تأملات في أوضاع المرأة في عالم يمور بالتحولات
فئة : مقالات
تأملات في أوضاع المرأة في عالم يمور بالتحولات[1]
إن موضوع المرأة موضوع خلافي؛ ذلك أنّ طول ملازمتي له كشفت لي عدم اتفاق اثنين في شأنه؛ فقد تجاذبته الآراء شرقا وغربا، ويمينا وشمالا، ليس لغموضه، بل لأنّه مثار خلاف بين فقهاء المجتمع، والدين، والسياسة، والأدب، فما أن يريد أحد إثارة الحريات العامة، والمساواة بين الجنسين، والمشاركة، والتمكين الاجتماعي، والحقوق المدنية، إلا وينشب نزاع لا نهاية له بين قبول ورفض، وبين استحسان واستهجان، فحال المرأة يتنزّل في هذه الهوّة الفاصلة بين مجتمع ذكوري لم يؤهّل للاعتراف بها، ومجتمع نسوي منقسم على نفسه بين النساء أنفسهن، فما زال قسم لا يستهان به من النساء ينتج الثقافة الذكورية، ويدافع عنها. ولا بد من الفصل بين وضع المرأة في الإسلام، وما منحها من حقوق في مختلف مناحي الحياة، وبين تجلياته في الأنظمة التي اتخذت من الإسلام السياسي هويّة لها، ففي حين أرادت تلك الأنظمة تطبيق قيم الإسلام وشرائعه في الحياة العامة والخاصة على حد سواء، نجدها عملت على إقصاء المرأة، وتأطير دورها في أمور محددة، وحرمتها من حقوقها التي أقرّها الإسلام.
وإلى ذلك، فإن الحروب والنزاعات في منطقة الشرق الأوسط، أعادت عجلة الزمن إلى الوراء، ففي ظل الصراعات المختلفة التي شهدناها، حدث تدمير ممنهج لكثير من البلدان والأماكن، وقبل ذلك الإنسان، وفي ظل هذا التدمير نال المرأة ما نالها، ففقدت كل المكاسب التي تحصلت عليها في مسيرة كفاحها الطويل، وقد تلاعبت بها الأنظمة المختلفة، وسعت إلى تسييس قضيتها، فاتخذت منها غطاء لهويتها، ولم تسلم من هذا التلاعب فيما مضى، فنظام العلمانية في تركية على سبيل المثال، فرض السفور على المرأة، ومع انتصار الثورة الدينية في إيران فرض الجادور عليها، ومع تنظيم داعش فرض النقاب على المرأة، وتعرضت للسبي، وبيعت في أسواق النخاسة، ما يعني أن المشكلة ليست في الإسلام السياسي فحسب، بل في كل نظام يتخذ المرأة وسيلة لتنفيذ أجندته.
وواقع الحال، أن كل ما مرّت به المرأة، وما تعرضت، وتتعرّض له يرجع، في تقديري، إلى الثقافة الذكورية التي لم تعترف حتى اليوم باستقلالية المرأة بوصفها كائنا حرًّا مساوياً للرجل في الحقوق والواجبات، التي ضمنها لها الشرع، وجاءت التفسيرات الدينية والمجتمعية مجحفة في حق المرأة، مستجيبة للثقافة الذكورية التي تسهم في تعزيز سلطة الرجل وهيمنته وملكيته، والتعامل مع المرأة بوصفها تابعا للرجل، وليست كيانا مستقلا بذاته، ولذلك حينما تأتي أي سلطة ذكورية استبدادية، بغض النظر عن قناعها الذي ترتديه، ولبوساتها التي تتخذها، تسارع إلى الإعلان عن هويتها، عبر التابع الذي تفرض عليه هيمنتها، ولطالما كانت النساء ذلك التابع!
إن إقصاء المرأة في مجتمعاتنا وتهميش دورها، لا علاقة له بالإسلام السمح، الذي أعلى من شأنها، ومنحها حقوقها كاملة، بل من الأدلجة التي لحقت بالدين، وواقع الحال أن المرأة مستلبة من لدن الثقافة الذكورية التي تتلاعب بها، وتستغلها الأنظمة بمختلف توجهاتها وفقا لأجنداتها، بدون العودة إلى ما تريده المرأة، وحقها في تقرير مصيرها! وموضوع المرأة في بلداننا في غاية التعقيد، ولاسيما في الوقت الراهن، ولعل من أولويات النهوض بالمرأة اليوم، النهوض بقطاع التربية والتعليم، وأن يعاد النظر فيه وفق أسس صحيحة من البداية، أسس لا تعلي من شأن طرف على حساب طرف آخر، وفق تصورات مغلوطة، وتقسيمات جندرية، بل وفق مبدأ تعزيز مفهوم المواطنة الحق، الذي يخلق إنسانا قويا يعرف حقوقه وواجباته، التي يضمنها له القانون، بعيدًا عن أي تمييز ديني أو طائفي أو عرقي أو مذهبي، أو جندري، والتفاضل بين مواطن وآخر يقوم على مبدأ الكفاءة وحسب.
ولا بد من تفكيك الأواصر المتشابكة، التي حالت دون الاعتراف بالمرأة عنصرا فاعلا في المجتمع، وينبغي إيقاظ المرأة من سباتها، وإعادة توجيه نظرتها إلى نفسها، لا بوصفها دُمية لا همّ لها غير الزينة، وعرض المفاتن، والبحث عن الاسترضاء، أو بوصفها فتنة ينبغي المبالغة في سترها وحجبها، مختزلة نفسها في كلتا الحالتين في حدود الجسد، أو قبولها بالدور الذي حوصرت فيه وفق تكوينها البيولوجي، بل بوصفها جنسا مشاركا للرجل في الأدوار العامة، والمسؤوليات الجماعية، ولعلّ مفهوم الشراكة الحقيقية للمرأة والرجل في مجتمعاتنا ما زال قيد التشكيل، فما اتضحت معالمه، وما استقرّت ثوابته، فيتأتى عنه، على الدوام، نزاع في المحافل الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية، لكنّه اندرج في صيرورة تاريخية، ستذهب به الى الغاية المنشودة التي لا مهرب منها؛ فلا حياة للرجل إلا بالمرأة، ولا حياة للمرأة إلا بالرجل؛ وذلك هو الاعتراف الذي تدعمه المسؤولية، وترسّخ ركائزه الشراكة، وبتخلي أحد الأطراف عن دوره؛ سوف تنهار الأسس، ويُعاد رسم الحدود القديمة بين الرجل والمرأة، فيرجع بنا الزمن إلى عصر الحريم مرة أخرى.
يمكن تقسيم أوضاع النساء في سورية إلى ثلاثة مستويات؛ الأول: مستوى المرأة التي تمكّنت من مغادرة مناطق الصراع، وانتقلت للعيش في دول مستقرة وآمنة، وانفتحت على عوالم جديدة، ومنحت فرصة في التعرف على حقوقها، وممارسة حريتها، ونجحت في شق طريقها في مجتمعات مغايرة.
والثاني: مستوى المرأة التي علقت تحت القصف والقتل والتدمير، ونزحت وهُجّرت، وعاشت لفترات طويلة في مخيمات النزوح، وما زالت حتى الآن غير قادرة على العودة إلى الأماكن التي هُجّرت منها؛ لأنها لم تعد موجودة، فقد دمرها القصف تدميرا شاملا، وهذه المرأة حياتها في المخيمات حياة بائسة، همّها الحصول على المعونات، لتعيش مع أبنائها في ظروف قاهرة، لا تتوفر فيها الشروط الإنسانية للعيش.
والمستوى الثالث: المرأة التي عاشت في ظّل مناطق النظام الفاقد لشرعيته، المنهار على كافة الأصعدة، وهو منقسم بدوره إلى فئتين: فئة فاسدة قيميا وأخلاقيا، لا همّ لها سوى الإثراء على حساب الفئة الثانية، التي تمثل الشريحة الكبرى في المجتمع، وتعيش في ظلّ ظروف قاهرة، فرّغتها من محتواها، ولم يعد يشغلها سوى تحصيل لقمة عيشها. أمّا مفاهيمها عن الحرية والديمقراطية، والعدل والمساواة، فقد باتت نسيا منسيا. وإذا استثنينا النساء اللواتي تمكّن من الخروج من سوريا، أو أي دولة أخرى في عالمنا العربي، تعاني من الحروب والصراعات، فإن باقي النساء دارت بهن عجلة الزمن إلى الوراء، وما حقّقنه من مكاسب قبل الحرب، خسرنها في ظلّ الظروف القاهرة، التي عادت بهن إلى حياة شبه بدائية، فصار الشغل الشاغل للأغلبية بمن فيها من الفئة المثقفة؛ الحصول على رغيف الخبز، والماء، والكهرباء، والوقود. أمّا ما خلا ذلك، فصار يشبه ترفا فكريا، وانفصالا عن الواقع!
وفي ظلّ التغيرات الجديدة، وسقوط نظام الإجرام في سورية، تنفّس الناس الصعداء، وعبّروا رجالا ونساء عن فرحتهم بالخلاص الذي انتظروه طويلا، ورحّبوا بمن جاء سقوط النظام على أيديهم، بعد أن انغلق الأفق، وظنّوا كلّ الظن أن حياتهم ستنتهي إلى ما آلت عليه الحال، في ظلّ النظام المجرم الذي بدا أنه انتصر، وسعت أطراف عربية وإقليمية ودولية إلى إعادة تأهيله، فإذا بالنصر يقلب الموازين، وإلى ذلك ظهرت بعض الهواجس من هوية المنتصر الجديد الإسلامية، وأبدت أطراف عدة تخوّفها، ولاسيما التخوف بشأن النساء وحقوقهن، وفي اعتقادي لا يوجد أي خطر على المرأة، إذا وعت حقوقها، ودافعت عن وجودها، وأدركت دورها، وأعدت نفسها لما تريد أن تكونه، ولا يتعلق الأمر بهيمنة القوى الإسلامية أو غيرها، فالإسلام في جوهره أعطى المرأة حقوقها، وساوى بينها وبين الرجل في والثواب والعقاب، ما يعني أنها مكافئة للرجل في التكليف، ولو كانت أقل من الرجل، وغير قادرة على القيام ببعض واجباته؛ للزم محاسبتها بطريقة مختلفة، فالله العدل لا يمكن أن يخلقها كائنا ضعيفا هشّا عاطفيا، كما يصورها البعض، ثم يحاسبها كما يحاسب الرجل القوي الجبار!
إن صورة المرأة في القرآن الكريم، وفي التاريخ الإسلامي صورة مشرقة، فهي امرأة قوية يؤخذ بمشورتها، فأم سلمة، هي من أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم، بما ينبغي فعله بعد أن امتنع أصحابه عن تنفيذ أمره، في صلح الحديبية، وأم سلمة هي من عاتبت النبي قائلة: ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، فأنزل الله "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات..." (الأحزاب: 35)، وشاركت المرأة في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتعليمية، والثقافية، فأم المؤمنين عائشة كانت تروي الحديث، وتفتي في أمور الناس، ويوم موقعة الجمل سجلت موقفا سياسيا، بغض النظر عن التأويلات التي لحقت بالحادثة، وأنها كانت في الهودج، راجعة من الحج، فغيّرت مسارها، وانضمت إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، تريد الإصلاح، وحتى لو أخذنا بهذا التأويل، فإنها تكون بذلك قد سجلت موقفا سياسيا، ومارست دورا في محاولة رأب الصدع بين الأطراف المتنازعة، ولم تكن منعزلة عن الشأن العام، ولم يتعامل معها بوصفها أقل من الرجل، أما خولة بنت ثعلبة، فقد سمع الله جدالها مع النبي صلى الله عليه وسلم في زوجها، وحوارها معه في موضوع الظهار، فأنزل الله آياته "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير" (المجادلة: 1)، ليبيّن حكم الظهار في الآيات اللاحقة، وسُمّيت السورة بالمجادلة كناية عنها، والأمثلة كثيرة في المجالات الأخرى في مختلف مناحي الحياة عبر العصور المختلفة، عن نساء مسلمات مارسن مختلف الأدوار في الثقافة والأدب وفي البيع والتجارة، وتولي المناصب المهمة، فولادة بنت المستكفي كان لديها صالون أدبي تلتقي فيه الوزراء والشعراء، ومن يقلّل من شأن المرأة يستشهد بآيات خارج سياقها للتدليل على تسيّد الرجل على المرأة، والحال هذه فما يخشى منه على المرأة تسييس قضيتها، والتلاعب بها لتثبيت سلطة ما، وهذا ما فعلته أنظمة كثيرة، بمختلف لبوساتها، فقد كشفت التجارب التي شهدناها أن منطلقات كثير من الحكومات والأحزاب لا مشكلة في جوهرها، وأهدافها المعلنة التي تأسّست عليها، لكن انحرافها عن أصولها، لحيازة السلطة والاستئثار بها، هو ما فرّغها من مضمونها.
لعل التحدي الأكبر أمام المرأة اليوم، هو أن تؤهل نفسها للدور الذي تريده هي، لا الدور الذي يُفرض عليها، فلطالما فرضت عليها أدوار نمطية جاهزة، حاصرتها في إطار حدود جسدها البيولوجي، فمن أدوار المرأة الرئيسية بحسب الثقافة الذكورية المتعة والإنجاب. لذا جرى تركيز على إمتاع الرجل، ووظيفة الأمومة، وتربية الأطفال، وأنها خلقت لذلك، وما زلنا نسمع عن مثل هذه التصورات حتى اليوم. وفي حقيقة الأمر، فإن إعداد المرأة وتمكينها، يؤهلها للقيام بأي دور؛ فليس هناك مهن نسوية وأخرى ذكورية، بل هناك شخص أُعد منذ الصغر للقيام بعمل ما، وآخر لم يُعد فحدث التمايز بينهما، ونحن نرى اليوم أن كثيرا من المهن التي تُصنّف على أنها نسوية قد برع فيها الرجال، وكثير من الأعمال التي تُصنّف على أنها ذكورية نجحت فيها النساء. ففي الأرياف، على سبيل المثال، تعمل النساء في مختلف الأعمال الزراعية، التي تتطلّب بنية قوية، يعجز عن القيام بها الرجال، الذين نشأوا في المدينة.
ولا بد من العلم والمعرفة، والعمل على تحقيق الاستقلالية المادية، ووعي المرأة الحقيقي بحقوقها وواجباتها، بعيدا عن العادات والتقاليد المهترئة، التي تحرمها من النشأة الصحيّة، فتُقمع وتُكبت، وتجد نفسها في مجتمع يعدّ عليها حركاتها وسكناتها، فتنكفئ على ذاتها، وتُحرم من حق الحياة الطبيعية، محكومة بمفهوم (العيب)، الذي لا علاقة له بمفهوم (الحلال والحرام)، الذي يتسامح به المجتمع الذكوري أكثر من تسامحه بمفهوم العيب، ولعل نظرة خاطفة على واقع مجتمعاتنا، تُبرز ذلك بوضوح لكلّ متأمل، فالحجاب الذي يفرض على الفتيات في بعض المناطق، لا علاقة له بالمفهوم الديني للاحتشام، ومن العادي جدا أن نجد المرأة تغطي شعرها، ولا تلتزم بأخلاق الإسلام وتعاليمه الأساسية، ومع ذلك يتسامح معها المجتمع الذكوري؛ لأنها أمور لا تمسّ سلطته، ووصايته التي يفرضها على المرأة، ما يعني أن الحفاظ على مظاهر التدين، لا علاقة له بجوهر الدين الحقيقي، ولذا فقد بتنا نرى بوضوح مظاهر دينية في مجتمعاتنا، مع غياب للدين.
وإلى ذلك، لم تغب المرأة عن مشهد التحولات السياسية والاجتماعية، التي عصفت بمنطقتنا، فالمرأة خرجت في المظاهرات إلى جانب الرجل، وتعرّضت للاعتقال والتعذيب، والاغتصاب، والموت والتهجير والنزوح، وصمدت على مدار سنوات؛ فعاشت في ظلّ ظروف لا إنسانية، ومع ذلك لم تستسلم، وتأقلمت مع العيش في تلك الظروف، ولم تتخلّ عن أحلامها وطموحاتها، فكثير من الفتيات درسن وتفوقن، وعملن، كما عملت المرأة على سد غياب الرجل، الذي لم يعد موجودا لأسباب متعددة، منها الاعتقال والهرب خارج البلاد، أو بسبب الاختفاء القسري، والموت في المعارك، فحلّت المرأة محل الرجل الغائب في أعمال كثيرة؛ كي تستمر عجلة الحياة، كذلك احتملت التضحية بأبنائها في سبيل الثورة، وهناك نساء استشهد لهن أكثر من ابن في المعارك والاشتباكات، وخاضت إلى جانب الرجل رحلة اللجوء المريرة عبر البحار والغابات، إلى أن وصلت إلى أوروبا، وكثيرات فقدن حياتهن في عمق البحار. فالمرأة كانت شريكة حقيقية في الثورة ضد نظام الاستبداد، وعلى مدار سنين طويلة، كانت تعمل في مختلف القطاعات الصحية، والتعليمية، والثقافية، والزراعية والصناعية، والخدمية، ولذلك لا يمكن لأيّ نظام جديد إقصاءها عن ممارسة أدوارها في مختلف المجالات.
فعلى الرغم من كلّ محاولات القمع، والإقصاء، والتهميش، لم تفلح الأنظمة الاستبدادية في حرمان الإنسان من سعيه الدؤوب نحو تقرير مصيره، ومحاولته الدفاع عن حقوقه، وإن بدا أنّه في بعض المراحل رضخ لتلك الهيمنة، واستجاب لتلك السلطات القمعية، لكن ذلك لم يكن سوى مظهر خادع؛ فكل ما يفرض بالقوة، ولا يعبر عن قناعة الإنسان، سواء أكان رجلا أم امرأة، وتحديدا في موضوع الحريات الفردية والمدنية، مصيره إلى زوال، ولا يحقق أهدافه المرجوة مهما طال الزمان، بل يخلق مجتمعا منافقا ظاهره شيء، وباطنه شيء آخر، وكل تهميش وإقصاء لأي طرف، أو مكوّن من مكوّنات النسيج الواحد، سينتج عنه كبت، لا بد أن ينفجر يوما ما، وكل تطرف سينتج عنه تطرف مضاد! وقد شهدنا ذلك في سورية، وبلدان أخرى، وسيقع التحايل على ما لا يعبر عن قناعات الإنسان.
ولا يخفى على أحد التحايل على بعض المظاهر المنتشرة في كثير من البلدان، التي تفرض سلطة على بعض الأمور ومنها اللباس، ففرض الحجاب بوصفه هوية دينية، وبشروط محددة كالجادور، والنقاب على نساء لا يقتنعن به، سيؤدي إلى التحايل عليه، ففي إيران وبعد عقود من فرض الجادور بالقوة، لم ينجح النظام في خلق قناعة به لنساء مسلمات، في مجتمع ليس فيه التنوع الموجود في غيره من البلدان، فالنساء الإيرانيات داخل إيران يتحايلن على الحجاب، ولم يعد الجادور الزي الوحيد من جهة، ومن جهة ثانية صارت النساء ترتدي ما تريد من الملابس، رغم ترصّدها ومضايقتها، ولا تهتم كثيرا بغطاء رأسها الذي لا يستر شعرها المنسدل على ظهرها، رغم خطر تعرّضها للموت، كما حدث لمهسا أميني في السادس عشر من أيلول سنة 2022 في العاصمة طهران، بعد اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق، وتعذيبها بسبب ارتدائها الحجاب بطريق غير سليمة بحسب وصفهم، وأثار موتها غضبا عارما داخل إيران وخارجها.
ويحدث الأمر نفسه في بلدان أخرى عربية وغير عربية، حيث تتخلى بعض النساء عن حجابهن بمجرد مغادرتهن إلى مكان آخر، لا تصل إليهن فيه عين الرقيب، ويبالغن في سفورهن بوصفه ردة فعل على القمع والكبت الذي تعرضن له، وهناك نساء يتحايلن على الحجاب، فلا يولينه أي اعتبار، ويرتدين ملابس فاضحة، لا تتناسب مع غطاء رأسهن! ويبالغن في وضع مساحيق التجميل بشكل لافت للانتباه! وكل تلك المظاهر تعبّر عن عدم القناعة بالزيّ المفروض عليهن قسرا.
وعلى الطرف المقابل في البلدان التي تحكمها أنظمة أخرى، تفرض سلطة دكتاتورية، تعرّضت النساء المرتديات للحجاب للإقصاء، ففي سورية التي حُكمت على مدار أكثر من نصف قرن، بعيدا عن مفهوم الإسلام السياسي أو غير السياسي، وصدّر النظام نفسه بوصفه نظاما ديمقراطيا أقرب للعلمانية، وواقع الحال أنه لم يكن سوى نظام دكتاتوري مجرم؛ حاول فرض السفور على النساء قسرا، وحرمت طالبات كثيرات من حق التعلم عقب أحداث حماه في الثمانينيات، في ظل حافظ الأسد، قبل أن يتراجع عن هذا القرار فيما بعد، بيد أن ظلال الأحداث والقمع الوحشي الذي تعرّض له الإخوان المسلمون، خيّمت على المجتمع، إذ تحوّل أيّ مظهر من مظاهر التدين إلى شبهة، قد تعرض صاحبها للعقاب، ثم عمل فيما بعد على توظيف الخطاب الديني لتثبيت دعائم سلطته، فحاول وضع فئات تحت جناحه لتلميع صورته، في مقابل منحها قليلا من ممارسة بعض طقوسها، وقد شهدنا ذلك في أثناء الثورة السورية، فقد سعى بشار الأسد إلى تحشيد علماء الدين لدعم قمعه للثورة، وكانت المرأة مشاركة في ذلك، فلا أحد ينسى ظهور بشار الأسد في صورة جماعية متوسطا عددا كبيرا من القبيسيات، اللواتي اجتمع بهن، لكسب التأييد لما يقوم به من قمع لمن ثاروا ضده، بوصفهم جماعات إرهابية متطرفة.
وحدث في تركية، التي فُرض السفور على نسائها، مع نظام العلمانية، الذي أرسى دعائمه مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، ومع صعود حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي، بدأت النساء بالمطالبة بحقهن في اختيار السفور أو الحجاب، بعد سنوات طويلة من منعه، وحالما لمسن تجاوبا، وصدى لمطالباتهن، بدأن بالتحايل على السفور، فصارت بعض النساء غير المقتنعات به، يضعن الشعر المستعار فوق غطاء رأسهن، إلى أن صدر قانون ألغى قانون السفور، ومنح المرأة حقها في اختيار ما تريده من اللباس.
وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى ما يحدث من خلط كبير، في أثناء الحديث عن حقوق المرأة، ومفهوم تحررها، لم يسلم منه الغرب المتحرر نفسه، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بالمرأة العربية، فنجده يبدي تخوفه عليها من الإسلام السياسي، ويختزله على نحو خاطئ بالسفور والحجاب، والأقليات، وواقع الحال أن مفهوم التحرر وحقوق المرأة شيء، وقضية السفور والحجاب شيء آخر، فسفور المرأة لا ينم دائما عن امرأة حرة حاصلة على كامل حقوقها، وحجابها ليس دليلا على تخلفها، وانغلاق عقلها، وإقصائها، ذلك أن قضية السفور والحجاب، في المجتمعات الشرقية والعربية عموما، تحكمها عوامل عدة، ففي سورية المتنوعة دينيا وعرقيا وطائفيا وحتى جغرافيا، مرتبطة بالعادات والتقاليد والأعراف، والتنوع الموجود في المنطقة، بمعنى أن الحرية هي اختيار، وطالما أن مظاهر السفور والحجاب في مجتمعاتنا تحدث بشكل آلي، تقليدا للأعراف السائدة، فهي خارج شرط الحرية، فالحرية تقاس بحرية الفكر، ووعي المرأة لذاتها وهويتها وحقوقها.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل مقياس التحرر في الغرب هو سفور النساء؟ وإذا كانت النساء في الغرب سافرات عموما، فهل هذا يعني أن المرأة تتمتع بكافة حقوقها؟! إن الإجابة عن التساؤل السابق في غاية الوضوح، فمن المعلوم أن المرأة في الغرب حتى اليوم، ورغم كل مظاهر التحرر والانفتاح، وصعود الحركات النسوية التي أعلت من شأن النساء، إلا أن نساء كثيرات ما زلن يتعرضن للعنف، والاغتصاب، وعلى صعيد آخر يُغفل الغرب، الذي يعلي من مبدأ الخصوصية، خصوصية المرأة الشرقية عموما، والعربية على وجه الخصوص؛ فلا يلتفت إلى أن ما هو بديهي وأولوية بالنسبة إلى المرأة الغربية، ليس كذلك بالنسبة إلى المرأة العربية والشرقية.
وعليه، فلا يمكننا الركون إلى الأصوات الغربية، التي ارتفعت عقب سقوط النظام المجرم في سورية، مبدية قلقها تجاه المرأة والأقليات، فهل يُقلق الغرب كشف المرأة لشعرها أو تغطيته، ولم يُقلقه قصفها بالبراميل والطيران الروسي، وعيشها على مدار ثلاثة عشر عاما في مخيمات النزوح؟! ماذا عن حال النساء في المخيمات، والنساء اللواتي خرجن من المعتقلات؟! إن الغرب الذي يتشدّق بمفاهيم الديمقراطية والحرية، عليه أن يحترم خصوصية مجتمعاتنا وأولوياتها، فبالنسبة إلى المرأة التي كانت تعيش تحت القصف أولوياتها أن تنجو مع أبنائها وعائلتها من الموت، والمرأة التي ما زالت تعيش في المخيمات، أولوياتها العودة إلى بيتها، وليست متخوفة من مخاوف الغرب المصطنعة عن حقوق النساء والأقليات! فقد شهدت بأمّ عينها كيف كانت تُباد، ولم ينتصر لها الغرب لا بوصفها أكثرية، ولا بوصفها امرأة، وصمت العالم كله بما فيه العالم العربي، بل والمجتمع السوري المنقسم على نفسه، فمن كان تحت سيطرة النظام البائد، لم يكن لديه مشكلة في أن يُباد كل من يقطن في المناطق المحررة، بوصفهم إرهابيين وإرهابيات!
وكان من نتائج الحروب المدمرة، أن وجدت المرأة نفسها في مواجهة مصائر مرعبة، فقد تعرّضت للاعتقال والاغتصاب، وكثيرات فقدن أزواجهن، وأبناءهن، واضطررن إلى مواجهة ظروف الحياة القاهرة بمفردهن، كما ازدادت نسبة الفتيات اللواتي في سن الزواج، ولم يتزوجن، في ظل تناقص عدد الشباب من الذكور الذين قضوا نحبهم في المعارك، أو تحت القصف، أو اختفوا بسبب الاعتقال، أو فرّوا من الخدمة الإلزامية خارج البلاد، أو لجأوا إلى بلدان أخرى، بحثا عن فرصة عيش آمنة، إضافة إلى ذلك ظهر جيل من المطلقات، سواء داخل سورية، أو في بلدان اللجوء، ففي الداخل المأزوم ارتفعت نسبة الطلاق؛ بسبب تزويج القاصرات غير المؤهلات للزواج، ولكن الوضع المعيشي القاهر، جعل الأهالي يعجّلون في زواج بناتهن؛ للتخفّف من أعبائهن، ونتج عن ذلك زيجات غير متكافئة، سرعان ما انتهت بالطلاق لفتيات صغيرات لم تتجاوز بعضهن سن العشرين! أمّا في بلدان اللجوء، فبعد أن وجدت المرأة قانونا يحميها ويراعي حقوقها، لم يعد بإمكانها السكوت، عما كانت تتعرّض له من عنف في بلادها، حيث لا سند لها، فقانون بلادها لا يحمي حقوقها، ولا المجتمع يراعي تلك الحقوق! وبدل أن يغيّر الرجل من عقليته في التعامل مع زوجته، واحترام قوانين البلدان، التي لجأوا إليها، أصرّ على معاملتها بعقليّته الذكورية، فلم تلتزم المرأة الصمت، بعد أن تعرّفت على حقوقها، ووجدت سندا لها، فاختارت مفارقة زوج يُصرّ على إذلالها، وتعنيفها، وقهرها، ونجحت في إدارة حياتها بعيدا عنه، ونتج عن ذلك تشتت الأسرة، التي كان ظاهرها المتماسك خادعا، فهي منهارة من الداخل أصلا، أو آيلة إلى السقوط؛ ولذا فقد تهاوت بسرعة فائقة!
وفي ظل الأوضاع الصعبة، التي مرت بها المرأة؛ فإن مستقبلها بحاجة إلى إعادة بناء من جديد، ولا بد أن يكون البناء على أسس ثابتة هذه المرة، فبعد التجارب المريرة التي عاشتها، لا بد أن تنبثق من خلالها امرأة المستقبل، امرأة أقوى؛ فالمرأة التي احتملت ظروف الحرب بمختلف مراحلها وتجلياتها، هي امرأة جديرة بالتقدير والاحترام، والمشاركة في كل مناحي الحياة، وفق مبدأ الكفاءة، لا المشاركة التي تقوم على محاصصة غير معلنة، بتعيين نساء في تشكيلة الحكومة ودوائر الدولة، بوصفهن واجهة تُصدّر للآخر، لإيهامه باحترام حقوق المرأة، وغالبا لا يكون الاختيار وفقا للمؤهلات، بل وفق تقسيمات مضمرة طائفية، كما كان في يحدث في النظام البائد.
ولا بد من قانون صارم يحمي حقوق المرأة وحريتها، فظاهرة التحرش، على سبيل المثال، متفشية في مجتمعاتنا، التي لها صبغة محافظة، ولم يحل دونها ظاهر التدين، والعادات والتقاليد المحافظة، وحتى البلدان التي تحكمها أنظمة إسلامية، تعاني من ظاهرة التحرش بكافة أشكاله، ولا تنجو امرأة من تحرش ما، حتى لو كانت ترتدي النقاب، فالعقلية الذكورية؛ تشرعن للذكر الاعتداء على خصوصية المرأة، والتحرش بها، بدون أن يرف له جفن، طالما أنه لا يوجد قانون يُجرّمه. وفي ضوء ما سبق، فإن حرية المرأة ومستقبلها، رهن باجتثاث الثقافة الذكورية التي تكمن وراءها كلّ مآسي المرأة، وسنّ قوانين صارمة، تشارك في وضعها المرأة، فكل التشريعات والقوانين والدساتير السابقة، وضعت في ظلّ غياب المرأة، ولذلك جاءت مجحفة بحق المرأة، وتصبّ في مصلحة الرجل، وقد آن الأوان لتشارك المرأة، التي تشكل أكثر من نصف المجتمع، في سنّ قوانينه وتشريعاته، لتكون دساتير البلدان متوازنة لا تميل الكفة فيها لصالح طرف على حساب طرف آخر.
[1] - كلمة قدمت خلال الندوة الحوارية الأولى "الإسلام السياسي وأوضاع المرأة في سوريا (والعالم العربي): الحاضر والمستقبل" في تاريخ 10 كانون الثاني 2025