أن أعمالهم لها صفة فلسفية. إنهم جميعا يهرفون."[19] بل لم يكن متعلّقا ولا مغترّا بالحكم والسلطة، بل كان مجرد ممارسة لواجب أُلقي على كاهله. وفي ذلك يخاطب نفسه: "لا تعد تُسمع أحدا تذمرا من حياة البلاط، ولا حتى نفسك."[20] وحتى الأمجاد والانتصارات العسكرية لم تكن في نظره سوى خيوط أوهى من خيوط عنكبوت: "العنكبوت فخورة حين تصطاد ذبابة. والإنسان فخور بصيده-أرنب مسكين، سمكة صغيرة في شبكة، خنازير، دببة، أسرى من الصرامطة، والجميع من حيث الدوافع لصوص."[21]
كتاب التأملات:
كتب ماركوس خواطره بين عامي 166م و174م في وقت الفراغ الذي كان يتخلّل حملاته العسكرية؛ فهو لم يتخلّ أبدا عن شغفه بالفلسفة، بل كانت الفلسفة هي مرشده في الحياة. يقول في إحدى خواطره: "أي شيء إذن بوسعه أن يخفرنا في طريقنا؟ شيء واحد، وواحد فقط: الفلسفة. وما الفلسفة سوى أن تحفظ ألوهتك التي بداخلك سالمة من العنف والأذى، وأن ترتفع فوق الألم واللذة، ولا تفعل شيئا بلا هدف أو بلا صدق أو بلا أصالة...[22] والمفارقة هي أن الفلسفة - وخصوصا الرواقية- كانت تعاني الأمرّين على يد أباطرة روما، وأصبحت متربّعة على العرش. وكان ماركوس يتحلّى بأخلاق رفيعة وحكمة عالية؛ وذلك لم يورثه اعتدادا بالنفس، بل على العكس، يخاطب نفسه: "ليس لديك متّسع للدرس والتحصيل. ولكن لديك متّسع لأن تكفّ الغطرسة، ولديك متّسع لأن تعلو فوق اللذة والألم، ولديك متّسع لأن ترتفع فوق حبّ الشهرة والمجد."[23]
لم ير البعض في الكتاب الأول من التأملات سوى حديث ماركوس عن "دَينه لأهله وأسلافه ومعلّميه" واعتبر ذلك أمورا شديدة الخصوصية وغير ذات صلة بالأفكار المحورية للتأملات[24]. والحال أن هذا الكتاب يعكس لبّ حكمة الفيلسوف. فقد قال سقراط، من قبل، بأنه لم ولن يتعلّم شيئا من تأمّله في الأجرام والأشجار والأحجار... وأن جوهر الحكمة يكمن في الفضيلة التي لن يتعلّمها إلا من الناس: في محاورتهم ومحادثهم وفحص الأفكار والتعاون معهم على الاقتراب من الحقيقة... وبالتالي، فإن الرسالة التي عاش من أجلها ومات في سبيلها هي فضيلة الإنسان وحقيقته. وعلى نفس النهج سار ماركوس أويليوس في ابتعاده، كما أشرنا سابقاً، عن العلم الطبيعي والمنطق والخطابة، وتركيزه على الفضيلة وفهم الحياة وحكمتها. لذلك، خصّص الكتاب الأول من تأملاته في إبراز ما تعلّمه - من الفضائل الأخلاقية - من كل من ساهموا في بناء شخصيته؛ فهو يعقّب على ذكر كل من لهم أياد بيضاء في تعليمه وتربيته قائلا: "وأنا مدين للآلهة التي منحتني أجدادا صالحين وآباء صالحين وأختا صالحة، ومعلّمين وأسرة وأقارب وأصدقاء صالحين [...] وأنني اكتسبت صورة واضحة وثابتة عما تعنيه الحياة وفقا للطبيعة، حيث إنه من ناحية الآلهة وعطاياها وعونها وإلهامها فلا شيء يعوقني الآن عن حياة الطبيعة، وإن كنت مقصّرا عن ذلك بعض الشيء فالخطأ خطئي والتقصير تقصيري في الالتفات إلى إشارات الآلهة ولا أقول تعليماتها."[25]
حصانة الذات:
أما عمق الحكمة الرواقية، فيكمن في التمييز بين التأثيرات الخارجية وبين الأحكام الداخلية. فالذات هي حصن داخلي منيع ضد كل المؤثرات الخارجية، سواء كانت خيرا أو شرا. هذا الفصل يكسب الذات مناعة صلبة ضد الآلام والمنغّصات. فالخير والسعادة لا تُرجى من خارج الذات، بل هي ملك ذاتي ينبع منها. "السعادة تتعلّق على تقدير الذات لذاتها، ومازلت تحرمينها [يخاطب نفسه] من ذلك وتعلّقين سعادتك على الآخرين: ذواتهم وآرائهم وتقديراتهم."[26] ويقول بعدها مباشرة: "لماذا تُشتّتك الماجريات الخارجية كل هذا التّشتيت؟"[27] فالسعادة لا تتوقّف على شيء مما يتهافت عليه الناس: الثروة والجاه والسلطة والمجد والشهرة...فهذه الأشياء في ذاتها ليست حسنة ولا سيئة، بل هي "أشياء سواء" أو "لا فارقة" Indifferencia يمكن أن تؤدي إلى الخير أو إلى الشر. أما الذي يحقّق حتما السعادة، فهو "أن يرضى ويقنع بما يجري عليه القضاء وتنسجه خيوط قدره، وألا يدنّس ألوهته التي تقبع داخل صدره أو يعكّر صفوها بخليط من الانطباعات المشوشة، بل يحفظها في سكينة واتصال وثيق بالله، ولا يقول غير الحق ولا يفعل غير العدل."[28]
فالحصانة الذاتية هي في الوعي بأن ما يمسّ الذات من مؤثرات كيفما كانت، هي بمعزل عن الأحكام التي تجعلنا نحكم على بعض المؤثرات بأنها سوء أو شرّ. فالحزن والقلق والخوف مردّه إلى الأحكام التي نحكم بها على بعض المؤثرات الخارجية - التي في ذاتها لا تعني شيئا - فتبدو محزنة ومخيفة...فالمرض أو الألم الجسدي هو شيء، والحكم الذي نحكم به عليه كالخوف أو التذمر أو اليأس هو نتيجة لأحكامنا الذهنية- النفسية وليس لذلك المصاب الجسدي. "ينبغي أن يبقى الجزء الموجّه والحاكم من نفسك محصّنا من أيّ مجرى في الجسد"[29]، فليس بوسع المؤثرات الخارجية أن تسبّب لنا الشّرّ والسوء لولا توهّمنا أنها كذلك.
وحتى عندما يريد البعض أن يلحق بنا الأذى، فليس بوسعهم النجاح في سعيهم. "أين إذن يقبع الأذى؟ في ذلك الجزء منك الذي يضطلع بتكوين الأحكام عن الأذى. كُفّ عن الحكم بأن بك أذى تكون قد سلمت منه. ولو أن أقرب شيء منه، وهو جسدك، تعرّض لسكّين أو كيّ، أو تُرك ليتقيّح أو يموت، فإن الملكة التي تحكم هذه الأحكام ينبغي أن تبقى هادئة."[30] وهذا ليس مجرد كلام أو طوباوية من لدن ماركوس، بل لقد عاشه وطبّقه فعليا في حياته ومعاملاته. فعندما أعلن قائد جيشه في آسيا الانقلاب ونصّب نفسه إمبراطورا تعامل مع الخيانة برباطة جأش وثبات، بل إنه عندما وصله رأس الخائن تأسّف لذلك، ورفض مقابلة قاتليه وأسف لضياع فرصة أن يعالج المشكلة بما يحوّل العدو إلى صديق، إذ لا أحد يرتكب الجريمة عن قصد. "لقد ابتُلي كل منهم بذلك [يقصد الغدر والحسد] من جرّاء جهله بما هو خير وما هو شرّ؛ أما أنا وقد بصُرت بطبيعة الخير وعرفت أنه جميل، وبطبيعة الشر وعرفته قبيحا، وأدركت أن مرتكب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلاف في طبيعته ذاتها. فنحن لا تجمعنا قرابة الدم والعرق فحسب، بل قرابة الانتساب إلى نفس العقل والقبس الإلهي."[31]
لقد كان شعاره العقلي هو أن نحيا وفق العقل الذي هو قبس إلهي خُلق فينا، ليوجّهنا ضد الأهواء والاضطرابات. كما أن انتماء الإنسان إلى الطبيعة يحتّم عليه أن يعيش في تناغم معها، وهو ما يفرض بساطة العيش واعتبار أن ناموس الطبيعة هو التغيّر والصيرورة. ولا شيء يدعو إلى التذمّر والتمرد من قوانين الطبيعة مادام كل شيء مقدّرا في كنف العناية الإلهية. ولذلك، لا يشغل المرء نفسه كثيرا ولا يعكّر صفو خاطره، بل عليه فقط أن يقوم بواجبه. "فلا تفعل شيئا من غير هدف، أو من غير وفاق مع مبادئ الفن- فن الحياة."[32]
التجرد الأخلاقي:
أما شعاره الأخلاقي، فهو: "هل صنعتُ شيئا من أجل الصالح العام؟ إذن فقد تلقّيت أجري. لتكن هذه دائما قناعتك ولا تكفّ أبدا عن صنع الخير."[33] بل يرقى بنا ماركوس إلى أعالي الأخلاق الرفيعة، عندما يميّز بين الأخلاق التي تنبعث عن الأدب والواجب، وبين الأخلاق الحقّة التي تنطلق من البرّ بالذات: "مازلت تفعل البرّ بوصفه أدبا وواجبا وليس بوصفه برّا بنفسك."[34] فالأخلاق الرفيعة هي ثواب ذاتها، كالجمال الذي هو جمال في ذاته لا يحتاج إلى غزل ولا تشبيب. وهذا يعود بنا إلى قطب الرحى في فكر فيلسوفنا الإمبراطور، وهو الاكتفاء الذاتي والاستقلال عن العالم الخارجي، فلا ينتظر مدحا ولا تملّقا.
الحصانة الذاتية هي في الوعي بأن ما يمسّ الذات من مؤثرات هي بمعزل عن الأحكام التي تجعلنا نحكم على بعض المؤثرات بأنها سوء أو شرّ
وحتى متعة الحياة لا ينبغي أن تُلتمس في المنتجعات الريفية أو على شواطئ البحار، أو بين الوديان... "فمازال بإمكانك كلما شئت ملاذا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبيك. فليس في العالم موضع أكثر هدوءا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه."[35] وتلك هي الحرية الحقيقة التي يتوّجها الإيمان الصوفي العميق: "اقض ما تبقى من حياتك كإنسان نذر نفسه للآلهة بكل قلبه واحتسب عندها كلّ ما لديه."[36] وأيضا عندما يقول بحرارة الناسك: "أعلى مراتب الحرية والقوة هي ألا يفعل الإنسان إلا ما يرضي الله، وأن يتقبّل كلّ ما يقسمه الله لك."[37]
خاتمة:
تلك كانت لمحات من حكمة فيلسوف امبراطور آثر أن يعيش وفق معيار العقل، وفي تناغم مع الطبيعة. فكانت حياته انعكاسا لفكره كما جاءت نصوصه مرآة لتجربته في الحياة والسلطة؛ فليس بوسعنا فصل تأملاته عن حياته، إلا كما نسلخ الجلد عن الأنعام. وهذا لا يعني أن حياته أو أفكاره أو قراراته في الحكم كانت كلّها موفّقة، بل إنه لم يستطع تجاوز سلبيات عصره ومدرسته الفكرية. فنظرته المتأهبة للموت انتهت إلى الترحيب به وإحداثه، إن لزم الأمر، وهو ما يفتح المجال للانتحار كما هو شائع في المذهب الرواقي. كما أن كرهه للعنف لم يجنّبه اضطهاد المسيحيين، أو على الأقل لم يمنع اضطهادهم إبّان حكمه. ومن يدري؟ قد يبرّر ذلك بدواع أمنية!
[1] ماركوس أوريليوس، التأملات، ترجمة عادل مصطفى، دار رؤية، ط أولى 2010م، القاهرة.
[2] Gusdorf Georges: Auto-bio-graphie. Lignes de vie 2. Paris, O.Jacob. 1990
يعتبر "جورج غوسدورف" [1912م - 2000م] أحد الفلاسفة القلائل – إن لم نقل: الفيلسوف الوحيد- الذين اعتنوا بحقل السيرة الذاتية: تأليفا وبحثا وتنظيرا. إذ قد خصه بمجموعة من المؤلفات والمقالات القيمة.
[3] Camarero Jesus: La théorie de l’autobiographie de George Gusdorf. Cédille; n⁰4; avril; 2008. P61
[4] انظر: جورج ماي، السيرة الذاتية، تعريب محمد القاضي وعبد الله صولة، ط أولى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2017م، ص24
[5] محمود رجب، فلسفة المرآة، ط أولى، دار المعارف، القاهرة، 1994م، ص 225
[6] سيلفرمان ج هيو، نصيات بين الهرمينوطيقا والتفكيكية، ترجمة حسن ناظم وعلي حاكم صالح، المركز الثقافي العربي، ط أولى، الدار البيضاء، 2002م. ص 144
[7] نفس المرجع، ص 127
[8] نفسه، ن ص
[9] ن م، ن ص
[10] ن م، نص
[11] ن م، ص ص 127-128
[12] ن م، ص 128
[13] ماركوس أوريليوس، التأملات، ص 273. (من الدراسة).
[14] المصدر السابق، الخاطرة رقم 16، الكتاب الأول، ص 41. سنشير إلى الخواطر بالترقيم التالي رقم الخاطرة-رقم الكتاب، مثلا: 16-1.)
[15] انظر: عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، مطبعة لجنة التأليف والترجمة، القاهرة، 1940م، ص 207. وانظر كذلك: ماركوس أوريليوس، التأملات، مصدر سابق، ص 256-257. (من الدراسة).
[16] ماركوس أوريليوس، التأملات، مصدر سابق، ص260. (من الدراسة).
[17] عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، مرجع مذكور، ص207. وانظر كذلك: ماركوس أوريليوس، التأملات، مصدر سابق، ص 258. (من الدراسة).
[18] "Ce qu’il y a de triste, en effet, c’est que le jour de la mort de Marc-Auréle, si lugubre pour la philosophie et la civilisation, fut pour le christianisme un beau jour." Ernest Renan, Marc-Auréle et la fin du monde antique, Calmann Lévy (éditeur), Quatrième édition, 1882, Paris. p 491.
[19] ماركوس أوريليوس، التأملات، مصدر سابق، 29-9، ص 189
[20] المصدر السابق، 9-8، ص 160
[21] المصدر السابق، 10-10، ص205. والصرامطة هي قبيلة جرمانية ثائرة حاربها ماركوس.
[22] المصدر السابق، 17-2، ص 53
[23] المصدر نفسه، 8-8، ص 160
[24] المصدر السابق، ص 28، الهامش 1
[25] ن م، 17-1، ص 38 و40
[26] ن م، 6-2، ص 46
[27] ن م، 7-2، ص 46
[28] ن م، 16-3، ص 66
[29] ن م، 26-5، ص 107
[30] ن م، 39-4، ص 83
[31] ن م، 1-2، ص 42
[32] ن م، 2-4، ص 68
[33] ن م، 11-4، ص 221
[34] ن م، 13-7، ص 138
[35] ن م، 3-4، ص 69
[36] ن م، 31-4، ص 80
[37] ن م، 11-12، ص 243