تاريخيّة المفاهيم في كتابات المستشار عبد الجواد ياسين
فئة : مقالات
تاريخيّة المفاهيم في كتابات المستشار عبد الجواد ياسين
ملخّص:
تفترض كل عمليّة تواصل بدءا الاتفاق على لغة مشتركة تمكّن من فهم الرسالة التي ينشئها الباث ويوجّهها إلى المتلقّي. واللغة إنّما تتطوّر بفعل الاستعمال الذي يحمّل دوالّها مداليل مختلفة باختلاف سياقات التخاطب ومرجعيّاته، من هنا كانت الحاجة في السياقات الفكريّة والأكاديميّة خاصّة إلى ضرورة ضبط المفاهيم التي تختزل إشكالات كبرى، وتكون منطلقا لإثارتها والبحث فيها. وقد تزداد الحاجة إلحاحا إذا اشتقّت هذه المفاهيم من لغات متنوّعة ومن مجالات تداوليّة مختلفة وأردنا إجراءها في مجالنا العربي والإسلامي. فالملاحظ أنّ كثيرا من كتابات المفكّرين العرب تعتمد ترجمات مختلفة للمفهوم الواحد، ومن ثمّ تعبّر عن فهم قد لا يكون بالضّرورة واحدا، وهو ما يربك فعل التّواصل بينهم خاصّة إذا اعتدّ كلٌّ بترجمته وضبط لها مداليل قد تعيق توظيفها في سياقات تنأى عن هذه المداليل. وقد عبّر المستشار عبد الجواد ياسين في كتاباته المختلفة عن وعي بهذا الإشكال ترجمت عنه عناوين كتبه التي حملت جميعها مفاهيم حرص على تعريفها ثمّ أجراها في سياقات مخصوصة اختارها لفهم الثقافة العربيّة والإسلاميّة وخاصّة المسألة الدّينيّة في صلة بالاجتماع.
مقدّمة:
يلاحظ قارئ كتابات المستشار عبد الجواد ياسين منذ البداية اتّفاق عناوينها على استحضار عدد من المفاهيم التي يجعلها مدار اهتمامه وبحثه، من قبيل السلطة والدّين والتّديّن واللاهوت.. وجميعها تقريبا محكوم بجملة من الخلفيّات والمرجعيّات التي تصنع دلالتها وتحكم أبعادها، بل تجمع بينها في كثير من النّقاط. ولعلّ من أبرز نقاط التقاطع بينها مسألة حضور الاجتماع وأثره فيها، وهو ما جعل المستشار في كثير من الأحيان يؤكّد تاريخيّتها وتطوّرها ويحاول حصر ما استقرّ لها من معان وتحديد مجالات تداولها ووظائفها، منبّها دوما إلى طابع النّسبيّة والذّاتيّة في ما يقدّم من أفكار ونتائج، منفتحا على جميع المواقف والآراء التي قد لا تشاركه وجهة نظره جزئيّا أو كلّيّا.
ولم تخف هذه المفاهيم الظاهرة البارزة في العناوين سلسلة أخرى من المفاهيم المهيمنة في فكر المستشار وفي مقدّمتها الحرّيّة والعقلانيّة. من هنا اتّخذنا البحث في عدد منها سبيلا لفهم الخيط النّاظم بينها لتفكيك خصوصيّة فكر المستشار وتحليله. فقد تخلّص في تعريفها من أسر المواضعات اللّغويّة لينهل من منابع شتّى منها تاريخ الأديان وعلم الاجتماع والفلسفة والأنثروبولوجيا، ونظر في التّشريع والسّياسة واللاهوت.. وحشد من البراهين كمّا هائلا يدعم به أطروحاته، فكانت كتاباته ثريّة موسوعيّة جمعت بين العمق والدّقة وكثير من الحذر في معالجة أسئلة محوريّة متّصلة بالمسألة الدّينيّة في مختلف تجلّياتها.
النّسق واختلاف الدلالات:
تبدو المقارنة نهجا قارا في كتابات المستشار عبد الجواد ياسين، فهو يميّز جيّدا بين زوايا النّظر الممكنة في تناول أهمّ الإشكاليّات التي يثيرها، ويتّخذها وسيلة لإبراز طرائق الفهم المتنوّعة ونتائجها وآثارها، ليستخلص المؤتلف والمختلف فيها. وبما أنّ المسألة الدّينيّة كانت مهيمنة في كتاباته، فإنّه لم يغيّب النّظرة إليها من داخل المنظومة الدّينيّة نفسها؛ إذ عمل على تفكيك طريقة اشتغالها في منطلقاتها الكبرى من حيث تعبيرها عن نسق في الاعتقاد والتّفكير له محدّداته وأدبيّاته ومناويله التي تحكم أصحابه وتميّزه عن سائر الأنساق المعرفيّة، وخاصّة منطق التّفكير الوضعي، وقد بدا هذا جليّا خاصّة في كتابه الأخير "اللاهوت" الذي جاء في غلافه: "يعالج هذا الكتاب ظاهرة الدّين من وجهة نظر العقل الدّيني الذي ينكر أيّ بعد اجتماعي في الدّيانة، وكذلك من وجهة نظر العقل الوضعي، الذي ينظر إلى الدّين كظاهرة اجتماعيّة مصنوعة داخل العالم". وهذا ما فعل أيضا في كتابه "السلطة في الإسلام" تحديدا الجزء الأوّل حين أقامه على المقارنة بين ما أسماه العقل الإسلامي والعقل العلماني؛ إذ يقول: "ولأنّ العقل الإسلامي بشقّيه السّلفي والرّاهن (وهما في الحقيقة عقل طوليّ واحد) يشارك العقل العلماني، خطأ الخلط بين النّصّ والتّاريخ من جهة، وبين الشّكل والموضوع من جهة أخرى، وإن اختلفت المنطلقات والنّوايا ومن ثمّ النّهايات والنّتائج؛ فمعنى ذلك أنّ عمليّة المراجعة التّصحيحيّة التي يزمع هذا البحث القيام بها سوف تتمّ في مواجهة العقلين جميعا"[1].
ولهذا التّمييز مبرّراته المنطقيّة والمعرفيّة؛ فاختلاف الأنساق يحمّل المفاهيم بالضّرورة دلالات متنوّعة قابلة للتّعديل والتّطوّر بتنوّع الفرضيّات والأطروحات والمرجعيّات. وقد بدا المستشار عبد الجواد ياسين واعيا بدقّة ما تفرضه هذه الأنساق من إشكالات في الفهم، وما يمكن أن ينجرّ عنها من آثار في التعامل مع الظّواهر المدروسة وحساسيّتها خاصّة في تناول المسألة الدّينيّة. ومن ثمّ لم يغب عنه الحذر في عرضها والحرص على استحضار الأدلّة التّفصيليّة المناسبة لها. لذا، نجده لا يكتفي بتناول الإسلام وحده، وإنّما يستدعي الدّيانات الوضعيّة والتّوحيديّة على حدّ السّواء[2]، فيبيّن تطوّر توظيف المفاهيم المعتمدة في كتاباته في الهندوسيّة واليهوديّة والدّيانات المصريّة والآشوريّة والصّينيّة والبابليّة واليونانيّة القديمة والإسلام والمسيحيّة...موضّحا قيمة الاجتماع وخصوصيّة كلّ ديانة في ضبط دلالات هذه المفاهيم وهو ما يؤكّد تاريخيّتها وتطوّرها[3]. هذا فضلا عن كونه في اهتمامه بالإسلام تخصيصا، انتبه إلى ما حضر في فهمه وتأسيسه من تراث الدّيانات السّابقة له، سواء حافظ عليه أو عدّله أو تجاوزه أو قطع الصّلة به، ومن ثمّ كانت له مفاهيمه الخاصة التي عملت على تثبيت عقيدة التّوحيد بطرائق مختلفة.
وقد ركّز المستشار عبد الجواد ياسين على هذه النّقطة التي رآها دالّة على عمق تأثير الاجتماع في تطوّر الأنساق المعرفيّة والعقائديّة من داخلها وخارجها في آن، يؤكّدها قابليّتها واحتواؤها للتّنوّع والاختلاف داخلها في مختلف المراحل التّاريخيّة، وإن بدرجات متفاوتة. فما اصطلح المستشار عبد الجواد ياسين مثلا على تسميته بـ "المنظومة السّلفيّة" (منظومة العلوم النّقليّة في التّفسير والفقه والأصول والحديث وعلوم اللّغة) مثّل "دائرة مقفلة ذات توجّه استبعادي صريح، مقابل الدّوائر الأخرى غير النّقليّة التي أفرزتها ثقافة التّديّن كدائرة الكلام والفلسفة والأدب. ورغم أنّها لم تستطع نفي هذه الدّوائر من ساحة الثّقافة الإسلاميّة الواسعة إلاّ أنّها نجحت في إقصائها عن مركز الفعل المؤثّر في العقل العامّي المسلم.. واحتكرت لذاتها وظيفة التّحدّث باسم الدّين"[4].
فداخل النّسق الواحد لا نجد ضرورة تمثّلا واحدا للألوهيّة ولا فهما موحّدا للمسألة الأخلاقيّة، إنّما نجد تمثّلات شتّى وتحاليل وأمثلة متنوّعة من شأنها أن تثير الجدل داخل هذا النّسق، ولا يعني اتّفاق المقاصد ضرورة اعتماد طريقة موحّدة في تمثّلها وإدراكها أو حصرها. وهو ما يؤكّد مرّة أخرى، أهمّية ضبط المفاهيم في تحليل الظّاهرة الدّينيّة، وقيمة وصلها بالاجتماع والتّاريخ؛ لأنّ هذا يتيح لنا فهمها وتبيّن شروط إنتاجها وآليّات اشتغالها وتحديد الوظائف التي أدّتها، ومن ثمّ ضبط حدودها وسياقاتها والقدرة على تقييمها ونقدها.
ونشير إلى أنّ المستشار عبد الجواد ياسين لم يعمل جهازه المفاهيمي في التّراث الإسلامي وحده، وإنّما قرن الحاضر بالماضي لوعيه بأنّ عددا من هذه الأنساق المعرفيّة والعقائديّة ظلّ فاعلا، بل مهيمنا إلى اليوم، عبّرت عنه مثلا سلفيّات متعدّدة في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة غلب عليها الخلط بين النّصّ والتّاريخ، وسقطت في أسر سلفيّات لا نصّيّة حكمت بالانغلاق والجمود وعطّلت كلّ محاولات التحرّر والنّهوض الحضاري. ولم تكن وحدها أسيرة هذا الخلط، إنّما شاركها فيه آخرون من داخل هذه الثّقافة ممّن تبنّى أطروحات ظنّ أنّها علمانيّة أو حداثيّة، فحاكم الإسلام بتاريخه وصادر نصوصه. وهنا تكمن قيمة مشروع المستشار عبد الجواد ياسين من حيث هو محاولة لتصحيح المفاهيم وتعديل زوايا النّظر.
سلطة التّاريخ في ضبط المفاهيم:
بالإضافة إلى قيمة النّسق المعرفي والعقائدي في ضبط المفاهيم وتشكيل علاقاتها، يؤكّد المستشار عبد الجواد ياسين أنّ للتاريخ إكراهاته التي تفرض إدخال تحويرات في دلالة بعض المفاهيم والاصطلاحات، بتضييق دائرتها أو توسيعها، ويقدّم على ذلك مثالا ثنائيّة الإلزام والإباحة بين النّصّ والأحكام الفقهيّة، ويختار إجرائيّا قضيّة عزل الإمام لفسق أو ظلم أو فساد، وكيفيّة تفاعل المسلمين معها، ويستغرب من مواقف صدرت عن أعلام من الحنابلة والأشاعرة والماتريديّة يقولون بعدم جواز الخلع مطلقا بعد العقد للإمام، وجميعهم يعبّر عن "حالة ينتقل فيها الحكم على يد الفقه السّلفي من "دائرة الإلزام" إلى "دائرة المباح" انصياعا لمرجعيّة التّاريخ"[5]. ويثبت التاريخ حسب المستشار عبد الجواد ياسين قيمة تدخّل السّلطة السّياسيّة في المسألة الدّينيّة بتواطؤ مع العقل السّلفي، أو مع ما يسمّى بفقهاء السلطان أو البلاط الذين صاغوا أحكامهم الفقهيّة على نحو يلقى القبول والرضا عند حكّامهم، وهو ما يشكّل خطرا على قضيّة التوحيد الإسلامي ذاته "لأنّه حين ينتقل الحكم من "دائرة المباح" إلى "دائرة الإلزام" أو من "دائرة الإلزام" إلى "دائرة المباح" فمعنى ذلك أنّ غير الله تعالى هو الذي يلزم، وهو الذي يبيح"[6]؛ بمعنى أنّ هؤلاء جعلوا من أنفسهم أوصياء على الدّين وشكّلوا فعل التّديّن على النحو الذي يتماشى مع إيديولوجية حكّامهم وسياستهم ومصالحهم الضّيّقة، والنّتيجة تعطيل العقل وتقييد الحرّيّة "تلك التي طال هتكها، على يد الأنظمة الحاكمة، منذ البواكير الأولى وحتّى اليوم، وطال إهمالها"[7]. وهذا يعني أنّ مثل هذا السّلوك يطغى بمرور الزّمن على النّصّ ويتجاوزه ويرتقي إلى درجة المقدّس بالغفلة عن طابعه البشري الأصلي والخلط بين الدّيني والسّياسي، ويشكّل إذّاك سلطة من العسير قبول تعديلها أو نقدها عند زمرة المؤمنين بها والخاضعين لها[8]. وبدل أن يكون الدّين جامعا موحّدا وتكون هذه المفاهيم المشتقّة من رحمه واحدة، نجد أنفسنا أمام شتات وتفرقة وصراعات لا تقبل التّنوّع ولا تحسن إدارة الاختلاف، إنّما تسير نحو انغلاق وجمود لا يثمران سوى التّخلّف والعجز عن البناء الحضاري ومواكبة العصر، وكأنّنا نقف عند نقطة تاريخيّة ما ضاربة في القدم نأبى لها أن تتزحزح ونرضى بأن نحمل وزرها ونعتقد في قهر سلطانها، بما أنّها تصنع بنا معارفنا وتشكّل هويّتنا من خلال منظومتها الفكريّة واصطلاحاتها، التي نأبى إلاّ أن نتبنّاها ونقنع أنفسنا بها.
من هنا كان لزاما التّمييز بين الدّين والتّديّن وإسلام النّصّ وإسلام التّاريخ...فالمتأمل في تاريخ التّديّن ينتهي إلى كونه أساء كثيرا إلى الدّين الخالص في روحه وجوهره وإطلاقه، نتيجة تقييد الحرّيّة ومصادرة العقل وقهر الذّات الفرديّة، بالوقوع في فتنة العجيب والغريب، وتبرير الخرافة وتداولها، والخضوع إلى السلطة السياسيّة، على الرغم من جبروتها وقمعها وظلمها واحتكارها فهم الدّين، ومن ثمّ رفضها التعدّد والتّنوّع والاختلاف وهو حق مشروع للذّات أن تكون لها تصوّراتها وتمثّلاتها الخاصة. ونفهم هنا تركيز المستشار عبد الجواد ياسين على مسألة التّشريع في الإسلام ونزعه القداسة عنها، حتّى إن وردت نماذج منها في القرآن النّصّ المقدّس عند المسلمين؛ لأنّ التّشريع في نظره مرتبط أشدّ الارتباط بالواقع، وهو ينتج قوانين تفصيليّة أو يحكم بتكاليف يفترض بها حسن تدبير عيش المسلمين وعباداتهم ومعاملاتهم، ولا يمكن أن يكون محنّطا أو مطلقا أو ثابتا، إنّما وجب تفاعله مع المتغيّر وتبدّل حاجات المسلمين ومتطلبات حياتهم باختلاف الزّمان والمكان.. وكذلك الشّأن في اللاهوت الذي يختلف عن فكرة الله، من حيث هو حصيلة تصوّر المؤمنين بدين ما عن الله، ولا ينأى هذا بدوره عن تجربة الاجتماع التي تكيّف هذا التّصوّر وتنتجه انطلاقا من تمثّلات سابقة للألوهيّة وآفاق انتظار حاضرة ترسم وفقها مخيّلة المؤمن تفاصيل تمثّله لربّه. وهو ما ينقلنا من طور المطلق والثابت إلى طور النسبي والمتغيّر أو المتنوّع فنخرج من دائرة الدّين إلى دائرة التّديّن والدّيانة حسب المستشار عبد الجواد ياسين. ويمكن أن نضرب مثلا على ذلك قضيّة الرّق التي عالجها النّصّ القرآني بشكل يؤكّد ارتهانه للواقع التّاريخي وسلطة الاجتماع، إذ تعامل معها "كأمر واقع مباح، وظلّ الرّقّ نظاما اجتماعيّا معترفا به من قبل النّصوص التي تضمّنت أحكاما خاصّة بالعبيد"[9]، ويعتبر المستشار عبد الجواد ياسين أنّ مثل هذه المعالجة وهذه الأحكام تتعارض مع الأخلاق الكلّيّة "القانون الوحيد "الإلهي""[10] والنّتيجة أنّ "القوانين التفصيلية المتعدّدة، حتّى وإن كانت "منصوصة" لا تنتمي إلى جوهر الدين بل إلى الاجتماع.."[11]. ويصدق هذا على مختلف الدّيانات التّوحيديّة.
وإذا أخذنا أنموذج الإسلام، فإنّ التّاريخ الذي عبّر المسلمون خلاله عن تمثّلاتهم أو تصوّراتهم لما جاء في النّصّ ومارسوها، إن في أنظمة حكمهم أو في قواعد فقههم، لا يمكن اعتباره "مرادفا موضوعيّا للإسلام"[12]. لقوّة حضور التدخّل البشري اجتهادا وقياسا ومراعاة لمتغيّرات الواقع ومتطلّباته فيه "إلى درجة إنشاء "النّصّ" أي اختلاقه كي يتوافق مع الواقع كما هو أو كما تريد أن تقرأه كلّ فرقة من الفرق السّياسيّة (المذاهب الدّينيّة لاحقا)"[13]، فالإسلام في نظر المستشار عبد الجواد ياسين "في نهاية الأمر ليس شيئا آخر غير النّصّ"[14]. والسّؤال المطروح حينها ما مدى إلزاميّة إسلام التّاريخ مقارنة بإسلام النّصّ؟ يفترض حسب المستشار أنّ أشكال التّديّن المختلفة ليس لها مبرّر لتكون بالضرورة ملزمة بإطلاق، بل لعلّها تشكّل عدولا عن الإيمان السّليم وتتعارض مع الدّين، وهذا يعني أنّه لا حقّ لها في أن تستمرّ في ممارسة وصايتها على الدّين وتفرض سلطتها على الإنسان المسلم فتشكّل إيمانه وتدبّر سلوكه وتحدّد معالم هويّته وتكرّس فهما يعدل أحيانا حتّى عن منطوق النّصّ ذاته[15]. وفي هذا دعوة لتحرير عقل المسلم من سلطة التّاريخ، وهو ما يتجلّى في قول المستشار عبد الجواد ياسين: "لقد فعلت السلطة كثيرا في التّاريخ، وفعل التّاريخ كثيرا في العقل، وبشكل مباشر وغير مباشر، صار العقل المسلم أسيرا للفعلين كليهما، لفعل السّلطة في التّاريخ أي لـ"تاريخ السّلطة"، ولفعل التّاريخ في العقل أي لـ"سلطة التّاريخ". فأمّا "تاريخ السّلطة" فقد أورث هذا العقل خضوعا شبه كلّيّ "للحكومة" بالمعنى المطلق. وأمّا "سلطة التّاريخ" فقد أورثته خضوعا شبه كلّيّ "للماضي" بالمعنى المطلق كذلك."[16]
وفي هذا السّياق كثيرا ما يلجأ المستشار عبد الجواد ياسين إلى المقارنة بين تجربة الحداثة الغربيّة وصراع العلمانيّة مع الكهنوت الكنسي، وبين التجربة التّاريخيّة الإسلاميّة والتّداخل بين الدّيني والسّياسي، مستحضرا الفوارق بين المفاهيم الدّينيّة المسيحيّة والإسلاميّة، وهذا اعتبره عاملا من عوامل الخلط في استقراء تاريخ الدّيانتين[17]. من ذلك مثلا التّمييز بين الدّين والدّولة، والنّصّ والتّاريخ، والشّكل والموضوع[18].. يقول المستشار عبد الجواد ياسين: "أمّا العلمانيّة التّابعة، فقد راحت تخلط بين المسيحيّة الغربيّة وبين الإسلام، شاهرة في وجه الثّاني الأسلحة نفسها التي شهرت في وجه الأولى، من غير إدراك أو من غير اعتبار لتخالف المفاهيم فيما يتعلّق بمعنى الدّين ووظيفته الاجتماعيّة". وهو ما يؤكّد مرّة أخرى، وعي المستشار بأهمّيّة تدقيق المفاهيم وتتبّع حمولاتها الدّلاليّة في تطوّرها عبر التّاريخ. ويجعل مشروعه الفكري عبارة عن عمليّة مراجعة تصحيحيّة نقديّة لطرائق التّفكير ومنطلقاتها المنهجيّة وفي مقدّمتها المفاهيم الكبرى المعتمدة في مقاربة المسألة الدّينيّة وتفريعاتها.
خاتمة:
إنّ التّواضع على حدّ المفاهيم والاصطلاحات في نسق معرفي ما، خطوة أساسيّة وضروريّة لتحقيق التّواصل وتحصيل الفهم ومراكمة المعارف، ولكنّ إجراءها تاريخيّا يخضع لسلسلة من التغيّرات التي تفرضها متطلّبات قد يكون للانتماء والاجتماع والسّياسة دور فيها، وبدل أن تكون وسيلة تقارب وتفاهم تصبح أرضيّة للافتراق والاختلاف وسوء الفهم. كلّ يحدّها على النّحو الذي يراه متناسبا مع تمثّلاته ومقتضيات عصره وبيئته، سواء كانت فرديّة أو جماعيّة؛ إذ تتدخّل عوامل ذاتيّة وموضوعيّة لحصر دلالات هذه المفاهيم. ومن ثمّ، لا يمكن تناولها من زاوية واحدة، ولا النّظر إليها استنادا إلى نسق معرفي بذاته، إنّما يُفترض تبيئتها أو استحضار سياقات إنتاجها واستعمالاتها لإدراك المقصود بها ووظائفها. والمستشار عبد الجواد ياسين كان في كتاباته واعيا بهذه الإشكالات مستحضرا صورا شتّى عنها، وهو ما أتاح له عرضها وتحليلها ونقدها مقدّما شواهد كثيرة تؤكّد قيمتها وخطورة توظيفها في سياقات بعينها أدّت إلى احتداد الخلاف في شأنها حدّ اللجوء إلى تعنيف المختلف وحتّى العمل على إقصائه وإعدامه، وبين هذا وذاك أمكن قياس مدى حضور العقل والحرّيّة أو تقلّصهما مقارنة بحضور سلطة الاتباع والتّقليد[19]. وهنا تكمن أهمّية بيان تاريخيّة هذه المفاهيم التي شكّل جزء كبير منها مدخلا لفهم الظاهرة الدّينيّة في تنوّعها وعمق صلتها بالاجتماع الإنساني وتأثّرها به.
فجميع المفاهيم المعتمدة أكّدت لدى المستشار عبد الجواد ياسين موقع الدّين من الاجتماع وصلته به، وأيّا تكن الزّاوية التي ننظر منها فإنّ المطلق خفت أثره تحت سلطان النّسبي، وفقد جزءا من طاقته وفاعليّته بفعل الاجتماع الذي أنصت لطبيعته المتغيّرة المتطوّرة واحتكم إلى معيار التّنوّع والتّعدّد ليصنع تمثّلات مختلفة لله والأخلاق الكلّيّة وصاغ تعبيرات كثيرة عنها وأنتج تشريعات نسبها إلى الدّين ليحافظ على طابعي القداسة والإلزام لغايات مؤقتة قيّد بها فعل الإيمان فأساء للدّين وسلب الإنسان إنسانيّته وحرّيته.
والسّؤال المطروح في نهاية المطاف ما البديل الذي يمكن أن يقدّمه المستشار عبد الجواد ياسين بعد كلّ هذه التحاليل العميقة للظاهرة الدّينيّة في صلتها بالاجتماع والتّاريخ؟ ومشروعيّة هذا السّؤال تكمن في كونه لم يجعل خاتمة لأيّ من كتبه، فكان كلّ كتاب ينبئ بآخر يتلوه وإشكاليّة جديدة يفصّل القول فيها باستحضار الجهاز المفاهيميّ نفسه تاركا القارئ ظمآن في انتظار النّتائج الختاميّة الكبرى لمشروعه الفكري. أو تراه قصد ذلك عمدا ليترك الباب مفتوحا حرّا لاستنباط ما سكت عنه أو إعمال آليّة التّأويل وتفعيل العقل؟
[1] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، الدّار البيضاء: المركز الثّقافي العربي، ط2، 2000، ص 13.
[2] انظر مثلا: عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، ص 10
وانظر أيضا: عبد الجواد ياسين، اللاهوت، المملكة المغربيّة-الرّباط، لبنان-بيروت:مؤمنون بلا حدود للنشر والتّوزيع، 2019، ص ص 53-57، و ص ص 64-65، و ص 70-105...
[3] يقول المستشار عبد الجواد ياسين: "يفترض أنّ المفاهيم - بما هي أفكار- قابلة للتّحرّك على الدّوام، لكنّ المفاهيم الدّينيّة تخضع لإيقاع حركة بطيء نسبيّا بسبب الضّغوط السّلطويّة التي تنشأ عن تجميد الدّيانة" (عبد الجواد ياسين، اللاهوت، ص 405.)
[4] عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، بيروت: التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2012، ص 80
[5] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، ص 18
[6] المصدر نفسه، ص 19
[7] المصدر نفسه، ص 19
[8] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام (2)، نقد النّظريّة السّياسيّة، الدّار البيضاء: المركز الثّقافي العربي، ط1، 2009،ص 26
[9] عبد الجواد ياسين، الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع، ص 229
[10] المصدر نفسه، ص 225
[11] المصدر نفسه، ص 225
[12] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، ص 12
[13] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام (2)، نقد النّظريّة السّياسيّة،ص 5
[14] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، ص 12
[15] المصدر نفسه، ص 17
[16] المصدر نفسه، ص8
[17] عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، ص 10
[18] المصدر نفسه، ص 12
[19] انظر مثلا: عبد الجواد ياسين، السّلطة في الإسلام، العقل الفقهي السّلفي بين النّصّ والتّاريخ، ص 9.