تجديد الفكر الديني الورش الذي لم ينته بعد


فئة :  مقالات

تجديد الفكر الديني الورش الذي لم ينته بعد

تجديد الفكر الديني الورش الذي لم ينته بعد

"كعبتنا عامرة بأصنامنا"

محمد إقبال

الدين والفكر الديني، أمر وواقع لا غنى عنه في حياة الإنسان، فقد سبق لأرسطو قوله: "الإنسان حيوان ناطق"، لكن فراس السواح يرى أن الإنسان "كائن متدين"[1] فما يميز الإنسان عن الحيوان ليس النطق، واللغة والعقل والتمييز، قد نجد مختلف الكائنات تصدر أصواتا، بالرغم من أنها لا تمتلك لغة للتواصل عن طريق الكلام والنطق، وقد نجد كائنات أخرى لها قدر معين من إدراك الخطر الذي يحيط بها، وهذا ناتج عن قدرتها على التمييز؛ فالأمر الذي تفرد به الإنسان عن باقي الكائنات هو الدين. وما دام الإنسان كائنا متدينا، فمجال الدين لا ينفصل عن مجال الفكر لديه منذ القدم؛ فالفكر الديني ليس بالضرورة مرحلة منقضية من الفكر الإنساني، بل هو سمة متأصلة في فكر الإنسان، فالدين كان هو المصدر الأساسي في الثقافة الإنسانية، ولازالت كل المؤشرات اليوم تدل اليوم على أن الدين لازال حيًّا ومؤثرًا في فكر الإنسان والأكثر من ذلك لا يمكن تجاهله.[2] فالنزعات الأيديولوجية باسم التقدم والوضعية العلمية والاشتراكية والشيوعية، التي حاولت في القرن العشرين أن تقطع بالكامل وبشكل نهائي مع الدين، لم تنجح في ذلك.

وعدم تجاهل الدين لا يعني الإعراض عن مراجعته وتجديد النظر في مختلف التصورات والاعتقادات الدينية...وعندما نتحدث عن الدين ينبغي الوعي والتمييز بين ما هو مرجعي ومؤسس له؛ أي النصوص الدينية المؤسسة والأفكار المرجعية في مختلف الأديان، وبين مختلف التصورات والأفكار المتعددة والمتنوعة التي امتزجت مع الثقافة والجغرافيا والتاريخ...أي التدين. فمختلف الأديان بشكل عام، واحدة من جهة مرجعيتها، ومتعددة من زاوية التدين؛ ففي المسيحية نجد الكثير من الفرق والطوائف، وكذلك الأمر مع اليهودية، وهذه القاعدة تنطبق بشكل أكثر دقة على الإسلام، فهو متعدد من جهة تاريخه، وهو تاريخ مذاهب وفرق ومدارس وتيارات...وواحد من جهة مرجعيته؛ أي القرآن الكريم، بينما في المسيحية نجد مرجعية عرفت نوعاً محدودًا من التعدد؛ إذ لا يملك المسيحيون نصًّا واحدًا للعهد الجديد؛ إذ اتفقوا على أربع نسخ للإنجيل (متى ومرقس ولوقا ويوحنا)، وهي المصدر الرئيس للمعلومات عن حياة يسوع، وهي النصوص التي صارت مؤسسة للمسيحية بشكل أكبر، واختلوا حول نسخ أخرى من بينها إنجيل توما، إنجيل الحق، إنجيل فيلبس، وهو الأمر نفسه مع اليهود.

فعملية المراجعة وتجديد النظر في أمور الدين بدرجة أولى، تعود الى تجديد أنماط التدين بهدف بسط تدين ينسجم مع المحيط والزمن الجديد، بدل أن يبقى حبيسا في الماضي، وهي مسألة تقتضي تجديد قراءة النصوص المرجعية للدين وفق مقتضيات المعرفة المعاصرة. وقد كتب محمد إقبال (-1938م) كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام" وموضوع التجديد هنا يبدأ من أول خطوة له بتجديد نظم التعليم والتعلم.

فبداية وقاعدة أيّ نهضة فكرية وتقدم علمي وحضاري، تبدأ من الاهتمام بالمسألة التعليمية. ولهذا، فبداية البداية بالنسبة إلى تجديد الفكر الديني تكمن في إصلاح التعليم الديني، وإعادة النظر في سؤال كيف يدرس الدين في المؤسسات التعليمية في العالم الإسلامي في القرن الواحد والعشرين؟ فهل المعرفة الدينية – ما يصطلح عليه بالعلوم الشرعية – تدرس بمداخل ومناهج وآليات المعرفة المعاصرة؟ الأمر الذي سيجعلها تخضع لعملية النقد والتحليل والمراجعة، أم إنها تدرس بمعزل عن علوم العصر؟ فالمسألة هنا لا تتوقف عند الحل الإجرائي والتقني؛ وذلك بإدراج مختلف التخصصات العلمية إلى جانب العلوم الشرعية في المعاهد والمؤسسات الدينية؛ وهذا أمر جارٍ به العمل، بل تتصل بسؤال التجديد في نظرية المعرفة وبالأخص المعرفة الدينية، وتتصل في الوقت ذاته بسؤال فلسفة الدين في الوطن العربي.

ومن أهم الأسس التي ينبغي أن يبنى عليها التعليم الديني اليوم؛ الإقرار بأن المعرفة الدينية معرفة متحولة بتحول المعرفة العلمية؛ فلا يمكن بأيّ وجه من الوجوه ألا تؤثر الثورات العلمة على المعرفة الدينية؛ فالكثير مما كان لا يبصر بالأمس، صار اليوم مشهودًا بالعين، قال تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)" (الحاقة).

فالوضع السليم يكمن في إمكانية استثمار المعرفة العليمة في مجالات المعرفة الدينية، بغاية تجديدها وتنويع مشاربها، وإلا سنكون أمام معرفة دينية جامدة ومتجاوزة، ولا تنسجم مع المعارف العلمية. كل نظم المعرفة اليوم عرفت تحولاً كبيرًا لا مثيل له؛ فمن باب العبث مثلا، إن لم يكن لنا اهتمام منهجي بعلوم اللسانيات كما هو اليوم، وبعلم الاجتماع وبعلم النفس وعلم الأناسة وعلم الآثار... وغير ذلك من العلوم التي من الضرورة أن تستثمر منهجيًّا في تجديد المعرفة الدينية. إنه من الجنون بما كان أن يبقى طلابنا حبيسي المدونات الفقهية والتفسيرية والكلامية والعقائدية، يرددون ما ورد فيها دون وعي. إننا اليوم في حاجة ماسة لاستثمار مختلف العلوم الإنسانية في فهم التراث والحاضر واستشراف المستقبل.

أما فلسفة الدين، فتدور حول السؤال والتفكير العقلي، والمقصد الأسمى من ذلك هو مقصد فضيلة الإنسان وإخراجه من الشقاء إلى السعادة. وإذا كانت الفلسفة على هذه الحالة، فروح الدين وجوهره يدوران في مدار القيم الفاضلة؛ لأن القرآن الكريم هو دعوة إلى النظر وإلى العقل والتفكير والتفكر والتدبر... وعليه، فليس هناك تعارض منهجي ما بين روح الدين، وبين فضيلة الفلسفة.

وهناك أمر آخر يعد كذلك بداية البدايات، ويتصل بالتعليم بشكل عام وبنظم الثقافة والمعرفة داخل المجتمع، وهو العناية بالترجمة والتأويل؛ فكم نحن في حاجة إلى مزيد من الترجمة لعلوم العصر إلى اللغة العربية، وفي الوقت ذاته كم نحن في حاجة إلى العناية بموضوعات التأويل، وبالأخص القراءة التأويلية للنص القرآني التي تمكن من تحرير فهم القرآن من الأغلال والأقفال التي تحُول بين الإنسان والتفكير النقدي، بذريعة وهم الثبات والحفاظ على آراء وأقوال المتقدمين والإعلاء من قيمة فهمهم وتصوراتهم إلى مقام السادات والكبراء؛ قال تعالى: "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)" (الأحزاب).

موضوع تجديد الفكر الديني هذا، لن تقوم له قائمة في حال بقي الأمر في دائرة المبادرات الجماعية والفردية، وفي دائرة جهود ومساهمة كبار المثقفين وغيرهم؛ فالموضوع في أصله ينبغي أن تتبناه إرادة الدولة، ويلقى العناية الكافية من لدن مؤسساتها، والأكثر من ذلك ينبغي للدولة أن تأخذ وجها من وجوه مشروعيتها من قيمة الإصلاح الديني وغاياته. وقيمة الإصلاح الديني هذه، في مدارها الكلي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تختزل في اتجاه معين على حساب اتجاه آخر؛ أو تختزل في مدرسة على حساب مدرة أخرى، أو تختزل في منهج معين دون المناهج الأخرى... فموضوع الإصلاح الديني موضوع مفتوح على كل الخيارات والبدائل العلمية والمعرفية، في مختلف مجالات الحياة، ووظيفة الدولة هنا تكمن في استيعاب كل الخيارات الهادفة.

وإلى جانب إرادة الدولة نحن في حاجة لأي سياسة إعلامية بديلة، ترقى بذوق عموم الجماهير، ليكتشف ماهية أفكار التجديد الديني، ويعرف من جديد أن الدين في جوهره رحمة للعالمين، وأن أمر الدين في جوهره هو دعوة للعقل والعقلانية والفكر والتفكر؛ فالإيمان والعلم شيئان متلازمان. نحن في حاجة ماسة لنقطع بالكامل مع نموذج المشايخ والمثقفين الذين يربطون أمر الدين بالماضي بدل الحاضر والمستقبل؛ ويساهمون بخطبهم ودروسهم وكتاباتهم ... في هجرة الكثير من الناس، وبالأخص الشباب منهم؛ الهجرة بأذهانهم وخيالاتهم من الواقع المعيش، إلى ذلك الزمن الذي ولّى وانتهى. إنه زمن الخلافة الراشدة والصحابة الأخيار، وزمن الأئمة ومن تلاهم ... جاهدين ليتقمصوا حياتهم ويتمثلوا تصوراتهم وأقوالهم التي قالو بها، في غفلة بأن ذلك الزمن ليس هو هذا الزمن. ولو قدر لأحد من رجالات ذلك الزمن الذين عرفوا بعلمهم الواسع أن يظهر بيننا اليوم، لا يسعه إلا أن يكون مسلما؛ إسلام القرن الواحد والعشرين الميلادي، ولن ينفعه إسلام القرن الثامن أو التاسع أو العاشر الميلاديين في شيء. مع الأسف أمر الدين اليوم كما يصوره الكثير من المشايخ وغيرهم هو طمع وجشع فيما كان عليه ماضي الأمة الإسلامية، وهو ماض ولّى وانتهى، وهي المعضلة التي ذكّر القرآن بها وحذر منها، في سياق حديثه عن بني إسرائيل لقوله تعالى: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)" (البقرة) وقد تكررت الآية في نفس السورة الآية (141). وهذه آية تجد حقيقتها في الاجتماع الإنساني ككل؛ فالمختصون في دراسة المجتمع هم أدرى أكثر من غيرهم بهذه المعضلة الاجتماعية التي مفادها أن يبذل الكثير من الناس جهدهم الجهيد من أجل إسقاط الماضي على الحاضر.

وأختم بأمر في غاية الأهمية ويتعلق بالتنشئة الاجتماعية؛ فالناشئة ينبغي تحريرهم من ثقافة الخرافة ومن تفسيرات العجائز ومن الترسبات التي لا صحة ولا أساس لها من العلم؛ ونحن نحفظهم القرآن مثلا، أو نقربهم من معرفة الرسول الرحمة للعالمين، ينبغي لأدب الطفل بشكل عام، أن يكون له حضور... باختصار ينبغي أن نزرع في أذهانهم أن الرحمة هي أول مطلب ينبني عليه الإسلام، وهو المطلب الذي ابتدأت به كل سور القرآن، وهو المطلب الذي اقترن باسم الرسول الأمين، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)" (الأنبياء)؛ وقيمة الرحمة هذه قيمة تقترن بحرية الإنسان وبمسؤوليته في الوقت ذاته؛ ومسؤولية الإنسان على الفعل تعد أمانة، لا تكتمل إلا بفعل القراءة باسم الخالق في عالم الخلق. "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الإنسان لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)" (العلق).

[1] فراس السواح، دين الإنسان، بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، الطبعة الرابعة 2002 دار علاء الدين للنشر والتوزيع.، ص. 19

[2] نفسه، ص. 22