تأويلية النص القرآني القراءات القرآنية والفرق الإسلامية أنموذجاً
فئة : مقالات
تــأويـلـيـة الــنـــــص الـــقــــرآنـــــــــي
القراءات القرآنية والفرق الإسلامية أنموذجاً
تمهيد
يقوم هذا المقال على خمسة مصطلحات أساسية هي: القرآن، والقراءات القرآنية، وخط المصحف العثماني، والفرق الإسلامية، والتأويل؛ فإذا ربطنا الصّلة بين بعضها بعضاً بالتّرتيب الذي ذكرنا تبيّن لنا أنّها مترابطة ترابطاً متيناً، يسمح للمصطلحات الأربعة الأولى منها بأن تكوّن مجتمعة أرضية خصبة للتأويل؛ لأنّها تشترك معه في الخاصّية ذاتها، وهي الانطلاق من الواحد إلى المتعدد. وهذه الأرضية هي التي ستنبت فيها الفرق الإسلامية بمبادئها الاعتقادية المختلفة والمتناقضة.
1. التأويل بين القرآن والقراءات
عرّف الزركشي (تـ. 794 هـ) القرآن والقراءات تعريفاً مقارنيّاً بقوله: «القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان؛ فالقرآن هو الوحي المنزَّل على محمد ﷺ للبيان والإعجاز. والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتابة الحروف أو كيفيّتها من تخفيف وتثقيل وغيرهما»[1].
أمّا الخط الذي كتب به المصحف الإمام، فقال عنه ابن خلدون (تـ. 808 هـ) «كان الخط العربي لأوّل الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولا إلى التوحّش لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع. وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها، ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب رسول الله ﷺ، وخير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله وكلامه، كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً، ويتبع رسمه خطأ أو صواباً. وأين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه، فاتبع ذلك وأثبت رسماً، ونبه العلماء بالرسم على مواضعه»[2]. ومن مظاهر عدم اكتماله لحظة كُـتِبَ المصحف الإمام به خلوّه من النقط والإعراب والهمز والألفات (جمع ألف).
أما التأويل، فقد استوقفنا في بحثنا عنه تعريفان مهمان؛ التعريف الأول أورده الجرجاني (تـ. 816 هـ) مضمونه أنّ «التأويل في الأصل: الترجيع، وفي الشرع: صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله»[3]. وافترض التعريف الثاني للتأويل أنّ قراءة واحدة لا تجزئ لفهم المعنى الذي يجب أن يكون مضاعفاً؛ وذلك من أجل ترك مثل تلك القراءة ناقصة[4].
فإذا بحثنا في شروط قبول القراءة، تبيّن أنّ مفهوم الاحتمال الوارد ذكرا سابقا، قد ذكره ابن الجزري (تـ. 833 هـ) في تعريف القراءة الصحيحة بقوله: «كلّ قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها»[5].
وإذن، فإنّ البحث في نصوص القراءات عمّا يخرج الواحد إلى المتعدد، يبين لنا أن النص القرآني المدون في المصحف الإمام الذي كان خلوا من النقط والإعراب والألفات والهمز قد ساهمت الفرق الإسلامية في إعادة تشكيل بعض ألفاظه، حتى تنطق تلك الألفاظ بمعان تأوّلوها لها سلفاً، فكانت هي قابلة لذلك التأويل. لذلك سينصب اهتمامنا على القراءات الموافقة للخط العثماني دون غيرها من القراءات التي صرفت «اللّفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله» بتعبير الجرجاني، على أن يكون ذلك المعنى المحتمل حاملاً لتأويل كلامي صرفته إحدى الفرق الإسلامية إلى ما اعتقدته، فتوسلت بما أتاحه لها الخط العثماني من صحة، وإنْ احتمالاً. ويجب أن ننبه هنا إلى أن إعادة تشكيل تلك القراءات لم يخضع لكلّ شروط قبول القراءة كما ذكرها ابن الجزري. ولكن ما الذي يبرّر اعتبار هذا النوع من التأويل تأويلاً؟
يطرح هذا السؤال جدلاً حول الفرق بين التأويل والتأوّل، فإذا كانت المعاجم لا ترى فرقاً بين التفسير والتأويل والتأوّل عموماً، فإنّ بعض المعاصرين، يرجع الفرق بين التأويل والتأوّل في طبيعة النية التي صدر عنها أحد الفعلين، أهي نية حسنة غابت فيها القصدية، حتى وإن انحرف ذلك الفعل عن المقصد الأسمى الذي ترضاه جماعة المتأوّلين، أم هي نية قائمة على القصدية فعندئذ يتحمّل المؤوّل تبعات تأويله في حال حصول الانحراف بالنص إلى مقصد خبيث لا ترضاه الجماعة؟[6]
الإجابة نقف عليها في العديد من مصنفات التفسير والقراءات، حيث ورد لفظ تأوّل مقترنا بالقراءة المخالفة مخالفة قائمة على إعادة إعراب الخط منها، واعتبارها قراءة على التأويل، نعرض منها ما يلي:
- قول الطبري (تـ. 310 هـ) «هذا التأويل الذي ذكرناه عمَّن ذكرنا عنه لم تفصل لنا رواته القراءة الذي هذا تأويلها، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها ينزفُونَ ويُنزفُونَ كلتيهما»[7].
- وقول ابن جني (تـ. 392 هـ) في كتاب (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها): «أمّا قراءة العامة، وهي ﴿إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾ فوجهها أن تأتوا غامضاً من الأمر لتطلبوا بذلك التأوّل على أخذه، فأغمض على هذا: أتى غامضاً من الأمر»[8].
- وقول أبي حيان (تـ. 745 هـ) في تفسير البحر المحيط «وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار إنّ وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون، فهذه القراءة الشاذة تتخرّج على هذه اللغة أو تتأوّل على تأويل المخالفين لأهل هذا المذهب وهو أنهم تأولوا المنصوب على إضمار فعل»[9].
ولابد هنا أن ننبه على ضرورة التمييز بين تأويل الخط للقراءة، وتأويل القراءة الموجودة سلفا بموافقتها للخط، فتأويل الخط تنتج عنه قراءة لاقحة للمعنى الذي أريد لها، وتأويل القراءة لفهم معنى لقراءة سابقة له. ولنا في هذا الصدد، أن نعرض ثلاثة أنواع من القراءات بحسب مضانها الاعتقادية هي: قراءات كل من الشيعة والسنة والمعتزلة؛ الأولى نعرضها مستقلة قياساً بالمصحف العثماني، والثانية والثالثة نعرضهما معا لتعالقهما الشديد.
2. فرقة الشيعة وتأويل النص القرآني بالقراءات
أمّا فرقة الشيعة، فيعرّفها الشهرستاني (تـ.548هـ) بقوله: «هم الذين شايعوا عليا رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً، وإما خفياً. واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين، لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله»[10].
وفي إطار رد الشريف المرتضى (تـ.436 هـ) على القاضي عبد الجبار(تـ. 415 هـ) في نفي الإمامة نفيا اعتقاديا، يرى في كتابه (الشافي في الإمامة) «أنه تعالى إذا كلفنا بفعل الواجبات، والامتناع عن المقبحات فكنا عالمين بأن الإمامة لطف في فعل كثير مما يوجب علينا، والامتناع من كثير مما كره منا، فلو علم تعالى أن معرفتنا بالإمام الذي في إمامته لطف لنا يحتاج في معنى اللطف إلى مثل ما احتاجت إليه الأفعال التي ذكرناها، حتى يكون وجود إمام آخر لطفا فيها كما كانت هي لطفاً في غيرها، وكان القول في ذلك الإمام كالقول في هذا لا تصل لطفاً بما لا نهاية له، ولو كان ما قدرناه في المعلوم لقبح تكليفنا ما وجود الإمام لطف فيه، وفي علمنا بأننا مكلفون بذلك دلالة على أن التقدير الذي قدرناه ليس في المعلوم، والعمدة هي الفصل بين الوجوب، والجواز، لأن الوجوب مع ثبوت التكليف يقتضي وجود ما لا نهاية له، والجواز لا يقتضي ذلك»[11].
وأمّا تأويل بعض قرّائها لخطّ المصحف، فتعرّف بعض المراجع الشيعية التأويل بالقول: «إنّ التأويل إمّا الحمل على التفسير، وإمّا الحمل على اختلاف القراءة» وتقوم أغلب القراءات الشيعية حول توجيهات عديدة أهمّها توجيهان أساسيان، هما: القراءة للتشريع والتأصيل، والقراءة للتقريع والترذيل.
والغاية من التشريع والتأصيل الإثبات بالدليل النصي أنّ الإمامة تكليف إلهي مقدّس، ومن أوجه ذلك الاستناد إلى تأويل الخط بإعادة تشكيله تشكيلاً يستجيب إلى معنى التكليف المشار إليه في ألفاظ عديدة نعرض منها النماذج التالية:
- لفظ ﴿مسلمون﴾ اسم الفاعل من فعل «أَسْلَمَ» على وزن أفعل، تكرّر في المصحف الإمام أكثر من 30 مرة (مسلمون، مسلمين، مسلما، المسلمين، المسلمون)، وتقرؤه الشيعة في الأغلب «مُسَلِّمُونَ» من فعل «سلّم»، بتضعيف عين الفعل، وحجّة التأويل عبّر عنها الطباطبائي (تـ. 1402 هـ) في تعليقه على الآية ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران 3: 64 بقوله إنّ «القرآن كما ترى لا يدعو الناس إلاّ إلى التسليم لله وحده، ويعتبر من المجتمع الدينى ويدحض ما دون ذلك»[12]. ويعضد هذا التأويل، تأويل ثان يمكن تسميته التأويل بالقراءة الخارجة عن الخط العثماني، ومنها قراءة الشيعة للآية ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء 4: 65]، قرأ أبو عبد الله (الحسين بن علي) الآية: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ يا مُحمّد حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ولاَ يَجِدُون فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَى محمّد فيهم وَيُسَلِّمُواْ للأئمّة تَسْلِيماً، وروي عنه: ثمّ لا يجدون في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت من أمر الوليّ ويسلّموا للهّ تسليما[13]. فالتسليم المقصود إذن هو التسليم الذي يقود إلى الانقياد إلى أمر الأئمة.
- أما الإمام المؤسّس فيتجلّى في لفظ حرف الجر «عَلَى» في مواضع بعينها على أنه اسم علم عليّ الإمام الأول بعد الرسول. ومن أمثلة الآيات التي أخضعها الشيعة إلى هذا التأويل الآية ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ الحجر 15: 41، حيث نُسب إلى الحسين ابن عليّ أنّه قرأها «هَذَا صِرَاطُ عَلَيٍّ مُسْتَقِيمٌ» بضمّ الطاء في صراط، مضافاً وإضافة لفظ عليّ إليها وجرّه بكسرتين ليصبح اسم علم، يقول الفيض الكاشاني (تـ.1091 هـ) في هذا الصدد «وفي قراءتهم عليهم السلام: "عليٌّ" بالرفع. وفُـسر بعلوّ الشرف. وورد: "هذا صراط علي مستقيم"، وهذا يحتمل الإضافة أيضاً. وفي رواية: هو أمير المؤمنين عليه السلام»[14].
ونورد قراءة ثالثة ذكرها الباقلاني للـفظ «عَلَى» في الآية ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [ القيامة 75: 17 - 18]، وذكر أنه قرئ «إِنَّ عَلِيَّنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا (قَرَأْهُ) فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»[15]. وهي قراءة تكاد تكون غائبة عن المصادر الشيعية، إذ لم نقف عليها إلا في كتاب (بحار الأنوار) للمجلسي (تـ. 1111 هـ)، فنسب القراءة إلى ابن مسعود، ولكن بنسبة فعل «فَاتَّبِعْ» إلى ضمير المخاطب الجمع «إِنَّ عَلِيَّنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْهُ فَاتَّبِعُوا قُرْآنَهُ»[16]. ويتأكد تأويل حرف الجر «عَلَى» في هذا الصدد، بتطويعه في الآية ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ (الليل 92: 12)، بقراءتها «إِنَّ عَلِيّا لَلْهُدَى»[17]. ويعضد هذه القراءات قراءات أخرى بإضافة اسم «عَلِيّ» إلى العديد من الآيات منها ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة 2: 6)، قرأها محمد الباقر «إنّ الّذين كفروا بوَلاَيَة عليّ سواء»[18]. والآية ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (البقرة2: 90)، قال محمد الباقر إنّ جبريل نزل بهذه الآية هكذا «بما أنزل الله في عليّ بغياً»[19].
التأويل للتقريع والترذيل: ارتبط تأوّل الخط لإنتاج معاني التقريع بالخصم الذي لا ينتمي إلى العقيدة الشيعية حتى قبل ظهور هذه العقيدة، كالعودة إلى تقريع الخصم بالرموز التاريخية، وخصوصاً منهم الصحابة. فإذا كان الصحابة منزهين عن الخطأ، ولا يجب نقدهم حسب عموم العقيدة السنية، فإنّ العقيدة الشيعية تصل إلى حد تكفيرهم. ومن أمثلة ذلك الآية ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ﴾ التوبة 9: 118، التي نزلت في إعلان توبة الله عن الثلاثة المتخلّفين عن غزوة تبوك، وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيعة العامري وهلال بن أميّة الواقفيّ[20]، لكن الشيعة الإمامية لا يعتبرونهم متخلفين، بل مخالفين بما يزيد من حجم الجرم الذي ارتكبوه في حق الإسلام والرسول. لذلك تأوّلوا فعل ﴿خُلِّفُوا﴾ المبني للمجهول ببنائه للمعلوم وبإضافة ألف بعد حرف الخاء، فقد ذكرت بعض المصادر أنّ عليّا وجعفر بن محمّد [الصادق][21] وأبا عبد الله (الحسين بن علي)[22].
ومن أمثلة ذلك لفظ ﴿الْمُضِلِّينَ﴾ الوارد في صيغة الجمع في قوله ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾ الكهف 18: 51، فقد ذكر السياري أنّه قرئ «المُضِلَّيْن» على المثنّى[23]، عوضاً عن الجمع الواردة في قراءة حفص عن عاصم، ويعضد هذه القراءة سبب النزول الذي ذكره العياشي (تـ.320 هـ) في تفسيره ومضمونه «أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: اللهم أعزّ الدين بعمر بن الخطاب أو بأبي جهل بن هشام، فأنزل الله (وما كنت متخذ المضلين عضداً) يعنيهما»[24].
3. تأويل النص القرآني بالقراءات السنية والاعتزالية
ما يعنينا في العقيدتين الاعتزالية والسنية/السنية الأشعرية الاختلافات الجوهرية التي تعلقت بها العديد من القراءات بالتأويل القائم على الخط كما بيّنا سابقاً؛ ومن بين تلك الاختلافات العدل الإرادة الإلهيين ومسألة خلق الشرّ، أهو من خلق الله أو يتوجب تنزيه الذات الإلهية عن ذلك، وإثبات الصفات.
ولبسط هاتين المسألتين رأينا أولا أن نعرض ما استقرّت إليه الأفكار عند رموز الفكرين الأشعري والاعتزالي، ثم نعرض القراءة القرآنية ومنشأها وتأويل الخط فيها وما أثارته من جدل عميق بين مختلف المفسّرين.
وبالوقوف على مسألة خلق الشر، فقد استقامت هذه الفكرة الأصولية عند القاضي عبد الجبار في قوله إن الله لا يفعل القبيح «لأنّه عالم بقبح القبائح كلها، ونعلم أنه غني عنها ولا حاجة له إليها، لا يجوز أن يختارها، من حيث كان عالماً بقبحها وعناه عنها، فيجب إذا كان الله عز وجل غنياً عن كل قبيح، غير محتاج إليه أن لا يجوز أن يختاره مع علمه بقبحه، وهذا يوجب أن كل قبيح يقع في العالم، فهو من أفعال العباد والله تعالى غني عن فعله»[25].
وكان الأشعري قبله، قد بيّن أنّ القدرية زعمت «أن الله تعالى يخلق الخير، والشيطان يخلق الشر، وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر، نظيراً لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين: أحدهما الخير، والآخر يخلق الشر»، فأبدى رفضه لهذه الفكرة في كتاب الإبانة عن أصول الديانة بقوله: «أليس المجوس أثبتوا الشيطان يقدر على الشر الذي لا يقدر الله عز وجل عليه، فكانوا بقولهم هذا كافرين؟»[26].
وبالعودة إلى القراءات القرآنية، نقف على عدد منها تأوَّل فيها قرّاؤها الخطَّ ليستقيم المعنى بحسب ما يعتقدونه. ومن أمثلة ذلك قوله: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ الفلق113: 2، الواردة في المصحف برواية حفص عن عاصم بجر راء «شرِّ»، مضافة إلى ﴿مَا﴾، لتفيد أنّ قول الله «يعمّ كلّ موجود له شرّ»[27] وأنّ «الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»[28] قرأ عمرو بن فائد[29] وعمرو بن عبيد وبعض المعتزلة[30] «من شرٍّ» بالتنوين، «مَا» نافية لما بعدها، بمعنى شر خلقه وشرهم «ما يفعله المكلفون من الحيوان من المعاصي والمآثم، ومضارّة بعضهم بعضاً من ظلم وبغى وقتل وضرب وشتم وغير ذلك»[31].
ومن بين القراءات الأخرى الواردة في هذا الصدد، قوله: ﴿مَنْ أغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ الكهف 18: 28، بنسبة فعل الإغفال إلى الله، والفعل واقع على القلب الورد في محل نصب، بحسب قراءة حفص عن عاصم، وهي حسب ابن عطية قراءة «الجمهور ﴿أغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ بنصب الباء على معنى جعلناه غافلاً، وقرأ عمرو بن فائد وموسى الأسواري (أغفلَنا قلبُه) على معنى أهمل ذكرنا وتركه، قال ابن جني المعنى من ظننا غافلين عنه، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد»[32].
أمّا بالنسبة إلى مسألة الصفات، فقد أدرجها القاضي عبد الجبّار ضمن المبدأ الأول من المبادئ الاعتزالية الخمسة وهو التوحيد، يقول في هذا الصدد: «فإن قيل: فما التوحيد؟ قيل له: أن تعلم أنّ الله عزّ وجلّ واحد لا ثاني له في الأزل وتفرّد بذلك، فإن قيل: فما علم التوحيد؟ قيل له: هو العلم بما تفرّد الله عزّ وجلّ به من الصفات التي لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين»[33].
أما فرقة السنة، فتعتبر «أن إثبات الصفات الثابتة في الكتاب والسنة ليس من التشبيه في شيء»[34]. لذلك اختلف الفريقان في قراءة بعض الآيات، بتأوّل كلّ فريق الخطّ بما يتناسب وَآراءَه الاعتقادية.
فمن الأسماء الحسنى التي اختلفوا في قراءتها لفظا (الحَيُّ القَيُّومُ﴾ الواردين في البقرة 2: 255 وآل عمران 3: 2 بالرفع في قراءة حفص عن عاصم نعتاً لله أو بدلاً منه، وقرأهما الحسن البصري «الحيَّ القيومَ» بالنصب فيهما، وروي عنه الخفض[35]. ولفظ ﴿الحَقِّ﴾ في الآية ﴿هُنَالِكَ الوَلاَيَةُ للهِ الحَقِّ﴾ الكهف 18: 44، بالخفض في لفظ الحق حسب قراءة حفص عن عاصم، وقرأها عمرو بن عبيد «الحقَّ» بالنصب[36] ولفظ ﴿الْمَجِيدُ﴾ بالرفع حسب قراءة حفص عن عاصم، في الآية ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ البروج 85: 15، قرأها قرأ الحسن وعمرو بن عبيد «المجيدِ»[37].
خاتمة
يتّضح ممّا تقدّم، أنّ تأويل النص المقدّس بالقراءة المخالفة استنادا إلى الإمكانات التي يحتملها الخط مثلت مدخلاً استغلته الفرق الاسلامية لتأكيد توجهاتها العقائدية، وهي محاولات بقيت محدودة لأسباب عديدة أهمّها تسييج قبول النص القرآني بالرواية من جهة. وبتسييج مسار التأويل من جهة أخرى، ولعل ذلك تؤكده طبيعة المصادر التي جمعت تلك القراءات، إذ اعتبر أغلبها شاذاً أو غير معترف به أصلاً، بما يسمح بإعادة طرح تعريف آخر للتأويل كما يراه الغزالي (تـ. 505 هـ)، في كتابه (قانون التأويل)، حيث قدّم فيه مجموعة من الوصايا للمتأول أهمّها «أن يكفّ عن تعيين التأويل عند تعارض الاحتمالات، فإنّ الحكم على مراد الله سبحانه، ومراد رسوله ﷺ بالظن والتخمين خطر. فإنّما تعلم مراد المتكلم بإظهار مراده، فإذا لم يظهر فمن أين تعلم مراده إلا أن تنحصر وجوه الاحتمالات، ويبطل الجميع إلا واحداً فيتعيّن الواحد بالبرهان»[38].
فإذا تركنا تأويل الخط جانباً، فهل يسمح البرهان باختيار الوقف في مواطن بعينها عند القراءة في المصحف كما فعل ابن رشد (تـ. 595 هـ) عند قراءته للآية ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ آل عمران 3: 7، فقد اختار أن يقف عند لفظ (الْعِلْمِ)، بدل الوقف المشهور الذي يخص معرفة التأويل بالله؟
[1]- الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابى الحلبي وشركائه، مصر، 1376 هـ ـ 1957 م، ج1، ص318
[2]- عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، ط1، دار الفكر، بيروت، 1998، ص 399
[3]- علي بن محمد الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت. لبنان، 1403هـ - 1983م، ص5
[4]- بيار فايديدا، نقلاً عن: عبد الملك مرتاض، «التأويلية بين المقدس والمدنّس»، عالم الفكر، ج29، عدد 1 (يوليو - سبتمبر 2000)، ص265
[5]- محمد بن محمد بن الجزري، النشر في القراءات العشر، تحقيق علي محمد الضباع، المطبعة التجارية الكبرى [تصوير دار الكتاب العلمية]، د. ت.، ج1، ص9
[6]- أورد سفر الحوالي في كتابه: منهج الأشاعرة في العقيدة: تعقيبٌ على مقالات الصابوني (ص: 53) فالتأوّل هُوَ: وضع الدَّلِيل فِي غير مَوْضِعه بِاجْتِهَاد أَو هُوَ شبه تنشأ من عدم فهم دلَالَة النَّص، وَقد يكون المتأول مُجْتَهداً مخطئاً فيعذر، وَقد يكون متعسّفاً متوّهاً فَلَا يعْذر، وعَلى كل حَال يجب الْكَشْف عَن حَاله وَتَصْحِيح فهمه قبل الحكم عَلَيْهِ، وَلِهَذَا كَانَ من مَذْهَب السّلف عدم تَكْفِير المتأول حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ الْحجَّة مِثْلَمَا حصل مَعَ بعض الصَّحَابَة الَّذين شربوا الْخمر فِي عهد عمر متأولين قَوْله تَعَالَى: (لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا) الْآيَة. وَمثل هَذَا من أوّل بعض الصِّفَات عَن حسن نِيَّة متأوِّلاً قَوْله تَعَالَى: (لَيْسَ كمثله شيء) فَهُوَ مؤوِّل متأوّل وَلَا يكفر، وَلِهَذَا لم يُطلق السّلف تَكْفِير الْمُخَالفين فِي الصِّفَات أَو غَيرهَا؛ لِأَن بَعضهم أَو كثير مِنْهُم متأوِّلون، أما الباطنية فَلَا شكّ فِي كفرهم؛ لِأَن تأويلهم لَيْسَ لَهُ أَي شُبْهَة بل أَرَادوا هدم الْإِسْلَام عمداً بِدَلِيل أَنهم لم يكتفوا بِتَأْوِيل الْأُمُور الاعتقادية بل أوَّلوا الْأَحْكَام العملية كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج. إلخ ...، سفر بن عبد الرحمن الحوالي، منهج الأشاعرة في العقيدة ـ تعقيب على مقالات الصابوني، ط1، الدار السلفية، السعودية 1407 هـ -1986 م، ص53
[7]- محمد بن جرير، أبو جعفر الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط1، مؤسسة الرسالة، 1420 هـ ـ 2000 م، ج21، ص40
[8]- أبو الفتح عثمان بن جني، المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها، وزارة الأوقاف ـ المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، 1420هـ - 1999م، ج1، ص139
[9]- ابن حيان الأندلسي(تـ. 745 هـ)، البحر المحيط في التفسير، تحقيق صدقي محمد جميل، دار الفكر – بيروت، 1420 هـ، ج5، ص 251
[10]- الشهرستاني، الملل والنحل، مؤسسة الحلبي، د.ت، ج1، ص 146
[11]- الشريف المرتضى، الشافي في الإمامة، تحقيق عبد الزهراء الحسيني الخطيب، ط2، مؤسسة الصادق، طهران، 1410 هـ، ج1، ص 165. وتجدر الإشارة أنّ هذا الكتاب هو رد على كتاب المغني للقاضي عبد الجبار الذي خصصه لدحض فكرة وجوب الإمامة.
[12]- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، د. ت.، ج3، ص 149
[13]- أحمد بن محمد السياري (تـ.286 هـ)، كتاب القراءات، نشره إيتان كوهلبرغ ومحمد أمير معزي، بريل، ليدن/بوستن، 2009، ص39
[14]- محمد محسن الفيض الكاشاني، الأصفى في تفسير القرآن، ط1، مركز الابحاث والدراسات الاسلامية، قم ـ إيران، 1418، ج1، ص 631
[15]- الباقلاني، أبو بكر بن الطيب، الانتصار للقرآن )تـ.403هـ(، تحقيق محمد عصام القضاة، ط1، دار الفتح للنشر والتوزيع عمان الأردن ودار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 2001، مج 1، ص 341
[16]- المجلسي، محمد باقر )تـ.1111هـ(، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، ط2، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983، ج40، ص156، ج89، ص53
[17]- المصدر السابق، ج40، ص156، ج89، ص53
[18]- أحمد بن محمد، السياري، كتاب القراءات، ص20
[19]- المصدر السابق، ص20
[20]- مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (تـ. 261 هـ)، المسند الصحيح، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، كتاب التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه. ج4، ص2120
[21]- ابن خالويه، الحسين بن أحمد أبو عبد الله )تـ.370هـ(، مختصر في شواذ القرآن من كتاب البديع، تحقيق آرثر جيفري، مصر، مكتبة المتنبي، د.ت.، ص 60
[22]- أحمد بن محمد السياري، كتاب القراءات، ص58
[23]- المصدر السابق، ص82
[24]- أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، المكتبة العلمية الإسلامية، د.ت.، ج2، ص 329
[25]- القاضي عبد الجبار، الأصول الخمسة، تحقيق فيصل بدير عون، ط1، لجنة التأليف والتعريب والنشر، 1998، ص76.
[26]- أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (تـ. 324هـ)، الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق فوقية حسين محمود، ط1، دار الأنصار – القاهرة، 1397، ص 196
[27]- ابن عطية، عبد الحق بن غالب الأندلسي)تـ.542هـ(، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، ط1، دار الكتب العلمية، لبنان، 1993.، ج5، ص538
[28]- أبو حيان الأندلسي، البحر المحيط في التفسير، ج8، ص533
[29]- ابن خالويه، مختصر في شواذ القرآن، ص183
[30]- ابن عطيّة، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج5، ص538
[31]- محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري (تـ. 538هـ)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ط3، دار الكتاب العربي – بيروت، 1407 هـ، ج4، ص820
[32]- ابن عطيّة، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج9، ص293
[33]- القاضي عبد الجبار، الأصول الخمسة، ص ص67 - 68
[34]- محمد بن عبد الرحمن الخميس، اعتقاد أهل السنة شرح أصحاب الحديث، ط1، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية، 1419هـ، ص15
[35]- ابن خالويه، مختصر في شواذ القرآن، ص22 – 25
[36]- المصدر السابق، ص83
[37]- ابن عطيّة، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج5، ص463
[38]- أبو حامد الغزالي، قانون التأويل، تحقيق محمود بيجو، ط1، 1993، ص 22