تأمّلات العلوم الإنسانية في العقل مقاربة إبستمولوجية في القضايا والمقولات


فئة :  مقالات

تأمّلات العلوم الإنسانية في العقل مقاربة إبستمولوجية في القضايا والمقولات

تأمّلات العلوم الإنسانية في العقل

مقاربة إبستمولوجية في القضايا والمقولات

المقدمة

يعدّ مفهوم العقل، رغم أنّه مبحث كلاسيكي في العلوم الإنسانية، أحد أكثر المفاهيم تداولا في زمننا الرّاهن، سواء أكان من قبل المتخصصين الأكاديميين ضمن دراساتهم الجامعية أم من قبل بعض المهتمين غير المتخصّصين. وقد زادت راهنيّة هذه الإشكالية في ظل العولمة التي أعادت تشكيل مدارات وعي الإنسان وإدراكه لذاته، وأثّرت بشكل لافت في وعيه والتعبير عن كينونته الفرديّة والجمعيّة. من المعلوم أنّ موضوع العقل وجد مع ظهور التفكير الفلسفي، وكان أحد مداخل اهتمام الفلاسفة ومجالا لتأمّلاتهم وتنظيراتهم الفكرية المجرّدة، ثم شهد تحولا مع بداية القرن السابع عشر نتيجة التقدم الكبير الذي عرفته العلوم الطبيعية والفيزيائية مع عصر الحداثة وبداية نجاح الإنسان في السيطرة على قوانين الطبيعة واكتشاف قوانينها والتحكم فيها بطرائق عقلانية. وكان لهذا التطور العلمي أثر كبير ونوعي في تغيير أسلوب فهم الظواهر الإنسانية نتيجة اعتماد المنهج العلمي في دراستها، خصوصا مع المباحث الإبستمولوجية التي نجحت، إلى حد ما، في الإخصاب المعرفي حول الإنسان، عندما وضعت شروطا جديدة في بناء المعرفة البشرية وحدودها من زاوية نقدية، كما أن تعدديّة زوايا النّظر إلى عالم العقل لا تتوافق مع المقاربات الجزئيّة التي تتبنى بعض الصّور أو رؤية ثابتة، ولم يعد يجدي فيه المعالجة البسيطة التي تكتفي بالنّظر في تعبيراته ولا تهتمّ بتشريح دوائره والولوج إلى أعماقها.

مازالت مسألة اتّساع مصطلح العقل وضيقه تطرح إشكالات مركّبة بين معناه الجزئي وبين معناه الكلي، ومدى اعتباره ظاهرة أو حالة جزئية أم يمكن اعتباره ظاهرة كليّة تشمل كافة مستويات الوجود الإنساني. لهذا، تظلّ خفايا العقل تثير كثيرا من الأسئلة، وتحتمل كثيرًا من التّأويلات في مختلف حقول العلوم الإنسانية التي تعتمد في دراساتها على عالم الواقع وليس عالم التّجريد. لذلك، اخترت "مفهوم العقل" موضوعا لهذه الدراسة لأبين من خلالها أن هذه المسألة المركّبة لا يمكن معالجتها عبر التخصّص العلمي والأكاديمي الأحادي، بل تستدعي الاستناد إلى عديد من التخصّصات من أجل وصف حقائق معينة أو معالجة الطبيعة البشرية التي لم تعد الفلسفة وحدها مهتمّة بها، وإنّما انخرطت فيها كل العلوم الإنسانية من علم الاجتماع وعلم النفس والحضارة والدين وغيرهم. وإنّ الوعي بهذه المقاربات النّظرية في دراسة العقل وتاريخ ميلادها وطرائق توظيفها يُعدّ مدخلاً منهجيًا وعلميًا رئيسًا لتضييق دائرة الخلاف في استخدام هذا المفهوم؛ لأنّ الافراط في استخدامه جعله عاما وغامضا وغير دقيق، بل فاقدا حتى لإجرائيته التحليليّة.

1 ــ المدخل الفلسفي

هناك اتفاق بين أغلب الدّارسين لتاريخ الفلسفة([1]) منذ ظهورها في اليونان، أنّه لم يكن لها موضوعا أو مبحثًا محدّدًا يمكن حصره في مسألة معيّنة أو في جانب محدّد من حياة الإنسان كما هو الحال بالنّسبة إلى العلوم الصحيحة التي ظهرت مع بداية عصر النهضة الأوروبية. فقد اهتمّت أبحاثها وتساؤلاتها منذ تأسيسها، في البحث عن "المعنى"، باعتبار أن المعنى في حياة الإنسان خصّيصة تميّز نمطه في الكينونة إلى درجة أصبح معها تعريفه بأنّه كائن رامز وكائن منتج للرّموز والدّلالات"([2]). فالفلسفة تبحث في كل ما يتعلّق بأسباب الوجود ومصادر القيم والمعرفة والعقل التي تميّز كينونة الإنسان. ورغم تعدّد مباحثها وتنوعها، فإنّ ما يجمعها هو المنهج العقلاني؛ أي اعتمدت أغلبها المنزع العقلاني في جميع تأمّلاتها الوجوديّة. والمقصود بالتأمّل هنا هو اعتماد التّفكير النّقدي العميق الذي يتجاوز التفكير الميتافيزيقي او الاكتفاء بالمظاهر الحسيّة للأشياء، لينفذ إلى باطنها ويتغلغل في أعماقها. فتاريخ "فلسفة العقل" قديم يعود إلى بدايات التّفكير البشري، وإن لم نعرف تاريخه بشكل محدّد. وبحسب ما ذهب بعضهم([3])، يعد كتاب "أرسطوطاليس" الذي يحمل عنوان "في النّفس" (On the Soul) أوّل بداية لانطلاق البحث في العقل كمسألة مستقلّة، على الرّغم من أنّه اهتم بدراسة النّفس الإنسانية ككل، إلا أنّ العقل كان حاضرا في اهتمام "أرسطو" في هذا الكتاب. فما يميّز الإنسان عن بقية الكائنات هو العقل أو "القوّة العاقلة" أو النّفس الناطقة كما يسمّيها. فإذا كان الإنسان والحيوان يشتركان في وظيفة الإحساس والإدراك الحسي، فإنّهما يفترقان حينما تبدأ القوّة العاقلة في الإنسان بممارسة وظائفها في التّفكير والتأمّل"([4]). كما أشار إلى أنّه إذا كان فعل التفكير شبه فعل شعوري، فإنّ الأول أكثر حريّة من الثّاني؛ لأنّ موضوعاته وأغراضه الكُليانيّة ليست خارج النّفس، كما هو حال المحسوسات، وإنّما هي بمعنى ما في النّفس ذاتها.

تعمّق المبحث الفلسفي لإشكالية العقل في العصر الحديث من خلال تأمّلات بعض الفلاسفة والعلماء لمشكلة العقل والجسد. فقد قسّم الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" (René Descartes) العقل إلى مادة فيزيائية ومادة ذهنيّة أو مادة التّفكير، وهي خاصية إنسانية مسؤولة عن ملكة الوعي لديه([5]). وقد عرف عن فلسفته التأمليّة فصله المطلق بين المادي والعقلي؛ فالجسد هو جوهر واحد والعقل هو جوهر آخر؛ لأنّه لا يمكن تصوّر كل منهما إلا من حيث امتلاكهما لسمات مستقلة بشكل تام، حيث يتميّز الجسد(المادّة) بالحركة والتمدّد المكاني، في حين يتميّز العقل بالفكر([6]). لذلك، يمثّل التّفكير جوهر الاشتغال الذّهني للعقل البشري، وهو عملية مواءمة بين إرادته وسماته السّلوكية والبيولوجية، وبين الأشياء والعلاقات الاجتماعية في بيئته المجتمعية. فالعقل يتعامل مع المدركات الحسيّة أولا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى بناء النّظم المعرفية بحسب تغير سياقاتها التاريخية والجغرافية. والعقل بالنسبة إلى المقاربة الفلسفية، مثلما ذكر بعضهم([7])، هو مصدر للمعارف ومبدع لها، وهو مجرّد وعاء تصب فيه الأفكار والتصوّرات، وهو أيضا قوة فاعلة في توجيه وبناء رؤى الإنسان الفلسفية، وهو من زاوية مغايرة مرتكز أساسي للقضاء على الإنسان وتعويضه أو تفكيكه؛ فهو مقولة فلسفية تحمل طابعًا إشكاليًا مركّبًا ومعقّدًا. ثم تواصلت الأبحاث لاكتشاف الوعي أو تفسيره لتعتمد فيها مداخل تأمليّة ومنهجية فلسفية عديدة.

ومنذ نهاية القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهرت الكثير من المحاولات التي اهتمّت بدراسة العقل وفق المناهج العلمية والتجريبية بروح نقدية. ومن رموز هذه "المدرسة الحسيّة" أو "النظرية الروحيّة" مثلما يطلق عليها بعض الباحثين، والتي انطلقت من نقد فلسفة ديكارت ومذهبه في التّمييز أو الفصل بين الجسم والعقل. فنجد مثلا "جون لوك" (John Locke) و"دافيد هيوم" (David Hume) وغيرهما من مختلف المذاهب الفلسفية الحديثة التي تناولت طبيعة الذّات، ومن الذين رفضوا أي دور للعقل إلا من خلال الحواس والتّجربة، باعتبارها هي أصل كل أفكارنا. فقد أشار "جون لوك" في دراسة له تحت عنوان "مقالة عن الفهم البشري" (1689 tanding Essay concerning Human underf) إلى أن الأريحيّة والتّعاطف والمشاركة الوجدانية والشعور الطبيعي تجاه الآخرين، كلها تسمى "الحاسة الخلقية"، وهي أساس الأخلاق الاجتماعية التي ألهمت الخطاب الفلسفي البريطاني طوال القرن الثامن عشر"([8])، وذكر أن من مغالطات الفلسفة القديمة والحديثة أيضا أنّها نظرت إلى العقل على أنه الدّافع الرئيس أو "المبدأ" الرئيس للسّلوك البشري، لأنّ العقل لا يستطيع وحده أن يهيمن على الإرادة والعواطف أو يقدم الدافع للفضيلة، بل يذهب إلى أن النّفس تختلف في طبيعتها عن الجسم، ولدى الإنسان ظواهر نفسية متعدّدة، وحالات عقلية مختلفة.. وليس ثمّة جوهر نفسي أو عقلي قائم بذاته([9]). وربّما كان التطوّر الرّئيس في أبحاث العقل والوعي خلال القرون الماضية، هو إثبات أهميّة العمليات النفسية التلقائية اللاّواعية في الإدراك الحسي، والذّاكرة، وفي الفعل عبر ما يسمى بـ "الإدراك اللاواعي".

وقد أثارت هذه المقاربات النقدية للفلسفة العقلانية مشكلة جديدة في دراسة الوعي؛ إذ كشفت بعض الدّراسات العلمية للعمليات الذهنيّة أنّ الوعي ليس ضروريا للتّفكير العقلاني. فالفيلسوف "جون لوك" كما ورد في مقالته التي أشرنا إليها سابقا حول الفهم البشري يعتقد أنّ الأريحية والتعاطف والمشاركة الوجدانية والشعور الطبيعي تجاه الآخرين كلّها تسمى "الحاسة الخلقيّة" وهي أساس الأخلاق الاجتماعية التي ألهمت الخطاب الفلسفي البريطاني طوال القرن الثامن عشر([10]). كما آمن الفيلسوف "ديفيد هيوم" (David Hume) بالعاطفة وبالحاسّة الخلقيّة، إذ يرى أنّ من مغالطات الفلسفة القديمة والحديثة هي أنّها نظرت إلى العقل على أنه الدّافع الرئيس أو المبدأ الرّئيس للسّلوك البشري؛ لأنّ العقل لا يستطيع وحده أن يهيمن على الإرادة والعواطف أو يقدّم الدّافع للفضيلة([11]).

من بين أهم ما كتب في مفهوم "الوعي" نجده في "موسوعة لالاند الفلسفية"([12]) الذي ورد على الشّكل الآتي: "إنّ الوعي هو حدس (تام نسبيا، واضح نسبيا) يوّنه العقل عن أحواله وأفعاله. ومن ثم، يصبح الوعي صِنْوا للعقل باعتباره ملكة جوهرية تميّز الإنسان وتمكّنه من إدراك ذاته والتحكم في تصرفاته وأفعاله بقدر من الوضوح. أما بالنسبة إلى كانط، فمن سنن "العقل المحض" هو الصراع؛ إذ يقع العقل المحض في تناقضات وقوعا وجوبيا، في العلم العقلي للكون، عندما يبحث عن اللاّمشروط في الظّاهرة، وعندما يتناول تاليًا، العالم الخاضع لشروط الاختيار للتحديد نظريا. فملكة التّفكير بالنّسبة إلى "هيجل" هي في أساسها فعل سالب لما هو ماثل أمامنا على نحو مباشر، والقدرة على التّفكير السّلبي هي القوة الدّافعة للفكر الجدلي التي تستخدم أداة لتحليل عالم الواقع من خلال ما فيه من نقص باطن"([13]). أما البنى الذهنيّة، فهي تتضمن أبعادًا مختلفة (روحية وعاطفية ونفسية)، وهي سمات غير ملموسة تؤثّر في سلوك الفرد وتحدّد طرائق تعامله مع محيطه بما يحتويه من نُظم معرفيّة وقيم اجتماعية وأخلاقية ورموز...إلخ، بل هناك من يذهب إلى القول، بأنّ خير رهانات الفلاسفة لفهم العقل ومكانته في العالم هو أن ندير ظهورنا للفلسفة كليا، أي اعتبار فلسفة العقل هي، أو ينبغي أن تكون، أحد مكوّنات ما صار يعرف باسم العلم المعرفي أو العلم الإدراكي (cognitive science)([14]).

أما مع الإبستمولوجيا المعاصرة لـ "غاستون باشلار" (Gaston Bachelard) فقد انتقلت مسألة العقل إلى معطيات الثورة العلمية في مجال العلوم الرياضية والعلوم الفيزيائية بصفة خاصة. وهذا يؤكد أن آثار هذه الثّورة لم تمس بمبادئ تلك العلوم فحسب، بل لحقت أيضا ببنية الفكر الإنساني ذاته. فالعقل الإنساني في نظر "باشلار"، بنية لها تاريخ، وتاريخها في تطور معارفها. إن بنيتها العقلية تنتج المعارف ولكنها تخضع التاريخ لتأثير تطور هذه المعرفة، فتعرف هي ذاتها تطورا. إن العقل لا ينتج العلم فحسب، ولكنه فضلا عن ذلك يتعلم من العلم "فالعلم بصفة عامة علم العقل، وعلى العقل أن يخضع إلى العلم الأكثر تطورا([15]). ويجب أن تستند المعرفة العلمية بحسب باشلار إلى التجربة والبرهان العقلي. كما أن العقلانية بحاجة إلى التطبيق، لأن قيمة القوانين التجريبية تنبثق من قدرتها على "المعاقلة"، وهذا ما يضفي الشرعيّة على أحكام العقل في قابليتها للاختبار؛ أي المزاوجة بين العقلانيّة والتجريبيّة والانطلاق من المجرد إلى المحسوس، من العقلانية إلى الاختبار.

قبل أن نختم هذا العنصر المتعلّق بالمقاربات الفلسفية حول العقل، يمكن أن نشير إلى أحد رموز فلسفة العقل في تراثنا العربي والإسلامي، وهو الفيلسوف "ابن رشد الأندلسي" (1126م ــ 1198م) الذي له تصور أنثربولوجي متكامل فريد حول الإنسان عامة، وحول العقل خصوصًا. فقد قدّم هذا الفيلسوف من خلال دراساته ما يشبهه البعض بــ "جينيالوجيا" مفهوم العقل عند الإنسان؛ فالعقل هو قوّة مفارقة للأفراد، أي إنّه خارج نفوس الأفراد. ويميّز بين الوحدة الأنثربولوجية للعقل والتعدّد الابستيمي له بحسب وظائفه الفكرية: فهو عقل فاعل من جهة إنتاج المعقولات، أو المفاهيم الكليّة، وهو عقل هيولاني (مادي) من جهة تلقيه للمعقولات المجرّدة، بتدخل العقل الفاعل، من الصور الخيالية المتلقاة من الحواس والمخزونة في المخيّلة، وهو أخيرا عقل مستفاد من جهة المكتسبات المعرفية الاستعمالية أو المعارف العملية([16]). فالبشر عندما يفقدون مركزيّتهم في التحكّم في أفعالهم ويذوبون في أفضية تفكير جماعيّة وشموليّة، ويغرقون في الكلّ، فإنّهم يفقدون وعيهم وحريتهم أو استقلاليتهم الذاتيّة. فالتّفكير بالنّسبة إلى "ابن رشد" له ذاتان: الأوّل هو "الذّات الرّكيزة" أي العقل المتلقي للمفهوم، والثّاني يسميّها "الذات المحرّكة"، أي الصّورة التي تعطي الفكر محتواه وتربطه بالعالم وتشكّل شرط صدقه([17]). لقد كان لأطروحات "ابن رشد" محفّزات مهمّة في نشاط الفكر الفلسفي، وأفرزت عديد الاتجاهات المضادة التي هيّأت الطريق مباشرة أو بشكل غير مباشر، لميلاد أفق النّهضة الأوروبية. وكان صاحب موقف محدّد ورؤية فلسفية واضحة في مستوى دفاعه عن النّزعة العقلانية ضد الفكر المسيحي الكهنوتي، حيث زوّد ترسانة الفكر العربي الإسلامي بالعديد من الأسئلة في هذا الصراع"([18]).

تعدّدت دلالات مفهوم العقل وتشابكت مع مفاهيم محايثة له مثل "الذّهن" و"الوعي" و"الإدراك" وغيرها من المصطلحات الفلسفيّة الأخرى. ومن هنا تظهر العلاقة بين المعرفة الإدراكية في مختلف مستوياتها السيكولوجيّة والعصبية واللغوية والأنثربولوجية وأنماط الثّقافة مثلما أشار "عبد الله العروي" في كتابه "مفهوم العقل"([19]). فتعريف العقل من المعرفة، والمعرفة ظاهرة اجتماعية، أو بالأحرى واقعة اجتماعية مثل أية واقعة أخرى تمامًا مثل الأعراف الاجتماعية والنظم السّياسية، تحمل في أعماقها طابعا تاريخيا واجتماعيا. وهذا ما يسمى بــ "العقل الكلامي" المُقاد والمُساق والتابعي والمُصمّم من الخارج، محكوم بغاية مسبقة ومقيد بتراث مسبق أيضا. ومثلما أشار "عاطف العراقي" في تعقيبه على "العقل الكلامي" بقوله: "إنّ هذا الاتّجاه كان أساسًا اتجاها كلاميا جدليًا، لا يرقى في مستوى البرهان، وإنّ بضاعتهم التي يقدّمونها لنا، رغم امتيازها ودقّتها هي بضاعة الجدل، والجدل محكوم بوقته وظروفه إلى حدّ كبير"([20]). لقد عمل العقل البشري منذ القديم على كشف حقيقة العالم، وأثار عديد الأسئلة التي كانت وسيلته ومرتبطة بالمرحلة التاريخيّة لتطوّره النّفسي والعقلي، ومازالت بعض الأسئلة محلّ بحث وجدال بين الفلاسفة، لأنّهم بقدر ما يتّفقون في طرح الأسئلة، فإنّهم يختلفون في الأجوبة عنها.

2 ــ المدخل الدّيني الإسلامي

إنّ المتأمل في نص القرآن الكريم، يجد أنّه اشتمل على عشرات الآيات التي تدعو الإنسان إلى التعقّل، وحسن التدبّر في الحياة، وتدقيق النّظر قبل القيام بأي فعل أو انجاز أي عمل. وكلمة العقل في القرآن وردت في كل الآيات بصيغته الاسمية، أي وردت في كامل النصّ القرآني في صيغة الفعل، ومثلما ذهب بعضهم([21])، فإن مقصد القرآن هنا هو التّحفيز على عملية التّفكير والتدبّر. فقد استعمل القرآن الكثير من مصطلحات العمل الفكري في آياته؛ من عقل وفكر وفهم وإدراك وشعور وإحساس، وكان الاستعمال مشفوعًا بــحركة ولم يكن استعمالا تعريفيًا. ولمّا نعود إلى الاشتقاق اللغوي لكلمة "العقل" نجد أنّها ذات معاني متعدّدة، حيث جاءت بمعنى المنع عن التورّط في المهالك. قال ابن فارس: "العَيْن والقافُ واللاّم أصل واحد منقاسٌ مطّردٌ، يدلّ عُظْمُه على حُبْسَة في الشّيءٍ أو ما يُقارب الحُبْسةَ. من ذلك العقل، وهو الحابِس عن ذميم القول والفعل([22]). فالعقل، بحسب ما ورد في النص القرآني، هو عبارة عن حارس أخْلاقي باطني يراقب صاحبه ويمنعه من القيام بالأعمال السيّئة والمُهلكة سواء أكان لذاته أم للآخرين، باعتبار أنّ العقل يُنبّه صاحبه عن التورّط في ذميم الأقْوالِ والأفْعالِ.

والعقل بالنّسبة إلى النص الدّيني ليس شيئًا مستقلاً قائمًا بذاته عن بقيّة مكوّنات الإنسان الأخرى كما اصطلح عليه فلاسفة اليونان، وإنّما هو جزء من كينونة الإنسان التي ميزه بها وكرّمه عمّا سواه من سائر المخلوقات. وفي جميع معانيه يفيد التدبّر والتفكير والتبصّر والفهم، إذ يقول تعالى: "والله أخْرَجكُم من بُطونِ أمّهَاتِكُم لا تعْلمُون شيْئاً وجَعل لكُم السّمْعَ والأبْصَار والأفْئِدَة لعَلّكُم تَشْكُرون"([23]). وقد دعا القرآن الإنسان أن يكون مسؤولا عن أقواله وأفعاله التي سوف يحاسب عليها يوم القيامة، وليس هناك أي مخلوق مسؤولا عن أفعال غيره، كما أنّه ليس هناك من هو مؤهّل للقيام بهذه المهمّة يوم الحساب نيابة عن غيره. يقول تعالى: "أفَلَمْ يسِيروا في الأرْضِ فتَكُون لَهُم قُلُوب يعْقِلُون بِها أو آذَان يسْمعُون بها فإنّهَا لا تُعْمى الأبْصَار ولكِن تعُمى القُلوبَ التي في الصّدُورِ"([24]). وكذلك قوله تعالى: "وتِلْك الأمْثالُ نَضْربِها للنّاسِ وما يعْقلِها إلا العَالمِوُن"([25]). والأمثلْة كثيرةٌ التي وردت في النص القرآني التي تدعو الإنسان إلى التعقّل والتّفكير المتّزِن، والتي تحثّه على ضرورة استعمال عقله في جميع المسائل الحياتيّة مهما كانت بسيطةً.

كما دعا الإسلام والسنّة النبويّة الشريفة الإنسان إلى التفكير وضرورة تبيان الحقائق قبل الاعتقاد فيها أو تصديقها، كي لا يكون من الحمقى والمغفّلين الذين يتّبعون أهواءهم وعواطفهم كما وصفهم الله تعالى: "صمٌّ بُكْم عُمْيٌ فَهُم لا يعْقِلُون"([26])، بل لقد شبّه القرآن كل من يغفل عن استخدام عقله ونزّله منزلة الحيوان في قوله تعالى: "إنّ شَرَّ الدّوابِ عنْدَ الله الصُمُّ البُكْمُ الذِينَ لا يعْقِلُون"([27]). ودعت السّيرة النبويّة في عديد الأحاديث المسلمين إلى استعمال العقل؛ لأنّه لا أحد يمكنه أن ينوبه في القيام بهذه المهمّة وسوف يحاسب عليها كل إنسان مفردك وبما أتى من أفعال. فلْلعقل قيمة سامية في الدّين الإسلامي ومنزلة رفيعة ونعمة عظيمة ميزه بها الله تعالى عن سائر مخلوقاته.

لقد حرّر الإسلام المجتمعات البشريّة من عصر الظّلمات، عصر الاعتقاد في الأوثان والإيمان بالأساطير والخرافات، ودعاهم إلى تحرير عقولهم من جميع القيود التي تكبّلها، وإطلاقه في رحاب الاجتهاد والمعرفة الواسعة ليروا بأنفسهم ويتدبّروا ويبحثوا أسراره الكون، ويستخدموا عقولهم بكل حرية من أجل كشف هذه الأسرار لصالح البناء والتقدّم. فدائرة العقلانية في الإسلام شاملة ومتكاملة، وهي منظومة غير قابلة للتجّزئة، حيث تتضمّن الإيمان بالله وحده وممارسة الشّعائر الدينية وفرائضه، وفي الوقت نفسه تدعو الإنسان إلى تدبّر شؤون حياته وصنع مصيره بالعقل وليس بالنّقل عن غيره دون تأمّل. فلمكة التفكير عند الإنسان عملية كلية يقوم من خلالها بمعالجة عقلية للمدخلات الحسية الخارجية التي يتأثّر بها العقل: استدلالاً وحكمًا وفهمًا، عبر مهارة الإدراك والتّفكير العقلاني في معالجة المعلومات وتوظيفها في حياته. أما الانفعالات والعواطف فهي ليست إلا ردود فعل الإنسان الفسيولوجية والسيكولوجية التي تطغى فيها التأثيرات الحسيّة والتي غالبا ما تكون مخرجاتها سلبيّة في مختلف أوجه سلوكياته وتفاعلاته اليومية وتفكيره ونظرته إلى الحياة. ولهذا، عندما ننطلق من مقوّم العقل في تأمّلاتنا العلمية وفي بناء حضارتنا، كما دعانا إليه الدّين الإسلامي والسّيرة النبويّة والتراث الفلسفي الإنساني، يتأسّس المقوّم الرئيسي للفعل التّنويري والتطويري المتحرّر من أيّة سلطة أسطورية أو كهنوتية ودينية التي تتخلّل كُلاً من الوعي الفردي والجمعي في أساليب التفكير والسلوك السياسيين والممتدّة من الماضي على حساب بناء المستقبل. فالتّفكير العقلاني يضعنا في مجال الإبصار الموضوعي والتّأسيس العلمي للفكر الاستشرافي حول كل قضايانا الحياتيّة ويجنّبنا الوقوع تحت سلطة عوطفنا وأمزجتنا النفسيّة التي أصبحت تأثيراتها لافتة في تدبير شؤوننا اليوميّة وتحمل في ثناياها أسباب تخلّفنا العربي الذي نقطع معه بعد.

3 ــ المدخل السّوسيو ــ أنثربولوجي

يهتم علم الاجتماع بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية من جهة، وفهم الفعل الإنساني وتأويله من جهة ثانية من خلال رصد مختلف الدلالات والمعاني والمقاصد التي يعبر عنها هذا الفعل أثناء عملية التفاعل والتواصل الاجتماعي. ومن ثم، يعتمد علم الاجتماع على ثلاث خطوات منهجية أساسية هي: الفهم، والتفسير، والتأويل لدراسة جميع "الوقائع التي تنطوي على معقولية"([28]). ومن يتأمل في مناهج علم الاجتماع بدقة، فسيجد أن هناك منهجيتين مهيمنتين: منهجا علميا موضوعيا يتكئ على التفسير السّببي والعليَ، ومنهجا ذاتيا إنشائيا تأمليا وأخلاقيا وتأويليا يقوم على الفهم.

وتعدّ مسألة العقل تِيمة بحثيّة مركّبة ومعقّدة من حيث ماهيتها ومنهج دراستها في العلوم الاجتماعية، ومازالت تحظى بجاذبية وراهنيّة مع اكتساح ثورة الإعلام واتساع ظاهرة التطبّع مع العالم الرّقمي والانسجام العاطفي للأوهام المشتركة للأفراد وغلبة المزاج الجمعي على بنية الإنتاج الثقافي في مجتمعاتنا اليوم. فعلى الرّغم من أن تحصيل المعرفة نشاط فردي، إلا أنه يتصل بالواقع المجتمعي الذي ينتمي إليه. ليس هناك شكّ أنّ الفروق الفرديّة بين النّاس كثيرة جدًا، ولا شك أنّها تتقاطع بشكل واضح في حدود انتماءاتهم القومية والطبقية والمعرفية والجغرافية وما شابه ذلك. وإذا قصدنا بالعقل ما يقصده الفيسيولوجيون بـ "الذّهن"، فإنّ الخلافات الفردية تكون واضحة. أما إذا قصدنا به "العقل الجمعي" بالمعنى السوسيولوجي، فهناك فعلا مجموعات تشترك في الرّأي والعاطفة والعادات العقلية، التي تختلف عن المجموعات الأخرى. وليس من شكّ صدق ذلك إذا نحن حكمنا بـ "ثمار" النّشاط العقلي"([29]) الذي تعبّر عنه الفروق بين الشعوب في تدبّر ميادين حياتها. وتطرح هذه القضية إشكاليات فلسفية وإبستميّة عديدة منها: لماذا تحدث سلوكيّات كثيرة بلا وعي؟ هل يمكن أن يكون التّفكير جماعيا؟ هل ثمّة عوامل تُنضج التّفكير وأخرى تعطّله وتسطّحه؟ إلى أي مدى يمكن أن تمارس حواسنا خداعًا لنا في عملية إدراكنا الذّهني وإفساد عملية تفكيرنا؟ كيف تتشكّل الذهنيات الجماعية في المجتمع؟

ذكر العلاّمة ابن خلدون في المقدمة (كتاب العبر) أمثلة عديدة حول العلاقة الجدلية بين المجتمع وأنظمته الفكرية ونماذجه السّلوكية وعاداته وتقاليده، خاصة لمّا يميز بين حياة البدو وحياة الحضر. ففي كتابه "المقدّمة" حضر مصطلح العقل والنّظر العقلي في مفهومين. مفهوم أول مقبول محتاج إليه، وهو العقل الذي يستخدم لحسن استغلال الإنسان لبيئته الطبيعية التي "جعله الله خليفة فيها"، والموجّه لتنظيم حياته الاجتماعية حتى تبتعد عن المفاسد وتقترب من المصالح، حسب عبارته. ومفهوم ثان مرفوض مردود محارب، هو العقل المستقل عن سلطات خارجة عنه، والمنتج لحقائق لا تخضع إلا لمعاييره المعرفية والمنطقية تبعا لأفق التفكير الإنساني السائد في كلّ عصر ([30]). وقد اعتبر ابن خلدون، في باب "العلوم العقلية وأصنافها"، بأنّ هذه طبيعة للإنسان من حيث إنّه ذو فكر؛ فهي غير مختصّة بملّة بل يوجد النّظر لأهل الملل كلّهم، ويستوون في مداركها ومباحثها، وهي موجودة في النّوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة"([31]). فالمعرفة العقلية، بالنّسبة إلى ابن خلدون، هي ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون جهدًا فردياً؛ لأنّ العلم والتّعليم طبيعي في العمران البشري. كما أنّ العقل لا يورث ولا يكتشف إلا بالتّجربة المتجدّدة والمحسوسات، باعتبارها الأصل في عملية الإدراك للكليّات، فتجتمع تلك الكلّيات بعضها إلى بعض على جهة التّأليف فتحصل صورة في الذّهن كليّة منطبقة على أفراد في الخارج، فتكون تلك الصّورة الذهنيّة مفيدة لمعرفة أولئك الأشخاص"([32]). لقد شخّص ابن خلدون الذهنيّة العربية وخيالها في ضوء بيئتها الطبيعية والاجتماعية في العصر الوسيط، انطلاقا من البحث في أساطير الأوّلين، والوشائج العميقة التي تشد عناصر الماضي إلى الذّاكرة الجماعية المشتركة. وبيّن أنّ لكل مجتمع طابعه وأسلوبه الخاص في التفكير، وروحه وذهنيّته الجمعية المشتركة التي تكوّنت تاريخيا من خلال تجاربه الخاصّة وتفاعلاته مع الآخر، كما أشار في عديد المواضع من المقدمة إلى أنّ لكل واحد مرتبط بسلوك جماعي، وتعتبر الذهنية نقطة تقاطع بين الفرد والمجتمع، وتتطور من خلال طرائق معاشها وتحمل سمات وجودها وهويتها، وكأنّنا به، مثلما يقول عبد الله العروي، يجري نوعا من المطابقة تكاد تكون تامة بين نمذجة العقل، وهو مورفولوجيا المجتمع أي سوسيولوجيا العقل"([33]).

بهذا المعنى، تصبح "الذهنية الجمعيّة" أو الجماعية مرادفة لما أسماه عالم الاجتماع الفرنسي "أميل دوركايم" (Emile Durkheim) بـ "الضمير الجمعي"([34])؛ بمعنى أنّ الذهنية تحتوي العقليات والنفسيات والمشاعر، وعندما نتحدّث عن عقلية عامة تخصب الذّاكرة الجماعيّة التي لا يمكن حصرها بفترة تاريخية معينة. فالذهنية الجمعيّة التي تشترك فيها أي جماعة في سماتها الكبرى هي عبارة عن وعاء تختزن فيه المعرفة العقلية وغير العقلية؛ أي تحتوي كل صنوف المعارف المنطقية والخرافيّة وغيرها المتأصّلة في الجنس البشري عموما. والوعاء الذّهني المشترك يتكوّن من أساليب التّفكير والسلوك والعادات وغيرها التي تشكّل مادّة الحياة المشتركة بمخلف أوجهها النفسية والعقلية والعاطفية النيّرة منها والمُظلمة في تاريخ الشّعوب والأمم. ولهذا، فالذهنيّة الجمعية لا توجّه تفكيرنا فحسب، بل تشكّل شخصيتنا القاعدية وأنظمة اعتقاداتنا؛ فهي المصنع الذي تصنع داخله الأجهزة المعرفية التي يتم تركيبها في عقول النّاس. وتتكون تلك الأجهزة من منظومة مركّبة من المعتقدات والقيم والأخلاق وطرائق للتّفكير وأنماط وأدوات التحليل والمفاهيم والثقافة وغيرها من العوامل الحضارية التي تشارك في هندسة عقول النّاس، والتحكّم في اتجاهاتهم ومواقفهم حيال القضايا والأحداث التي يتعرّضون لها في تجاربهم الحياتيّة. كما تضبط الذهنيّة الجماعية قواعد السّلوك والقيم المقبولة أو المرفوضة في المجتمع، وتقلّ مستويات الاستبطان لها أو تكثر بحسب قوّة التّوجيه الجماعي للأفراد من قبل هذا المجتمع.

ليس هناك شكّ في وجود عوامل عديدة متشابكة ومعقّدة تتحكم في ديناميّة التحوّلات الفكريّة أو في الرّكود الذي يعيشه مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة عبر الثقافة وأساليب الحكم التي تطبع السيكولوجية الجمعية للشّعوب...إلخ؛ إذ لا يوجد نسيج ذهني جماعي يكون راكدا ومعطّبا وآخر متحرّكا، وإنّما التّفاعل بين مكوّناته الذاتية ومحيطه الاجتماعي هي التي تمنحه الحياة أو الموت. وفي المحصّلة، يساهم التّفكير الجمعي في تشكيل هوية المجتمع في مختلف مستوياتها المعرفيّة التي تجعله متمايزًا عن غيره من المجتمعات، في نظام حياته الاجتماعية وثقافته ومستوى تطوره بشكل عام...إلخ.

في مقابل المقاربة الدوركايميّة، نجد مقاربة عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" (Max Weber) الذي جعل من العقلانيّة مذهبا ومنظومة فكرية ومنهجية في قراءته لبنية النّظام الرّأسمالي، والتي تجسّدت في مختلف تصورات الإنسان وأسلوب حياته الماديّة والفكريّة، ولكن يختلف حضورها بحسب تغيّر بنية النظام الاقتصادي للمجتمعات ما قبل الرأسمالية، فما يبدو عقلانيا من وجهة ما، يمكن أن يظهر لا عقلانيا من جهة أخرى. إذ يقول: "ما هو عقلاني من وجهات النّظر هذه يمكن أن يصبح لا عقلانيا من زاوية أخرى"([35]). فالعقْلنة أو الترشّد الذّهني ليست عملية محسومة أو مطلقة في حياة الإنسان، بصفته يظلّ يجمع في سلوكه بين خاصيتي العاطفة والعقلنة. لذلك، لم يبحث فيبر عن معنى العقلنة من زاوية فلسفية، وإنّما درسها انطلاقا من التّجربة الرأسمالية وقياس الفعل والسّلوكيات في الحياة الاقتصادية والدينية وتأثيراتها في أوجه الأنشطة الإنسانية الأخرى. فالعقلنة إذا نظرنا إليها كنزعة سلوكية فهي عملية معقّدة؛ لأنّ النّشاط الإنساني غائي بطبعه، وهو مفتاح تفكيك التصوّر المعقد للعقلنة عبر مظاهره العملية. فالإدارة البيروقراطية في المجتمع الرأسمالي مثلا، تهيمن على المجتمع بفضل المعرفة المتحرّرة من الهيمنة الذاتية للأشخاص، وهي خاصيتها العقلانية الأساسية.

من الثّابت أنّ الطّقوس و"النماذج البدائية" (archetypes)([36]) كما عرفتها الثّقافات القديمة كانت تمارس أشكالا عديدة من الهيمنة الرمزيّة للسّيطرة على عقول النّاس وتشكيل معتقداتهم وتوجيه سلوكياتهم في المجتمع؛ أي إنّها تضبط طريقة تفكيرهم وتفاعلاتهم مع الواقع، بل إنّها تستهدف فرض الولاء والطّاعة والخضوع التام لحامل هذه الطقوس والقيم. وفي الحضارات القديمة لم يكن النّاس يتفكّرون في رموزهم، بل كانوا يعيشون وهم خاضعون لهم ــ بلا وعي منهم ــ ولسلالتهم وأفعالهم التي تتدخّل في توجيه حياتهم الخاصّة والعامة. وبالتّنشئة على هذه الطّبائع وثقافة الطّاعة، يكتسب القادة في المجتمع قيمة رمزيّة عليا قد تصل أحيانا إلى منزلة القداسة. لهذا، يستحيل أن تغيب ثقافة التّرميز عن أيّة وضعية وجودية للإنسان عبر التاريخ، مثلما أكّد ذلك علماء الإناسة في أبحاثهم.

إنّ الذهنيّة /العقليّة مسألة بحثية اجتماعية مركّبة، باعتبار أن التصوّرات الفكرية هي منتوج جماعي تعبر عن وقائع إنسانية مشتركة تحتاج إلى الرّصد والفهم العلميين الذي تتقاطع فيه مداخل منهجية متعدّدة. فمشاعر النّاس وسلوكيّاتهم لا تولد إلا ضمن التّفاعل الاجتماعي، وهي التي تعيد إنتاج أو استحضار التّراث الفكري والثّقافي بما هو إنتاج للسّلف ضمن أنظمته الفكريّة وسماتها الذهنيّة، والتي يمكن ملاحظة تشكّلاتها يوميا من خلال تميز العقليّة الجماعية للمجتمع عن غيره من المجتمعات، حتى يبدو "كلّ شيء مشتركا بين الجميع، فنجد من يؤدّون نفس الحركات ودود الأفعال، وهذه الامتثاليّة في السّلوك لا تعبّر إلا عن امتثاليّة في الفكر، فتظهر مادّة هذا الفكر عارية وتعرّض نفسها للملاحظة التي لا يحتاج إلى جهد كبير لاكتشافها"([37]). إذًا، فالعقليّة الجماعية، هي عبارة عن مجموعة من النّظم الفكريّة والروحية والاجتماعية التي تؤطر نشاط الأفراد والجماعات التي تنتمي إلى حضارة ما أو مجتمع ما في حقبة زمنية محدّدة وفي حقل معرفي معين. كما أن هذه العقليّة / الذهنيّة تعبّر عن الثقافة المشتركة التي تشكّلت عبر التجارب التاريخية وهي قابلة للتغيير وإن كان عبر مخاضات صعبة ([38]). فالمسألة تتعلّق بقواعد سلوكية نتيجة خصوصيّة التّجربة والتفّكير والممارسة في الحياة اليومية لأي مجموعة (أمة، قبيلة، طائفة)، وإنّ هذه القواعد والمبادئ تعمل على تأطير نشاطها الحياتي في شموليّته لتطبعه بنكهة خاصة بها. وإذا كان العقل في مفهومه المجرّد كما يقول "محمد عابد الجابري" هو "أداة للتفكير"([39])، فإنّ الذهنية الجمعية تحيل إلى مجموع السّمات المشتركة المتصلة بالتفكير كما يعبر عنها الأفراد في المجتمع؛ أي السّمات ذات الصلة بصيغ التفكير المعتمدة جماعيا، وبين الذهنية والوجدان الجمعي الكثير من التشابه، بوصفهما نتاجا لسلسلة من النماذج المكتسبة والموروثة عن أسلافنا الموجّهة لسلوكياتنا الرّاهنة. وهذه الذهنيّة الجمعيّة بحسب "فريدريك معتوق" ناتجة عن تجارب وخبرات متراكمة ومرتبطة بحقول ومواقف مماثلة للحقول والمواقف الأخلاقية السياسية والاقتصادية والثقافيّة المعاصرة"([40]). من المؤكّد أن الشّعوب تختلف في ذهنياتها وأمزجتها النفسيّة وتمثّلاتها الاجتماعيّة، لأنّها تختلف عن بعضها في مسارات تكوين هذه الذّهنيات والأمزجة النفسيّة والتمثّلات الاجتماعيّة التي تشكّل كلّها مجتمعة ما تسمّى بــ "روح الشّعوب"([41]) أو ضميرها الجمعي.

لكلّ أمّة روحها وحسّها المشترك: طابعها الذّهني والثّقافي والنّفسي المميّز، ولها أسلوبها في التّفكير والنّظر إلى الحياة. وهذه الرّوح المميّزة تتشكّل عبر التاريخ بشكل تراكمي إلى أن تتحوّل إلى قوّة كلية غير مرئيّة، وكل ما تفعله الشّعوب يظلّ متصلا ومتأثّرا بها مهما بلغت مستويات تطوّرها المادي والثقافي والعلمي؛ فهي روح الشّعب التي لا تعلو عليها أيّة سلطة رمزيّة. بل يمكن أن نقول ما من سلطة (ثقافية أو سياسية أو رمزية..) إلا وتكون هذه الرّوح أساسًا لها وتظلّ سائدة حتى يتمّ هلاك الجهاز الجماعي، وكأنّما هي محرّك ومعطّل في الوقت نفسه، وهي تبادله التّأثير المستمر([42])، وهذه المفارقة اللاّفتة في الجدل بين هذين البعدين: التّحريك والتّعطيل، تدعونا إلى ضرورة تشخيصها وتحليلها ومعرفة أسباب اختلافها. فالتّفاعلات اليوميّة بين الأفراد والجماعات من شأنها أن تولّد سلاسل متناظرة من ردود الأفعال المتطابقة بشكل كليّ، بحيث تبدو الجماعة وكأنّها تسلك سلوك الفرد الواحد. وإنّ ردود فعل الفرد نتيجة تفاعله مع بيئته الاجتماعية (عائلية، اجتماعية، ثقافية، وسياسية..) تصدر عن "لاوعي الذّهن الجماعي" تحت تأثير رواسب التّنشئة الاجتماعية التي يتلقاها منذ الطفولة، ومن ثمّ يتغذّى ذهنه بمختلف أصناف المعارف والقيم والسّلوكيات ويتطبّع معها بما فيها غير المنطقية والسّاذجة والمُهلكة له أحياناً.

هذه المطابقة السوسيو ــ بنائية التاريخيّة للعقل الجمعي لا تتوقف على حقل دون غيره، بل تشمل جميع مناحي الحياة في المجتمع؛ إذ لا يكفي مثلاً، استجلاب المنظومات التكنولوجية لتحقيق التّنمية، بل لابدّ من توطينها وجعلها جزءًا من المنظومة العقليّة والذّهنية والرمزيّة الفاعلة في المجتمع"([43])؛ لأنّ الحواضن الذهنيّة هي التي تشكّل الحقول المعرفيّة وأساليب التّفاعل الاجتماعي، وهي التي تشكّل المواقف والقيم والنّظم الثقافيّة والسياسية الرمزيّة في المجتمع. وبالتالي، فإنّ تشكّلات المشهد السّياسي مثلاً، من زاوية سوسيولوجية، ليس محصّلة للعقل فقط، بل هو أداة من أدوات التّفاعلات الاجتماعية غير العقلانيّة وأحد تعبيراتها اليومية أيضا. ومن هنا ظهرت الانتقادات التي واجهت التّعريفات الكلاسيكية للعقل التي تنظر إليه كنسق ذهني مغلق، واقتصاره على الجوانب الرّشيدة للسّلوك الإنساني مع إغفال واضح للجوانب غير الرّشيدة أو غير الواعية واللاشعورية بالمعنى الفرويدي للكلمة.

4 ــ المدخل البسيكولوجي

تعد مباحث العقل ضمن "اللّسانيات النفسيّة"([44]) من أبرز الميادين التي تتداخل فيها التخصّصات العلمية في العلوم الإنسانية؛ فهي تخصص متعدّد المداخل المنهجية والمعرفية في علم النّفس والاجتماع والأعصاب والأنثربولوجيا.. إلخ. وهذا المبحث المعقّد يستهدف، في إطار المقاربة النّفس ــ اجتماعية، دراسة الجذور الثقافيّة العميقة لهذه النفسيّة، وتعرية آخر ما توصّلت إليه مقاربات العلوم الإنسانية من حقائق حول ظاهرة الاستلاب الفكري والمعرفي والتغريب النّفسي للذات الإنسانيّة في مجتمعاتنا المعاصرة، حتى تحولت هذه الظاهرة المرضية (الاستلاب أو الاغتراب) إلى طبع مجتمعي لما بعد حداثي، وأفرزت، مثلما يرى بعضهم([45])، توجّها جديدًا كل الجدّة، لم يسبق له مثيلا في تاريخ الإنسانية. ولأن علم النّفس هو الدّراسة العلمية للسّلوك والعمليات العقلية"([46])، فإنّ الدّراسات النفسيّة تعمل من أجل وصف النّموذج الشخصي الجديد وإظهار ديناميكيّته النفسيّة، والعمل على التّمييز بين التفكير والإدراك الواعي واللاّواعي، ولا يكتفي بالوعي اليومي للنّاس، بل يتساءل عن معاش الأنا اللاّواعية([47]) انطلاقا من فهم أعماق الذّات البشرية ودواخلها غير المرئيّة. وكما يقول "غي روشي" (Guy Rocher) إنّ الانتماء إلى قيمة ما من القيم ليس نتيجة حركة عقلية ومنطقية فقط، وإنّما هي أيضا مزيج من الاستدلال البرهاني والحدسي والعفوي المباشر، تقوم فيه الانفعالية بدور كبير"([48]).

كشفت عديد الدّراسات المعاصرة المختصّة في علوم النّفس والأعصاب، والتي اهتمت بالعلاج النّفسي المعتمد في تشخيص بعض الأمراض العصبيّة، أن تمثّلات ومضامين تفكير معينة تؤثّر في المعاش النّفسي إيجابيا أو سلبيا. وأن مثل هذه المعارف قد غيرت جذريا تصوّر غالبية الناس اتجاه التّلاعب والتقنيات الإيحائية"([49])، فأصبحت الإشارات الكلامية هي الرّابط الفيزيائي الوحيد بين السّامع والمُتكلّم نقطة حاسمة من النّاحية اللّسانية النفسيّة. ففي كل حاسة من حواس النّاس هناك فارق بين المثير الفعلي (الإشارة الفيزيائية) الذي يدهم أعيننا وآذاننا، والمدرك الذي يقوم الدّماغ ببنائه حينما نقوم بتأويل ذلك المثير"([50]). لقد نجح "سيقموند فرويد" (Sigmund Freud) في اكتشاف ما يسمى بـ "العقل الباطن"، وهو اكتشاف جليل الأثر في تاريخ علم النّفس؛ فقد تمكّن من خلال هذا المفهوم من كشف العقد أو المركّبات النفسيّة التي تؤثّر في سلوكياتنا اليوميّة. ومن ثم أعطى "فرويد" مكانا للتّأويل في ما يتعلّق بالتدرّج المكاني للاّشعور، وبما يتعلّق بالقواعد التي وضعها ليفحص كل ما يقال خلال سلسلة الكلام. كما كتب حول "نظريّة وحدة النّفوس"([51]) بوصفها عقيدة لنشر الفكر وتعميمه على المستوى الاجتماعي التي تكشف تصرّفات البشر غير الواعية. فوحدة النّفوس هي التي توحّد الجمهور، وتحيي "لوغوس" (Logos) الإنسانية كلّها مجتمعة، والتجمّعات الغفيرة، حتى أنّنا من وراء العقل الوحيد تتشكّل "النّفس الجماعيّة" التي نشاهدها أمامنا. وإنّ موضوعها الحقيقي ليس هو الإنسان المفرد، بل هو مجموعة النّاس باعتبارهم جمهورا ذا عقليّة ونفسيّة مشتركة.

كما اهتم علماء نفس آخرون مثل الإيطالي "سيوبيو سينقل" ((Sciopio Sighele : 1868-1913 بـدراسة "سيكولوجيا الحشود" والفرنسي "غوستاف لوبان" (Gustave Lebon) (1841ــ1931) في كتابه "علم النّفس الحشود" (1895)، وتبنّى كل منهما الرؤية القائلة بإمكانية التحكّم التوجيهي التّضليلي في المجتمع عبر أساليب التّواصل وحدها. كما أشار عالم النّفس الاجتماعي "أرفنغ غوفمان" (Erving Goffman) إلى شكل من المعرفة العمليّة للتّواصل الاجتماعي التي تتعارض مع المعرفة الإدراكية([52]). فهناك منطق مغاير لفعل التّفكير النّظري. والمخيال الاجتماعي لا يبطل الواقع، بل على العكس من ذلك، فهو يتكئ عليه؛ لأنه يعتمد على الأحاسيس والمشاعر والعواطف لتظهر ما هو غائب، وتتمّ إثارته وإعادة تشغيله من خلال صيرورة "النّمذجة" idéalisation)) للقيم والسّلوكيات الاجتماعيّة. وطالما أنّ أحكامًا سياسية أو دينية عاجلة تنبع أساسا من التّفكير اللاواعي وردود الأفعال الحسيّة لها من المقدرة على حشد الجمهور والتركيز على جزء من عناصر الموضوع الذي يجري التحكّم فيه، والتّركيز على قسم من التّفاصيل لكي يتشكّل لدى الجمهور رؤية شاملة عنه.

من أبرز المفكّرين المنتمين إلى مدرسة علم النّفس التّحليلي، وممن بحثوا بعمق في ظاهرة غسيل العقل الجمعي نجد "غوستاف لوبان" (Gustave Le Bon) في كتابه المعنون بــ "سيكولوجيّة الجماهير" (Psychologie des foules)، حيث نظر إلى ظاهرة الحشود كبنية ذهنيّة ونفسية عامة تتحكم في أنماط السّلوكيات الجمعية. فعلم النّفس الجماعي الذي اعتمدته مقاربة "غوستاف لوبان" كان بداية مرحلة تأسيس جديدة في تاريخ دراسة مزاج الشّعوب أو روحها؛ فهو يشرح لنا جذور تصرّفاتنا العمياء والأسباب التي تدفعنا إلى الانخراط في جمهور ما وتحمس أشدّ الحماسة للزّعيم، فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة. كما يشير، في هذا الكتاب، إلى أوجه التّشابه بين بعض الطقوس الشعائريّة والممارسات الهَوسِيّة التخمُريّة، ويوضح مدى الأهمية والضّخامة التي يمكن أن تتّخذها أوهام الفكر السّحري أو العقائد اللاعقلانية. فقد قدم لنا مقاربة مهمّة في دراسة الأعماق البشريّة، سواء أكانت بالنسبة إلى الفرد أم الجماعة، وتتمثل هذه الأعماق في "اللاوعي"، كما أنّ قوانين علم النّفس، بالنّسبة إلى "غوستاف لوبان" (G. Le Bon)، هي بنفس حتمية قوانين العلوم الصّحيحة. وإذا ما استوعبنا هذه القوانين أو المداخل المنهجية في تفسير العوامل النفسيّة في توجيه سلوك الإنسان، عرفنا كيف نحكم الجماهير ونقود مخيّلتها وعقولها الجمعية. ومن ثم، فإنّ أسوأ أشكال السّيطرة على العقل هي تلك التي تستهدف قدرة الفرد على استخدام عقله واللّجوء إلى مشاعره وعواطفه، أي تسلب منه مركز قيادته للعقل عبر وسائل متعدّدة بهدف تشكيل الشخصية القاعدية للإنسان وفق أهداف محدّدة مسبقًا. وتظهر هذه العمليات الاستلابيّة للعقل التي تستهدف التحكّم في السّلوك والمعلومات والأفكار والمشاعر خاصّة عند الأنظمة الاستبداديّة والمنظّمات والأحزاب المغلقة والطوائف الدينيّة والمذهبيّة التي تعمل على عزل أتباعها والتّلاعب بالمعلومات ليخضعوا إلى "التّلقين" من قبل قادتهم عوضًا عن "التّفكير" أثناء عمليات التّجنيد في مختلف المعارف الفكرية أو الحروب العسكرية (تجنيد المقاتلين، استخدام الجواسيس الأوفياء..). لهذا، ينبغي النّظر إلى السيكولوجيا الجماعية والإحساس اللاّواعي بخشوع الجماهير إليها باعتبارها تشكّل "مرض الحياة العاديّة" (Pathologie de la vie normale) عند الإنسان المتكيف اجتماعيا؛ لأنّه غريب عن إمكانياته الخلاقة الذاتية"([53]) أو المتفرّدة.

على مرّ التّاريخ الإنساني، اكتست عمليات السّيطرة على عقول النّاس مسميّات عديدة، تستهدف كلّها هدفا مشتركا هو السّيطرة على أفكارهم كي تسهل عمليّة التحكم في تصرفاتهم وأفعالهم.. فغسيل المخ، والإكراه، وإعادة برمجة العقل والسّيطرة على الجماهير.. كلّها طرائق تستعمل لإرباك أفكار الفرد ومعتقداته"([54]). لقد تطوّرت الوسائل التي استخدمت للسّيطرة على عقول الجماهير منذ بداية القرن الماضي، وهو ما أطلق عليها عالم النفس "كارل غوستاف يونغ"(Carl Gustave Jung) عبارة "الاستحواذ الجمعي" (Collective Possession)([55]) على نطاق واسع في الماضي ومازالت تستخدم هذه الاستراتيجية إلى اليوم، وسوف تظلّ تعتمد مستقبلا من دون أدنى شكّ في ذلك، سواء أكان عبر الثّقافة العامة أم بأدوات سياسية وإعلاميّة. وأمام النّجاح الكاسح الذي حظي به مصطلح "غسيل المخ" في كثير من الكتابات النقديّة المعاصرة، فقد جرى تداوله والاشتغال عليه خاصة في الحرب الباردة، ومازال يستخدم اليوم بتعبيرات جديدة في إطار وصف كل أساليب الهيمنة على الشّعوب بأشكال ناعمة خفية وغير مباشرة. فعملية غسيل المخ أو العقل هي محاولة للسّيطرة على كل ما يحتويه من أفكار ومعتقدات ومبادئ ومواقف تجعل عقله صفحة بيضاء وفارغة يكتب فيها المهيمن والقائم بعملية الغسيل ما يريده من أفكار وقيم تخدم مصالحه.

إذا كان الانفعال الفردي يمدّنا بالكثير من المعلومات حول سمات الشخصيّة التي تتعلق بطبيعة الفرد المنفعل، فإنّه يُعدّ أيضا ظاهرة اجتماعية. ويبدو أنّ علماء النّفس المهتمين بهذا المجال، على قناعة بأنّ الانفعالات الأساسية يتم تفسيرها بأسلوب واحد في الثقافات المختلفة، وهو ما جعلهم يعتقدون أنّ هناك أساسا وراثيا قويا لتلك الانفعالات، ممّا يجعلها متشابهة لدى معظم البشر لمّا يكونوا في بيئة اجتماعية مشتركة، أي أنّ لكلّ ثقافة قواعدها وأعرافها وقوانينها الخاصّة التي تتحكّم في التّعبير الإنساني. وإنّ سلوك الحشود شبيها بما أدركه "باروخ سبينوزا" (Baruch Spinoza) من وجود الوحش العاطفي المُخبّأ تحت العقل البشري، والذي عندما يثار، يمكن أن يتصرّف بطريقة متهوّرة، بل ومدمّرة أحيانا، ويمكن أن يستحضر آلاف المبرّرات لسلوكه([56]). فلا شكّ أنّنا أصبحنا محكومين بسلطة "الطّاغية الخفي" (اللاوعي المضمر)، واشتداد الصّراع بين عقولنا وعواطفنا، إلى الحدّ الذي أصبحنا فيه ضحايا محرّكات ذهنيّة غير واعية، وبدون رقابة، مما يجعلنا عرضة للتّلاعب العقلي الخفي والمعلن معًا. يقول "أريك فروم" (Erich Fromm) إذا أردنا أن نفهم ديناميات العملية الاجتماعية، علينا أن نفهم ديناميات العمليات السيكولوجية العاملة داخل الفرد على نحو ما. وإذا أردنا أن نفهم الفرد، فإنّه يتوجّب علينا أن نراه في سياق الحضارة التي تشكّله"([57]).

إذن يتداخل علم النّفس ويتشابك مع الكثير من مجالات الدّراسات الإنسانية والاجتماعية الأخرى، بل ومع الكثير من جوانب حياتنا وأعمالنا اليوميّة ضمن مختلف أطرنا الاجتماعية. وبصرف النّظر عن أساليب الدّراسة التي يستخدمها الباحثون والمتخصّصون في مجالات العلوم الإنسانية، فإنّ قوتها الإقناعية تعود إلى الملاحظات المباشرة والدراسات الأمبريقية. إنّه لمن الصّعب على أي إنسان أن يولد وهو لا يمتلك القدرة على استقبال "منبّهات" أو "مدخلات حسيّة"، وأنّ هذه المدخلات ذات تأثيرات في قدرتنا على التفكير سواء أكان سلبا أم إيجابا. وبهذا المعنى، فإنّ الكائن البشري لا يستطيع التّفكير، ولا يمكنه تكوين وعيه بالذّات وبالآخرين، دون الخضوع إلى تأثيرات خارجية يتم استبطانها عبر "التمثّل" لهذه المدخلات واستيعابها assimilation)) بوصفها عملية "انغماد" واتّحاد في الطبيعة البشرية. وفي ذات المعنى، يشير "توما الأكويني" إلى أنّه لم يعد التمثّل استنساخًا وتكاثرًا فحسب، بل غدا أيضا إنتاجًا وإيلافًا وتوليًا، ويجعل من حياة الكائنات بالغة التنوّع والتكافل واقعا دائم الأصالة وخَلْقا متّصلا متواصلاً ([58]). فالعقل مسألة اجتماعية جدا، والتصورات الفكرية هي تصورات جمعية تعبر عن وقائع جمعية؛ فالمشاعر وسلوك الناس لا تولد إلا ضمن الجماعات، وهي التي تكرس وتعيد إنتاج وتشكيل حالات عقلية لدى هذه الجماعات.

الخاتمة

من خلال ما توصّلت إليه عديد البحوث النفسيّة والعصبيّة، بات من الواضح، وعلى نحو متزايد، أنّ نظرتنا لذواتنا وللعالم الخارجي الذي يساهم في تنشئتنا الاجتماعية، من حيث الإدراك والسّلوك والأحكام والقيم والعلاقات الاجتماعيّة التي تتأثّر على نطاق واسع بعمليات عقلية لا شعورية وليس بعمليات واعية فقط كما كنّا نعتقد. لهذا، ينبغي علينا الانطلاق من حياة البشر في نشاطهم الواقعي؛ لأنّه من خلال فهم سيرورة الحياة الواقعيّة، يمكننا استشراف انعكاساتها في ذواتنا وتتبع مساراتها والتحكّم في صيرورة تطورها في المستقبل. وانطلاقاُ من العلوم الإنسانية التي تعتبر من أهم المداخل لفهم السّلوك البشري، ينبغي أن نتخلى عن فكرة أن هذه التخصّصات مغلقة عن نفسها إغلاقا مُحكمًا وليس لأحدها شيء يمكن أن يقوله للآخر. على الرّغم من أهميّة العقل، فإنّ المشاعر الوجدانية مهمّة ومن صميم حياة البشر، إلا أنّها تُخفي عنُا معقولية العالم الموضوعي؛ فلا شيء أسوأ من وجدان مرتبط باللاوعي والوهمي، حيث تفقد فيه العقول البشريّة فاعليّتها شيئا فشيئا إلى أن تصبح شبه ميّتة ومعطّلة، حيث لا يمكنها أن تخرج عن نطاق سيطرة الوعي الجمعي المنسجم مع البيئة أو الموقف المحيط بالفرد والذي يشبه "الصّندوق الذّهني" الذي لا يمكنه الخروج عن إطاره أو يتمرّد عن أسلوب تفكيره.

إنّ الاستناد إلى العقل وحده في تنظيم الشّأن المجتمعي وتأثيره هي دعوة مفكّري عصر النّهضة وفلاسفته، التي شهدت فيها قطيعة ونقلة نوعيّة في تاريخ البشريّة، هي فكرة تدعو إلى إعادة تأسيس الاجتماع الإنساني على أسس العقل والقطع مع الخطابات اللاّواعية والدينيّة اللاهوتية والخرافية، أي القضاء على كل أشكال الهيمنة الذهنيّة القديمة وصنوفها باعتبار أنّ المشروع الأساسي لـ "فلسفة الأنوار" وقيم "الحداثة" يقتضي بناء الإنسان صاحب الاختيار العقلاني الحر الذي يستمد روحه من ذاته في تنظيم المجتمع وتدبير شؤونه. لقد قامت فلسفة العقل على أساس محوريّة الإنسان أساساً من خلال تفعيل الوعي بالذّات وعقلنة المعرفة بما يخدم مصلحته ويحفظ كينونته. فالأمر يتعلق هنا بداهة بأسلوب التفكير ولا شيء أكثر أهميّة من التفكير الواعي في ما نفعل، وإذا لم يكن العقل البشري يشكّل أساس التفكير الواعي، فما هي وظيفته إذاً؟

[1]ـ أنظر مثلا كتاب الطيّب بوعزّة، الفلسفة اليونانية ما قبل السّقراطية، مركز نماء للبحوث والدراسات، بيروت، 2013

[2]ـ الطيّب بوعزّة، م. ن، ص11

[3]ـ ورد في حيدر الباوي، اتجاهات العقل: دراسة في مدارس وآراء العقل ومناهج التفكير العقلي، مركز عين للدراسات والبحوث المعاصرة، الطبعة الأولى، 2017، ص11

[4]ـ ورد في، كتاب النّفس لأرسطوطاليس، ترجمة أحمد فؤاد الأهواني، المركز القومي للتّرجمة، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية، 2015، ص13.

[5]ـ إيفا إيلوز، حميميات باردة: تشكيل الرأسمالية العاطفية، ترجمة كريم محمد، صفحة سبعة للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 2021، ص96

[6]- Cf. Charles Adam et Paul Tannery, Œuvres de René Descartes, Paris, Imprimeur éditeur, 1909

[7]ـ البشير ربوح، مطارحات في العقل والتنوير. عبد الوهاب المسيري نموذجا، دار الفارابي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2012، ص9

[8]ـ ورد في غيرترود هيملفار، الطّريق إلى الحداثة: التّنوير البريطاني والفرنسي والأمريكي، سلسلة عالم المعرفة، العدد 367، 2009، ص 32

[9]ـ البشير ربوح، مطارحات في العقل والتنوير، م. س، ص77

[10]ـ غيرترود هيملفارب، الطريق إلى الحداثة: التنوير البريطاني والفرنسي والأمريكي، م.س، ص 32

[11]ـ غيرترود هيملفارب، الطريق إلى الحداثة: التنوير البريطاني والفرنسي والأمريكي، م. س، ص 32

[12]ـ انظر، أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، المجلد الأول، ترجمة خليل أحمد خليل، الطبعة الثانية، 2001

[13]ـ هربرت ماركيز، العقل والثّورة: هيجل ونشأة النظرية الاجتماعية، ترجمة فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970، ص19

[14]ـ جون هيل، مدخل معاصر إلى فلسفة العقل، ترجمة عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى 2017، ص23

[15]ـ غاستون باشلار، الفكر العلمي الجديد، ترجمة خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشرـ بيروت، لبنان، الط 1، 1985، ص 14

[16]ـ جون ــ بابتيست برونيه، ابن رشد المقلق، ترجمة جورج زيتاني، دار المدار الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 2021، ص8

[17]ـ جون ــ بابتيست برونيه، ابن رشد المقلق، م. ن، ص106

[18]ـ محمد المصباحي، اشكالية العقل عند ابن رشد، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1988، ص 20

[19]ـ عبد الله العروي، مفهوم العقل، م. س، ص189

[20]ـ عاطف العراقي، ثورة العقل في الفلسفة العربية، دار المعارف القاهرة، 1984، الطبعة الخامسة، ص19

[21]ـ ورد في عبد الله الربابعة، "العقل ومكانته في الكتاب والسنّة"، مقال منشور على الموقع الإلكتروني "دار الإفتاء" www.aliftaa.jo بتاريخ 22/12/2016

[22]ـ ورد في عبد الله الربابعة، "العقل ومكانته في الكتاب والسنّة"، المرجع نفسه.

[23]ـ القرآن الكريم، النحل، الآية 78

[24]ـ القرآن الكريم، الحج، الآية 46

[25]ـ القرآن الكريم، العنكبوت، الآية 43

[26]ـ القرآن الكريم، البقرة، الآية 171

[27]ـ القرآن الكريم، الأنفال، الآية 22

[28]- Marcel Mauss, Essai de sociologie, Paris,éd Minuit, 1971, p.6

[29]ـ كرين برنتن، أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي، ترجمة محمود محمود، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2020، ص45

[30]ـ ناجية الوريمي بوعجيلة، حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية، دار الجنوب للنشر، تونس، 2008، ص57

[31]ـ عبد الرّحمان ابن خلدون، المقدّمة، دار العودة، بيروت، لبنان، 1996، ص379

[32]ـ عبد الرّحمان ابن خلدون، المقدّمة، نفس المصدر، ص388

[33]ـ عبد الله العروي، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة الأولى، 1997، ص153

[34]- Emile Durkheim, De la division du travail social, Paris, Félix Alcan Editeur, 1893

[35]ـ ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990، ص12

[36]ـ آلان كومبس ومارك هولند، التزامن: العلم والأسطورة والألعبان، ترجمة ثائر ديب، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الثانية 2008، ص16

[37]ـ أميل دوركايم، الأشكال الأوليّة للحياة الدّينية، ترجمة رندة بعث، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، الطبعة الأولى 2019، ص24

[38]ـ غالب حسن الشابندر، العقل: قراءة في إشكالية العقل عبر المدارس الفلسفية المتنوعة ج1، مؤسسة المثقف العربي، سيدني، أستراليا، الطبعة الأولى 2014، ص13

[39]ـ محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1984، ص15

[40]ـ فريدريك معتوق، "الذهنية والعقليات"، الديار، لبنان، 29 ــ30\4\1994، ص17

[41]ـ أندريه سيغفريد، روح الشعوب، ترجمة عاطف المولى، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، قطر، الطبعة الأولى، 2015، ص12

[42]ـ برنار غروتويزن، فلسفة الثورة الفرنسية، ترجمة عيسى عصفور، منشورات بحر المتوسط وعويدات، بيروت/باريس، الطبعة الأولى، 1982، ص44

[43]ـ المنصف ونّاس، "الدولة الوطنية وتجربة التّحديث: المغرب العربي نموذجا"، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد100/101، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1993

[44]ـ إيفا م. فرنانديز وهيلين سميث كيرنر، أسس اللّسانيات النفسية، ترجمة عقيل بن حامد الزّمالي الشمري، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، لبنان، ط1، 2018

[45]ـ راينر فونك، الأنا والنّحن: التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة، ترجمة حميد لشهب، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2016، ص11

[46]ـ كينيث ت. سترونجمان، علم النّفس في حياتنا اليومية، ترجمة معتز سيد عبد الله، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى2015، ص20

[47]ـ راينر فونك، الأنا والنّحن: التحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة، م. س، ص25

[48]ـ Guy Rocher, Introduction à la sociologie générale. L’action sociale, Bibliothèque Québécoise, 2012, p.132.

[49]ـ إيفا م. فيرنانديز وهيلين سميث كيرنز، أسس اللسانيات النفسية، م. ن، ص65

[50]ـ إيفا م. فيرنانديز وهيلين سميث كيرنز، أسس اللسانيات النفسية، م. ن، ص49

[51]ـ سيغموند فرويد، علم نفس الجماهير، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى 2006، ص124

[52]- Erving Goffman,Behavior in Public Places: Notes on the Social Organization of Gathering,( New York, The Free Press, 1963), p.17

[53]ـ راينر فونك، الأنا والنّحن: التّحليل النفسي لإنسان ما بعد الحداثة، ترجمة حميد لشهب، جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 2016، ص32

[54]ـ ماري د. جونز ولاري فلاكسمان، حروب العقل، ترجمة نور الدائم بابكر أحمد، العبيكات للتّعليم، المملكة العربية السعودية، 2017، ص17

[55]ـ كارل غوستاف يونغ، التنقيب في أغوار النفس، ترجمة نهاد خياطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1996، ص11

[56]ـ جوست ابراهام وماورتيز ميرلو، اغتصاب العقل: سيكولوجيا التحكم في الفكر، ترجمة أدهم وهيب مطر، تمور ديموزي للطّباعة والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2018، ص104

[57]ـ أريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان، 1972، ص10

[58]ـ أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، م. س، ص101