تصوّف النساء في المجتمع المغاربي
فئة : مقالات
تصوّف النساء في المجتمع المغاربي
أ. د. بوبكر بوخريسه[1]
مستخلص
كشفت البحوث الحديثة أن الصوفية قد أظهرت حيوية متجدّدة في بعض المناطق. زيادة على إهمال تحليل الأسس الدينية للسلطة الروحية للشيوخ لفائدة دورها الاجتماعي، إن لم نقل السياسي في تاريخ المجتمعات الإسلامية. سيدور الحديث في هذه الورقات حول مكانة النساء في الدائرة الدينية، في الجزائر والبلاد المغاربية، وفق منظور أنثروبولوجي واجتماعي-تاريخي. ومن هنا، يمكننا مقاربة مكانة النساء وتصوراتها (تمثلاتها) في المجتمعات العربية الإسلامية. إنها مساهمة متواضعة من أجل تحليل العرى التي نسجت بين التصوّف، النساء والمجتمع في الإسلام.
تتموقع فكرة الصوفية المهدّدة بالزوال العاجل، في سياق نظرية التمدّن والعلمنة التي هيمنت في العلوم الإنسانية والاجتماعية، منذ سنوات 1950. وتؤكد هذه الأخيرة أن عصر الأنوار وفكرة الحداثة، ستؤديان لا محالة إلى انحطاط وتراجع الدّين، سواء في المجتمع كما في عقول الأفراد. لكن ومنذ سنوات 1970، تمت إعادة النظر في هذه النظرية وتأكد اليوم، بأن غالبية التنبؤات المرتبطة بالعلمنة خاطئة. ولقد اعترف بيتر برجيه نفسه، باعتباره أحد المتحمسين لهذه النظرية: "بأن عالم اليوم [...] هو أيضا عالم متعصب دينيًا، مثلما كان على الدوام"، واستطرد قائلا: "أن العلاقة بين الدّين والحداثة علاقة معقدة نسبيا" (Berger et all, 2001: 15-16).
1. الجندر في الدراسات حول الإسلام
منذ زمن طويل، كانت قضية الجندر شبه مغيبة في الدراسات التي تتناول الدّين والتصوّف. لكن هذه الوضعية تغيرت جزئيا، بفضل تأثير ما يمكن تسميته بالموجة الثانية للحركة النسوية التي تطورت خلال سنوات 1960. وقد أثرت مقارباتها تدريجيا في مختلف التخصصات العلمية التي تهتم بدراسة الدّين، التاريخ والأنثروبولوجيا. ومنذ تلك الحقبة، حاولت الحركات النسوية أن تخلق وعيا مختلفا في أوساط البحث، من أجل إعطاء مكانة متقدمة لدراسة النساء بكيفية معمقة، نقدية ومتعاطفة أسوة بالرجال.
وباعتبارها رائدة في دراسة النساء في حقل الدّين، عرضت ريتا جروس (Rita Gross (1977, 1994, 1996, 2005) بجلاء، ضرورة تغيير البراديجم (النموذج) الذي يستهدف استبدال المقاربة الذكورية بمقاربة تقوم على نموذج إنسانوي محايد وشامل فيما يتعلق بالجندر. وبدأت بتحديد ثلاث خصائص رئيسة للمقاربة الذكورية التي يجب الابتعاد عنها. أولا، أن المعيار الذكوري والمعيار الإنسانوي متداخلان ويصبحان متماثلين. ويتم النظر إلى الأنوثة، باعتبارها استثناء من هذا المعيار. لا يوجد هناك أي وعي إزاءها؛ لأن الذكورة ليست سوى مظهر من التجربة الإنسانية. ثانيا، أن الأمر يتطلب أن نأخذ بعين الاعتبار دراسة أساليب سلوك وتفكير الأفراد، يعني دراسة الإنسانية. ليست هناك إذن، أية ضرورة للاهتمام بالنساء، طالما احتُويت في الذكورة العامة. ثالثا وأخيرا، عندما تُؤخذ النساء بعين الاعتبار، يتم تقديمهن على أنهن أشياء (موضوعات) خارجية عن الإنسانية واللاتي يستدعي وجودهن فيها تفسيرا، بالنظر إلى أنهن يختلفن عن المعيار الذكوري.
في معظم الدراسات الكلاسيكية، تؤول هذه الطرائق الثلاث في التفكير إلى أن يقدّم الرجال كأشخاص دينيين بشكل مطلق، بينما لا تقدم النساء سوى في علاقاتهن بالرجال موضوع البحث. ويدور النقاش في هذه الدراسات الذكورية، حول النساء والدّين (والتصوّف)، عن الكيفية التي ينظر بها الرجال للنساء، القيود التي تفرض عليهن وكذلك الرمزية والشخصيات الأسطورية النسوية. بينما تُحجب حياتهن الدينية والأدوار التي تضطلعن بها داخل الدّين، وكذا امتلاكهن للنظام الديني أو استقلاليتهن حيال هذا الموضوع، إن لم يتم تجاهلهن بشكل مطلق(1). هكذا، تدعونا الباحثة ريتا جروس إلى ضرورة التخلي عن هذا النمط من المقاربة وتبني وتغيير للبراديغم المشار إليه أعلاه.
وتتصدى الكاتبة الأمريكانية ضد اعتراض شائع، يؤكد أن الأديان نفسها هي أديان ذكورية. لكن معرفة ما إذا كانت الديانة محل البحث ذكورية أم لا، ليست مهمة من الناحية الميثودولوجية؛ ذلك أن النسق الممركز على الرجال لا يمكن فهمه بشكل ملائم، إن لم تكن المعطيات الملتقطة تخص هؤلاء الأخيرين. والسؤال الصحيح يقع في مستوى نظر الباحثين والباحثات، وفي نظر جروس، تبدو معظم الديانات أقل تركيزا على الذكورية، إن لم يُسقِط الباحثون والباحثات مركزيتهم الذكورية عليها. وقد تعرفت الكاتبة على ثلاثة منظورات يجب أخذها بعين الاعتبار، في البحوث المستقبلية التي تتناول النساء في ميدان الحياة والدّين.
ويقدم المنظوران الأول والثاني هنا؛ لأنهما يبدوان مهمين بشكل كبير... وحسب جروس، يتعلق الأمر في المقام الأول، بدراسة حياة وأفكار النساء بشحمهن ولحمهن. وتقول بأن: "الأنماط الثقافية والقوانين المعيارية حول النساء لا يجب بأي حال من الأحوال أن تحل مكان البيانات الحقيقية، حول ما تفكر وتقوم به النساء؛ ذلك أن ما يفترض أن تفعله وتشعر النساء به، إلخ... ليس سوى إسقاطات ثقافية تُلصق بالنساء. ورغم أهميتها (الإسقاطات الثقافية)، فإنها لا تكشف ولا تحدّثنا عن الممارسات والحياة الدينية للنساء" (Gross, 1994: 342).
يجب إذن، دراسة النساء كأشخاص بحد ذاتهن، وليس كأشياء في الكيان الديني الذكوري. ثانيا، تعتقد جروس، بأنه إذا اعترفنا بالنساء في حد ذاتهن، فإن الأنماط الثقافية والمعايير التي تتعلق بالنساء والأنثوية، تكون مهمة أيضا للدراسة. وأن الدراسة المتزامنة لهذين الحقلين، تسمح لنا بتسليط الضوء على حقيقة وجود فارق ذي دلالة بين ما يجب على النساء أن تقوم به وما تقوم به في الحقيقة. ويكشف هذا عن الكيفية التي تتعامل بها النساء وتعيد امتلاك تلك المعايير.
2. قضية اضطهاد النساء
لكن ومع ذلك، فإن هناك حدودا تخص المقاربات النسوية، في الدراسات التي تتناول الدّين. وحسب ليندا وودهيد، فإن أحد الآثار السلبية لتأثير الموجة النسوية الثانية حول دراسة الدّين (والتصوّف)، يتمثل في الميل إلى مقاربة القضية من زاوية إشكالية وحيدة: هل الديانة عامل "ملائم " (محرّر) أو "سيء" (مضطهد) للنساء؟ بيد أن هذه المقاربة تتضمن بعض الحدود؛ أولها، أن القضية جد واسعة. ولا تسمح لنا بإنصاف التنوع الهائل للممارسات الدينية، وخاصة الأساليب الذكية والمركبة التي تحتويها النساء، تخرّبها وتفاوضها. ثانيا، أن طابع التحرير/الاضطهاد في حد ذاته، جد عام ولا يأخذ في الحسبان الاختلافات الثقافية والتاريخية. وبما أن مفهوم التحرير، عادة ما يُفكر بعبارات الاستقلالية، فإن الدراسات التي تخصه تميل إلى استخلاص فكرة مفادها أن كل أشكال الدّين ليست مُرضية. وزيادة على ذلك، فإن هذه المقاربة لا تسمح لنا بتفسير الانجذاب الذي تمارسه الأديان على النساء في العالم برمته، إلاّ بعبارات استبطان المعايير الأبوية (Woodhead, 2002: 332).
ومنذ عشريتين اثنتين، رغم أن المنظرين من الجيل النسوي الثالث، يبحثون عن دمج قضايا الاختلاف الجنسي، العرقي، القومي والطبقي في استدلالاتهم، فإن الاختلاف الديني قد تم إهماله بشكل كبير. وإضافة إلى ذلك، يبدو أن الطابع الشائك للعلاقة بين الحركة النسوية والدّين، يتمظهر بشكل أوضح في النقاشات التي تدور بشأن الإسلام (Mahmoud, 2001: 202). في الحقيقة، أن المسألة التي تطغى على النقاش في وسائل الإعلام وأحيانا في الأعمال العلمية، تتمثل في معرفة إن كانت هذه الديانة تضطهد النساء أو كيف تتصدى هذه الأخيرة إلى هذا الاضطهاد. وقد تعوّد الجمهور الغربي الذي يتغذى من صور النساء المحجّبات في وسائل الإعلام على تفكير المسلمات، باعتبارهن مضطهدات ومحبوسات بالضرورة في بيوتهن. وعادة ما يتم الاستناد هنا إلى مفاهيم جوهرانية للثقافة والدّين، من أجل تفسير العنف الذي تتعرض له النساء المسلمات وتحول دون اعتبار للسياق السياسي والتاريخي؛ إذ ينظر إلى النساء المسلمات غالب الوقت، كضحايا، سواء في بلدهم الأصلي أو بلد المهجر (أوروبا وأمريكا الشمالية)، إذ لا يعترف لهن بأنهن يفعلن ذلك بحياتهن الخاصة.
وتعود جذور هذا الهاجس، حول قضية اضطهاد النساء المسلمات إلى الخطابات التي ترتبط بالاستعمار الأوروبي. في الحقيقة، خلال نهاية القرن 19 م، ربط الحكام والإداريون الاستعماريون بين الحجاب والاضطهاد الأبوي، بهدف إبراز دونية المجتمعات غير الأوروبية. وباستحواذها على اللغة النسائية الوليدة، أمكن للقوى الكولونيالية أن تبرّر هيمنتها على آسيا وأفريقيا وتعتبر نفسها، مبشرة وحاملة لواء الحداثة المستنيرة. وبطبيعة الحال، فإن هؤلاء الرجال ذاتهم (الذين كانوا ينتقدون المسلمين وأساليبهم في معاملة نسائهم)، كانوا غالب الوقت، معارضين للحركات النسوية في بلدانهم؛ بيد أن هذا النمط من التبرير لا يزال يشتغل في أيامنا هذه، على سبيل المثال، في "الحرب ضد الإرهاب" التي أعلنتها الإدارة الأمريكية، زمن جورج بوش الابن، إثر أحداث 11 سبتمبر 2001. وأن الإرادة المعلنة بترقية مصير النساء المسلمات، الأفغانيات بالمناسبة، لا تزال تُستغل من أجل مشرعة أعمال سياسية وعسكرية ذات غايات إمبريالية. هذا التداخل الإشكالي بين النسوية والعرقية والذي يوفر مجالا لنزعة عرقية جندرية تمس بالخصوص النساء المسلمات، قد تم تسليط الضوء عليه، خلال النقاش الذي جرى بشأن قضية الخمار في فرنسا عام 2006. ومهما أردنا ذلك أم لا، فإن الصور والخطابات المهيمنة في وسائل الإعلام، تؤثر في قضايا البحث والتحاليل العلمية، مثلما يقول دافيد لوبوتر، بشأن الشباب الذين يعيشون في الأحياء الشعبية الفرنسية: "هذه الفضاءات وأولئك الذين يتواجدون بها صاروا تحت الأضواء بشكل مسبق. وهم يمثلون جراء ذلك، موضوع خطابات مبنينة تفرض نفسها على الفكر وتوجه أو تشوش التحليل" (Lepoutre, 2001: 99). ويشكل استمرار الصورة الكولونيالية عن "المرأة المسلمة، بانحرافاتها الإثنو-مركزية والعرقية، عقبة كبيرة أمام فهم وجهة نظر النساء المسلمات في العالم المعاصر".
3. صورة المرأة الصوفية
تندرج ممارسات النساء المتصوفات (المرابطات) في أنشطتهن الاجتماعية التي تتخلّل دورة حياتهن. إنها تسري في أمكنة مغلقة، داخل بيوت ومعابد وأضرحة الأولياء. وفي الوقت الذي تكون فيه أغلب الأنشطة الرسمية للجمعيات الإخوانية من نصيب الرجال، تؤدي النساء أنشطتهن الخاصة، مثل زيارة أضرحة الأولياء، التجمعات الأسبوعية، مواسم الزيارات السنوية التي يشارك فيها المئات أو عشرات الآلاف من المريدين. وتتم إدارة اجتماعاتهم من طرف "المقدّمة" التي يعينها رئيس الجمعية. مهما تكن مخارج الانتساب لسلالات الأولياء، فإن النساء اللاتي تحضين بالبركة الإلهية، تمتلكن خصالا شخصية، من أجل تحويل هذه البركة ونقلها إلى نساء أخريات، مقابل هبات وعطايا. إنهن تنشّطن حصصا روحية جماعية في شكل دعوات وابتهالات، أغاني ومدائح بجاه النبي (محمّد) والأولياء الصالحين ورقصات عصبية شعائرية. وتضطلعن أيضا بدور الإصغاء، دعم ومواساة النساء اللاتي تعانين من مشكلات ومتاعب الحياة اليومية، لكن دورهن الرئيس يتمثل في: طلبات المعروف التي توجهها الزائرات لله عبر سلسلة الأولياء التي تنتسب إلى الرسول.
وتعود المصادر الكثيرة (التي تتناول مكانة المرأة في التصوّف المغاربي) إلى الحقبة الكولونيالية، مثل: قصص الرحالة، الوثائق الإدارية (بحوث، مراسيم، أوامر ومنشورات) والأعمال الإثنوجرافية. إنها ترسم بورتريهات وصور النساء المضطلعات بأدوار دينية من جهة، وتصف الممارسات الشعائرية (احتفالات وطقوس العبور والأعياد الإسلامية، تجمعات ومواسم زيارة أضرحة الأولياء)، من جهة أخرى (Andezian, 1983: 53-66). ويشكل موسم زيارة الولي عند المجموعات الريفية، مناسبة للالتقاء وإحياء قيمهما وتقويتها. وبالنسبة إلى العديد من المريدين والزوار، يقوّي الموسم الروابط الاجتماعية ويقضي على الاختلافات الجنسية بين المؤمنين.
كما تهدف زيارة الوليّ للحصول على البركة وطلب الشفاعة عند الله. يجري هذا البحث من خلال سلسلة الدعوات الطقوسية التي تتضمن عمليات تنقية، صلوات، صوم وأضاحي، يوجهها المريدون إلى الله عن طريق الولي. يطلق على النساء اللاتي تؤدّين الوظائف الدينية اسم "الطالبات" (مدرسات قرآنية) والمرابطات اللائي ورثت مركزهن من آبائهن في غياب أحفادهم الذكور وتكون محل تبجيل وتوقير من قبل الرجال والنساء. ويمكّنهن مركزهن الشخصي من الحلول مكان أزواجهن وتوكل إليهن وظائف دينية. كما أن هناك نساء خارقات للعادة في جمعيات إخوانية، مشهود لهن بالورع والزهد، بعلمهن الديني أو بمعرفتهن الدينية وذكائهن وسلوكهن الاجتماعي المثالي. وتندرج في هذه الطائفة، النساء "البهلولات" (مجنونات، ضعيفات العقل) اللاتي تكشفن عن قدرات سحرية خفية وغيبية. اكتسبت كافة هذه النساء علمهن الديني، بفضل معرفة غيبية تضمن انتقالها في الأوساط النسوية.
في مقالته الموسومة "ملاحظات حول الإسلام المغاربي" (Doutté, 1900: 22-66 et 289-336)، قام إدمون دوتيه بجرد قائمة النساء القديسات في البلاد المغاربية والمرابطات اللاتي يطلق عليهن عبارة "لالة"(2)، وهو يموقعهن في ثنايا التقليد الإسلامي المتعلق بعبادة الأولياء والصالحين ويفسّر الدور "المتعاظم" الذي تلعبه النساء في المنطقة، بسلسلة نسب "النبيات" المطلعات على الغيب والملهمات البربريات، في الحقبة قبل الإسلامية. دون الدخول في النقاش الذي يدور بين المرافعين عن الهوية الأمازيغية للبلاد المغاربية والمدافعين عن هويتها الإسلامية، نحتفظ فحسب، بفكرة أن الإسلام المغاربي قد احتضن نساء سوف تتفردن بعلمهن، تقشفهن وبركاتهن. نعرف الأسماء الشهيرة ومن بينها اللاتي تخطت شهرتهن حدود مجتمعهن المحلي: لالة عائشة المنوبية (576 هـ- 655 هـ) من تونس، لالة ستي من تلمسان (الجزائر)، لالة ميمونة من مدينة فاس بالمغرب.
سيكون من المملّ ترتيب مجموع الوليات في القائمة التي تزخر بها الأدبيات الكولونيالية. لكن، يبدو من المفيد أن نقدم عرضا عن خصائص تلك النساء وعن صورتهن في مجتمعاتهن، على التوالي. إنهن نساء معتكفات وراهبات ومتقشفات، لكنهن أيضا عالمات. وكما أشار أوجست مولييراس (Mouliéras, 1899) بصدد إحدى النساء الوليات من مدينة فاس، تدعى "لالة عاليا"، كانت تقدم دروسا في المنطق في مسجد الأندلس. لكنه أضاف، بأن العلماء لم يكونوا يعيرون شيئا من الاهتمام والودّ بحضور ممثلات العِلم الإسلامي إلى مجالسهم. ويشير من جانب آخر إلى ندرة الوجوه النسائية في المؤلفات البيوجرافية التي خصصت للقديسات والصالحات. وعندما تتم الإشارة إلى إحداهن، فإنما تتم الإشارة إليهن وتقديمهن نسبة إلى رجال عظام، بصفتهن بنات وزوجات أو أمهات شخصيات ذكورية كريمة. هكذا، فإن "لالة ستي" تكون ابنة الشيخ الكبير سيدي عبد القادر الجيلالي الذي يحظى بالإجلال في كامل بلاد الإسلام.
بشكل عام، تكون الوليّات المغاربيات متزوجات، لكن غالبيتهن تتخلّين عن عائلاتهن منذ أن تشعرن بأن النعمة الربانية قد لمستهن. وبما أنهن لا تخضعن للمحرّمات نفسها كما النساء العاديات في علاقاتهن بالرجال، يتم تشبيههن في الغالب بالعاهرات والماجنات في التقاليد المحلية. ويسرد العقيد كورناي ترومليه (Trumelet, 1892) أسطورة الولية "لاله تيفلانت" التي يبدو أنها بعدما عاشت حقبة من حياة الزهد والورع، قد وقعت في الخطيئة والمنكر. فقد نفق بين أحضان هذه الخليلة والمغرمة الرهيبة، العديد من العابرين الذين جلب انتباههم جمالها الأخاذ، سواء كانت مرغوبات أو مرهوبات، يلتمس العون من هذه الوليات من قبل النساء، كما الرجال الذين يعانون الصعوبات والمشكلات، بفعل قدرتهن على الاتصال بالعالم الغيبي المليء بالأرواح والكائنات الخارقة للعادة اللاتي يُعتقد بأنهن وسيطات بين العباد ورب العباد. تؤكد العديد من الأبحاث الإثنوجرافية وقصص الرحالة في القرن 19 م وبداية القرن العشرين، على وجود مثل هذه النساء، حيث نعثر في كتاب ماثيا جودري (Gaudry, 1929) على بورتريهات مرابطات بمنطقة الأوراس (شرق الجزائر)، تنتمين إلى عائلات مرابطية، وحلت مكان آبائهن على رأس الزاوية العائلية.
وبشأن دور النساء داخل الجمعيات الإخوانية، تعتقد جودري بوجود وجوه نسائية في تاريخ سير مختلف التنظيمات وحضور بعض النساء في تنظيمها، بصفتها وليات مرابطات ومداويات. وإذا كانت الحركة المرابطية توفر لهن مكانة أكبر من الإسلام الرسمي، لكن الجمعيات الإخوانية نادرا ما تستقطب نساء مريدات. ويبدو أن مستوى مشاركة النساء فيها، يرتبط بمستوى التمييز الجنسي في المجتمعات، حيث نشأت تلك الجمعيات. وقد قابلت الرحالة إزابيل إبيرهارد (Eberhardt, 1987) في أقصى الجنوب الجزائري، شخصيات أخرى أصيلة. إن "لالة زينب" هي مرابطة من الزاوية الرحمانية بمدينة بوسعادة (زاوية الهامل) التي تركت فيها انطباعا حيّا، ذات شخصية قوية كما كتبت تقول، متعلمة بالعربية كأفضل الرجال، معتكفة وزاهدة كبيرة. وقد ظلت هذه الولية عازبة، وضحت بحياتها كاملة للجمعية الإخوانية.
وفي مدينة القنادسة (جنوب غرب الجزائر) اكتشفت الصحفية إبيرهارد معابد وأضرحة تحتوي على رفات نساء مرابطات: "لالة عيشة" و"لالة كلثوم" اللتان تنتسبان إلى عائلة سيدي محمد بن بوزيان، مؤسس مدينة القنادسة والجمعية الإخوانية الزيانية. كما بلغتها أخبار امرأة تسمى "لالة خدوجة"، تنتسب إلى مرابط، تكون قد تزوجت من أحد أبناء عمومتها بعد فترة من حياة العزوبة وحجت برفقته إلى مكة. وبعدما وصلت إلى المدينة المقدسة (مكة)، لم تعد منها أبدا، محققة بذلك وعدا خفيا لها. تبدو تلك النساء الهامشيات: عازبات، متزوجات من دون أولاد، مومسات، نساء ترتدين ألبسة الرجال وتتشبهن بهم. في جميع الأحوال، هذه هي الصورة النمطية التي يحملها المجتمع عن تلك الوليات. إن مكانتهن كمرابطات وممارساتهن لوظائفهن الدينية، لا تؤدي أو تحقق مساواتهن بالرجال.
وتكشف شهادة المرابطة "لالة زينب" للرحالة إبيرهارد عن ازدواجية اتجاهات مريدي الجمعيات الدينية إزاء النساء المرابطات، حيث قالت: "يا بُنيتي لقد وَهبتُ كل حياتي لعمل الخير في سبيل الله...لكن الرجال لا يعترفون بالخير الذي أقدّمه لهم... كثيرون منهم يكرهونني ويحسدونني...". ومع ذلك، فقد هجرت هذه المرأة كل شيء: "لم أتزوج مطلقا، ليست لدي عائلة ولا متعة...".
في الحقيقة، تتمتع النساء بمكانة غامضة، بحكم أنهن تترنحن بين فئات الأنوثة والذكورة، البشر والألوهية، النجاسة والطهارة. وتشير قصص مواسم الزيارات بقوة إلى تجاوز هاته النساء مبادئ التمييز الجنسي مع مشاهد العهر، الخطيئة والفجور(3). وفي هذا السياق، تعكس حفلة "الزردة" وتحمل دلالة خاصة. إنها احتفال سنوي، يتم خلاله التضحية بالمواشي وتنظم الولائم في جاه الأولياء. ويختلط فيها الديني بالدنيوي والجسدي بالروحي والعجيب بالمألوف. والأعجب من ذلك، أن المحرّم قد يتحول إلى مباح: تجري فيها الحضرة التي تتمثل في رقصة صوفية، ينكشف فيها شعر وصدر وجيد المرأة. ويختلط الذكور فيها بالإناث بصورة متلاصقة، لا نشاهدها في الأوقات العادية. لقد ازدهر في الفضاء المغاربي شكل من التصوف الشعبي، خاصة في القرن 19 م. ويبرز هذا التدين من قلب البوادي والأرياف وليس في المدن.
يسمح هذا التصوف الشعبي، بتلطيف مصاعب ومشكلات الحياة اليومية وصرامة القواعد الشرعية، ويعطي فرصة لتخطي المحظور دون حرج. كما يمكن الإشارة إلى مناسبة المولد النّبوي التي تعتبر بدعة أقرها أبو يعقوب المريني (607هـ - 685 هـ) ولم يبد المغاربة أي اعتراض على ذلك إلى درجة أنها رفعت إلى مصاف العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى (Hermassi, 2004: 86-87). ويمكن وصف كافة هذه الأوضاع، كلحظات خارقة للعادة وفترات استراحة في المجرى العادي من حياة النساء الزاهدات المغاربيات. هكذا، في إطار التصوّف الذي يُتسامح فيه مع النساء أكثر من الإسلام الرسمي، فإن علاقة النساء بالظاهرة الدينية (التصوّف) هو كناية عن تخطي وتجاوز للحدود، الممنوعات والطابوهات المجتمعية الذكورية.
إن الأخبار الواردة والمتواترة عن الحياة الدينية النسوية، نادرة في الأدب العلمي والرومانسي المعاصر. تقدم معظم الأبحاث والدراسات، زيارات أضرحة الأولياء، اجتماعات النساء في الزوايا ومواسم الزيارات كتعبير عن تدين نسوي بامتياز، بحيث تركز بعضها على أهمية دور النساء مقارنة بدور الرجال، في إعادة إنتاج هذه الظواهر الدينية. لكن، تبدو أنشطتهن متحرّرة، إن لم نقل أنها هامشية. وفي الحالات التي تتم فيها مقارنة الشعائر النسوية بالطقوس الذكورية، مثل الدراسة التي أجرتها صوفي فيرشيو (Ferchiou, 1972: 47-69) في تونس، فإن تقسيم العمل الديني يعرض بكيفية ثنائية، حيث يتصف عمل الرجال بـ "الدّيني"، بينما يوصف عمل النساء بالنشاط "الخيري". وفق هذا المنظور، يمتلك الرجال اتجاها تأمليا وأهدافا ذات طبيعة روحانية، يحاولون فيها إقامة اتصال مع الله من خلال صلواتهم، بينما تبرز النساء نشاطا أكثر حيوية يستهدفن منه الحصول على منافع مباشرة، بواسطة شعائر الاستحواذ الروحي التي تسمح لهن عن طريق المدائح، الموسيقى والرقص، بالتحرّر من الأرواح الشريرة وتهدئتها.
وبينما تنعت طائفة الرجال بالرهبان والزهاد، تُوصف فئة النساء بالأرواحيات أو الروحانيات. لكن، حسب الباحثة دوير (Dwyer, 1978: 585-598) التي تناولت بالدراسة هذه الظاهرة في مدينة مغربية، يبدو أن النساء تضطلعن فيها بدور مهم على مستوى اتخاذ القرار، خاصة فيما يتعلق بالانتساب. ويمكن للنساء أن ترث البركة الربانية وتنقلها إلى ورثتهن بالدرجة نفسها، كما الرجال. وتشير في السياق ذاته إلى وجود جمعيات نسوية، تقودها وتشرف عليها النساء في بعض التنظيمات الإخوانية (جيلالية، ناصرية، درقاوية). ومن هنا، فقد جرى الحديث عن وصف الحركة المرابطية كتدين نسوي بامتياز. وتتمثل الممارسة النسوية المرابطية في تبجيل الأولياء في مناسبات زيارات الأضرحة، وطلب الفضائل من كل جنس وفي بعض المناطق، بواسطة تجمعات روحانية أسبوعية في الزوايا.
4. تهميش المرأة الصوفبة
بعد جرد التراث الأدبي والاجتماعي المتعلق بالتصوف النسوي، يبدو أن بعض الدراسات التي أجريت في عدة بلدان، قد تناولت مدى التزام النساء بالتعاليم الدينية وأكدت أن السلوك الديني للنساء، يختلف عن سلوكيات الرجال. وتشير تلك الأبحاث إلى نقص الزهد عند النساء ومعرفتهن المتواضعة بواجباتهن الدينية. لكن، بعض الباحثين الآخرين، ينتقدون هذه النتائج ويفسّرونها بغياب المعلومات الكافية عن الحياة الدينية النسوية، وهم يؤكدون على انعزال وتهميش النساء في المجتمعات العربية-الإسلامية، مما يدفع بهن إلى تبني طقوسيات خاصة، تطبع الإسلام الشعبي. ويضيفون بأن الجهل بهذا العالم الديني النسوي، يعكس غياب الاهتمام عند الباحثين بهذا النمط من الإسلام. مع ذلك، فإن هذا التجاهل أو الفراغ الذي استمر مطولا، وهو تاريخ نساء هذه البقعة الجغرافية والسياسية التي تشكلها البلاد المغاربية، بدأ ينحسر تدريجيا على ضوء التساؤلات الجديدة، اللقاءات، الدراسات والجهود العامة أو المتخصصة التي تؤكد على وجود النساء اللائي يعود تاريخهن إلى آلاف السنين، تهيمن عليهن الصورة الرمزية للمرأة "التائهة" [إليسا-ديدون (Elissa-Didon)] التي أسّست مدينة قرطاج(4).
حسب التقاليد المحلية، تشكل مدينة تلمسان (غرب الجزائر) مسرحا للعديد من الاحتفاليات العمومية والخاصة، بمناسبة المولد النبوي. لكن المدينة في سنوات 1990، لم تكن في الموعد مع الحدث، لا توجد أشرطة مزينة بالزهور، لا أنوار ولا إعلانات احتفالية. وتكون البلدية قد منعت كل تظاهرة دينية، باستثناء أداء الصلاة في المساجد. وجرى غلق ضريح الولي الصالح سيدي بومدين؛ ذلك العالم الصوفي الجليل وسيّد المدينة، حيث كانت النساء تذهبن للنسك والتعبّد في الصباح الباكر، وهو الموعد المفترض لولادة النّبي محمّد صلى الله عليه وسلم. وسواء كانت هذه الأحداث قد وفعت بمناسبة المولد النبوي أم لا، لكن لا تهم كثيرا معرفة أن يكون ذلك قد وقع بالصدفة أم لا. يشكل ذلك الحدث، عاملا كاشفا عن تمثلات وعلاقات النساء المغاربيات بالشأن الديني، في مجتمع يعرف تغيرا مستمرا يبدو جد مهما.
تشكل الجماعة أو "المجمع" في تلمسان جزءا من التقاليد القديمة، في التربية الدينية المخصصة للنساء. فكل زاوية، لها طريقتها ولها "مجمعها" أو الإطار الروحي الذي تجتمع فيه النساء، لكي تتلقى المعرفة الدينية أو الصوفية، وفق منهج الطريقة. وتتم هذه التجمعات الأسبوعية في مقر الزاوية أو في مكان مخصص خارج الزاوية. وتدير هذه المجامع سيدات ذات ورع ديني يعترف شيخ الطريقة لهن بصفة "المْقدْمَة" أو المرأة التي تضطلع بإدارة الجماعة. وبمناسبة كل "مجمع"، فإنهن تتلقّين الوعظ الديني الموجه نحو التقشف والزهد باستذكار أسماء الله (الذّكر). وتبدأ "الجمعات" عادة، بإنشاد الوِرْد أو الأشعار المسارية للطريقة الصوفية. وتختتم بذكر "الّلطْفية" أو نص الأزجال والمدائح بالثناء على لله.
يطلق على النساء المنتسبات، اسم "فقيرات"، إشارة إلى حالة الفقر والزهد عند الصوفية. وهن تحملن هذا اللقب؛ لأنهن اخترن سبيل التجرد والفقر في سبيل الله. تتناغم الصوفية مع واقع عالم محسوس، برموزه وتربيته. يتم التحضير المادي للمجمع على عاتق امرأة، هي الأمينة التي تتكفل بالسّهر على إدارة جيّدة للجماعة. وتستقبل المرأة المكلفة بالمهمة، والتي تسمى "الشاوشة"، المدعوات وتتلقى منهن الهبات الضرورية من أجل سير "الجمعة". وتتمثل إحدى اللحظات القوية للجمعة النسوية، في الاحتفال بعيد المولد النّبوي للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، حسب التقليد القديم في مدينة تلمسان.
تمتلك كل زاوية سجل أغانيها وأناشيدها الصوفية أو "السّمع" ومناقبها (أسماء التسبيح) وأحكامها. لكي يتم الوصول إلى هذه الزاوية، يتطلب الأمر من النساء عبور شوارع المدينة، قبل التنقل خلال أزقتها الضيقة التي تؤدي إلى الضريح الذي يقع في قرية صغيرة حضرية، في ضاحية المدينة. وقد يفسر خروج النساء دون حراسة من رجال العائلة (محارم) أثناء الليل، بأنه بمثابة دعوة لرجال أغراب من أجل مرافقتهم. ولذلك، يسهل توجيه أصابع الاتهام نحوهن، بأنهن ترغبن في إقامة علاقات بهم. وعلى أساس مثل هذه التبريرات، قام أحد قضاة الآداب في القرن 15 م، المدعو محمد العقباني (720 هـ - 811 هـ) بتحريم هذه السلوكيات غير اللائقة من قبل نساء تلمسان وأكد على الطابع الغامض من اجتماعاتهن.
مثل هؤلاء المصلحين للسلوكيات والعادات لا يرون في ذلك، سوى غاية وحيدة: البحث عن الاتصال بالرجال والمسرات اللامشروعة بصحبتهم. إن المرأة هي رأس الشّر والبلاء، هذا ما يبدو يقوله رجل القانون هذا. يمثل ذلك، إرثا ثقيلا على نساء تلمسان اللاتي لا تزلن تعانين، رغم مرور خمسة قرون، من الاتهامات نفسها. لكنها تعتبر بمثابة وجهة نظر ذكورية متأصلة إلى درجة كبيرة في الأذهان، حيث تشكل واقعا يوميا. وفيما تبقى، تعتقد النساء بأن إسلاميي اليوم، هم الورثة المباشرون والشرعيون لرجال الإصلاح في الفترة السابقة. في الواقع، فقد هاجم المصلحون الجزائريون في سنوات 1930 الخصوصيات الدينية التي تتمثل في الممارسات المتجذرة في التقاليد العائلية: تبجيل وإجلال الأولياء والصالحين بالطبع والممارسات الـتأبينية والشعائر الجنائزية النسوية، مرة أخرى.
5. ردة فعل المرأة ضد الحركة الإصلاحية
وقد كتب جاك بيرك (Berque, 1962: 471-494) المستشرق الفرنسي، باعتباره أحد العارفين بشؤون المجتمع المغاربي في تلك الحقبة، عن ردة فعل نساء الجزائر العاصمة، ضد تحريم تجمعاتهن في المقابر، من قبل رجل الإصلاح الشيخ الطيب العقبي (1898-1960) الذي جاء على لسانه: "منذ القدم، اعتبرت تجمعاتهن ممارسة منحرفة ورذيلة، حاربها عبّاد أفريقيا الرومانية! ولمدة طويلة (بعد القديسة سانتا مونيكا (387-331م) (sainte Monique) أم القديس أوجستين (354-430 م))؛ فقد حاربها أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين، الشيخ الطيب العقبي. لا تمثل هذه الممارسة زهدا وحسب، لكنها في بعض جوانبها، ممارسة مجتمعية وتعبير عن سعادة وابتهاج، إنها تربط بشكل حميمي بين مجرى الحياة والموت.
اعتادت النساء ليس وحسب على الصلاة، والدعاء والتأمل أمام المقابر، بل تثرثرن أثناء ذلك، بتناول بعض الحلويات. تسترجع هذه النساء إلى الذاكرة، اسما لطيفا وجذابا، في إشارة منهن إلى أحد القضاة المعادين للنساء في الجزائر العاصمة، وتسمّْى تلك الحلويات "أذُنَي القاضي" التي يتم قضمها أثناء تجمعات النساء. وهذا ما كان يجتهد المصلح العقبي في منعه. لذلك وبدهاء كبير منهن، استبدلت النساء العاصميات تسمية الحلويات بـ "أذني العقبي"، نسبة إلى المصلح الشيخ الطيب العقبي.
لكن، ما هو محل تساؤل في ممارسات النساء، هو الخرجات الليلية بين النساء، في الأماكن الخالية. في حالة نساء مدينة تلمسان اللاتي تنوين التجمهر عند ضريح سيدي بومدين بعد سهرتهن، تُستنكر هذه الخرجات في أعين القضاة والوعاظ، لأنها تجري أثناء الليل. وجراء ذلك، فإن النساء تتخطين أحد المبادئ التي تؤسس النظام الاجتماعي، يعني مبدأ التمييز الجنسي للفضاء المجتمعي. في جزائر الاستقلال، ورغم أن الكثير من النساء قد تعلمن وتحتل بعضهن مكانة مرموقة، فإن ولوجهم الفضاء العمومي (الذكوري) خارج نطاق فترات النشاط المهني، يظل خاضعا لرقابة الرجال. اتخذ التمييز الجنسي مدى كبيرا، منذ دخول الإسلاميين إلى الحلبة السياسية. وأبعد من كونهم قد خلقوا هذه الظاهرة، لم يعمل هؤلاء سوى على تأبيد الوضعية السائدة سابقا، بالبحث عن شرعنتها استنادا إلى الشريعة الربانية.
إن العامل الذي يرتكز عليه الإسلاميون اليوم، من أجل تبرير استنكارهم لهذا النوع من التجمع، هو الطابع "غير الجائز" للممارسات ("الذكر والرقص الوجداني") التي تقوم بها النساء. فقد تطوّر الرقص الوجداني الديني في الإسلام، بفضل التصوّف ويجد صدى إيجابيا عند الأتباع والمريدين، وهو يمثل وسيلة تواصل مفضلة مع العالم اللامرئي والغيبي. تعكس هذه الشعائر الصوفية التي تتجلى في الرقص والذكر، "ذكرى القلب" التي تشكل صورة من الصلاة التي تحث فيها بعض الآيات المؤمن على مناجاة الله، أكبر عدد من المرات يوميا. وعلى رأي عبد الرحمن بن خلدون، فقد: "اختص أرباب القلوب باسم الزهّاد والعٌبّاد وطلاب الآخرة، منقطعين إلى الله، قابضين على أديانهم (كالقابض على الجمر..." (بن خلدون، 1996: 43). يجعل الصوفيون من تقنية قراءة الكتاب المقدس، بواسطة التكرار والتسبيح عددا من المرات، مناشدة تتوّج بذكر الله بأسمائه.
ويتصاحب تنظيم الحركة الصوفية في شكل جمعيات دينية إخوانية مع ترميز شعيرة الذّكر. انطلاقا من اعتباره طريقة في الصلاة، لا ينحصر في الصلوات الخمس المفروضة على كل مسلم ومسلمة، يصبح الذّكر منظومة شعائر تقنية، تستهدف بلوغ أعلى مراتب التصوّف ومجاهدة النفس (الصفاء). وتَحوّل الذّكرُ، من خلال استدخال الغناء، المديح والآلات الموسيقية والرقص الوجداني إلى مجموعة من الاحتفاليات الطقوسية. وتتضمن هذه الأخيرة تمارين إيقاعية، تستدعي تقنيات ذكر وإنشاد ملحّن لعبارات، أشعار وصيغ أو أسماء إلهية، يطبعها تحكم في الجهاز التنفسي وحركات ذات مظهر استعراضي، تؤثر في التوازن الفيزيولوجي للمُريد وتولد لديه حالات من النشوة. إن الذكر هو تقنية ذهنية للصلاة، التأمل والتركيز تصاحبه تقنية تجريب ومعاناة فيزيقية، تعكس حضورا إلهيا. وانتهى الأمر، برجال القانون بمعية رجال الدّين إلى تقبل وجود الأولياء تحت ضغط الوفاق والإجماع الشعبي، بعدما ندّدوا بممارسات الذكر والرقص الوجداني، خاصة عندما تصاحبها تظاهرات فيزيقية: بكاء، غضب، صراخ، إغماء، رقصات.... كما هو الحال في غالب الأوقات في التجمعات النسوية...
ويعتبر الذّكر مباحا، حيث يتم نقله شفويا وتمثل الذاكرة الجماعية دعامة له. وطالما أن النصوص المقدسة تشكل مرجعية وسندا أساسيا عند هؤلاء النساء الأميات في غالبيتهن، تكون الكلمة ذات قيمة ووقع أكبر. إن الاستعداد والقدرة على تلقي والاحتفاظ بالذكر، تكون ثمينة أكثر من التحكم في الكتابة، إنها هبة ربانية. تكون الذاكرة أكثر يقينا من ريشة رجل الدّين، بوصفها ناقلا للصلوات والمدائح والتسابيح. إن كلام النساء المتصوفات ضد كتابات رجال الدّين الإصلاحيين، كما تشير كلاوديا أوبتيز (Opitz, 1991: 277-3365) إلى ذلك، في عملها حول الصوفية النسوية المسيحية بين القرون 13 م-16 م، يشهد على ذلك، بواسطة مثال الراهبات الإيطاليات الأميات اللاتي طالبت بالاعتراف بهن كنساء للذاكرة الشفوية، فهل أن أسبقية الكلمة على الكتابة، هي خاصية كونية في التصوف النسوي؟
تؤكد دانيال بروفنسال (Provansal, 1975: 59-77) على دور النساء في استمرارية الحركة المرابطية في الجزائر أثناء الاستعمار. وأن استبعادها من الميدان العمومي والتحولات التي طرأت، جعلتها لا تسيطر على إطار الحياة، مما دفعها إلى طلب تدخل المرابطات في كافة الظروف الصعبة. ويجيب بعض المختصين بالتأكيد على هذه المسألة، بشأن خصوصية النساء المتصوّفات في تلك الحقبة التي تعكس وجدانية مبدعة، تندرج في البدن كدعامة حسية عن طريق الصراخ والبكاء؛ إذ تتم معايشة التجربة الصوفية، من قبل النساء فيزيقيا وروحانيا. وعلى الأقل، ربما يجب تحديد أن الحالة الروحية تترجم عبر قنوات حسية، حيث الملمح العنيف الذي تتخذه بعض الرقصات الشعائرية، هذا من جانب. ومن جانب آخر، تبدو هذه التجربة من قبيل الوصف الدقيق؛ لأنها لا تتوج بوضع كلمات معبرة عما تعيشه هذه النساء... إذ توظف في أحسن الأحوال، عبارات تعكس الحالات الفيزيولوجية، مثل: العطش، الجوع، الهوس، الارتواء والشبع في وصف إحساسات ينتجها حبّ ورغبة في الله. كيف يمكن التعجب عندئذ، من أن الإصلاحيين المسلمين كما غير المسلمين، يبحثون في كل زمان ومكان، عن توجيه وتقييد التصوف النسائي وينتهون إلى اعتباره انحرافا، لكونه يتجاوز في أعينهم، الأطر المعهودة للتعبير عن الزهد؟
النساء المسلمات اللاتي تمارسن التصوف، يهابهن نظراؤهن الذكور (الذين يتهمونهم بالثرثرة) ويقدمن صورة نموذجية كونية عن التصوف النسوي؛ إذ عوضا عن الإنشاد والذكر، فإنهن تلقين بأنفسهن بين أحضان الأرواح الشريرة، بواسطة الرقص الوجداني، بدلا من ملئها بالحب الإلهي. فهل يمكننا هذا من تفسير الاضطهاد الذي تشكل ممارسات نساء الصوفية المغاربيات موضوعا له عبر التاريخ، تحت ذريعة الخوف من الفوضى التي تثيرها سلوكياتهن في نفوس الرجال؟ يعكس هذا التخوف، ديمومة التصورات (التمثلات) الخرافية التي ترتبط بالطبيعة الشريرة للنساء. بعض رجال الدّين يعتقدون بأن التصوّف النسوي يقع على تخوم نموذج إيديولوجيا الجاهلية والوثنية. وفي المجتمعات الإسلامية، لا تزال صورة المرأة "الفاسقة"، "دون عقل" و"المشكوك في إيمانها" (ضعيفات عقل ودين)، سائدة بشكل كبير إلى اليوم. ومن هنا، تكون هامشية النساء في الدائرة الدينية. تمثل هذه الظاهرة، أحد الثوابت في الديانات التوحيدية، استنادا إلى الأبحاث التي ترتبط بمكانة النساء في الحياة الدينية، في مختلف المجتمعات وفي حقب تاريخية مختلفة.
خلاصة
يعكس تصوف المرأة في الفضاء المغاربي، إشكالية السّلطة النسوية فيه. يدور العمل هنا حول البحث عن استكشاف الكيفية التي يمكن للمرأة فيها أن تشرعن سلطتها في وظيفة تخص الرجال في الغالب. وتحديد الآليات التي تسمح لها بتبرير مكانتها كقائدة روحية، في سلسلة من النسب وقبول أتباع ذكور. منذ عشرات السنين، بُذلت عدة جهود من أجل إعطاء رؤية أكثر وضوح عن النساء، في البحوث التي تدور حول الصوفية. إن غيابهن النسبي في التقارير الإثنوجرافية التي تخص الجمعيات الإخوانية أو الممارسات الصوفية غير مبرر. ورغم أن النساء أقل بروزا من الرجال، لكنهن أكثر عددا من حيث الانتساب إلى الجمعيات، بينما تقتصر بعض تلك الدراسات الحديثة على وصف المسؤوليات التي تضطلع بها النساء في الصوفية.
لقد تضافرت هيمنة الديانات التوحيدية في كل مكان، لاستبعاد الخصوصيات الدينية من أجل أن تصبح المجتمعات أكثر تجانسا. عندما تصدى المصلحون الجزائريون للنساء وشهّروا بالطابع المحظور لممارساتهن الدينية، كان ذلك لأنهن كانت تشكلن عائقا أمام نشر أيديولوجيتهم التي تقوم على نمطية وعقلنة نماذج الاعتقاد، التفكير والسلوك. وإذا بدا اليوم، أن الاضطهاد قد اتخذ شكلا عنيفا، فذلك لأن القائمين به (الإسلاميون) يعبّرون عن آرائهم بكيفية أكثر راديكالية، مقارنة بأسلافهم المصلحين في سنوات 1930 والذين كانوا حريصين أكثر على العودة إلى منابع الإسلام، وفقا لروح العصر. وإذا حدث، كما هو الحال في كل زمان، أن النساء هن اللاتي تشكلن الهدف المفضل لمثل هؤلاء "المفتشين" والمحققين الجُدد، فذلك يعود بدرجة أولى إلى أن مكانتهن القانونية والشرعية لا تزال دوما هامشية، مقارنة بمكانة الرجال، في المجتمعات الإسلامية عامة والمغاربية خاصة.
قائمة المراجع
ابن خلدون ع. الرحمن (1996)، شفاء السائل وتهذيب المسائل، ط1، تحقيق د. محمد مطيع الحافظ، دار الفكر المعاصر، بيروت.
Andezian, S. (1983), « Pratiques féminines de l'Islam en France », In Archives des sciences sociales des religions, N. 55/1: 53-66
Berger, P, Heelas P. and Martin, A. (2001), Peter Berger and the Study of Religion, Taylor & Francis Group.
Berque, J. (1962), Cà et là dans les débuts du réformisme religieux au Maghreb, Paris, Maisonneuve et Larose.
Doutté, E. (1900), « Notes sur l'islam maghrébin. Les marabouts », In Revue d'histoire religieuse, Tome X: 346-369, tome XLI: 22-66 et 289-336
Dwyer, D.H. (1979), « Women, sufism, and decision-making in Moroccan Islam », In Women in the muslim world, Beck L., Keddie N. (eds), Harvard University Press.
Eberhard, I. (1987), Lettres et Journaliers, Présentation, Actes Sud.
Ferchiou, S. (1972), « Survivances mystiques et cultes de possession dans le maraboutisme tunisien », In Revue L'Homme, XII, 3: 47-69.
Gaudry, M. (1929), La femme Chaouia dans les Aurès. Étude de sociologie berbère, Paris, Ed. Geuthner.
Gross, Rita M. (1994), « Studying Women and Religion: Conclusions Twenty-Five Years Later », In A. Sharma (Ed.), Today’s woman in World Religions (pp. 327-360), Albany, State University of New York Press.
Hermassi, M.S (2004), Une approche de la problématique l’identité: le Maghreb arabe contemporain, Paris, LHarmattan.
Lepoutre, D. (2001), « La photo volée. Les pièges de l’ethnographie en cité de banlieue », In Ethnologie française (37): 89-101
Mahmood, S. (2001), « Feminist Theory, Embodiment, and the Docile Agent: Some Reflections on the Egyptian Islamic Revival », In Cultural Anthropology, 16(2): 202-236
Mouliéras, A. (1899), Le Maroc inconnu. Exploration des Djebala. Etude géographique et sociologiques, Paris, Ed. Challamel
Optiz, C. (1991), « Contraintes et libertés. 1250-1500, Histoire des Femmes », In Duby G. et Perrot M. (eds), Le Moyen Age, T2, Paris, Ed. Plon.
Provansal, D. (1975) « Le phénomène maraboutique au Maghreb », In Genève-Afrique, 14, 1: 59-77
Trumlet, C. (1892), L'Algérie légendaire. En pèlerinage çà et là aux tombeaux des principaux thaumaturges de l'Islam (Tell et Sahara), Alger, Ed. Jourdan.
Woodhead, L. (2002), « Women and Religion », In L. Woodhead (Ed.), Religions in the Modern World (pp. 332-356), London, Routledge.
[1] - باحث جزائري.
(1)- تلحق النساء بقسم خاص أو ملحق أسفل الصفحة.
(2)- لقب شرفي نسوي تخص به النساء الوليّات والصّالحات.
(3)- الفسق، علاقات جنسية خارج نطاق الزواج، مشاهد الألفة والاختلاط بالرجال والتنكّر...
(4)- بنت ملك مدينة "صور" (Tyr) الفينيقية، وأخت بجماليون الذي قتل زوجها، بعدما اعتلى العرش. هربت إلى شمال أفريقيا مع مجموعة من مواطنيها، حيث باعها ملك البلاد رقعةً من الأرض بنت عليها قلعة، ستصبح فيما بعدُ، مدينة قرطاج (تونس) حوالي 814 ق. م.