تاريخية النصّ القرآني عند نصر حامد أبو زيد
فئة : مقالات
تاريخية النصّ القرآني عند نصر حامد أبو زيد[1]
بعد النّكسة العربية واحتدام التّنافس بين الحضارة العربية والغربية، ظهرت في أواخر القرن الماضي مشاريع فكرية حداثية دعا أصحابها إلى إعادة قراءة التّراث العربي والإسلامي، ومحاولة معرفـة سبب الانحطاط والتّخلف وطرح الحلول لذلك، من هؤلاء المفكّرين من رأى وجوب اعتبار القرآن نصّاً تاريخياً محصوراً في حقبة زمنية معيّنة لا يجب تجاوزها، ومن هنا كان لزاماً النّظر إليه باعتباره نصّاً محكوماً بشروط تاريخية وظرفية تزول أحكامه بزوالها؛ فالمسلمون اليومَ، بحسب هؤلاء المفكّرين، لا يعيرون تغيّرات التّاريخ الكبرى كثيراً من الاكتراث، ما يجعلهم لا يفهمون الفرق بين حال الدّولة الإسلامية والأحكام الشّرعية والقانونية التي كانت آنذاك، وبين الواقع الرّاهن، وفي سعيهم إلى تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية يسقطون في حالة اغتراب وإحباط تجاه هذا العالم، ويُغذّون عقدة المؤامرة من حيث لا يشعرون، من هنا يدافع أصحاب هذا الاتّجاه عن شرعية القراءة المعاصرة والتّاريخية للقرآن بصفة خاصّة، والنّصوص الشرعية بصفة عامّة.
من هؤلاء المفكّرين نذكر نصر حامد أبو زيد[2]، الذي يُعدّ أحد روّاد الدّراسات الحداثية، التي سعت إلى تجديد التّراث وتكيّيفه وفق ما تقتضيه الظروف والأحداث المستجدّة، فالقضيّة الرّئيسة بالنسبة إليه لا تتمثّل في كيف نجدّد التّراث قدرَ ما تتجلّى في إعادة تفسيره طبقاً لحاجات العصر. ولتحقيق هذه الغاية يتبنّى آليات تحليل الخطاب، فيتعامل مع النّصوص الدّينية باعتبارها نصوصاً منتجة للمعنى الكلّي. وفي هذا السّياق شدّد على ضرورة الوعي بأنّ جميع النّصوص، بما في ذلك النّصوص المقدّسة، هي نصوص لغوية موصولة بالسّياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها، بيد أنّ ذلك لا يعني بالضّرورة أنّ «إشكاليات القراءة تتمثّل في اكتشاف الدّلالات في سياقها التّاريخي الثّقافي الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى محاولة الوصول إلى المغزى المعاصر للنصّ التّراثي... فكلّ قراءة لا تبدأ من فراغ، بل هي قراءة تبدأ من طرحِ أسئلةٍ تبحث لها عن إجابات، فطبيعة الأسئلة تحدّد للقراءات آلياتها»[3].
ومن هذا المنطلق اعتنى المشروع النّقدي لنصر حامد أبو زيد بطرقِ قراءة النّصوص الدّينية، بتفكيك بناها، وتبيّن مقوّماتها؛ وذلك بالاستناد إلى المكتسبات المعرفية المعاصرة المُستمَدّة من علوم عديدة منها اللّسانيات والسّيمولوجيا وتحليل الخطاب...، على أنّ أهمّ مقاربة عوّل عليها في قراءة الموروث الدّيني هي المقاربة التّأويلية التي تُعدّ المقوّم الرّئيس في مشروعه النّقدي السّاعي إلى تجاوز النّظرة التّقليدية للتّراث من خلال إعادة النّظر في المسلّمات التي حوّلها الضّمير الدّيني إلى حقائق متعالية على التّاريخ[4].
وأبو زيد، في مشروعه الدّاعي إلى إعادة قراءة التّراث، كان أوّل ما سلّط عليه الضّوء، الذي حظي أيضاً بأغلب دراساته، النصّ القرآني، معتبراً إيّاه «منتجاً ثقافياً»؛ باعتباره لغة يستحيل عليها أن تكون مفارقة للثّقافة والواقع. وقد تشكّلَ هذا النصّ في ظرف يزيد على عشرين عاماً، ومع ذلك لا ينكر هذا المفكّر ألوهية مصدر النصّ القرآني، ويرى أنّ هذه الألوهية لا تنفي واقعيّة محتواه، ومن ثمَّ لا تنفي انتماءه إلى ثقافة البشر، كما أنّ النصّ في هذه الحالة لا يعكس الثّقافة والواقع عكساً آلياً؛ بل إنّه يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد، الأمر الذي يعني وجود علاقة جدلية بين النصّ والواقع أو الثقافة. يقول: «إنَّ النصّ القرآني في حقيقته وجوهره منتج ثقافي؛ والمقصود بذلك أنَّه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاماً، وإذا كانت هذه الحقيقة تبدو بديهية ومتّفقاً عليها، فإنَّ الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنصّ يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية، ويعكِّر من ثَـمَّ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النصّ»[5].
وإذا كان نصر حامد أبو زيد يستخدم في دراسته للنصّ القرآني مصطلح «المنتج الثقافي» بصورة لافتة، ليشكّل حضوراً مركزياً، فإنّه ينتقل في دراساته المكمّلة لهذا المشروع إلى التّأسيس لمفهوم التّاريخية[6]، مستخدماً هذا المصطلح ولأوّل مرّة في دراسته الموسومة بـ «التّاريخية: المفهوم الملتبس»[7]، في خطاب صريح يعلن عن قصده نحو التّأسيس، وهي في مقدّمة الكتابات التي تستهدف التّأسيس لمفهوم تاريخية النصّ القرآني، إضافة إلى كتابات أخرى ضمن كتابه (النصّ والسّلطة والحقيقة)، الذي يضمّ مجموعة من الدّراسات التي كتبت ونشرت في الفترة الممتدّة من عام (1990) حتى وفاته[8].
إنّ تشيّيد مفهوم النصّ القرآني بوصفه «منتجاً ثقافياً»؛ أي خطاباً يتشكّل في علاقة انتماء بالسّياق الثقافي، يشكّل المنطلق في التّأسيس لمقولة «التّاريخية» في الخطاب التّنظيري عند أبو زيد. ومقولة «التّاريخية»، إذاً، في هذا السّياق، هي مقولة شارحة لطبيعة النصّ القرآني وماهيته الجوهرية، بوصفه منتجاً ثقافياً؛ إذ تحكم عليه هذه التاريخية بالانتهاء بانتهاء الوقائع والتصورات التي تنتجه، أو بما ينتج هو من وقائع مآلها التغيّر الدائم، فواقعية النص هي وحدها التي تعطيه قوته وحضوره وصموده، فنصر أبو زيد، إذن، يعتبر النّصوص، سواء أكانت دينية أم بشرية، محكومة دوماً بقوانين واعتبارات يتوجّب تأويلها وتجديد فهمها وفق الشّروط التّاريخية التي تتحاور معها، أمّا المصدر الإلهي لهذه النّصوص، فإنّه لا يخرجها بتاتاً عن هذه الدائرة، لأنّها «تأنسنت» واصطبغت بالتّجربة البشرية التّاريخية منذ أن تجسّدت في التّاريخ الإنساني ولغته، فتوجّهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقعهم التّاريخي المتغيّر[9].
ويرى أبو زيد في قراءته التّاريخية للقرآن أنّ القفز على الشروط والقوانين التّاريخية والدّلالية، التي تساهم في إنتاج هذا النصّ بصفة خاصّة، يكون قد جمّد فهمه «لحقيقة تلك النّصوص الدّينية المشكّلّة لفهمه؛ لذا يلزم تغيير إطار فهمنا لهذه النّصوص خارج السّياق التّقليدي الدّاعي إلى «لا اجتهاد مع النصّ»، فإعلان الخطاب الدّيني المعاصر جمود النصّ وسعيه الحثيث إلى تثبيت دلالته على فهم واحد وقاصر، إنّما هو دعوة صريحة لنفي التّعدّد والاختلاف وتثبيت للواقع كما هو جمود على الحقيقة الواحدة التي لا تتغيّر، طبقاً لما يناصره دعاة الفكر الدّيني التّقليدي من جمود في الرّأي وحصر للاجتهاد في الفروع والشّكليات»[10]. ومن هذا المنطلق، دعا أبو زيد إلى ربط النّصوص القرآنية بسياقاتها التّاريخية والثقافية؛ لأنّ فصلها عنها «هو ما أدّى إلى الابتعاد عن الواقع وإلغاء العقل، ونتيجة لذلك، غالباً ما تجد الخطاب الدّيني المعاصر لحركات الإسلام السّياسي يركّز على حاكمية النّصوص في مجالات الواقع والفكر، فالنصّ الجامد الثّابت المعنى والدّلالة سرعان ما يتحوّل إلى أسطورة تكبّل العقل والنّفس، وذلك من حيث تكرّس سلطة النّصوص، وجعلها فوق كلّ السّلطات الأخرى بما في ذلك سلطة العقل، بذلك تكون النّتيجة هي استبعاد دور العقل والتّفكير الحرّ من الحياة الواقعية، ومن ثمّ سيادة المعنى الواحد والدّلالة الأبدية للنصّ»[11].
ومن خِلال ما سبق، يمكن القول إنَّ للتَّاريخيَّة في خطاب نصر أبو زيد مدلولين؛ «الخاصِّيةُ الواقعيَّة التي تُشير إلى ارتباطِ النصِّ بأحداثٍ واقعيَّةٍ تخُصُّ الفردَ أو مجمُوعةً من الأفرادِ، وهو مدلولٌ يترادفُ مع مقولةِ) أسبابِ النُّزول(، ولذلك فهو يوظِّفه في التَّدليل على مشروعيَّة هذا المدلُول. والخاصِّيةُ الاجتماعيَّة، وهي تشير إلى ارتباط النصِّ القُرآنيِّ بالمنظومة الثّقافية للمجتمع الذي احتضن ظهورهُ. والمستوى الثَّانِي يتبدَّى أساسيّاً في تشكيل المفهومِ الحداثيِّ للنصِّ القرآنيِّ، من خلال تعريفِه بكونِه) منتَجاً ثقافيّاً(، وهذا التَّعريف يتضمَّن تأكيداً على انتماءِ النصِّ إلى الأصلِ الثَّقافيِّ»[12]؛ وهو ما يتكشَّف من خلال تصريحِ نصر حامد أبو زيد نفسِه حيث يقول: «من أهمِّ الجوانبِ التي يتمُّ تجاهُلُها في إشكاليّةِ النصّ الدّينيِّ -ولعلَّها من أخطرها على الإطلاق- البُعد التاريخيُّ لهذه النُّصوص. وليس المقصُود بالبُعد التّاريخيِّ هنا علمُ أسباب النُّزولِ- ارتباط النُّصوصِ بالواقعِ والحاجاتِ المُثارة في المُجتمعِ والواقعِ- أو علم النَّاسخِ والمنسوخِ -تغييرُ الأحكامِ لِتغيُّرِ الظُّروفِ والمُلابسات- أو غيرها من علومِ القرآنِ التي لا يستطيعُ الخطابُ الدّينيُّ تجاهُلها (...) فإنّ البُعد التَّاريخيَّ الذي نتعرَّض له هنا يتعلَّق بتاريخيَّة المفاهيمِ التي تطرحها النُّصوصُ من خلال منطوقها، وذلك نتيجة طبيعيّة لتاريخيّةِ اللُّغةِ التي صيغت بها النُّصوص»[13].
وعليه، يتركَّز فعلُ التَّاريخيةِ في مُستوى العلاقةِ بين النصِّ والثّقافةِ، بوصفها مرجعيَّةً معرفيّةً يستمدُّ منها النصُّ القرآنيُّ جُملةَ المفاهيم والتَّصوُّراتِ، ما يجعل من التَّاريخيّة مفهوماً مؤسّساً على اعتبار العلاقة بين النصّ والواقعِ الثَّقافيِّ، بما هِي علاقةُ تأسيسٍ معرفيٍّ، تجعل من المُعطى الثّقافيِّ أساساً لتشكُّلِه. ومن ثمَّ، «فإنّ تعريفاً للنصِّ القرآنيِّ بوصفه منتَجاً ثقافيّاً، يمثّل أساساً في تأسيس مقولة التَّاريخيّة على مُستوى هذا السِّياقِ التّنظيريِّ؛ فهذه المقولة– أي التّاريخيَّة- لا تعدُو كونها وصفاً شارحاً لطبيعةِ النصّ القرآنيِّ باعتباره منتَجاً ثقافيّاً، فالمُنتَجُ الثَّقافيُّ ذو جوهرٍ تاريخيٍّ. ولعلَّ سيرورةَ حركيَّة القراءةِ الشَّارحة في خطابِ تاريخيَّة النصِّ القرآنيِّ، نحوَ استعادةِ السِّياقِ الأصليِّ لمفهوم التّاريخيةِ في مقاصدهِ الصّريحةِ، قد خلُصت إلى إثبات مركزيَّة التَّسميةِ بالمُنتَجِ الثّقافي، التي تظهر في علاقةِ تجاوُرٍ مع تسميةِ النصِّ نفسه وحياً إلهيّاً»[14].
ولاستعادة السياق الأصلي للنصّ القرآني يقترح أبو زيد لذلك عدّة آليات يرى أنّ أهمّها هي ما يعرف بالهرمينوطيقا[15]، فهي «نقطة بدء أصلية للنظر إلى علاقة المفسّر بالنصّ لا في النّصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب، بل في إعادة النّظر في تراثنا الدّيني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره حتّى الآن؛ لنرى كيف اختلفت الرؤى، ومدى تأثير كلّ عصر من خلال ظروفه على النصّ القرآني»[16]. ومن تطبيقات هذا المنهج عند أبي زيد القول إنّ أساس الوحي هو ما كان يعتقده العربي من إمكانية الاتّصال بين البشر والجنّ؛ يقول: «لقد كان ارتباط ظاهرتي الشّعر والكهانة بالجنّ في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتّصال بين البشر والجنّ، هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الدّيني ذاتها»[17]. وعلى رأيه، لو تصوّرنا خلوّ الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التّصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من الوجهة الثقافية، فكيف كان يمكن للعربي أن يتقبّل فكرة نزول ملَك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التّصور جذور في تكوينه العقلي والفكري، ومن ثَمَّ ظاهرة الوحي أو القرآن كانت جزءاً من مفاهيم الثقافة العربية آنذاك؛ فالعربي كان يدرك أنّ الجنّي يخاطب الشّاعر ويلهمه شعره، ويدرك أنّ العرّاف والكاهن يستمدان نبوءاتهما من الجنّ، لذلك لا يستحيل عليه أن يصدّق بملك ينزل بكلام على بشر. وعليه نفى أبو زيد أن يكون للعرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراض على ظاهرة الوحي ذاتها، وإنّما انصبّ الاعتراض إمّا على مضمون كلام الوحي وإما على الشّخص الموحى إليه، ولذلك أيضاً يمكن أن نفهم حرص أهل مكّة على ردّ النصّ الجديد –أي القرآن- إلى آفاق النّصوص المألوفة في الثقافة سواء كانت شعراً أم كهانة[18].
وفي تشبّثه بفكرة تاريخية النصّ القرآني توصّل نصر حامد أبو زيد إلى أنّ القول بوجود إعجاز في لغة القرآن يحوّله إلى نصّ مغلق مستعصٍ على الفهم، ولذلك حاول المعتزلة جاهدين ربط النصّ بالفهم الإنساني، وتقريب الوحي من قدرة الإنسان على الشّرح والتحليل، ويبدو أنّ فكرة «الإعجاز، بما تتضمّنه من معنى المعجزة، كان يمكن -لو سلموا بوجودها في بناء النصّ اللّغوي- أن تؤدي إلى مفارقة الوحي –من حيث هو نصّ لغوي– لقدرة الإنسان، وتؤدّي من ثمّ إلى تحويل الوحي إلى نصّ «مغلق» مستعصٍ على الفهم والتّحليل. لقد كان التّسليم بقدرة الإنسان على الفعل وعلى فهم الوحي معاً هو الدّافع وراء محاولة تفسير «الإعجاز» من خلال مفهوم «التّوحيد»، ومن خلال صفتي «القدرة» و«العلم» بصفة خاصّة. إنّ «عجز» البشر عن الإتيان بمثل الوحي نابع من تدخّل إلهي سلبهم القدرة، ونابع من «علم» بالماضي والمستقبل لا يتاح للإنسان»[19].
وحتّى لا يصير هذا النصّ مغلقاً ومستعصياً على الفهم يرى أبو زيد ضرورة الإقرار بازدواجية خطابه؛ فهو من جهة نصّ ثابت المنطوق والدّلالة، إلهي المصدر والتّنزيل، ومتعالٍ على زمنية الواقع البشري، ولكنّه، من جهة أخرى، يمتاز بكونه خطاباً متغيّراً متعدّد الدّلالة، تاريخي المحتوى، ومراعياً للحاجات الرّوحية للبشر، ومتكيّفاً مع التّغيرات السوسيوثقافية الطارئة في حياتهم، ومستجيباً لدينامية الحركة التّأويلية التي تمارسها عليه عقولهم. ويطلق أبو زيد على عملية تحويل النصّ القرآني من كتاب تنزيل إلى كتاب تأويل عملية «الأنسنة»[20]، وهي العملية التي تسمح بفهم المطلق من خلال استحضار النّسبي، وهذا من أجل تمثل أفضل لدلالات النصّ القرآني، «فالقرآن نصّ مقدّس من ناحية منطوقه، لكنّه يصبح مفهوماً بالنسبيّ والمتغيّر؛ أي من جهة الإنسان، ويتحوّل إلى نصّ إنساني يتأنسن»[21].
هكذا، إذاً، يرى أبو زيد أنّ النّظر إلى النصّ القرآني على أنّه «خطاب» قابل للتّأويل والأنسنة لا يترك مجالاً كبيراً لتحوير دلالاته لتخدم إيديولوجيا معيّنة؛ لأنّ المؤوّل في هذه الحالة سيكون مجبراً على أن يأخذ في الاعتبار نظام اشتغال ثلاث آليات خطابية تتمثل في تعدّد الأصوات داخل الخطاب وعمليات الإحالة ومرجعية الضّمائر، ونمط السّياق الخطابي، وطبيعة اللّحظة التّاريخية المزامنة لتشكّل الخطاب[22]. والقصد من ذلك أنّ على المفسّر المعاصر أن يعيد تشكيل السّيناريو الحواري الذي تولّد في خضمه المعنى النصّي في القرآن، وأن يراعي الوضعيات الخطابية المختلفة تبعاً لما تحيل إليه الضّمائر، وما يقتضيه السّياق المصاحب لتشكّل ذلك المعنى؛ أي يجب على المفسّر المعاصر ألا يكتفي بالنّظر إلى القرآن بوصفه كلاماً سرمدياً كما يقول الباحث هشام جعيط[23].
فالمهمّة الملقاة على عاتق المفسّر هي «تجاوز الزّمن والتّطور والتّاريخ»[24]؛ إنّها تواصل بين الرّاهن/ المعاصر والمنقضي لقراءة وفهم القديم، التّراث، من خلال المعاصر لأنّ التّفسير أو التّأويل «ضرورة للنصّ ولا يوجد نصّ إلا ويمكن تأويله، من أجل إيجاد الواقع الخاصّ به، ولا يعني التّأويل هنا إخراج النصّ من معنى حقيقي إلى معنى مجازي، بل هو وضع مضمون معاصر للنصّ؛ لأنّ النصّ قالب دون مضمون معاصر»[25]. وكأنّ التّفسير هنا أو التّأويل ما هو إلّا «عمليّة استحضار للماضي/ التّراث في الحاضر لقراءته في ضوء المعطيات المعاصرة، ومن خلال وسائل قرائية معاصرة. إنّ الحديث عن عصرنة النصّ، من خلال قراءته في ضوء الواقع والأحداث، يحيلنا إلى نقطة أخرى، يظهر فيها الحضور الكثيف لهرمينوطيقا غادامر ضمن المشروع التّأويلي لنصر أبو زيد، هذه النّقطة تتعلّق بتعدّد التّأويلات، والقراءات، فما دامت عملية الفهم تتأسّس من خلال راهن القارئ/ المؤوّل، من خلال معطيات العصر، فإنّ الأمر سوف ينتهي بنا إلى القول بنسبية المعاني وتغيّرها»[26].
هكذا، إذاً، نرى أنّ نصر حامد أبو زيد يؤكّد أنّ «اكتشاف علاقات الآيات بالصّور ليس معناه بيان علاقات مستقرّة كائنة ثابتة في النصّ، بل معناه تأسيس علاقة بين عقل المفسّر وبين النصّ، من خلالهما يتمّ اكتشاف علاقات أجزاء النصّ. من هنا قد يعتمد مفسّر على بعض معطيات ليكتشف من خلالها علاقات خاصّة، بينما يعتمد مفسّر آخر على معطيات أخرى، فيكشف عن نمط آخر من العلاقات؛ إنّ العلاقات أو المناسبات بين أجزاء النصّ ليست في حقيقتها إلا وجهاً آخر للعلاقة بين عقل المفسّر أو القارئ، وبين معطيات النصّ»[27]. وبذلك تتعدّد عملية الفهم إلى عمليات فهم تبعاً لتجارب كلّ قارئ وأفقه، وبذلك يبقى التّأويل لا نهائياً متعدّداً بتعدّد القراءات واختلاف وضع القرّاء.
لقد ارتبط مشروع نصر أبو زيد حول تاريخية النص القرآني بطرحه منهجيات جديدة في التأويل والاستنباط والاجتهاد؛ فهو يرى أن النص القرآني نص ثقافي لغوي كسائر النصوص كما أسلفنا الذكر، لا ينبغي أن ينفرد بمنهجيات خاصة -كما هو معمول به في علوم التفسير والفقه- بل تنطبق عليه منهجيات تحليل الخطاب التي أنتجتها علوم اللغة والألسنيات المعاصرة كما قدمها الفكر الغربي، فتاريخية النص القرآني تعني البحث عن دلالاته داخل نظام «لا ينفك عن النظام اللغوي الثقافي الذي تعد جزءاً منه، والذي يجعل من اللغة ومحيطها الثقافي مرجعاً للتفسير والتأويل»[28]. وبناء على ذلك، رأى أبو زيد أن اختيار منهج التّحليل اللّغوي في فهم النصّ القرآني هو الوحيد الذي يلائم موضوع البحث ومادته، فإذا كان النصّ، بصفة عامّة، حاملاً للثقافة التي ظهر فيها دون أن يكون هناك ما يفارق الواقع؛ فلا بدّ حينئذٍ من أن يكون التّحليل اللّغوي للنصّ القرآني، بصفة خاصّة، هو الوحيد الذي يلبّي حاجة الفهم. وهنا يصبح هذا النصّ كاشفاً عن واقع الثّقافة التي ظهر فيها، كما يكون هذا الواقع مساعداً على فهمه، لهذا كان لا بدّ من البدء بدراسة ذلك الواقع؛ إذ لا يمكن فهم النصّ القرآني من غير البدء بدراسة طبيعة الواقع القائم بتشكيل النصّ؛ أي دراسة الأبنية الاقتصادية والاجتماعية والسّياسية والثقافية، كذلك دراسة المتلقّي الأوّل للنصّ والمخاطبين به، وهو ما أجبر كاتبنا على تأليف كتابه (مفهوم النصّ في علوم القرآن)، الذي أثار ضجة أدّت به إلى محاكمات ثمّ صدامات عنيفة في مصر ما بين التّيار اليساري العقلاني والتّيار الأصولي المحافظ.
* * *
في ختام هذه الّدراسة، نخلص إلى أنّ نصر حامد أبو زيد، في نقده للنصّ القرآني، إنّما يقوم بنقد الواقع، ونقد أصحاب التّيار الدّيني المتشدّد، الذين يعملون على تغييب هذا الواقع المعاش واللّحظة الرّاهنة، فالواقع «إذن هو الأصل، ولا سبيل لإهداره، فمن الواقع تكوّن النصّ، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدّد دلالته، فالواقع أوّلاً، والواقع ثانياً، والواقع أخيراً، وإهدار الواقع لحساب نصّ جامد ثابت المعنى والّدلالة، يحوّل كليهما إلى أسطورة»[29]. وهو الأمر الذي جعل نصر حامد أبو زيد يلتفت إلى المعضلة التي وقع ويقع فيها الخطاب الدّيني بصفة عامّة، كونه ينطلق دائماً من تصوّرات عقائدية عن طبيعة كلّ من الله والإنسان، والعلاقة التي ترتبط بينهما، ثم يفرض المعنى من خارج النصّ، وكأنّه يستنطق النّصوص بما لا تحمله من معانٍ.
[1]- مجلة تأويليات العدد3
[2]- نصر حامد أبو زيد (1943م -2010م): مفكّر وباحث جامعي مصريّ معاصر تخصّص أساساً في الدراسات الإسلاميّة. ولد في قرية قحافة طنطا محافظة الغربية في 10 من تموز/يوليو 1943م. حصل على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية قسم اللاسلكي (1960م) ليواصل بعد ذلك دراسة اللغة العربية وآدابها في كليّة الآداب جامعة القاهرة (1967م)، ومنها تحصّل على شهادة الليسانس (1972م)، وشهادة الماجيستير (1976م)، وشهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلاميّة (1979م). عمل مدرساً في جامعات القاهرة وبني سويف والخرطوم، له مجموعة كبيرة من المؤلفات والمقالات التي اتُّهِم بسببها بالردة والكفر.
[3]- نصر حامد أبو زيد، إشكاليات القراءة وآليات التّأويل، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، الطبعة السابعة، 2005، ص6.
[4]- محمد إدريس، قراءة في مشروع نصر حامد أبو زيد الفكري (1943-2010)، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، بتاريخ 20 نيسان/أبريل 2015، الرابط: http://www.mominoun.com/articles
[5]- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، ط1، 1990، ص24.
[6]- مفهوم التاريخية عند نصر حامد أبو زيد لا يعني دائماً الزمانية؛ بل يعني أنّنا ملزمون باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن من أجل أن نتفهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة، فنستطيع التمييز في مجال الأحكام والتشريعات بين مستويات لم ينتبه إليها أسلافنا، وباختصار شديد مفهوم التاريخية عند نصر حامد أبو زيد له معنيان: المعنى الأول مفاده أنّ النص نزل في التاريخ. بمعنى أنّه تشكل في واقعه، وزمانه، وخضع لمتغيراته ومتطلباته على مدار عشرين عاماً، وهو يتفاعل معه تفاعلاً حراً. أما المعنى الثاني فيعني أن النص ينتمي إلى مكانه التاريخي، وبيئته الاجتماعية، لذا فهو يحمل ملامحهما وخصائصهما، بمعنى أنه إنتاج محكوم بالحقل الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع بتعبير آلان تورين. أو أن كلّ النصوص-كما يعتقد أبو زيد- تستمد مرجعيتها من الثقافة التي تنتمي إليها. (انظر: نصر حامد أبو زيد، النص والسّلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، ط2، 2006، ص8. وانظر كذلك: دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، ط2، 2004، ص11).
[7]- انظر: نصر حامد أبو زيد، النصّ والسّلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، ط2، 2006، ص67-89. وانظر كذلك: التّفكير في زمن التّكفير: ضدّ الجهل والزّيف والخرافة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1995، ص199-230.
[8]- انظر: نصر حامد أبو زيد، النصّ والسّلطة والحقيقة، ص5.
[9]- انظر: نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الدّيني، المركز الثقافي العربي، بيروت-لبنان، ط3، 2007، ص89.
[10]- المصدر نفسه، ص99.
[11]- المصدر نفسه، ص100.
[12]- أسماء حديد، «تاريخية النص القرآني في خطاب نصر حامد أبو زيد التنظيري: المفهوم والمرجع»، مجلة الكوفة، العدد الأول، السنة الثالثة، شتاء 2014، ص178.
[13]- نصر حامد أبو زيد، النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، ص80.
[14]- أسماء حديد، «تاريخية النص القرآني في خطاب نصر حامد أبو زيد التنظيري: المفهوم والمرجع»، ص178.
[15]- الهرمينوطيقا: لفظة مشتقّة من الكلمة اليونانية «Hermeneuein» بمعني يُفسِّر أو يوضِّح، ويقصد بها ذلك الجزء من الدّراسات اللاهوتية المعني بتأويل النّصوص الدينية بطريقة خيالية أو رمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة.
[16]- نصر حامد أبو زيد، إشكالية القراءة وآليات التّأويل، ص49.
[17]- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن، ص2.
[18]- المصدر نفسه، ص24-34.
[19]- المصدر نفسه، ص147.
[20]- تشتق كلمة الأنسنة (Humanisme) من الكلمة اللاتينية (Humanistas)، وهي تعني تعهّد الإنسان لنفسه بالعلوم الليبرالية التي بها يكون جلاء حقيقته إنساناً متميّزاً عن سائر الحيوانات (عبد المنعم الحفني، الموسوعة الفلسفية، دار ابن خلدون، مكتبة مدبولي، القاهرة، بيروت، ط1، 1986، ص71). ويعرّفها أندري لالاند في قاموسه الفلسفي بقوله: «هي مركزية إنسانية متروّية، تنطلق من معرفة الإنسان، وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه، واستبعاد كلّ ما من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لحقائق ولقوى خارقة للطبيعة البشرية، أم بتشويهه من خلال استعماله استعمالاً دونياً، دون الطبيعة البشرية. (أندري لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1996، المجلد 2، ص569).
[21]- نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الدّيني، ص126.
[22]- Nasr Hamid Abu Zayd, Rethinking the Quran towards a humanistic Hermeneutics; SWR Publishers, Amsterdam, Netherlands; 1st ed., 2004, p. 12-18.
[23]- انظر: هشام جعيط، في السّيرة النّبوية: الوحي والقرآن والنّبوّة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 2000، ج1، ص17.
[24]- نصر أبو زيد، إشكالية القراءة وآليات التّأويل، ص42.
[25]- حسن حنفي، حصار الزّمن، منشورات الاختلاف، بيروت، ط1، 2007، ج1، ص76-77.
[26]- علي دريدي، مفهوم التّأويل في الفكر العربي المعاصر: نصر حامد أبو زيد نموذجاً، رسالة ماجستير في الفلسفة العامة، جامعة الحاج لخضر باتنة، الجزائر، 2015، ص99.
[27]- نصر حامد أبو زيد، مفهوم النصّ: دراسة في علوم القرآن، ص161.
[28]- محمد عابد الجابري، سلسلة مواقف، العدد 70، كانون الأول/ديسمبر 2007، ص52.
[29]- نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الدّيني، ص106.