تاريخيّة العلوم الإسلاميّة: ملاحظات على القراءة الاستشراقيّة
فئة : مقالات
مدخل:
التّأريخ للعلوم؛ مبحث مستحدث، نهض به في كلّ فرع معرفي ذوو الاختصاص، بغاية التأصيل وتوضيح المعالم المميّزة لهذا العلم، وتتناول الدّراسة التأريخيّة لعلم من العلوم ملابسات نشأته، ومراحل تطوّره، وتنوّع مشاربه، فضلًا عن التعريف بروّاده وبأهمّ آثارهم، التي تشكّل المراجع الأساسيّة للتعرّف على هذا العلم، وفي مجال العلوم الإنسانيّة التي تبلورت حديثًا في الثقافة الغربيّة، بدأ التأريخ لهذه العلوم منذ ولادتها، وهذا ما تشهد به المؤلّفات في بعض الاختصاصات، مثل: علم النّفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وقد شمل هذا الجهد التأريخي باقي أصناف المعارف الضّاربة في القدم؛ كالفلسفة، واللغة، والتّاريخ، وفي المقابل، لم تشهد الثقافة الإسلاميّة ظهور هذا الاتّجاه في البحث التأريخي، إلا في شكل إشارات عابرة؛ كتلك التي نقف عليها في كلام ابن خلدون عن سائر العلوم القائمة في عصره، ويبدو أنّ أوّل الدّراسات التي اهتمّت بالتأريخ لبعض العلوم الإسلاميّة في العصر الحديث، قد صدرت عن عدد من المستشرقين، ولمّا كان علم الفقه من أهمّ ما أنتج المسلمون، قديمًا وحديثًا؛ فمن المناسب أن توليه الدّراسات الاستشراقيّة اهتمامًا مرموقًا، خاصّة، وأنّ حاجة المستعمر الأوروبي كانت ماسّة إلى هذا النّوع من الأبحاث، كي يمهّد بها السّبيل لترسيخ أقدامه في بلاد المسلمين.
وقد بدأ اهتمام الأوروبيين بالفقه منذ نهاية القرن الثامن عشر، بكتابة ملخصات لبعض الكتب الفقهيّة[1]، ثمّ تتالت، بعد ذلك، ترجمات مؤلّفات فقهيّة متعدّدة، في كلّ من إنكلترا وهولندا وفرنسا، واهتمّ الفرنسيّون بتدريس مادّة الفقه في الجزائر، ثمّ في باريس، ونشأت إثر ذلك، مجادلات كثيرة بين عدد من المستشرقين، حول مدى قابليّة الفقه الإسلامي للتّطوّر وملاءمة أوضاع العصر الحديث[2]، ومن هذه المجادلات تشكّلت رؤية عامّة، قامت على اعتبار هذا الفقه منظومة أحكام دينيّة ثابتة، تعارض كلّ تجديد، ولم يقع تعديل هذا الموقف إلا مع بداية القرن الماضي، في ضوء اكتشاف بعض المستشرقين لتأثير عامل العرف في تطوير بعض الأحكام، وهو ما اصطلح فقهاء المالكيّة في المغرب على تسميته: "مبدأ العمل"[3]، ومن أهمّ الدّراسات الاستشراقيّة التي كانت لها عناية شاملة بالفقه الإسلامي؛ كتاب جوزيف شاخت (Joseph Schacht) الموسوم بـ (Introduction to islamic law)، وقد جاء قسمه الأوّل خاصًّا بالجانب التّاريخي، في حين اهتمّ القسم الثاني، بإبراز المبادئ الفقهيّة الأساسيّة[4]، ويبدو لنا؛ أنّ من أهمّ إضافات هذا الكتاب، مبادرة صاحبه إلى محاولة أرخنة[5] الفقه الإسلامي (Historisation)، ونعني بذلك؛ استجلاء مقوّمات تاريخيّة هذا الإنتاج الفكري، ونقدّر أنّ فحص محدّدات مذهب شاخت في تحقيب (Périodisation) تاريخ هذا الفقه، وفي تعليل هذا التحقيب ما يكشف عن مواطن جدّة وطرافة، استفادت منها الدّراسات الإسلاميّة منذ منتصف القرن الماضي، وقد كان تفسير وقائع الماضي في الدراسات الإسلاميّة، يرجع، غالبًا، إلى الإرادة الإلهيّة، حتى غدا التّاريخ، بذلك، قسمًا من أقسام علم الكلام، على حدّ رأي البعض[6].
1 ـ إشكاليّة التحقيب:
يبدو التاريخ، دائمًا، في شكل حقب متلاحقة؛ إذ يلجأ المؤرّخون، عادة، إلى تجزئة المدّة الزمنيّة، التي يعتزمون دراسة وقائعها، إلى حقب محدّدة، ومن أجل تأكيد هذا التحقيب؛ يعمد أكثرهم إلى وضع علامات فصل محدّدة، تعيّن بداية كلّ حقبة ونهايتها، وللتحقيب فوائد منهجيّة وتعليميّة مهمّة، بالنسبة إلى المؤرّخ وجمهور قرّائه على حدّ السّواء، ولكنّ شرط النجاعة الفعليّة لعمليّات التحقيب، لا يتحقّق إلا متى حصل التطابق بين منطق الحوادث الماضية من جهة، وكيفيّة تمثل المؤرّخ لها من جهة أخرى، ولا شكّ في أنّ التنازع في شأن الوفاء بشروط صحّة هذه المطابقة، قائم باستمرار بين عدد من دارسي التاريخ، وكلّما كان الاختلاف الفكري كبيرًا بين هؤلاء الباحثين، ازدادت حدّة التنازع بينهم في تأويل وقائع التاريخ، وهذا ما يفسّر لنا، مثلًا، اتساع الخلاف بين المسلمين والمستشرقين في هذه المسألة؛ المتصلة بتعيين منعرجات التاريخ الإسلامي، وتاريخ الفقه على وجه الخصوص.
والحقيقة؛ أنّ استكشاف رؤية شاخت لمراحل تاريخ الفقه الإسلامي، تقتضي منّا أن نجلو، في مرحلة أولى، ما جاء في مؤلفه[7] عن بداية هذا التاريخ ونهايته، وأن نتبيّن تقديره لعدد الحقب الفقهيّة وللحدود الفاصلة بينها، ولا بد أن نهتمّ، في مرحلة ثانية، بمستوى التناسب بين تلك الحقب التاريخيّة، والمقاييس التي اعتمدها في هذا التحقيب، على أن نستخلص إثر ذلك، مميّزات الرّؤية الاستشراقيّة لهذه المسألة، مقارنة بما هو متداول عند المفكّرين المسلمين.
والملاحظ؛ أنّ الباحث لا يجد صعوبة كبرى، في تبيّن حرص (شاخت) على الإحاطة بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي، منذ لحظة التأسيس في بداية العهد الإسلامي حتى العصر الحديث، واللافت في هذا المقام؛ أنّ هذا المستشرق قد افتتح كلامه على هذا التاريخ، الممتدّ على مدى ما يقرب من أربعة عشر قرنًا، بالبحث في جذور تكوّنه في البيئة الحاضنة لنشأته الأولى، ونعني بذلك؛ الحقبة الجاهليّة[8]، والذي نتبيّنه من هذا المسعى إلى إثبات انتساب الفقه الإسلامي إلى بيئته التاريخيّة؛ إنمّا يهدف، في الحقيقة، إلى إقحام مرحلة "ما قبل التاريخ الفقهي" في تاريخ الفقه، وهذا القول يخالف مذاهب الدارسين المسلمين؛ التي تجمع على وجود قطيعة تامّة بين أحكام الإسلام، وسائر ما جاء قبلها من تشريعات[9]، وهذا المذهب يلخّصه الاعتقاد الجازم: بأنّ الإسلام "قد جبّ ما قبله" في مجال الفقه، وهو القول الذي يؤيّده كثيرون حتى اليوم[10]، ومن المرجّح عندنا، أنّ شاخت لم يكن يرمي، فعلًا، إلى اعتبار الأحكام المعمول بها في المرحلة الجاهليّة، جزءًا من التشريع الإسلامي؛ إنّما كانت غايته أن يؤكد تاريخيّة الفقه عبر وصله بما تقدّمه، ممّا كان يتحاكم به العرب قبل مجيء الإسلام[11].
وإذا أمعنّا النّظر في تقسيم شاخت لتاريخ الفقه الإسلامي، لفت انتباهنا ما يمكن أن نعدّه تمويها متعمّدًا، في ضبط مختلف الحقب التي يتألّف منها هذا التاريخ؛ فقد عمد المؤّلف إلى المراوحة بين التصريح والتلميح، في تعيين العلامات الدّالة على عناوين الحقب الفقهيّة، وكان في إفصاحه يبادر إلى ذكر المؤشّرات التاريخيّة البيّنة، مثل: استعماله لاصطلاحات التقويم الهجري، عند تحقيبه حسب القرون الهجريّة، أو استخدامه لمفردات التاريخ السياسي، عند ذكره لأسماء الدول؛ (كالأمويين، والعباسيّين، ..إلخ)، أمّا إذا أراد أن يوهم بأنّه لا يسلك أسلوب السرد التاريخي؛ فإنّه يعمد إلى وسم عناوين فقراته، بما يدلّ على المميّزات البنيويّة الأساسيّة لهذه الحقبة أو تلك، ويتّضح هذا، مثلًا، في كلامه على "تشكّل المدارس الفقهيّة"، أو في حديثه عن "غلق باب الاجتهاد"[12]، وقد يستفاد من اعتماد مثل هذه الخطّة المزدوجة في استعراض تاريخ الفقه الإسلامي؛ أنّ (شاخت) لا يعرض عن التحقيب التاريخي، ولكنّه يرمي إلى حمل القارئ على تجاوز الوقوف عند ظاهر الأحداث الماضية، لينفذ إلى أعماقها، ويستخلص منها الدلالات الأكثر أهمّية، التي تشكّل في ذلك المسار منعرجاته الحاسمة، وقد لا يكون من باب المصادفة، أن يقسّم (شاخت) تاريخ الفقه الإسلامي إلى سبع حقب، وأن يعرض حديثه عنها في ضعف ذلك من الفصول، وكأنّ المغزى الأوّل لذلك؛ أنّ التحقيب لا يطلب لذاته، ولولا ذلك، ما احتاج المؤلّف إلى أن يعقّب على كلّ فصل ضبط فيه حدود الحقبة، بفصل آخر، لتعليل أسباب اختياره لحدود تلك الحقبة، على ذلك الوجه المذكور.
وإذا فحصنا أمر هذا التحقيب، من جهة تناسب المدد الزمنيّة بين وحداته، استوقفنا ذلك التفاوت الهائل بينها؛ فإذا كانت الحقبة النبويّة لا تتعدّى بضع سنوات؛ فإنّ الحقبة العثمانيّة، مثلًا، قد استغرقت ما يناهز الأربعة قرون، وفي هذا التفاوت دليل إضافي على أنّ للتحقيب، عند (شاخت)، مدلولًا يتجاوز التحديدات الزمنية الخالصة، والملاحظ في هذا التحقيب اللامتوازن زمنيًّا؛ أنّه كان قائمًا على قاعدة التدرّج، من الحقب قصيرة المدى إلى الحقب التي تستغرق حيّزًا زمنيًّا طويلًا، ولا تخرج عن هذه القاعدة إلا الحقب المندرجة ضمن العصر الحديث، ولمّا كان التحقيب مقترنًا، وجوبًا، بمدلول مميّز، يعلّل وجاهة اختيار تجزئة التاريخ على هذا الوجه أو ذاك[13]، حرص (شاخت) على أن يقرن كلّ حقبة، بالدلالة الأبرز التي ميّزت التفكير الفقهي خلالها، ونعرض، فيما يلي، ما يؤيّد زعمنا بأنّ التحقيب متدرّج، ومرتبط بدلالة خاصّة:
- الحقبة النبويّة: هي الأقصر مدى؛ لكونها بدأت مع انطلاق الدعوة الإسلاميّة، وانتهت بوفاة الرسول ﷺ، وقد وجّه (شاخت) عنايته فيها، إلى إبراز دور النبي ﷺ، في الاضطلاع بمهمّة المشرّع، و"الحكَم" (arbitre) الذي يتولّى النظر في النزاعات بين الأفراد.
- حقبة القرن الأوّل: قد اعتنى فيها ببيان التشريعات الإداريّة التي وضعها حكّام بني أميّة، إلى جانب التنبيه إلى خصائص اجتهادات بعض العلماء، وعدد من القضاة، المنتدبين لوضع قواعد قانونيّة مناسبة للمبادئ الإسلاميّة.
- حقبة القرن الثاني: اهتمّ فيها (شاخت)، بإظهار ما استحدثه العبّاسيون من مؤسّسات قضائيّة، تتولّى العناية بالمسائل القانونيّة عامّة، كما بحث في عوامل ظهور أنصار الحديث، المعارضين لنهج الفقهاء والقضاة الأوائل.
- حقبة القرن الثالث: قد جعلها المؤلّف خالصة، لتتبّع أطوار نشأة المذاهب الفقهيّة على يد الأعلام الكبار، ومن سار على نهجهم من الأتباع.
- حقبة "غلق باب الاجتهاد": تمتدّ من القرن الرابع إلى حدود القرن الثامن، وتناول فيها خصائص الإنتاج الفقهي؛ الذي اتّسم بالتقليد، واجترار ما جاء في مؤلّفات أئمّة المذاهب المتقدّمين، دون أن يغفل الإشارة إلى بعض محاولات الاجتهاد المقيّد من جانب بعض الأعلام.
- الحقبة العثمانيّة: وقد امتدّت على مدى أربعة قرون، وركّز فيها (شاخت) على محاولات التجديد التي حصلت داخل المذهب الحنفي، بعد أن اعتمدته الدولة العثمانيّة مذهبًا رسميًّا لها.
- الحقبة الاستعماريّة: واتّجه فيها المؤلّف إلى وصف خصائص التشريع الإسلامي؛ في الهند تحت الاحتلال الانكليزي، وفي الجزائر تحت الاحتلال الفرنسي.
- الحقبة الحديثة، وكان الاهتمام فيها منصبًّا على تتبّع أطوار الإصلاحات التشريعيّة المختلفة، التي انخرطت فيها المجتمعات الإسلاميّة مباشرة، إثر نهاية الحقبة الاستعماريّة.
ويبدو لنا؛ أنّ نسق التحقيب الذي اختاره (شاخت)، كان محكومًا بمنطق ضمني محدّد، يقوم على مراعاة حيويّة المجتمع، وفاعليّة إبداعه الحضاري؛ فالتحقيب ذو المدى القصير، كان مرتبطًا بقدرة المجتمع على الفعل والتغيير، بما يستوجب تسارع ظهور منظومات تشريعيّة، ومؤسّسات قانونيّة جديدة، لتواكب تسارع نسق التحوّلات الحياتيّة، وإذا طالت الحقبة الفقهيّة؛ فتلك علامة على الجمود الحضاري، وعلى انعدام الإبداع، الذي تغيب معه الحاجة إلى قواعد قانونيّة بديلة، ولا شكّ في أنّ هذا المنوال في التحقيب، يعيد الاعتبار إلى البعد التاريخي في قراءة الفكر الإسلامي، هذا البعد الذي كثيرًا ما تمّ إهداره في بعض الدراسات الإسلاميّة، التي دأبت على اختزال تاريخ الفقه الإسلامي في أربعة أطوار، تحاكي مراحل عمر الإنسان؛ من الطفولة، إلى الشباب، فالكهولة، ثمّ الشيخوخة[14].
ومن علامات تمسّك (شاخت) بإبراز تاريخيّة الإنتاج الفقهي لدى المسلمين، من خلال هذا التحقيب، ما يتجلّى في مراعاته لكافة العناصر المؤثّرة في صياغة التصوّرات القانونيّة، منذ عهد النبي، ولا بدّ من التنويه بحرص هذا الباحث على إبراز أهمّ العلامات، التي تدل على انتساب هذا الفقه إلى مختلف الأمكنة والأزمنة التي نشأ فيها، وتقلّب خلالها عبر أطواره المتعدّدة، وكان ذلك من دواعي عنايته ببيان تنوّع المصادر التي تشكّلت منها أهمّ الأحكام الفقهيّة، سواء كانت أعرافًا جاهليّة، أو مبادئ إسلاميّة، ومثلما ألحّ شاخت على تحليل كيفيّة حصول الإضافات النوعيّة، داخل منظومة الأحكام الفقهيّة، نتيجة الجدل الفكري المرتبط بتعدّد البيئات الإسلاميّة، وبتغيّر أوضاع المسلمين عبر الأزمنة؛ فإنّه أبان دور المؤثّرات الخارجيّة في إثراء المادّة الفقهيّة، ومثل هذا الـتمشّي في التأريخ للفقه الإسلامي، ممّا لا نصادفه باستمرار في كثير من الدراسات الإسلاميّة؛ حيث يشكّل الجانب الاعتقادي؛ عنصر إغراء لهدر السياق التاريخي المنتج لهذا الفقه[15].
ولعلّه من اليسير أن نبرّر هذه المفارقة؛ بين تاريخيّة الرؤية الاستشراقيّة، ولا تاريخيّة تصوّر بعض المفكّرين المسلمين، بالقول: إنّ الأولى استقامت على تقصّي ملابسات نشأة هذا الفقه، وتتبّع نسق تطوّره، بما هو منظومة قواعد قانونيّة، مناسبة لمقتضيات الاجتماع البشري. في المقابل؛ لم تكن الرؤية الثانية تميل إلى الاعتراف بتطوّر أحكام الفقه؛ لأنّها كانت تراها متماهية مع التعاليم السماويّة التي نزلت كاملة، ضمن الرسالة المحمّدية، ومن ثمّ؛ فقد كانت ترجّح القول بولادة الفقه الإسلامي مكتملًا، ولكنّ تثمين الرؤية الاستشراقيّة، لا ينبغي أن يحجب عن أبصارنا، ما قد تخفيه القراءة التاريخيّة من مواقف غير معلنة في معظم الأحيان.
2ـ دلالات التحقيب:
اختيارات المؤرّخ في التحقيب، عمل إجرائي تدعو إليه الضرورات المنهجيّة في البحث التاريخي، ولكنّه يخرج، غالبًا، عن هذا الحدّ، ليصبح حاملًا لوجهة نظر معيّنة إزاء ذاك التاريخ موضوع الدراسة، وما يرشّح بروز هذا الجانب المعياري في التحقيب التاريخي؛ أنّ المؤرّخ يحتاج إلى أن يقنع بوجاهة اختياره في تحديد المنعرجات التاريخيّة للمرحلة التي يدرسها؛ فينقاد، بهذا التعليل، إلى تعيين مميّزات كلّ حقبة، وإصدار أحكام محدّدة بشأنها، ومن خلال تحقيب (شاخت) لتاريخ الفقه الإسلامي، يمكن أن نتوقّف عند دلالتين أساسيّتين، تختزلان بعض مواقف هذا المستشرق من تاريخ الفقه الإسلامي؛ تتّصل الدلالة الأولى: بديناميّة التطوّر الداخلي للإنتاج الفقهي، في حين تتعلّق الثانية: بتثمينه لدور العناصر الأجنبيّة في تشكيل هذا الفقه وتطويره.
أـ الازدواجيّة التشريعيّة:
إنّ من أهمّ ما حرص شاخت على تأكيده، عند كلامه على منعرجات تاريخ الفقه الإسلامي؛ ما يتّصل بترابط هذه الحقب، بحيث لا تختفي آثار الحقبة السابقة، فيما يأتي بعدها، وهذا ينقض القول بوجود قطيعة، هنا أو هناك، بين هذه الحقب، وفي تأكيد ترابط الحقب، إقرار ضمني بمبدأ تطوّرها الذاتي بفعل عوامل مؤثرة من صميم بنيتها الداخليّة، وما يثير الانتباه في استدلال (شاخت)، لإثبات هذه الخاصيّة في تطوّر الإنتاج الفقهي عبر محور الزمان؛ أنّه عرض جملة من التعليلات، التي نقض بها ما استقرّ في الفكر الإسلامي بخصوص هذه المسألة، ولعلّ من أهمّ المسائل في هذا الباب؛ ما جاء متّصلًا بولادة أحكام الفقه، وكيفيّة تشكّلها، ونسق تطوّرها، وقد ألحّ (شاخت)، في هذه الناحية، على تأخّر ظهور الأحكام المستمدّة من القرآن، إلى أواخر القرن الأوّل للهجرة[16]، مقابل استمرار المسلمين في العمل بمبادئ القانون العرفي الموروث عن أسلافهم الجاهليين، وذهب هذا المستشرق إلى القول: إنّ النبي، نفسه، قد انخرط في العمل ضمن المؤسّسات القانونيّة القديمة؛ إذ اضطلع بدور "الحكَم" الذي ترفع إليه النزاعات، ليقضي فيها وفق ما كان شائعًا بين العرب في الجاهليّة[17]، ولم يقرّ (شاخت) بتأثير القوانين المستمدّة من مبادئ القرآن، إلا في مستوى محدود، ورأى أنّ ذلك كان محصورًا في إدخال تعديلات طفيفة، على بعض المؤسّسات القانونيّة القائمة على العرف الجاهلي، مثل؛ أحكام القصاص، والميراث، والقتال.
واللافت في تأريخ شاخت للفقه؛ أنّه أسقط المرحلة التي وسمها الفكر الإسلامي: بـ"حقبة الخلافة الراشدة"، ورفض سائر الأخبار التي نوّهت بمآثر القضاة، معتبرًا أنّ الكلام على رسالة عمر للقضاة، مثلًا، بلا أساس تاريخي؛ لأنّه من اختراع القرون اللاحقة، وعلى الرغم من الإقرار بالأهمّية البالغة التي تكتسيها هذه المرحلة في تاريخ الفقه الإسلامي؛ فقد أحجم (شاخت) عن الخوض في تفصيل وقائعها، على اعتبار أنّ الأخبار المتّصلة بها غير جديرة بالثقة، وخلص إلى القول: إنّ الغموض يكتنف هذه المرحلة من كلّ جهة[18]، وللشكّ في المصادر التاريخيّة المتّصلة بهذه المرحلة، نتائج في غاية الخطورة، أهمّها؛ عدم الأخذ بحجيّة ما ينسب إلى تلك الفترة من آثار كثيرة ومتنوّعة، وفي مقابل هذا الزهد في الكلام على، ما اعتبره أكثر المسلمين، المرحلة التأسيسيّة للمنظومة الفقهيّة، اهتمّ شاخت بتحليل تطوّر التشريع خلال الحقبتين الأمويّة والعبّاسيّة، وقد نهج في هذا المسلك سبيلًا مزدوجًا؛ حيث قدّم الكلام على إدارة الدولة للشّأن القانوني عامّة، ثمّ عقّب بالنظر في جهود العلماء والقضاة، المتّصل بوضع منظومة الأحكام الإسلاميّة، واتّجهت عناية المؤلّف، عند تناوله لتشريع الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة، إلى الكشف عن أوجه التوظيف السياسي للجانب التشريعي، وأكد أنّه في مقابل اهتمام الأمويّين بتدعيم أركان حكمهم في البلدان المفتوحة، عبر محاولة إقحام بعض مبادئ التشريع الإسلامي في صلب المؤسّسات القائمة؛ فإنّ العبّاسيين قد عمدوا إلى تقريب الفقهاء، وإحداث عدّة مؤسّسات جديدة تهتمّ بالشأن القضائي؛ كولاية المظالم، والحسبة، والشرطة، واحتفظوا لأنفسهم بسلطة الإشراف على هذه المؤسّسات.
وكانت عناية (شاخت) برصد مراحل تبلور التفكير الفقهي الناشئ، على درجة بالغة من الدقة والتفصيل؛ حيث تتبّع تتالي ظهور الجماعات المهتمّة بالأحكام التشريعيّة، ووصف خصائص النظر الفقهي لدى كلّ فئة، وبيّن طبيعة العلاقات القائمات بينها، من خلال إبراز أوجه التوافق والتعارض بين طرائقها، وقد امتدح شاخت، ضمنيًّا، روح التحرّر والواقعيّة لدى القضاة الأوائل الموسومين بالتقوى، والذين لم يمنعهم ورعهم الديني من إعمال آرائهم، والاستئناس بالأعراف القائمة، في وضع جملة من الأحكام التي ستشكّل النواة الأولى لمدوّنة الأحكام الفقهيّة[19]، وعلى الرغم من تناوله لوجوه الاختلاف في الرأي بين حلقات هؤلاء الفقهاء؛ التي توزّعت بين الحجاز والعراق والشام؛ فإنّه صرف عنايته الأكبر لتحليل آراء من جاء بعدهم من أنصار الحديث، الذين عارضوا نهج الفريق الأوّل في التشريع، مستندين إلى قاعدة مؤدّاها؛ أنّه لا يصحّ أيّ حكم فقهي، ما لم يؤيّده حديث نبوي[20].
ومن الواضح؛ أنّ (شاخت) كان يهدف من هذه المراوحة بين تحليل عناصر التشريع السياسي، الذي اضطلعت به أجهزة الدّولة الإسلاميّة من جهة، وبيان مستوى ما بلغته الأحكام الفقهيّة من تطوّر، في النوع والكمّ، على أيدي الفقهاء المتخصّصين، من جهة أخرى، إلى الإلحاح على بيان قيام هذا الفقه، منذ بداية عهده، على مفارقة حادّة، جعلته منقسمًا على ذاته بين النظري والعملي، والحقيقة: أنّ عديد المؤشّرات تحمل على الاعتقاد، بأنّ المؤلّف قد أقام تقويمه لتاريخ الفقه الإسلامي على أساس هذه الثنائيّة، وهذا ما نتبينه في تحليله لأطوار هذه الحقب الفقهيّة الممتدّة؛ من القرن الثالث للهجرة حتّى العصر الحديث:
ـ خلال حقبة تبلور المذاهب الفقهيّة، التي ظهرت مع شيوع الفروض الحنفيّة، التي تدعّمت، لاحقًا، بإبداع الشافعي لنظريّة أصول الاستنباط الفقهي، تكرّس تشريع مواز، اضطلعت به المؤسّسات القانونيّة التي أنشأتها الدولة، وعيّنت لإدارتها موظّفين يرجعون إليها بالنظر بصفة مباشرة، ويؤدّون وظائفهم، على الوجه الذي يخدم سياسة الحاكم القائم، وهكذا اختصّ الفقه النظري الذي وضعه الفقهاء، بالتشريع لما هو ديني، في حين اهتمّت مؤسّسات القضاء الراجعة بالنّظر إلى الدولة، بمعالجة ما هو دنيوي وسياسي تحديدًا[21].
ـ في الحقبة اللاحقة، والموسومة: بمرحلة "غلق باب الاجتهاد"، أكّد شاخت أنّه لمّا اكتمل صرح منظومة الأحكام الفقهيّة، واستقرّ في أذهان المسلمين، أنّ الخلف لم يعد لديه ما يضيفه إلى مقالات السلف، انفصلت قواعد الفقه عن مسايرة إيقاع الحياة، واكتفى الفقهاء بتقليد من تقدّمهم من أئمّة المذاهب، وعندها، ظهر الإفتاء لتيسير استيعاب الحوادث الجديدة[22]، وقد تبلورت عند شاخت ملامح هذه الثنائيّة؛ في اقتصار الفقه على بحث بعض القواعد التشريعيّة؛ كأحكام العائلة، والمواريث، والأوقاف، أمّا الأحكام الجزائيّة والضريبيّة وقوانين الالتزامات والحروب؛ فقد كان مرجعها العرف، غالبًا، كما كان يجري التوسّل بالحيل الفقهيّة، لتبرير العمل بالأحكام التجاريّة السائدة[23]، وممّا أيّد به المؤلّف مذهبه في القول برسوخ هذه الثنائيّة: أنّ من الفقهاء من كان على وعي شديد بشدّة رسوخها في بنية العمل الفقهي، وقد نهضت من بينهم فئة من أسماهم بــ "الصفويين"، يدعون إلى تجاوز هذه الازدواجيّة التشريعيّة، وذكر المؤلّف من هؤلاء؛ ابن تيميّة، وابن قيّم الجوزيّة، وابن تومرت، ومحمّد بن عبد الوهاب، ولكنّ ما يثير الاستغراب؛ أنّ شاخت لم يعن بمراجعة حقيقة "غلق باب الاجتهاد"، خلافًا لما ذهبت إليه بعض الدراسات المعاصرة، من تشكيك في حصول توقّف فعلي في حركة الاجتهاد[24].
ـ والظاهر أنّ شاخت قد استهواه تتبّع مواطن هذه الثنائيّة، في مراحل التاريخ الفقهي الحديث، أيضًا؛ إذ توقّف عند ما شهدته الحقبة العثمانيّة، في تاريخها المتأخّر، من محاولات متعدّدة لإدخال إصلاحات كثيرة على المادّة التشريعيّة، سواء بواسطة تطعيم الفقه التقليدي بمبادئ جديدة، أو بسنّ قوانين وضعيّة، تهتمّ بالمسائل الحيويّة كالتجارة، مثلًا، إلى جانب الأحكام الفقهيّة المستمدّة من المنظومة التقليديّة، واعتبر شاخت أنّ هذه الثنائيّة بطرفيها، التقليدي والتحديثي، قد تحكمت في تشكيل القاعدة القانونيّة، لسائر البلدان الإسلاميّة الواقعة تحت الاحتلال؛ من شمال إفريقيا إلى بلاد الهند، ولم تختف معالم هذه المعادلة حتّى بعد حصول الدول الإسلاميّة الحديثة على استقلالها؛ فقد استمرّ التداخل بين التشريعات الفقهيّة الموروثة من جهة، وموادّ القوانين الوضعيّة الحديثة من جهة أخرى.
وهكذا استقامت قراءة شاخت لتاريخ الفقه الإسلامي على فكرة بسيطة، ولكنّها شديدة الخطورة، جوهرها: أنّ هذا الفقه قد نشأ في التاريخ، ولكنّه خرج منه منذ فترة مبكّرة؛ أي منذ توقّف عن التطوّر، وانفصل عن مسايرة الممارسة، حتّى صار لا يراقب إلا جانبًا محدودًا من حياة المسلم المعاصر، ولكنّ هذه الازدواجيّة لا تعدّ المأخذ الوحيد على الفقه الإسلامي، حسب شاخت؛ فقد رأى أنّ في جذور تكوّن منظومة الفقه، ما يؤكد أنّ الفضل في تشكّله يعود إلى غير أهله من المسلمين، وهذا ما دفعه إلى النظر في مصادر تكوّن الفقه الإسلامي.
ب- دور المصادر الأجنبيّة:
ليس في ظاهر كلام شاخت على تاريخ الفقه الإسلامي، ما يدلّ على اهتمامه بالجانب المقارني في هذا المبحث، غير أنّ استقصاء البحث، فيما تناوله هذا المؤلّف، يكشف عن حجم ما أولاه من اهتمام بهذه المسألة، وأوّل ما يلفت الانتباه في هذا الباب: إلحاحه على تفرّد الفقه الإسلامي، بخصوصيّات جعلته شديد الاختلاف عن كلّ أشكال القوانين الأخرى، ومن علامات هذا التفرّد عنده؛ أنّ أحكام الفقه الإسلامي تهتمّ باستيعاب ضوابط سلوك الفرد من جميع جهاته؛ (مأكله، وملبسه، وسائر علاقاته على اختلاف وجوهها)[25]، وإلى جانب الإلحاح على رسوخ سمة الشموليّة؛ فإنّ الفقه الإسلامي قد استمدّ الكثير من مبادئه، حسب شاخت، من مصادر متنوّعة[26]، أهمّها؛ الأحكام اليهوديّة التي أمدّته ببعض قواعدها في التشريع الجنائي، خاصّة؛ كقاعدة رجم الزّناة[27]، وتوسيع أحكام القصاص، لتشمل الجراح إلى جانب الأنفس[28]، والقول بالاستفادة من قواعد الأحكام اليهوديّة، قد نجد له مبرّرًا في علاقة الجوار التاريخي، بين العرب والجاليّات اليهوديّة التي كانت منتشرة في أنحاء الجزيرة العربيّة، وفي مدينة الرّسول نفسها، كان اختلاط المسلمين بهذه الطّوائف محلّ قبول في مرحلة معيّنة، ولا تتحفظ المصادر الإسلاميّة، نفسها، في الحديث عن ذلك[29]، ومن قواعد الفقه الإسلامي ما يرجع، حسب شاخت، إلى القوانين الكنسيّة؛ فقد تسرّب مبدأ تحريم الزّواج على الزّاني، إلى الفقه الشّيعي الاثني عشري، وإلى الفقه الإباضي الخارجي من أحكام الكنيسة الشّرقيّة[30]، وفي هذا السّياق، نوّه المؤلّف بمدى تأثير أحد قساوسة دمشق، في صياغة بعض الأحكام الإسلاميّة، ومن ذلك؛ أنّ المسلمين خلال القرن الأوّل للهجرة، لم يعملوا بعقوبة قطع يد السّارق امتثالًا لأمر القرآن[31]؛ لأنّها لم تكن متداولة في أعرافهم، وقد استعيض عنها بعقوبة الجلد، عملًا بتعاليم القدّيس جون، وأكد شاخت أنّ المسلمين قد عملوا برأي هذا القدّيس، أيضًا، عندما جعلوا معوّلهم على الشّهادة في إقامة أدلّة إثبات الحقوق، دون الاهتمام بالوثائق المكتوبة، وذلك على الرّغم من أنّ القرآن الكريم، قد حثّ على اتخاذ الكتب أدلّة لتوثيق مختلف المعاملات بين الأفراد[32].
ولا بدّ أن نلاحظ أنّ آراء شاخت في هذا المجال، لا تطابق بعض الحقائق التاريخيّة؛ فعقوبة القطع كانت شائعة في مرحلة الإسلام المبكّر، حتى في غير جريمة السّرقة، وهو ما تشهد به عديد الأخبار المتّصلة بأشكال العقاب البدني لدى القدامى؛ فقد قطع أبو بكر امرأتين شمتتا بموت النّبي[33]، ويؤثر العقاب بالقطع عن زياد بن أبيه[34]، وعن غيره[35]، وعقوبة قطع يد السارق عمل بها العرب قبل ظهور الإسلام، وقد حفظت أخبار المؤرّخين أسماء بعض من خضعوا لهذه العقوبة[36]، وهذا يدفع زعم شاخت بعدم معرفة المسلمين الأوائل لهذا الصنف من الجزاء، ويحتاج حديث شاخت عن تقديم دليل الشّهادة على الوثيقة المكتوبة، بدوره، إلى تصويب؛ ذلك أنّ أحكام عقوبات الحدود، على سبيل المثال، تحتاج إلى شهادة الشّهود، بحكم الحاجة إلى ما يعرف بـ "كشف الشهود"؛ أي استجواب القاضي لهؤلاء الشهود، من أجل زيادة التحرّي والتثبّت، ومن ثمّ؛ فلا معنى للقول بنبذ المسلمين لطريقة الاستدلال بالوثائق المكتوبة في إثبات الحقوق.
ومن أهمّ المصادر الأساسيّة؛ التي رأى شاخت أنّها أمدّت الفقه الإسلامي بعدّة أحكام، نذكر؛ مدوّنة القوانين الرّومانيّة، وقد أرجع المؤلّف إليها أحكامًا متداولة في الفقه الإسلامي: كقولهم بقاعدة "الولد للفراش"، ومنها ما يتّصل، كذلك، بكيفيّة صياغة عقود الإجارة، ومنها، أيضًا، غرم السّارق ضعف قيمة المسروق، إلى جانب عقوبة قطع يده، ويمكن متابعة استرسال شاخت في تعداد ما هو منسوب إلى ثقافات أخرى؛ فقد ذكر أنّ الفقه الإسلامي أخذ في الحقبة العبّاسيّة، عن النّظام القانوني السّاساني، مبدأ انتداب كتبة القضاة، كما استعار من بقايا القوانين العراقيّة القديمة، قاعدة الإيجاب والقبول في إبرام عقود البيع، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ في بعض هذه الأقوال ما يجافي الحقيقة؛ فإذا توقفنا عند مسألة ضمان السّارق، مثلًا، لاكتشفنا أنّ فقهاء المسلمين لا يرتّبون على السّارق، سوى غرم قيمة المسروق لا ضعفها[37]؛ بل إنّ سحنون قد أسقط الضّمان عن من كان معدمًا[38]، ومن الفقهاء من أبطل الضّمان بصفة كليّة، إذا أقيمت العقوبة الأصليّة، وهي؛ القطع[39].
ودائرة الاستعارة من المدوّنات القانونيّة الأخرى لا تقف، حسب شاخت، عند حدود فروع الأحكام في هذا الباب أو ذاك، ولكنّها اتّسعت لتشمل أخذ بعض المبادئ التشريعيّة العامّة؛ أي القواعد الأصوليّة المعتمدة في الاستنباط، ووفقًا لهذا المستشرق؛ فقد اعتمد الفقهاء المسلمون على مبدأ "إجماع العلماء"؛ المعمول به في القانون الرّوماني، كما انتقلت إلى الفقه الإسلامي، طريقة "القياس": هي من طرائق التّشريع لدى أتباع اليهوديّة، وذهب إلى أنّ الفقهاء تأثروا، كذلك، بالفلسفة الرّواقيّة، وتحديدًا، في قولها بـ"الأحكام الخمسة"؛ من منع، وإباحة، وفرض، وندب، وكراهة[40]، وهي المبادئ التي طالما كرّست المصادر الإسلاميّة، وحتّى المعاصرة منها؛ إذ قالت: إنّ هذه الأحكام من أهمّ مبادئ علم أصول الفقه، الذي لا نجد له نظيرًا في الثقافات الأخرى[41].
والحقيقة؛ أنّ فكرة تأثر الفقه الإسلامي، بأحكام قانونيّة تنتمي إلى حضارات أخرى، فكرة شائعة لدى المستشرقين عامّة[42]؛ منذ أشاع الإيطالي (سانتيلانا) هذه المسألة، وقد أخذ بشيء منها بعض الباحثين المسلمين[43]، رغم معارضة أكثرهم لها، والذي يعنينا ملاحظته في هذا السياق: أنّ القول بانفتاح الفقه الإسلامي على مدوّنات قانونيّة متعدّدة، والأخذ عنها؛ إنّما يدعم مذهب (شاخت)، المتّصل بتأكيد تاريخيّة الفقه الإسلامي، ذلك أنّ مقولة التأثر، تعني؛ أنّ كيان هذا الفقه، كان على درجة عالية من الحيويّة والمرونة، بما دفعه إلى محاولة تجديد ذاته، انسجامًا مع المتغيّرات المتتابعة، وبصرف النّظر عن الجدل الحادّ بين المسلمين والمستشرقين، بخصوص تأكيد أو نفي حقيقة هذا التأثر ومداه؛ فإنّنا نعتقد أنّه لا يعيب الفقه الإسلامي، بما هو تشريع تاريخي، أخذه عن القوانين الأخرى، غير أنّه لا يجوز أن تنسب بعض المبادئ الذهنيّة العامّة؛ كالقياس أو الإجماع، بشكّل حصري، إلى فضاء ثقافي محدّد؛ لأنّها من خصائص العقل البشري عامّة، وعلى أهمّية الدراسات الاستشراقيّة؛ فإنّها كثيرًا ما تهدر مثل هذه الحقائق، نتيجة الانسياق وراء أوهام التفوّق الغربي على الشرق.
خاتمة:
من كلّ ما تقدّم، نخلص إلى أنّ مزيّة دراسة شاخت، تكمن في عنايتها بإبراز مقوّمات تاريخيّة الفقه الإسلامي، وقد استدلّت على إثباتها بمؤيّدات موضوعيّة في معظم الأحيان؛ إذ اهتمّت بتحليل ديناميّة تطوّره الذاتي عبر مراحله التّاريخيّة الكبرى من جهة، كما نظرت في علاقته بالسّياقات الاجتماعيّة والثقافيّة المتبدّلة، التي رافقت مسيرته، والتي تفاعل معها بهذا القدر أو ذاك، ولكنّ إمعان النّظر فيما وراء بعض اختيارات شاخت في الأرخنة، على هذا الوجه دون سواه، توحي بوجود مؤشّرات دالّة على ضرب من التّعسّف في تعليل بعض المعطيات التّاريخيّة[44]، وهو ما تبيّناه في كلامه على علاقة الفقه الإسلامي بالقوانين، الكتابيّة والرّومانيّة، على وجه التّحديد، وإلى ذلك؛ فإنّه ليس عسيرًا على الباحث في هذه المتابعة لتاريخ الفقه الإسلامي، أن ينتبه إلى ما يشي بنوع من الاستعلاء الحضاري؛ فقد اتّخذ شاخت من الأحكام الأوروبيّة الحديثة؛ بل وحتّى من الأحكام الكتابيّة والرّومانيّة القديمة، مقياسًا، لا يكاد يحيد عنه، في تقويمه لطبيعة الفقه الإسلامي، وعلى الرّغم من إقرار هذا المستشرق بأنّ طبيعة الفقه الإسلامي، تختلف، جوهريًّا، عن سائر الأنظمة القانونيّة المعروفة؛ فإنّه كان مصرًّا، مع ذلك، على محاولة إخضاعه لنموذج القوانين الأوروبيّة، ولئن أفصحت هذه الرّؤية عن أنّ منطلق صاحبها قائم على اعتبارات غير موضوعيّة، بدافع من الاختلافات الحضارية؛ فإنّ أقوم المسالك في التعامل مع مثل هذه المباحث، التي تختلط فيها الحقائق بالشّبهات، أن يتحرّى الباحثون، على الدّوام، إنصاف أصحابها، وإنصاف الحقّ منهم.
المصادر والمراجع باللسان العربي:
- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيت الأفكار الدولية، مجلد واحد، د. ت.
- أركون محمّد، قضايا نقد العقل الدّيني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط 1، نيسان (أبريل ) 1998م.
- البلاذري أحمد بن يحي، فتوح البلدان، مراجعة وتعليق: رضوان محمّد رضوان، دار الكتب العلميّة، بيروت- لبنان، 1412هـ/ 1991م.
- الجابري محمّد عابد، تكوين العقل العربي مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط 3، بيروت، كانون الثّاني / يناير 1988م.
- جولد زيهر، العقيدة والشّريعة في الإسلام، نقله إلى العربيّة وعلّق عليه: محمّد يوسف موسى، عبد العزيز عبد الحقّ علي حسن عبد الغفّار، دار الرّائد العربي، بيروت- لبنان، د. ت.
- ابن حبيب محمّد، كتاب المحبّر، تحقيق: إيلزة ليختن شتيتر، بيروت، دار الآفاق الجديدة، د. ت.
- الحجوي محمّد بن الحسن، الفكر السّامي في تاريخ الفقه الإسلامي، مطبعة إدارة المعارف، الرّباط، 1340– 1345.
- السّرخسي محمّد بن أحمد، المبسوط، مطبعة السعادة، بجوار محافظة مصر لصاحبها محمد بن إسماعيل، سنة 1324.
- ابن سعيد سحنون، المدوّنة الكبرى، طبعة السّعادة، مصر 1323هـ، دار إحياء التّراث العربي، د. ت.
- السّايس محمّد علي، تاريخ الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت- لبنان، 1425هـ / 2004 م.
- الشافعي محمّد بن إدريس، الأمّ، طبعة مطبعة السعادة، بجوار محافظة مصر لصاحبها محمد بن إسماعيل، سنة 1324هـ.
- عبد الكريم خليل، الجذور التّاريخيّة للشّريعة الإسلاميّة، سينا للنّشر، د. ت.
- العروي عبد الله، ثقافتنا في ضوء التاريخ، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت- لبنان، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، ط 2، 1984م.
- علي جواد، المفصّل في تاريخ العرب، دار العلم للملايين- بيروت، مكتبة النّهضة- بغداد، ط 3، شباط ( فبراير) 1980م.
- ابن قدامة المقدسي، عبد الله بن أحمد، المغني، طبعة دار الآفاق، بيروت، د. ت.
المراجع باللسان الأعجمي:
- B. Hallaq, Wael, “Was the gate of ijtihad closed?”, International Journal of Middle East Studies, vol. 16, N. 1, March 1984.
- Milliot, Louis, Introduction à l’étude du droit musulman, recueil Sirey Paris –Ve.
- Schacht, Joseph, Introduction au droit musulman, G.P. Maisonneuve et larose, 1983.
- Tyan, Emile, Histoire de l’organisation judiciaire en pays d’Islam, T 2, Annales de l’université de Lyon, 3e série 1943.
[1]ـ البداية كانت بتقديم مرادجه دوسون (Mouradgea d’Ohosson): هو مسيحي من أصل تركي، ومترجم سابق لملك السويد، كتاب "ملتقى الأبحر" لإبراهيم الحلبي، وقد كان لهذا الكتاب تأثير واسع في الدولة العثمانيّة.
[2]ـ من أبرز المشاركين في هذا الجدل: جولد زيهر (Goldzihier)، وسنوك هورجيه (Snouk-Hurgronge).
[3]ـ انظر:
L. Milliot, Introduction à l’étude du droit musulman, G.P. Maisonneuve et larose,1983, p 28
[4]ـ اختار شاخت أن يجعل من مبادئ الفقه الحنفي، مرجعه الأساسي في دراسة مبادئ الفقه الإسلامي.
[5]ـ هذا المصطلح استخدمه العروي، وترجم به عبارة (Historisation)، انظر: ثبت المصطلحات في كتابه "مفهوم العقل"، كما استخدم محمّد أركون مصطلحي: الأرخنة/ نزع الأرخنة، في كتابه: "قضايا نقد العقل الدّيني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟"، ترجمة وتعليق: هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط 1، نيسان (أبريل) 1998م، ص 49.
[6]ـ عبد الله العروي، ثقافتنا في ضوء التاريخ، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت/ لبنان، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ المغرب، ط 2، 1984م.
[7]ـ مؤلفات شاخت التي اهتمت بالبحث في هذا الموضوع عديدة، ومنها: (art; Fiqh in EI2)، ومقال بعنوان: "ثلاث محاضرات في الفقه الإسلامي" ضمن المنتقى من دراسات المستشرقين، ج 1، جمع: صلاح الذين المنجد، مطبعة لجنة التأليف والنشر والترجمة، القاهرة، 1955م، وكتاب: (Introduction au droit musulman)، ونقتصر في هذا المقال على تتيّع ما جاء في مؤلّفه الأخير، وقد اعتمدنا الترجمة الفرنسية لهذا الكتاب.
[8]ـ جاء عنوان الفقرة الخاصّة بهذا الموضوع، حاملًا لهذه الدّلالة بكلّ وضوح؛ فقد وسمها بـ: (Les origines pré-islamiques)، انظر:
Introduction au droit musulman, p 17.
[9]ـ انظر: محمّد علي السّايس، تاريخ الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر، بيروت- لبنان، 1425 هـ/ 2004 م، ص ص 27- 28.
[10]ـ للتأكيد على الوظيفة الإبستمولوجيّة للفقه في إحداث القطيعة مع ما تقدّم؛ ذكر محمّد عابد الجابري: أنّ الفقه في الثقافة الإسلاميّة، قام بنفس الدور الذي قامت به الرياضيّات في الثقافة اليونانيّة، والثقافة الأوروبيّة الحديثة. تكوين العقل العربي، ص 98.
[11]ـ في سياق الاستدلال على وجود قوانين معيّنة لدى عرب الجاهلّة، كتبت مؤلّفات متعدّدة، انظر، على سبيل المثال: جواد علي، المفصّل في تاريخ العرب، دار العلم للملايين، بيروت، مكتبة النّهضة بغداد، ط 3، شباط (فبراير) 1980م، ج 5، ص 482 وما بعدها. وانظر أيضًا: خليل عبد الكريم، الجذور التّاريخيّة للشّريعة الإسلاميّة، سينا للنّشر، ط 1، د. ت، ص ص 25- 77.
[12]ـ يدخل ضمن الصّنف الأول من الفصول؛ أي التي تمّ التصريح بعلامات تحقيبها، ثمانية فصول، هي: 3- 4- 5- 7- 8- 13- 14- 15، وأمّا الصّنف الثاني؛ أي الذي لم يصرّح فيه بعلامة تحقيب الفصول؛ فيتكون من خمسة فصول، هي: 6- 9- 10- 11- 12.
[13]ـ "الحقبة مرتبطة بمدلول معيّن؛ إنّها مدّة زمانيّة فاصلة بين تاريخين منسوبين إلى تقويم محدّد، ومرتبطة بمستوى معيّن من الفعاليّات البشريّة، ومنفصلة عن مفهوم الدّولة أو الدّورة، ولا تحمل معنى أخلاقيًّا أو فلكيًّا". عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، ط 1، 1992م، ص 282.
[14]ـ انظر: محمّد بن الحسن الحجوي، الفكر السّامي في تاريخ الفقه الإسلامي، مطبعة إدارة المعارف، الرّباط، 1340– 1345هـ، 4 مجلّدات، ص ص 27- 28.
[15]ـ معظم دارسي الفقه من المسلمين، يحصرون مصادره في النصوص الدّينيّة، ويعنون بذلك: الكتاب والسنّة. انظر: محمّد علي السايس، تاريخ الفقه الإسلامي، ص 69.
[16]ـ انظر:
Schacht, Introduction au droit musulman, p 27.
[17]ـ انظر:
Tyan, Histoire de l’organisation judiciaire en pays d’Islam, T 2, Annales de l’université de Lyon, 3e série 1943.
[18]ـ انظر:
Schacht, Introduction au droit musulman, p 25.
[19]ـ راجع قول شاخت:
«Les spécialistes parmi lesquels les qâdîs devaient de plus en plus être recrutés se trouvaient être des personnes pieuses que leur intérêt pour la religion incitait à élaborer, au moyen du raisonnement individuel, une manière de vivre islamique», Schacht, Introduction au droit musulman, p 33.
[20]ـ المصدر نفسه، ص 39.
[21]ـ انظر:
Schacht, Introduction au droit musulman, p 52.
[22]ـ المصدر نفسه، ص 66.
[23]ـ المصدر نفسه، ص 70.
[24]- انظر هذا القول لوائل حلاق:
«A systematic and chronological study of the original legal sources reveals that theses views on the history of ijtihad after the second/eighth century are entirely baseless and unaccurate… I shall try to show that the gate of ijtihad was not closed in theory nor in practise », Wael B. Hallaq, “Was the gate of ijtihad closed?”, International Journal of Middle East Studies, vol. 16, N. 1, March 1984, p 2.
[25]ـ انظر:
Schacht, Introduction au droit musulman, p 66.
[26]ـ انظر قول شاخت:
«Il est hors de doute que les premiers spécialistes musulmans en droit religieux doivent avoir consciemment adopté certains principes des droits étrangers», Schacht, Introduction au droit musulman, p 29.
[27]ـ المصدر نفسه، ص 25.
[28]ـ المصدر نفسه، ص 23.
[29]ـ تجمع مدوّنة الفقه السنّي، غلى أنّ النّبي قد سأل اليهود عن حكم الزاني في التوراة، وأنّه قد عمل بهذا الحكم، ونعني بذلك؛ حكم الرّجم. انظر، على سبيل المثال: ابن قدامة المقدسي، المغني، طبعة دار الآفاق، بيروت، د. ت، ج 10، ص 118.
[30]ـ انظر:
Schacht, Introduction au droit musulman, p 29.
[31]ـ وهي العقوبة التي أمر بها القرآن، مثلما جاء في سورة [المائدة (5): 37].
[32]ـ انظر الآية: ﴿ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ ﴾ [البقرة (2): 282].
[33]ـ المرأتان: هما الثبجاء الحضرميّة، وهند بنت يامن اليهوديّة. البلاذري، فتوح البلدان، دار الكتب العلميّة، مراجعة وتعليق: رضوان محمّد رضوان، بيروت- لبنان، 1412هـ/ 1991م، ص 111.
[34]ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، بيت الأفكار الدولية، مجلد واحد، د. ت، ص 480.
[35]ـ قطع مسيلمة يد حبيب بن زيد بن عاصم ورجله، وقد جاءه حاملًا دعوة النبي محمد إلى الإسلام. البلاذري، فتوح البلدان، ص 96.
[36]- انظر، مثلًا، هذا الخبر: "وقطعت قريش رجالًا في الجاهليّة في السرقة، منهم؛ وابصة بن خالد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، سرق في الجاهليّة، فقطعت يده". محمّد بن حبيب، كتاب المحبّر، تحقيق: إيلزة ليختن شتيتر، بيروت، دار الآفاق الجديدة، د. ت، ص 328. وقد ذكر ابن حبيب أخبار طائفة ممّن قطعت أيديهم في السرقة، في مرحلة ما قبل الإسلام.
[37]ـ انظر: الشافعي، الأمّ، ج 6، ص 139. وابن قدامة، المغني، ج 10، ص 274.
[38]- عقوبة السّارق؛ هي القطع عند جميع الفقهاء المسلمين، أمّا الغرامة، والتي اصطلحوا على تسميتها بـ(الضّمان)؛ فهي عقوبة ثانويّة، فضلًا عن أنّ بعضهم، قد قال بسقوطها على المعدم. انظر: سحنون، المدوّنة الكبرى، طبعة السّعادة، مصر 1323هـ، دار إحياء التّراث العربيّ، د. ت، ، ج 16، ص 304.
[39]ـ السّرخسي، المبسوط، ج 9، ص 157.
[40]- Schacht, Introduction au droit musulman, p 27.
[41]ـ محمّد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ط 3، بيروت كانون الثّاني / يناير 1988، ص 100.
[42]ـ انظر: جولد زيهر، العقيدة والشّريعة في الإسلام، نقله إلى العربيّة وعلّق عليه: محمّد يوسف موسى وعبد العزيز عبد الحقّ علي حسن عبد الغفّار، دار الرّائد العربي، بيروت- لبنان، د. ت، ص 47. انظر أيضًا:
E. Tyan, Histoire juridique en pays d’Islam, p 131.
[43]ـ راجع: خليل عبد الكريم، الجذور التّاريخيّة للشّريعة الإسلاميّة، ص 9.
[44]ـ انظر قول هذا المستشرق:
«Nos auteurs s’efforcent de trouver, dans le droit musulman des équivalents de nos codifications, pour les traduire et s’en servir afin d’élaborer des traités pratiques», Milliot, Introduction à l’étude du droit musulman, p p 24- 25.