تشارلز ساندرز بورس ضد ديكارت
فئة : ترجمات
تشارلز ساندرز بورس ضد ديكارت[1]
شرح الفقرة 214 من مقال "اسئلة متعلقة ببعض الملكات المنسوبة للإنسان"
المشكل الذي أثاره بورس[2] هو معرفة ما إذا كان باستطاعتنا التمييز بشكل بديهي بين الحدس والمعرفة التي تتم بواسطة الاستدلال.
لنطرح ذلك على الفور، حتى يتوضح الأمر:
- المعرفة التي تتحدد من خلال معرفة سابقة هي معرفة تتم عبر استدلال أو استنباط. لذلك فهي معرفة تتحدد انطلاقا من وقائع خارجية وليست داخلية، إنها معرفة تتم عبر استدلال.
- المعرفة التي تتحدد من خلال كائن متعال، هي معرفة تعطى لهذا الكائن بشكل مباشر في الفكر، ومن ثم فهي معرفة حدسية. الأمر يتعلق بمقدمة أولية مطلقة لا يمكن أن تحدد إلا من خلال هذا الكائن المتعالي؛ بمعنى أن كل موضوع خارجي للفكر يحدد انطلاقا من الفكر.
سؤال بورس كالتالي: كيف لنا أن نعرف، إذا كان بإمكاننا أن نعرف، أن لدينا القدرة على المعرفة بشكل حدسي؟ هل يمكننا أن نعرف بدون استدلال ما إذا كانت هذه المعرفة حدسية أم لا؟ بمعنى هل بإمكاننا أن نعلم بشكل حدسي ما إذا كانت هذه المعرفة حدسية؟
هنا يضع بورس أصبعه على نقطة بداية المعرفة التي أعطاها لنا ديكارت. في الواقع بالنسبة لديكارت، "الكوجيطو" هو البداهة الأولى، واليقين الأول، وأول فكرة واضحة ومتميزة، والمعرفة الأولى الأكثر تأكيدا. ومنه، فمن اليقين الذاتي للوعي نمتلك أساس الحقيقة كلها؛ أي القاعدة معيار الحقيقة، وعلى هذا تعتمد معرفة كل المعارف الأخرى. مع ذلك، فإن هذا "الكوجيطو" يتحصل داخل الحدس الفكري، والتعبير الوجودي، وليس داخل الاستدلال. في الواقع، "الكوجيطو" بالنسبة لديكارت هو وعي مباشر يدعي أنه محتفظ به كمعرفة.
لكن بالنسبة لبورس، فيما يخص نقطة البداية، فإن الحدس لا يمكن أن يعرف بطريقة حدسية؛ لأن كل دليل لا يمكن أن يتشكل إلا عن طريق استدلال، لهذا فبورس يرفض الحدس، باعتباره نقطة بداية المعرفة.
لنفصل:
"هناك فرق بين أن يكون لدينا حدس ومعرفة حدسية توظف الحدس، الأمران مختلفان"
بورس لا ينكر وجود حدس، لكن يتساءل عما إذا كان من الممكن تحويله إلى معرفة، لمعرفة هل بإمكاننا أن نعرف عن طريق الحدس، أو يمكن اعتبار الحدس نفسه معرفة؟
"إن السؤال هاهنا هو معرفة ما إذا كان هذان الأمران اللذان يمكن تمييزهما في الفكر مرتبطين في الحقيقة بشكل دائم، حيث باستطاعتنا دائما أن نميز بشكل حدسي، الحدس عن معرفة تتحدد من خلال معرفة أخرى"
هذان الأمران يمكن أن يكونا متمايزين في الفكر، ونحن بصدد تبيان ذلك، لكن هل يمكننا ضمن الوقائع والمعرفة أن نميز بفضل الحدس بينهما؟
هل يمكننا التمييز بطريقة حدسية، أي بشكل مستقل عن كل معرفة سابقة، بين المعرفة التي تقوم بالإشارة مباشرة إلى موضوعها؛ بمعنى تلك التي يعطى فيها الموضوع مباشرة للفكر، والمعرفة التي تتحدد من خلال المعارف؛ بمعنى معرفة استنتاجية تتم من خلال الاستدلال؟ هكذا إذن، هل الحدس يعطى بشكل حدسي للوعي باعتباره كذلك؟ هل يحمل الحدس في ذاته طابعه الحدسي ما يسمح بإدراكه مباشرة (بشكل حدسي) على أنه كذلك؟ هل يمكن أن يكون للحدس معرفة مباشرة عن نفسه؟
في الواقع، هل يمكن أن تكون لدينا معرفة بواسطة الحدس أو يمكننا أن نتصور الحدس باعتباره معرفة؟
"كل معرفة بما أنها شيء موجود، هي في الحقيقة معرفة بذاتها"
المعرفة تستلزم عنصرين: عنصر موضوعي وعنصر ذاتي، الأول يتمثل حقيقة في أن أي شيء هو عبارة عن تمثل، وعلى أننا نعي هذا الشيء المتمثل، فكل معرفة باعتبارها حدس في حد ذاتها هي إدراك بسيط للمعرفة، لذلك فالمعرفة هي حدس لعنصرها الموضوعي ولموضوعها مباشرة.
"لكن تحديد معرفة ما من خلال معرفة أخرى أو من خلال كائن متعال، لا تشكل جزءا، على الأقل للوهلة الأولى، من المضمون المباشر لهذه المعرفة"
هذا يفيد أن التمييز والقدرة على التمييز، سواء تم التعامل مع المعرفة من خلال استدلال أو من خلال معرفة حدسية، فإنها لا تشكل جزءا من وعي هذه المعرفة. ليس لأنه لدينا وعي بالمعرفة، فإنه بإمكاننا أن نقول ما إذا كانت هذه المعرفة ذات طبيعة حدسية أو ذات طبيعة استنتاجية، فالوعي لا يسمح بتمييز أي نوع من المعرفة يمكننا أن نستخدم.
"... بالرغم من أن هذا التحديد يبدو باعتباره عنصرا من الفعل أو من شعور الأنا المتعالية التي ربما لا يمكن أن تكون متواجدة أبدا بشكل مباشر في الوعي"
إن الفعل أو شعور الأنا من خلال ما أنجزه التمثل هو الحالة الذاتية للمعرفة، وهذا أمر يمكن القيام به من خلال الحلم، التخيل، التصور، الاعتقاد، بمعنى من خلال فعل معين أو شعور الأنا، الذي من خلاله تغدو المعرفة متمثلة للأنا. هذا يذكرنا بالأنا المتعالية عند كانط، الذي تحددت الذات عنده باعتبارها الوحدة المتعالية للأنا، تلك الوحدة التي هي مبدأ النشاط المعرفي الموحد للتعدد الحسي. بالنسبة لديكارت هذه الأنا هي الذات التي تفكر، وداخل المعرفة هناك الذات التي تعرف وموضوعات للتعرف. لكن بالنسبة إلينا، هناك أربع ملكات (الفهم، الحساسية، الخيال، الذاكرة) وحده الفهم القادر على إدراك الحقيقة. أيضا ضمن القاعدة 12، يحدثنا ديكارت عن قوة المعرفة التي يمكن أن تكون سلبية، بمعنى التي تستطيع استقبال انطباعات الحواس الخارجية، والجسم الذي يمتلك القدرة على تحريك هذه الحواس يستقبل هيئة الحواس المشتركة من أجل أن يشكل داخل الفطرة أو في الخيال نفس الصور أو الافكار التي ستخزن في الذاكرة، والحس المشترك هو الذي يمركز ويرتب كل الحواس الأخرى، ويستجمع الأحاسيس وينسقها.
قوة المعرفة يمكن أن تكون أيضا نشطة، فهي تنطبق على الصور المحفوظة في الذاكرة، وعلى التي تتشكل من التذكر، ولكن أيضا لتشكيل صور جديدة، تتصورها وتتخيلها.
يتشكل العنصر الذاتي للمعرفة من التلقي والإدراك والتذكر، كما يستوعب التصور والخيال، وهذه القدرات تنتمي للذات إلى "الأنا أفكر"، التي تتحدد حسب ديكارت، باعتبارها قوة ذهنية خالصة تدرك بالحدس. إنها قدرة الكوجيطو، والذات المتعالية، وقدرة التمييز بين مختلف العناصر الذاتية (الاعتقاد، الحلم....) التي تتم بواسطة الحدس.
خلاف ذلك يطرح بورس الافتراض التالي، كون العنصر الذاتي للمعرفة قد لا يعطى داخل الحدس؛ لأن هناك تمايزا بين الموضوعات المباشرة المعطاة للوعي، والتي تجعل هذه الفروق قائمة في الفكر، لذلك لست في حاجة للحدس لأميز بينها. فالعنصر الذاتي يمكنه أن يقيم تمييزا بين الحدس والاستدلال، لكن ذلك إذا لم يتم عن طريق الحدس، فإنه سيتم عن طريق الاستدلال، لأن وجود معرفة مباشرة (الحدس) لا يمكن معرفتها إلا من خلال طريقتين، إما عن طريق استخلاص لاستدلال ضروري، أو تعطى عن طريق معرفة مساوية للحدس.
بالنسبة لبورس ليس هناك قدرة لتمييز ومعرفة العناصر الذاتية للمعرفة بشكل حدسي، فالاعتقاد مثلا يؤخذ عن طريق الاستدلال. الأمر نفسه ينطبق على الاحساس، فالإحساس باللون الاحمر هو استدلال تم انطلاقا من اللون الاحمر المحفوظ باعتباره محمولا لموضوع خارجي، وهذا يختلف عن المعرفة المباشرة للفكر المحسوس. إن الإحساس هو استدلال، إنه الصفة الطبيعية للتمثل، فشعور ما هو خاصية طبيعية لعلامة عقلية.
هكذا إذن، فالحدس هو عنصر ذاتي للوعي، لكن هو ذاته لا يعرف بواسطة الحدس، بل عن طريق الاستدلال.
"مع ذلك، هذا الفعل أو الشعور المتعالي يمكنه أن يحدد بشكل دائم معرفة بنفسها..."
بعد الافتراض الذي طرح أن تحديد المعرفة من خلال الحدس أو من خلال الاستدلال لا يمكن أن يتم بفضل الحدس، فإن بورس يتناول وجهة نظر ديكارت. في الواقع، بالنسبة لديكارت، الكوجيطو هو الوعي المباشر الذي يدعي أنه محتفظ به كمعرفة، ف "الأنا أفكر" يمكنه تحقيق المعرفة بذاته، باعتباره أول معرفة بديهية نحن قادرين على امتلاكها، وهذا الذي يفكر هو دائما في نفس الوقت يفكر في شيء ما (انظر المبادئ 7)، لكنه بالرغم من ذلك حدس. في تجربة الكوجيطو، يبلغ الفكر الحقيقة المطلقة، رغم أنه لا يعرف شيئا يتعلق بأي واقع آخر إلا نفسه، فالفكر في نفس الوقت يقين (ذاتي) وحقيقة (موضوعية). إن الكوجيطو هو أول حقيقة وأول مبدأ أسس لهوية اليقين، وللتجربة الذاتية للفكر الذي يختبر نفسه، وللحقيقة أيضا.
الكوجيطو هو يقين ذاتي، لكنه كوني كشكل لمعرفة عقلية في تطورها، فداخل الكوجيطو وجد ديكارت تأكيدا لكل حقيقة موجودة ولكل حقيقة موضوعية لاحقة، أي معيار بداهة الافكار الواضحة والمتميزة. إذن فنقطة انطلاق المعرفة التي طرحها ديكارت هي الحدس والبداهة، هذه الأخيرة باعتبارها مبدأ، هي نقطة بداية الحقيقة العلمية المشكلة للأفكار الواضحة والمتميزة، ومنه يكون العالم الخارجي اختزالا للامتداد الهندسي، وتكون الطبيعة بذلك خاضعة للإمبراطورية الذاتية الإنسانية. إن نقطة انطلاق المعرفة هي ذاتية. إنها وعي الذات، فداخل التجربة الداخلية الحدسية (أنا أفكر، أنا موجود) سيجد معيار البداهة أساسه المنطقي العلمي اللاحق.
هكذا إذن فنقطة بداية العلم هاهنا هي الحدس، وقد وظف ديكارت أيضا الاستنباط من أجل العلم، لكن الحدس هو "المفهوم الذي شكله الذكاء الخالص واليقظ بكل سهولة وتميز، حيث لا يبقى أبدا أي شك فيما ندركه، أو بالأحرى هو تماما، المفهوم الذي يشكل الذكاء الخالص واليقظ، وبدون شك ممكن، هو المفهوم الذي ولد من النور الوحيد للعقل، واليقين داخله أكبر بسبب بساطته من مفهوم الاستنباط نفسه" (القاعدة3).
كل واحد يمكنه من خلال الحدس الفكري أن يرى أنه موجود، وأنه يفكر، وأن يرى أن المثلث يتحدد بثلاثة خطوط فقط، ولعل هذا ما يعد بداهة ويقين الحدس. إن المبادئ الأولى تعرف فقط عن طريق الحدس، فالنور الطبيعي الذي هو السبب، يتحدد بوصفه مجموعة من الحقائق المباشرة والبداهات الخالية من الشك في الفكر بمجرد أن تبلغ انتباهه: "ملكة معرفة ما وهبنا الله إياه، والتي نسميها النور الفطري، لا تدرك أبدا أي شيء أنه ليس صحيحا من حيث أنها أدركته، بمعنى من حيث معرفتها أنه واضح ومتميز" (المبادئ، 30).
هكذا إذن فالحدس حسب ديكارت هو فعل فريد، مباشر وفوري للفكر. لقد تشكلت المثالية ضمن حقيقة أن ما يمكن معرفته عن العالم الخارجي لا يمكن أن يكون مختلفا عن الأفكار الواضحة والمتميزة التي تستمد ضمانتها من نفسها، بما أنها نموذج منطقي حاضر في البداهة التي تشكل الكوجيطو.
يستند ديكارت إلى بداهة الكوجيطو، المدرك في الشك نفسه (لا يمكن أن أشك دون أن أكون موجودا، المبادئ7) من أجل أن يؤسس بعد ذلك، كمعيار للحقيقة، بداهة الأفكار الواضحة والمتميزة. لقد جعل ديكارت من الذاتية معيارا للمعرفة، فالفرد هو ضامن الصدق، ويأخذ اليقين الذاتي وتعالي الوعي كمعيار لكل حقيقة. في هذا السياق، يمتلك الله وظيفة إبستمولوجية تتمثل في ضمان العلم والمعرفة العقلية في تطورها، فلا وجود لأي علم دون معرفة من خلقه، المبادئ3. يشير الكوجيطو إلى أنه توجد ماهية مفكرة خلقت من طرف الله، والله هو الضامن لاستمرارية المعرفة ولعقلانية العالم كأن يفكر من خلالي علميا (راجع التأمل 5).
كانط كشف خطأ ديكارت ضمن مغالطات: فداخل الوعي الذي لدينا عن أنفسنا يبدو أننا نمتلك هذا العنصر الماهوي "الأنا أفكر" ضمن حدس مباشر، غير أن الكلية داخل علاقة المفاهيم ليست فكرة بسيطة، بل عبارة عن شيء، عن موضوع مطلق في حد ذاته. نحن نميل إلى طرح "الأنا أفكر" لا كشرط منطقي بسيط للمعرفة، ولكن كحقيقة قابلة للإدراك بشكل مسبق، متجردة من كل الشروط التجريبية، رغم ذلك، "أنا أفكر" لا تعني "أنا أعرف نفسي".
"...حيث في الحقيقة، أن تحديد أو عدم تحديد المعرفة من خلال معرفة أخرى يمكن عده جزءا من المعرفة نفسها"
لذلك بمجرد أن أطرح الكوجيطو الذي يعطى داخل الحدس، والذي أعتبره كمعرفة، أدرك أن الحدس يمكنه أن يحدث تمييزا بين المعرفة بواسطة الحدس والمعرفة بواسطة الاستدلال.
"في هذه الحالة، أقول إننا لسنا قادرين على تمييز الحدس بشكل حدسي عن معرفة أخرى"
إذا كنا نقبل الكوجيطو كبداهة، كمعرفة أولى نتيجة للحدس، فهذا يعني أننا قادرين على التمييز بين الحدس والاستدلال، بفضل الحدس. في الواقع، نحن ندرك الكوجيطو كمعرفة أولى وكحدس، وأنه أعطي لنا بواسطة حدس، وأننا ندركه بواسطة الحدس، وبالتالي فهو ليس معرفة بواسطة الاستدلال.
"ليس هناك من دليل على أننا موهوبون بهذه الملكة، لكننا نشعر بها"
هنا يضع بورس الفكرة الواضحة والحدس كمعرفة موضع تساؤل، فنحن لا نملك أي دليل على هذه القدرة الحدسية، وعلى هذه المعرفة باعتبارها بداهة حدسية، كما نعتقد أننا قادرين حدسيا على التمييز بين المعرفة الحدسية والمعرفة بواسطة الاستدلال، لكن ليس لدينا دليل على ذلك، فقط أننا نشعر بذلك. في الواقع، بالنسبة لبورس ليس هناك أي صياغة أو أي قضية وأي تجربة لا تحتوي في ذاتها علامة الحقيقة. ولعل هذا ما يشكل نقيض نظرية الأفكار الواضحة والمتميزة للكوجيطو، التي تحتوي في ذاتها دليل حقيقتها.
يفهم مصطلح الشعور هاهنا حسبما يتبدى على أنه إشارة إلى العقل فقط، ومنه يمكن امتلاك معرفة بالعقل غير مستدل عليها من أي صفة للأشياء الخارجية، الأمر الذي يجعله يبدو على أنه حدس. فضلا عن هذا، هذه الجملة تذكرنا بباسكال الذي يقول في الافكار المتعلقة بالمبادئ الأولى "نحن نشعر بها". فالقلب هو الملكة الحدسية التي تجعلنا نرى مباشرة المبادئ الأولى، ومن خلاله نقبل بهم "نحن لا نعرف الحقيقة فقط من خلال العقل، ولكن أيضا من خلال القلب، وعبر هذا المعطى الأخير نعرف المبادئ الأولى، لذلك من العبث أن يحاول الاستدلال الذي ليس له أي دور في هذا الجانب محاربتها" (الافكار، 110). بالنسبة لباسكال بدءا من اللحظة التي تتفق فيها كل الافكار مع المبادئ التي تطرح بفضل الملكة الحدسية، فإنها تكون بديهية، لذلك فهي ليست في حاجة لأي تعليل. لكن الاختلاف بين باسكال وديكارت، أنه بالنسبة للأخير، الكوجيطو يسمح بامتلاك اليقين من الافكار الواضحة والمتميزة، باعتباره مصدرا للحقيقة الموضوعية، في حين يقترح باسكال صناعة البداهات والحقائق: "يتوجب اقتراح مبادئ أو مسلمات بديهية لإثبات الشيء المعني" (من العقل الهندسي. الفن. 3: فن الاقناع). بالنسبة لبورس، الحدس الأول، "أنا أفكر إذن أنا موجود" هو اعتقاد من بين اعتقادات أخرى لا نستطيع رفضها من البداية: "هناك فكرة، إذن أنا موجود" التي تشكل إكراها على الفكر، لكنها ليست عقلانية، ف "الأنا أفكر" هو مصادرة على المطلوب.
"مع ذلك، فإن هذا الادعاء يستند كليا إلى افتراض مفاده أن لدينا قدرة التمييز داخل هذا الشعور، ما إذا كان يعطى نتيجة للتربية، والارتباطات السابقة، أو أنه عبارة عن معرفة حدسية"
طرح بورس سؤال معرفة ما إذا كان الشعور يستند إلى التعلم والتجارب السابقة والآراء الواردة، وأخيرا الدور الذي يلعبه من خلال الأفكار السابقة في تحديد هذا الشعور، أو ما إذا كان ببساطة يستند إلى الحدس؟ لكن السؤال في هذه اللحظة هو هل يمكننا تحديد أصل هذا الشعور بشكل حدسي، عن طريق الشعور بذلك؟ يظل المشكل نفسه: نحن نعتقد أننا نمتلك هذه القدرة، لكن لا نستطيع إثباتها. بالنسبة لبورس، الشعور هو موضوع الوعي والقدرة على إثباته لا تختبر أي إدراك حدسي لأصله. الشعور دائما ما يكون محمولا على شيء ما أو يحدد من خلال معرفة سابقة، وفي كل مرة نسعى لإثبات شعور ما نحن نفكر في شيء ما. لذلك فالشعور بالنسبة لبورس هو خاصية مادية ذات علامة ذهنية، وعبارة عن تمثل ينكشف بواسطة استدلال.
"بتعبير آخر، في النهاية، فهو يستند إلى افتراض مسبق لنفس الشيء الذي يريد أن يدعيه"
هذا الادعاء بوجود شعور قادر على التمييز بين الحدس والاستدلال، يفترض مسبقا وجود معرفة بواسطة الحدس، لأن الشعور هنا يفهم على أنه حدس. إنه يستند إلى كوننا قادرين على التمييز حدسيا بين المعرفة المحددة من خلال معارف سابقة، والمعرفة المحددة من خلال الحدس، وهو ما نسعى بالضبط إلى إثباته، كون هذا الادعاء غير قابل للقبول.
"لكن هل هذا الشعور معصوم من الخطأ؟ وهل هذا الحكم عليه معصوم هو الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية؟"
خاصية الشعور هي خاصية ما لا يمكن إثباته، لذلك فإنه من الممكن أن يتغير. في الواقع نحن نقيم حكما يتأسس على الموافقة العامة، لكن هذا الحكم يمكنه أن يتغير ويتطور..... مثلا، في العصر الوسيط سادت السلطة الخارجية، حيث كان هناك مصدرين للمعرفة، الله والآباء الكبار. مصداقية السلطة الخارجية كانت المقدمة المطلقة مثل الحدس، رغم ذلك فإنها قد اختلت واكتشف أنها كانت خاطئة. أي شيء لا يمكن إثباته دائما ما يكون معرضا للتساؤل، ما يعني إذن أنه لا يمكن إثبات كون هذا الشعور معصوم.
"إذا تمكن الانسان فعلا من الانكفاء على مثل هذا الايمان، فإنه سيكون بالطبع سدا منيعا للحقيقة من »إثبات الدليل«"
في الواقع، الشعور ينتج من الاعتقاد والايمان، الذي لا يمكن أن يكون لا مثبتا ولا مقبولا كحقيقة، بالمقابل الدليل هو استدلال يتوجه نحو بناء حقيقة من واقعة أو من قضية نظرية (عندما يتعلق الأمر بقضية نظرية يمكننا القول أن الاستدلال الاختباري يتوجه نحو تأسيس كلي لحقيقة هذه القضية). رغم ذلك ليس هناك دليل على الحدس، فمن المستحيل التمييز بواسطة الحدس بين الاستدلال والحدس، كما من غير الممكن بواسطة نظرة بسيطة تمييز ما هو حدسي عما هو ليس كذلك، ولعل هذا ما يحفظ بالرغم من كل شيء، وهو أن المعرفة ممكنة بواسطة حدس لا يمكن إثباته، وبالتالي لا يمكن تحويله إلى حقيقة.
بالنسبة لبورس، التمييز بين الحدس والاستدلال لا يمكن أن يتم إلا بواسطة استدلال.
ختاما:
لا يمكن تحويل الحدس إلى معرفة، كما لا يمكن أن يكون نقطة بداية المعرفة؛ لأنه من المستحيل إدراك ما إذا كانت المعرفة المعطاة هي معرفة مباشرة بموضوعها أم لا.
يرفض بورس كل ادعاء يتأسس على الحقائق المطلقة، بما في ذلك الكوجيطو؛ لأن كل معرفة تتطلب معرفة سابقة، فليس هناك من معرفة حدسية كانت عبارة عن مقدمة مطلقة. أضف إلى هذا، أن أي فكرة معزولة لا يمكنها، حسب بورس، أن تصل إلى اليقين المطلق، فكل فكرة تتبع أخرى وتستدعي أخريات. كما يعتبر أيضا، أن الملكة الأكثر شهرة بكل تأكيد هي المعرفة، والاجراء الأبرز فيها هو الاستدلال، فالحياة الذهنية هي الاستدلال، ولست في حاجة لأن يكون لديك حدس للأنا.
هكذا إذن فبورس يرفض الديكارتية، وبشكل أعم كل فلسفة تدعي أنها تستند إلى معطى داخلي أولي مطلق وغير مشكوك فيه، وهو لا يرفض الديكارتية فقط، بل حتى التجريبين وكانط. فبالنسبة له، ديكارت والتجريبيون تقاسموا نفس وهم المنطلق الأول، ووهم كونه منطلقا مطلقا أيضا، وذلك لأنه لا يمكن الانطلاق إلا من الحالة الواقعية التي نتواجد فيها، فليس هناك من منطلق أول، إذ دائما ما يوجد شيء ما، كما أنه ليس هناك من طاولة خالية وممسوحة.
فيما يتعلق بفلسفة كانط، يؤكد بورس أنه ليس هناك من ضرورة لجعل "الأنا أفكر" تلعب دور الموحد، لأن وحدة الفكر تنشأ داخل التماسك المنطقي للفكر من خلال علامات مكتفية بنفسها.
النص الأصلي لبورس: [3]
"الآن، من الواضح أن هناك شيئا يمتلك حدسا وآخر يعرف حدسيا أنه هذا الحدس، ولعل السؤال هاهنا هو ما إذا كان هذان الشيآن المتمايزان في الفكر هما في الحقيقة مرتبطان بشكل دائم، حيث نستطيع دائما التمييز بشكل حدسي بين الحدس والمعرفة المحددة من خلال الآخر. فكل معرفة باعتبارها شيئا موجود هي بالتأكيد حدس لذاتها، لكن تحديد معرفة ما من خلال معرفة أخرى أو من خلال كائن متعال، لا تشكل جزءا، على الأقل للوهلة الأولى، من المضمون المباشر لهذه المعرفة، بالرغم من أن هذا التحديد يبدو باعتباره عنصرا من الفعل أو من شعور الأنا المتعالية التي ربما لا يمكن أن تكون متواجدة أبدا بشكل مباشر في الوعي، مع ذلك، هذا الفعل أو الشعور المتعالي يمكنه أن يحدد بشكل ثابت معرفة بنفسها، حيث في الحقيقة، أن تحديد أو عدم تحديد المعرفة من خلال معرفة أخرى يمكن عده جزءا من المعرفة نفسها. في هذه الحالة، أقول أننا لسنا قادرين على تمييز الحدس بشكل حدسي عن معرفة أخرى.
ليس هناك من دليل على أننا موهوبون بهذه الملكة، لكننا نشعر بها، مع ذلك، فإن هذا الادعاء يستند كليا إلى افتراض مفاده أن لدينا قدرة التمييز داخل هذا الشعور، ما إذا كان يعطى نتيجة للتربية، والارتباطات السابقة، أو أنه عبارة عن معرفة حدسية. بتعبير آخر، في النهاية، فهو يستند إلى افتراض مسبق لنفس الشيء الذي يريد أن يدعيه. لكن هل هذا الشعور معصوم من الخطأ؟ وهل هذا الحكم عليه معصوم هو الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية؟ إذا تمكن الإنسان فعلا من الانكفاء على مثل هذا الإيمان، فإنه سيكون بالطبع سدا منيعا للحقيقة من »إثبات الدليل«".[4]
[1] Ecrit par marie-pierre le Dimanche 5 Juin 2016, 20: 04 dans "Enseigner la philosophie" Lu 2972 fois.
http: //denis-collin.viabloga.com/news/charles-sanders-peirce-contre-descartes
[2] آثرت اعتماد كتابة اسم بورس بالواو عوض الياء، استنادا إلى النطق الانجليزي والفرنسي أيضا، وفي المقال أسفله نجد إشارة إلى ذات النقطة، حيث اعتبر صاحبه أن:
"Peirce, Se prononce « peurce », comme le mot anglais « purse »"
Chevalier, Jean-Marie, L’épistémologie sociale de Peirce, Jean-Marie Chevalier, Charles Sanders Peirce, Traduction de Jean-Marie Chevalier, Dans Cahiers philosophiques 2015/3 (n° 142), pages 107 à 120
[3] تم الاعتماد في ترجمة هذه الفقرة على النص الانجليزي بداية ثم الترجمة الفرنسية أعلاه، لذلك فإنه من...إلى "الآن، من الواضح.......هي بالتأكيد حدس لذاتها" تمت ترجمتها استنادا إلى النص الانجليزي، نظرا لاختلاف مقدمة الفقرة عما عرضته الكاتبة، أما الباقي منها فاكتفينا بنقل ما ترجمناه داخل المقال.
[4] الفقرة 214 من مقال "اسئلة متعلقة ببعض الملكات المنسوبة للإنسان"، تشارلز ساندرز بورس