تجلّي الإله في مدونات علم الكلام (الإلهي: من العقائدي إلى السياسي)


فئة :  أبحاث محكمة

تجلّي الإله في مدونات علم الكلام  (الإلهي: من العقائدي إلى السياسي)

تجلّي الإله في مدونات علم الكلام[1]

(الإلهي: من العقائدي إلى السياسي)

مقدمة:

ينظر إلى علم الكلام في تعريفه الكلاسيكي بأنه العلم الذي يدافع عن العقيدة بالحجة العقلية، وفي تعريف آخر هو العلم الذي يدافع عن عقيدة أهل السنة والجماعة بالحجة والدليل العقلي، وفي تعريف آخر هو العلم الذي يدافع عن عقيدة كل فرقة بالحجة العقلية. ولذا حَمل هذا العلم في مدوناته موقفه من التوجهات المادية والأديان الثنوية، والأديان الإبراهيمية، بل حمل هذا العلم بداخله تجسيداً لمدى ما وصل إليه الصراع المذهبي بين الفرق الإسلامية على ملكية حقيقة العقيدة، ومدى الصراع بين الفرق في تجسيد كل فرقة لصورة محدودة للألوهية والعقائد الأخرى المغايرة، كما جسد في أفقه مدى الخلاف بين الفرق على المسألة السياسية وقضية الإمامة، فلم يكن تعريف علم الكلام التقليدي بكافٍ عن بيان حقيقة هذا العلم، ومدى تأثيره في الثقافة الإسلامية بعامة؛ وذلك لأنه علم يختص بأصول العقائد الدينية كما يختص بالمواجهة والحوار مع الأديان الأخرى بشرية كانت أم إلهية.

ومن ثم يمكن القول إن حركة الوحي الإسلامي حين كانت تشقّ طريقها في مسار التاريخ كان تختلط وتحتك في أرض الواقع بثقافات وأديان وملل ونحل مغايرة للإسلام، فكان الإسلام يحمل بداخله صورة محددة للألوهية تختص بالتوحيد الإسلامي، ولكنّها في ارتحالها عبر حركة التاريخ كانت تواجه الملاحدة والماديين والثنوية، والأديان الإبراهيمية المغايرة، وفي إطار هذه المواجهة بين صورة الإله كما جسدها الإسلام وبقية صور الألوهية في الأديان والملل والثقافات المغايرة، كانت مقدرة علم العقائد كبيرة على تجسيد طبيعة الخلاف والمواجهة هذه.

وحين نزل الوحي على أرض الجزيرة العربية، لم ينزل على فراغ مطلق، بل نزل على واقع كانت فيه أديان وعقائد وأديان سماوية وأرضية وملاحدة، ولذا كان لهذه العقائد حضور واضح في بنية الوحي نفسه، حيث تكلّم القرآن عن الدهرية، وعن اليهود والنصارى والمجوس وعن عبدة النار والصابئة، وهذا يكشف أن القرآن كان في بنائه لصورة الألوهية الإسلامية في مواجهة أيضاً مع إنكار الألوهية لدى النزعات المادية والدهرية أولاً، ومع صورة الألوهية لدى اليهود والنصارى ثانياً؛ مما يعني أن تجليات الألوهية أو صورة الإله كان لها حضورها المغاير عن صورة الإله الإسلامية على الأرض، الأمر الذي دوّنه الوحي في العديد من آياته.

وبعد الفتح الإسلامي لأرض الفرس والروم وشمال أفريقيا والأندلس، اتسعت رقعة الإسلام الحضارية، فاتجه شرقاً حتى حدود الصين، واتجه غرباً حتى الأندلس، وبالتالي اتسعت دائرة السيطرة له، فشملت حضارة الإسلام ودولته أرض من كانوا يعبدون الزرادشتية والمانوية والمجوسية وعبدة البقر، والصابئة واليهود والنصارى، ونتيجة لاتساع رقعة الإسلام الحضارية اتسعت رقعة المقاومة للإسلام وتصوره عن التوحيد والألوهية. فكانت المواجهات والحوار بين الدهرية / الإسلام، والثنوية/ الإسلام، واليهودية والمسيحية / الإسلام، وقد دونت مدونات العقائد والملل والنحل طبيعة هذا الحوار، والجدال، والصراع في معظم الأحيان.

إن المواجهات السالفة قد تمت في إطار مسار حركة الوحي في التاريخ، لتكشف لنا عن مقدرة الوحي في تحقيق انتصارات في مساحات كبيرة على أديان وثقافات قديمة كان لها الحضور المركزي في مختلف بقاع الأرض على مدار تراكم زمني كبير، ولكن بقدر ما حققت صورة الألوهية الإسلامية من انتصار، وحشدت الأتباع بقدر ما كان للحوار وللمواجهة مع هذه الأديان والملل والنحل والثقافات آثراً كبيراً في تعدد تجليات صورة الألوهية الإسلامية على الأرض، وتعدد أشكال التدين الإسلامي، فقد أثرت هذه الأديان والثقافات في صياغة التعددية في مجال الفرق والمذاهب الإسلامية، فأثّرت أديان فارس القديمة في البناء العقائدي الشيعي، وفي تنامي الفرق الباطنية، كما أثّر الجدال مع النصارى في البناء العقائدي المعتزلي في تصور لمفهوم الألوهية.

من هنا يأتي هذا الفصل ليعالج العديد من القضايا المهمة التي تناولها علم الكلام حول تجلّي صورة الإله، ومدى الخلاف والصراع بين الوحي الإسلامي من جهة، وبين المنكرين والمغايرين له في الدين والملل والثقافة من ناحية أخرى؛ وذلك لأن «التاريخ يدلّ على أن أمر الإسلام لم ينفذ إلا تدريجياً، ولم يخط إلا خطوة خطوة، ولم يزل في دار الإسلام في قرونه الأولى عدد كبير من المسيحيين واليهود والثنوية، لا سيما أصحاب ماني الذي كان مركزهم القديم في العراق وفارس، ولم يزل كثيرون على مذهب الديصانية، والمرقيونية، وظهرت السمنية وأصلها من بلاد الهند وهلم جرا، وكان لكل واحد من هذه المذاهب كلام مرقق وعقائد محررة مقررة مرتبة على أصول فلسفية وفروع منتظمة، وهنا ظهر علم الكلام ليتبارى في الدفاع عن الإسلام، ويعرض تاريخياً لكل هذه الفروق والردّ عليها»[2].

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

[1] - البحث مقتطف من كتاب "تجلي الإله"، أحمد محمد سالم، صدر عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع، 2024

[2] - نينبرج، مقدمته لكتاب الانتصار والرد على ابن الراوندي للخياط، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، 1987، ص ص 35