تصوّرات المسلم واليساري العربي: أميركا والشيطان الرجيم أنموذجاً
فئة : مقالات
الصورة التي يحتفظ بها اليساري العربي عن أميركا بوصفها مصدراً للشرّ في العالَم، هي ذات الصورة التي يحتفظ بها الإنسان المسلم عن الشيطان الرجيم بصفته هو الآخر، مصدر الشرور في العالم؛ فكلاهما - أميركا والشيطان الرجيم من وجهة نظر اليساري العربي والمسلم - سبب كل المآسي في هذا العالَم.
المُسلم العادي يُحيل على الشيطان الرجيم ويُحمّله مسؤولية إخفاقاته، واليساري العربي يُحيل على أميركا و يحمّلها مسؤولية إخفاقاته. ولربما كانت ذهنية المسلم العادي هي ذات ذهنية اليساري؛ فقط ثمة جمجمتان، واحدة تتوشّح بوشاحٍ إسلامي بما يحتمله من تمظهرات شكلية، وأخرى تتوشّح بوشاحٍ شيوعي بما يحتمله من تمظهرات يسارية. الجوهر واحد والعيان كثير، وفي النهاية يلتقيان في تعزيز ثقافة العطالة والبطالة الحضارية، متحجّجين بالمؤامرة التي يُحيكها الشيطان الرجيم لمنع الإنسان المسلم من أداء واجباته الحضارية، وأميركا لمنع اليساري العربي عن القيام بواجباته الحضارية؛ فالمؤامرة الأمريكية مستمرة ولا سبيل إلى الخلاص منها.
السؤال:
-خارج إطار الجمجمة المزدوجة بالنسبة للمسلم أو لليساري، هل هذا الاستلهام لفكر المؤامرة (الشيطانية/الأمريكية) حقيقة واقعة أم إنه محض هروب انتحاري، ناحية مقولات جاهزة للخلاص من مُساءَلة الذات، ومحاسبتها على تقصيرها الحضاري، وهل هذه الممارسة الإسقاطية تُبرّر التموضع في وضع مُدمّر إلى ما لا نهاية؟
-هل الشيطان الرجيم هو المسؤول الحقيقي عن إخفاقات الإنسان المُسلم؛ وإذا كان الأمر كذلك، فأين هو مسار الخيار الإنساني ومكانة الحرية بالتالي، وهل الإنسان محض رهينة وجودية لهذه القوة الشيطانية العاتية؟
-وبالمثل هل أميركا هي المسؤولة الحقيقية عن إخفاقات اليساري العربي الطامح إلى تغيير المشهدية وتحويلها إلى جنّة شيوعية باهرة؟
-أين موقع (الله) بالنسبة للإنسان المسلم ضمن إيمانيته بالقوة الشيطانية الكبيرة، وأين موقع روسيا بالنسبة لليساري ضمن إيمانيته بالقوة الأمريكية التآمرية؟
-سأجيب على هذه الأسئلة بما يقتضي واقع الحال، بعد أن ألقي نظرة على مفهوم (الإسقاط) النفسي، ومتى يلجأ المرء إلى إسقاط إخفاقاته على الآخرين؟
فكرة السَّلْب والذات العاطلة عن الفعل:
بشأن مصطلح الإسقاط Projection، جاء في (المعجم الموسوعي في علم النفس):
"الإسقاط آلية نفسية يعزو بها المرء أفكاره وعواطفه إلى الآخرين. الإسقاط لدى الطفل الصغير، الذي لا يميّز الأنا عن اللاأنا، مبتذل. إنه ينسب بصورة طبيعية جداً رغباته ومخاوفه وانفعالاته إلى رفاقه، رفاق اللعب، سواء كان رفاقه حيواناً أو لعبة أو شيئاً غير حيّ (الإيحائية). وهذه الذهنية موجودة لدى الراشد عندما يجهل الواقع، في الميثولوجيا والمعتقدات والخرافات والأوهام التي تبرّرها الرغبة، على سبيل المثال. والإسقاط عامل أيضاً في الأمراض العقلية، ولا سيما في الهذيانات الهلوسية والبارانويا؛ فالمسألة في جميع الأحوال مسألة تحديد موضع خاطئ: إن الفرد يحدد في الخارج موضع ما يحدث في ذهنه. والإسقاط في رأي المحلّلين النفسيين آلية من آليات دفاع الأنا، قوامها أن تعزو الأنا إلى الغير لا شعورياً ميولها الخاصة، ورغباتها ودوافعها التي تمنع الأنا العليا أن تتعرف عليها الأنا، أنها خاصة بها. وإذ يتخلّى المرء عن ذاته ويطرد ما هو مصدر الألم ويحوّله على شيء خارجي، فإنه يتحرّر من توتراته ويكون مسوغاً في اتجاهاته وسلوكاته. إن عاطفة الحق يمكنها على هذا النحو أن تعزى إلى شخص كان متوجهاً ضده (القضية "أكرهه" تصبح "يكرهني")، ولم يعد العدوان والتمرّد، بل الجريمة غير مشروعة"(1)
و أنا إذ أُورد هذا هَهُنا، فإني أعمد إلى قياس ما يحدث مع الإنسان المسلم واليساري العربي في تعاملاتهما مع الشيطان وأميركا، قياساً سيكولوجياً؛ فالشعور بالانسحاق أمام هذا المدّ الكبير، ليس من مُقاربةٍ له عند الإنسان الصغير إلا بتضخيم الخارج تضخيماً عظيماً، بسبب الداخل الضامر والمُتآكِل.
والمقاربة السيكولوجية تفترض نوعاً من تفخيم وتضخيم الطرف الآخر إلى درجة العجز عن مواجهته، وبالتالي تحميله مسؤولية الإخفاق والضعف والعجز. فالضمور الداخلي والعجز بإزاء الوجود، ينتج عنهما بالضرورة بحثاً محموماً عن طرفٍ آخر قوي إلى درجة يُعجز عن مواجهته، لذا يُقبل به كوجودٍ أقنومي، أيقوني، يُقدَّس من حيث هو يُدنَّس!. والاشتغال الإسلامي - ضمن نسقيته القائمة حالياً - على مفاهيمية الشيطان الرجيم وحضوره الفاعل ضمن هذه النسقية، هو نوع من التقديس العظيم لشخص الشيطان. ففي الوقت الذي تُضْمَر فيه النوايا الرافضة للشيطان، بصفته مصدراً للشرّ في العالم، والمسؤول مسؤولية مباشرة عن غواية الإنسان المسلم، يُمارَس الشيطان من قِبل الإنسان المسلم ممارسة قُربانية، أقرب ما تكون إلى الحضور الطهراني لدنسٍ يُنتْبَذ. فالشيطان إذ يحضر فالتفكير به تفكير أيقوني، تبجيلي (حتى مع ترسّخ شرّانيّته في الأذهان)، من حيث هو قوة عاتية لا سبيل إلى زحزحتها؛ فبطريقة أو بأخرى، ينبغي الرضوخ لشروطه فكراً وواقعاً؛ والإدانة الحاصلة له هي إدانة سيكولوجية لا أكثر ولا أقل، لناحية إسقاط سبب الفشل عليه، فهو بمثابة المحرقة الكبيرة التي تُلقى في نار أتونها كل إخفاقات الإنسان المسلم، لغاية التحرّر من المسؤولية الأدبية والأخلاقية أمام الله - دنيوياً وأخروياً - عن أخطاء تُقْترَف؛ فالإحالة إلى الشيطان الرجيم هي إحالة سيكولوجية تفترض بالله - كمرحلةٍ لاحقة لمرحلة الإسقاط - أن يقْتَنِع بمُدخلاتها ومُخرجاتها، وبالتالي التحرّر من المسؤولية عن إعمار الأرض والتنصّل من خيار الحرية الإنسانية. وضمن هذه التصوّرية سيعفينا الله من مسؤوليتنا تجاه ما هو حاصل، نظراً لأننا لا نملك خياراً مع وجود الشيطان الرجيم وقوته التدميرية!. وبذلك نبقى رهناً لضعفنا وانحطاطنا على اعتبار أن لا سبيل إلا الاعتراف بفشلنا الحضاري والعمل - بالتالي - على إصلاح هذا الفشل، ومن ثمّ محاولة الارتقاء بفكرنا وسلوكنا بما يليق بنا ككائنات إنسانية عاقلة ومسؤولة عن أفعالها وتصرفاتها.
ومثل هذه الصورة التهويلية بشأن الشيطان الرجيم من قبل الإنسان المسلم؛ صورة أميركا بالنسبة لليساري العربي، فهي وإنْ كانت بحسب هذا اليساري مسؤولة عن كل المصائب الموجودة في العالَم، فهي في ذات الوقت قوة هائلة، عاتية، مُبجّلة لا سبيل إلى زحزحتها من مكانها، لذا لا مانع - على المستوى الداخلي وإن كان الظاهر يشي بغير ذلك - من الإبقاء عليها، فبدونها تنتهي البكائيات والتفجّعات، وتنكشف العورات. ولو حدث أي خلل في أي بقعة في هذا العالَم، لأُنيطت مُدخلاته ومخرجاته بأميركا بصفتها المسؤولة مباشرة عنه، وفيما يخصّ الشأن العربي تُحمَّل أميركا مسؤولية ما يحدث مسؤولية كاملة، فهي بمثابة القوة الإلهية الجبّارة، من جانب تُقرَّع وتُؤنَّب ويعزى إليها الفشل، ومن جانب آخر تُعامَل كقدرٍ مقدور لا سبيل إلا الخلاص منه. فالحالة التبجيلية هي حالة استتارية، مُتوارية، لذا تُمارس ضغوطاتها بطريقة غير مرئية كنوعٍ من الغزل الناعم بين طرفي معادلة أحدهم، يخطئ أخطاء فادحة لكنه يرفض الاعتراف بأخطائه، وكحلٍّ سيكولوجي لا يجد ثمة مفر من (إسقاط) هذه الأخطاء على الطرف الآخر من المعادلة؛ القوة الكبيرة، لكي يجد المبرّر - ذاتياً في البداية - لنفسه بأنه لم يُخْفِق، ولاحقاً لكي يُقْنِع العالَم بأنّ سبب فشله عن تحقيق غاياته ليس نتيجة خطأ ذاتي، إنما هناك قوة كبيرة تحول دون تقدّمه وتطوره. لذا يبقى الوضع على ما هو عليه؛ فالضعف باتجاه الشيطان يبقى على ما هو عليه، والضعف باتجاه أميركا يبقي الوضع على ما هو عليه، فالمخيلة التي تحتفظ بضعفها كمخزونٍ استراتيجي لا يمكنها أن تتغلّب على نملة صغيرة فما بالك بـِ فيل كبير. ولربما كان وضع المسلم العادي واليساري العربي وضعاً مشابهاً فيما يتعلّق باللطم والندب على الميت، كما في أيام الجاهلية، فهو محض طقس سيكولوجي ليس له أن يُعيد ميتاً مات، وليس له أن يُغيّر وضعاً قائماً.
-السؤال الآن: أين الموقع الحقيقي للشيطان الرجيم وأميركا في هذا العالَم، وما مدى مسؤوليتها عمّا يحدث في هذا العالَم؟
-هل البقية - عدا أميركا و الشيطان الرجيم - محض هراء لا حول لهم ولا قوة، وكل ما هو مطلوب منهم هو التسليم بما يأتيهم، واعتباره قراراً حتمياً؟
هذا السؤال، يستلزم معرفة موقع (الله) بالنسبة للإنسان المسلم كمقابلٍ للشيطان، وموقع (روسيا) أو (الاتحاد السوفييتي) سابقاً بالنسبة لليساري العربي كمقابلٍ لأميركا.
بالنسبة لليساري العربي، تعتبر (روسيا) بمثابة الخلاص النهائي والحل المثالي لمشاكل العالَم، بصفتها مصدراً للخير في هذا العالَم مقابل شرّ خالص يصدر عن أميركا. وبإزاء هذه العقلية الانفتاحية تجاه روسيا والانغلاقية تجاه أميركا يُفترض بالكلّ أن لا يقتنع فقط، بل أن ينتقل إلى مرحلة التطبيق العملي والواقعي لهذا الاقتناع، وإلا فهو في صفّ المُتآمرين والإمبرياليين.(2) وفي الوقت الذي تُرفض فيه أميركا رفضاً كلياً من قبل اليساري العربي، فإن روسيا تقبل قبولاً كلياً على المستوى الظاهري أيضاً، إلا أنهما يتساويان في المقدرة ذاتها على إحداث الخير والشرّ، فالظاهر مُختلف والباطن واحد.
والحضور الإلهي بالنسبة للإنسان المسلم كمقابلٍ للشيطان هو حضور مُتساوٍ في المدخلات والمخرجات، فما يقدر عليه الله لا يقدر عليه إلا الشيطان الرجيم، وفي الوقت الذي يُرفَض فيه الشيطان الرجيم رفضاً مطلقاً على المستوى الظاهري، ويقبل الله قبولاً مطلقاً، فإنهما يتساويان في المقدرة على المستوى الباطني.
أميركا:
في كتابه (501 سنة الغزو مستمر) يكشف "نعوم تشومسكي" عن التاريخ المُروّع للحضارة الأمريكية؛ فهو يسرد معلومات ترقى إلى درجة الشيطنة والعبث بمصائر البشر، وكأنهم كائنات أقل شأناً وأحطّ قيمة، مما يُبرّر معاملتهم بهذه الطرق الوحشية.(3)
وبعيداً عن سياقات كتاب تشومسكي، أعتقد أن استخدام أعنف سلاح (أعني السلاح الذرّي) عرفته البشرية حتى الآن وأكثرها قدرة على الفتك والقتل، لا زال حاضراً في أذهاننا ساعة ألقت القوات المسلحة الأمريكية قنبلتين - دونما رحمة - على هيروشيما وناكازاكي، فمحقتهما عن آخرهما. إضافة إلى دورها في تأجيج صراعات دامية وعنيفة أيام الحرب الباردة، والمذابح المُروّعة التي ارتكبتها في فيتنام وكوريا واليابان والعراق ومناطق مختلفة من العالَم... يضاف إليها سلسلة من الجرائم البشعة بحقِّ الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها.
-المطروح (بعيداً عن أية تحيّزات، فقط من باب الوصف)، ضمن هذا السياق، مَنْ هي الحضارة التي لم تقم على الدمّ والإقصائية والأنانية؟
في حال استعدنا التاريخ؛ حضارةً حضارةً على شكل متوالية زمنية؛ يصير سؤال: مَنْ هي الحضارة التي لم تقم على الدمّ والإقصائية والأنانية؟ سؤالاً برسم الإجابة الشافية والوافية، فخارج سياق المقاربات الأيديولوجية / القومية / الوطنية / الإثنية.. الخ، لتاريخ الحضارات ستكون الإجابة موشّاة بالدم الهاطل طرّاً، وإذا كان لي أنْ أُشَبِّه التاريخ البشري بـِ "أضحية"، فإنّ دم هذه الأضحية لا زال فوّاراً وحاراً حتى الآن، إذ لم يحدث للآن أن قامت حضارة على الطهرانية والبياض القلبي والآفاق المفروشة بالورد والياسمين، بل على الدمّ والعنف والقتل المُقدَّس، تحت شعار دونية الآخرين وعلوية الذات الحضارية.
الإنسان المسلم بين الحرية العقلية والاستلاب الشيطاني:
-بإزاءِ إسقاط كل شيء على الشيطان الرجيم، ماذا يتبقّى للإنسان من خيارات؟
-هل الإدعّاء بقيمة الحرية الإنسانية محض هراء عقلي يسقط مع أول اختبار واقعي؟
-هل ثمة إكراه ديني للإنسان المسلم بقبول الشيطان كـَ (قوةٍ فاعلة)، والارتضاء للإنسان بـِ (الانفعال) فقط للشيطان الفاعل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإلى أي حدّ تبقى مقولة الثواب والعقاب قائمة من منظور ديني؟
-هل يهرب المسلم هروباً انتحارياً ناحية التخفيف من وطأة فشله، بإلقاء تبعات هذا الفشل على قوة غير مرئية، لغاية خلق نوع من التوازن الأنطولوجي مع عالم لامرئي موازٍ؟
سأذكر آية واحدة(4) من الآيات القرآنية، ومن ثم سألقي عليه نظرة فاحصة وأربطها بمفهوم الإرادة الحرّة:
جاء في الآية (76) من سورة النساء: "... إِنَّ كَيْدَ الشيطان كان ضعيفاً"، والآية كاملة جاءت على النحو التالي: "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً".
-والسؤال: لماذا اخترتُ هذه الآية تحديداً دون سواها؟.
1. لأنها تتحدث عن مرحلة يكون فيها القرار الإنساني حرجاً جداً، وبحاجةٍ إلى ميزان كبير لوزن الأمور، لأن في الأمر مُجازفة كبيرة لما تنطوي عليه من إرهاق للأجساد.
2. لأنها تبتّ في الكيد الشيطاني من حيث هي كيد ضعيف أمام إرادة الإنسان.
وقرن الشيطان بهذه المعادلة منعاً لإسقاط مفاهيمية الفشل عليه هو قرن مهم للغاية، على اعتبار أن قرار القتال والحرب قائم أساساً على قرار ذاتوي، يستند إلى معطيات عسكرية ولوجستية كبيرة وعميقة، ومسألة الانتصار في المعركة أو الإخفاق فيها هي مسألة مُتعلّقة بالذات أولاً وأخيراً؛ فالوضع العقلاني السليم يتطلّب تحضيراً ممتازاً للمعركة، لأن أي خللٍ سيُفْضِي إلى نتائج معاكسة. والسياق النصّي يدلّ على أن (كيد الشيطان) يكون ضعيفاً في حال قوة المؤمن، والعكس بالعكس؛ فالمسألة نسبية ما بين حضور الشيطان وانعدامه وما بين قوة المرء أو ضعفه. و يبدو أن منطق الحياة وناموسها يسري على هذه المعادلة، فكلما كان المرء قوياً كان أكثر قدرة على السيطرة على مجريات الأمور، وكلما كان أضعف كلما أخفق أكثر، وكدرءٍ لخطر داخلي داهم يُعْمَد في هكذا حالات إلى إسقاط الفشل على قوى غير مرئية. والشيطان حاضر دائم بالنسبة للمسلم، ويبدو أن موجة انحسار المدّ الإسلامي فيما يتعلق بالبناء الحضاري على مستوى الإنسانية، قد جعل حضور الشيطان حضوراً أقنومياً، يُناهز حضور الإله ويُطاوله في القوة والجبروت.
وبالعودة إلى الآية القرآنية، فثمة إقرار إلهي بـِ ضعف الشيطان أمام إرادة الإنسان وخياراته المُحْكمة. ويبدو أن مسألة حضور الشيطان من عدمه - فيما يتعلق بإلقاء التبعات عليه - رهن بإرادة الإنسان الحُرّة، وقدرته على اختيار المناسب، بناء على المعطيات الموجودة لديه؛ وكلّما أخفق، تمظهر ذلك في الحضور الشيطاني بصفته الهولوكوست الجاهز لإحراق كل الإخفاقات. ويبدو أن أوقات الفراغ الحضارية هي أوقات جدّ مُرهقة ومميتة، لذا يتمّ سدّ فراغاتها بالشيطان الرجيم، بصفته مسؤولاً عمَّا ينتج عنها من انهيار حضاري شامل. أما في أوقات الامتلاء الحضاري، فلا يعود ثمة مكان لهكذا قوى، بل الحضور القوي والفعال هو للإنتاج والبناء و العمران، وأي نجاح يصير إبداعاً إنسانياً هدفه الارتقاء بالإنسان ذهناً وواقعاً.
وإذا كان من عودة إلى بداية هذه الموضوعة، فإني أُعاود القول: ثمة ذهنية واحدة وجمجمتان؛ هذه الذهنية المتموضعة في جمجمتين مسؤولة ليس فقط عن تبرير الإخفاقات المتتالية، إنما أيضاً عن الإبقاء على ما هو قائم والتعامل معه كـَ قَدر مقدور ولا سبيل إلى زحزحته وهدم أركانه، بطريقة تجعل من الوجود الإنساني محض وجود عبثي وغير جدير بالحياة.
وفي سبيل جدوى أنطولوجية لوضعنا العربي الراهن، فإني أرى أنه بَاتَ من الضروري إعادة النظر في منظومتنا المفاهيمية وتفكيكها إبستمولوجياً بما يستلزم تحفيزاً للطاقات، حيث تصبح مؤهلّة وقادرة على إنتاج الحضارة من جديد، بأدوات ذاتية هذه المرة وتحت طائلة الإرادة الحُرّة!
* معاذ بني عامر باحث أردني
الهوامش:
(1) سيلامي، نوبير وآخرون، المعجم الموسوعي في علم النفس، ترجمة وجيه أسعد، وزارة الثقافة، الجمهورية العربية السورية، 2001، مج 1، ص 207.
(2) طبعاً تُلفظ هذه الألفاظ بكثير من التوقير شبه اللاهوتي، حتى لتكاد تسمع صوت دبيب النمل وهي تخرج من أفواه أصحابها، فالمنطوقية يُصاحبها نوع من الوثوقية التامة.
(3) أمكن معاينة كتاب (سنة 501 الغزو مستمر) لـِ "نعوم تشومسكي، ترجمة مي النبهان، دار المدى للثقافة والنشر، سوريا، دمشق، 1996.
(4) آتي هنا على ذكر آية واحدة، لأن السياق الحقيقي للشيطان الرجيم قد يكون سياقاً داخلياً ولا علاقة له بكائناتٍ أخرى تستعصي على الرؤية والإحاطة، فالصراع يكون بين الإنسان وقواه الداخلية. وقد كشف النص القرآني عن إمكان الذات الهائل فيما يتعلق بهذا الإشكال، ومنها آية النفس الأمارة بالسوء {وما أبرئ نفسي إِنَّ النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم} (يوسف:53).
فالجدل داخل الذات نفسها، وليس بينها وبين قوة غير مرئية مُتخارجة عنها ومفارقة لها، بل هي متم