تطور مفهوم الذات في الفكر الليبرالي


فئة :  مقالات

تطور مفهوم الذات في الفكر الليبرالي

تطور مفهوم الذات في الفكر الليبرالي

كان النقاش الذي شغل علماء الكلام حول صفات الذات الإلهية دائراً في جزء كبير منه حول كونها عين الذات أم مغايرة لها، ولم تأخذ الذات البشرية الاهتمام نفسه، وحجم الجدل الذي أخذته الأولى، فإن المتأمل للسبب الكامن وراء ذلك يستطيع أن يستخلص أن الانصراف عن مناقشة الذات البشرية وصفاتها، إنما تأتي من اعتبارها وصفاتها أمراً مفروغاً منه؛ فهي وصفاتها وغاياتها مملوكة للذات الإلهية، وهو ما يجعل النقاش الكلامي مغايراً للنقاش الليبرالي الذي تكرّس حول مفهوم الذات البشرية، وهل هي مثقلة جوهرياً، أم مجردة من العوارض في سعي هذه النظريات لوضع أساس فلسفي لمفاهيم الحق والحرية والاستقلالية[1].

فقد كان الانتقال إلى الحرية الطبيعية بعد تجاوز مرحلتي الارستقراطية والمجتمعات الطائفية التي يتحدد فيها الفرد بموقعه في السلم الاجتماعي الذي يقيد الفرد منذ ولادته، ويفرض عليه مجموعة من القواعد التي لا يستطيع الانفكاك منها. كان هذا الانتقال كفيلاً بفتح نقاش حول ذات مثقلة بالعوارض الاجتماعية تمنحها السوق الحرة- التي ساهمت المساهمة الأكبر في تبدل بنية وذهنية الإنسان في العصور الوسطى - الفرص التي تغتنمها بجهدها وبإرادتها، وهي فرص لا تتاح للجميع؛ لأن الظروف الاجتماعية والطبيعية لا تتيح لكل فرد القدرة على اغتنام الفرص المتاحة للجميع، الأمر الذي أفسح المجال لمفهوم المساواة الليبرالية التي تبنت مبدأ تكافؤ الفرص الذي يعتبر فيه الفرد مجرداً من العوارض الاجتماعية والطبيعية والمكانة الموروثة[2].

وفي هذا الانتقال من ذات مقيدة بشبكة علائقية معقدة لا يستطيع المرء الانعتاق منها نشأت الذات المتحررة الديكارتية التي تتمركز حول ذاتها، وتحاول أن تكون غاية التأسيس النهائي لولا حاجتها إلى ضمان وجده ديكارت في الله.

الذات الديكارتية حرة الإرادة تشيء الجسدي لكي تدرك لا ماديتها، ولا تقتفي أثر أفلاطون في استيلاد هذه الطبيعة مما هو فوق الحس، وقد عبر ديكارت عن الإرادة الحرة للذات في رسالته إلى كريستينا:

«الآن هي الإرادة الحرة هي بذاتها أنبل شيء يمكننا أن نحوز عليه لأنها تجعلنا بطريقة معينة مساوين لله وتعفينا من أن نكون عبيده. لذا فإن استعمالها الصحيح هو أعظم الخيرات التي نملكها وعلاوة على ذلك لا يوجد ما هو ملكنا أو يهمنا أكثر منها فمن كل ذلك تتبع النتيجة المفيدة أن لا شيء إلا الإرادة الحرة يمكن أن تنتج طمأنينتنا العظمى»[3].

وقد اشتق ديكارت رؤيته للذات التي تشيئ المادي من رؤيته للكون كآلة ميكانيكة لا تنطوي على معان تحدد الخير للبشر، وبهذا فك لغز الكون بوصفه محلّ غايات عبر إدراكه له إدراكاً ميكانيكياً ووظيفياً بوصفه ميدان الوسائل الممكنة، وهو إدراك يصوغ معرفة تمكن الذات من السيطرة:

«لأن بعض الأفكار الخاصة بالفيزياء جعلتني أفكر بأنه من الممكن الحصول على المعرفة المفيدة جدّاً للحياة وأنه عوضاً عن تلك الفلسفة التأملية التي تعلم في المدارس قد نجد فلسفة عملية نستطيع بواسطتها بعد معرفة قوة وفعل النار والماء والهواء والنجوم والسماوات وجميع الأجسام الأخرى المحيطة بنا على نحو متميز كما نعرف الحرف المختلفة للحرفيين أن نوظفها وبنفس الطريقة في جميع الاستعمالات التي تناسبها، وبالتالي نتحول إلى أسياد الطبيعة ومالكيها»[4].

وعلى الرغم من أن طموح التأسيس النهائي في الذات لم يكتمل واحتاج إلى تأسيس أبعد منه في الله، إلا أن الخطوة من الذات الناقصة إلى الذات الإلهية الكاملة لم يكن من أجل اللقاء بالله في الداخل، وإنما على العكس كانت خطوة لتحقيق امتلاء وحضور للذات لم يكونا ليتحققا لولا هذه الخطوة[5].

إن تفريغ النظام الكوني من المعايير والنظر إليه على أنه آلة ميكانيكية كان إحدى نتائج الأنموذج الإرشادي الفيزيائي في عصر ديكارت، ولكن ثمة دافعاً آخر لإفراغ النظام الكوني من معاييره تمثل في الفلسفة الاسمية التي هدفت إلى تفنيد تأسيس الأخلاق على ميل مفترض للطبيعة؛ لأن هذا الميل المفترض كفيل بالحد من الإرادة الإلهية الآمرة التي ينبغي أن تظل مطلقة الحرية في تحديد الخير والشر حسب ما تريد[6].

وقد أخذت الذات الليبرالية سمة يدعوها تشارلز تايلور بــــ «الدقيقة» مع لوك الذي رفض فرضية الأفكار الفطرية الديكارتية، وعدّ المفاهيم مجموعات من الأفكار اكتسبت عبر الإحساس، ولكن لوك اعتقد أن هذه الأفكار تمعن فيها العادة والتربية والعاطفة تشويهاً وازوراراً عن الحقائق.

«صورمن الكلام غامضة ولا معنى لها وإساءة استعمال للغة طال مرورها في ألغاز العلوم وكلمات صعبة ولم تطبق بشكل صحيح ومعناها قليل أو لا معنى لها يحق عبر الإدراك الحسي اعتبارها خاطئة على مستوى التعلم العميق والتأمل العالي، وإنه لن يكون من السهل إقناع الذين يتكلمونها أو الذين يسمعونها أنها مجرد غطاءات للجهل وعائقاً للمعرفة الحقيقية»[7].

يرى لوك أننا قد شكلتنا عادات معينة، إلا أننا نستطيع أن نتخلى عنها ونعيد تشكيلها:

«الطريقة السائدة والرأي العمومي أقاما أفكاراً خاطئة وأنشأت التربية والعادة عادات سيئة كما أن قيم الأشياء العادلة أزيحت وأفسدت أذواق الناس، فلا بد من اعتبار الألم علاجاً لها والعادات المضادة غيرت متعنا ووفرت لنا متعة بما هو ضروري ومؤد إلى سعادتنا»[8].

هذه الرؤية اللوكية شروع في التحرر من العادات في طريق طويل لإعادة التكوين الذاتي، وهي إعادة تكوين لم يتردد لوك في ربطها ربطاً حتمياً باتباع القانون الذي وضعه الله:

«الخير والشر الأخلاقي.... هما فقط الانسجام أو الاختلاف بين أفعالنا الاختيارية وقانون ما حيث يصيبنا الخير أو الشر من إرادة وقوة المشرع والخير أو الشر، اللذة والألم التابع لتطبيقنا القانون الذي سنه المشرع أو انتهاكنا له هو الذي ندعوه ثواباً وعقاباً»[9].

إن ربط العادات بالألم والمتعة ربطاً نفعياً فك ارتباطها المفترض بالميل الكامن في الطبيعة، وإن الشخص الذي يتبنى هذا الموقف التحرري هو الذي يطلق عليه تايلور وصف «الذات الدقيقة»، وهي ذات حذف منها كل جزئي قابل للتغيير واقتصر اعتمادها على الوعي:

«وذلك إلى الحد الذي يستطيع عنده أي كائن عاقل أن يكرر فكرة أي فعل ماض بنفس الوعي الذي كان عنده في البداية وبالوعي ذاته الذي عنده بأي فعل حاضر، فإنه نفس الذات الشخصية»[10].

إن الذات التي يجسدها الشخص عند لوك هي شخص قضائي قانوني مخصص للأفعال وما تستحق؛ لذا فهو يحض الفاعلين العقلاء القادرين على فهم القانون والسعادة والشقاء[11]. وتعالت الذات عند كانط لكي تغرق في تجريديتها، وتصبح ثاوية ثمة في الخلف سابقة على غاياتها متخفّفة من كل مفهوم للخير مشرعة للطبيعة وللإنسان.

ولكن كل هذه التنويعات للذات المنعتقة من شبكات تحددها وتسجنها في أدوار لا تستطيع الانفكاك منها؛ لكي تصبح قادرة على استغلال الفرص المتكافئة كانت في نظر ليبراليين معاصرين كـ «رولز» قاصرة على اعتبار أنه حتى الدافع الذي يحرض الشخص على استغلال إمكانياته في تحصيل الفرصة المتكافئة هو اعتباطي، فجرى تجاوزه إلى التصور الديمقراطي الذي يقضي بأن الفرد مجرد من الصفات العرضية المنسوبة إليه، ويعدّ فيه الأنا سابقاً على غاياته[12].

هذه الذات المجردة من العوارض سابقة على غاياتها، ولكنها واقعة في محذور التجريد الكانطي الذي يعدها ذاتاً مفارقة متعالية، حيث لا يمكن ـحسب كانط- أن نكون أنوات مستقلة من دون عالم من المعقولات كشرط مسبق، وهو ما حاول رولز تجنبه عن طريق الوضع الأصلي الذي يجعلها لا تغرق في التجريد ولا تنغمس في التجسيد الذي صبغها لدى الغائيين الذين رأوا أن وحدة الذات تتحقق من خلال التجربة عبر تحقيق أكبر قدر من المتعة، وهو ما جعل مفهومهم للذات وللعدالة خاضعاً لظروف تجريبية لا تصلح لأن تجعل الأنا تأخذ مسافة عن غاياتها تحقق لها الاستقلالية، وجعل العدالة قيمة ثمينة، ولكنها لا توزن بالوزن الذي توزن به غايات أهم كغاية السعادة التي هي المنفعة الكبرى في نظر الغائيين كــــ «جون ستيوارت مل» مع أن مفهوم السعادة ليس واحداً بالنسبة إلى الجماعات المختلفة، ولا بالنسبة إلى الأفراد المختلفين[13].

إن الذات لا تكون مستقلة ما لم تتخلص من العوارض، وهو ما دفع رولز إلى بذل جهده لمحاولة تخليصها من سماكتها عبر اقتراح نظرية نحيفة للخير يتفق فيها أطراف الوضع الأصلي على منافع أساسية مشتركة بالحد الأدنى يشتق منها مبدآ العدالة، ومن هذين المبدأين تشتق قيم الخير أو نظرية ممتلئة للخير، وبهذا يبقى الحق ذا أولوية على الخير، على الرغم من اشتقاق مبدأي العدالة من نظرية الخير النحيفة؛ لأن نحافتها لا تؤثر على هذه الأولوية، وفي الوقت نفسه تبقي الذات مستقلة وسابقة على غاياتها؛ لأنه حسب ما يقول رولز:

«ليست أهدافنا هي التي تحدد طبيعتنا في المقام الأول، بل قدرتنا على اختيار ما هو الأهم من هذه الأهداف، وهذه القدرة تتجلى في مبادئ العدالة. وعليه، فإن: الشخص الأخلاقي هو ذات بغايات اختارها أساساً من أجل تحقيق الشروط التي تمكنه من صياغة نمط حياة يكون تعبيراً عن طبيعته، بوصفه كائناً عاقلاً حرّاً ومتساوياً بقدر ما تسمح به الظروف»[14].

وجذر هذه القدرة على الاختيار ناتج عن أن تحصيل غايات للأنا، إنما يتم بأحد طريقين: إما الاكتشاف وهو البعد المعرفي، أو الاختيار وهو البعد الإرادوي. فعندما ينفصل الأنا عن غاياته يقع تعويض هذا الانفصال بالبعد الإرادوي، حيث يرتبط الأنا بغاياته من حيث هو ذات مريدة ما تختاره. أما عندما يكون الأنا فاقداً للقدرة؛ أي غير قادر عن التميز عن غاياته، فإن فقدان القدرة يتم تعويضه بالفاعلية بمعناها المعرفي متى كانت غايات الفاعل محددة مسبقاً كانت صفة الفاعل إدراكية لا إرادوية[15].

أولوية الذات على غاياتها تعني أن الذات ليست نتاجاً لصروف الدهر، وإنما هناك ذات ماثلة وراء الغايات والتطلعات ذات إرادة وقدرة على الاختيار. هذه الأولوية تشير إلى وجوب أخلاقي يعني ضرورة احترام استقلالية الشخص، وعدّه حاملاً للكرامة بغض النظر عن الدور الذي يؤديه والغايات التي يسعى إليها.

إن الهوة التي تفصل بين آخر ما وصل إليه تطور مفهوم الذات وحيازاتها من جهة، وبين المفهوم الديني بشكل عام من جهة أخرى، يمكن توضيحه بحصر علاقة الذات بحيازاتها بهذه الاحتمالات: أنا إما مالك لحيازاتي، أو حارس عليها وملكيتها لذات أخرى، وهو تصور المسيحيين الأوائل الذين يعدّون الملك جميعاً لله والمنظومات اللاهوتية الأخرى، أو مؤتمن عليها، ولا حاجة للزعم بملكيتي لها أو ملكية غيري، أو الادعاء الاجتماعي العام بالحق على الممتلكات الطبيعية[16].

إن المشكلة كامنة في التوفيق بين الاحتمال الثاني الذي يعد الذات حارسة على حيازاتها -وهو ما تقرّه المنظومات اللاهوتية- من جهة، وبين ما تشترطه الاستقلالية التي تتضمن ضرورة أن تكون ثمة حيازات لي بالمعنى التكويني القوي أو الضعيف، أو أن تكون ثمة حيازات مشتركة تملكها ذات مشتركة -حسب الرولزية- أو الائتمان من دون ملكية أحد من جهة أخرى.

وبغضّ النظر عن التطور الذي حصل للنظرية الليبرالية، فإن القاسم المشترك بينها هو رفض مفهوم الحراسة الديني؛ لأنه يجرد الذات من استقلاليتها، وهو كفيل بدوره بإضعاف مفهوم العدالة الذي يفترض أن يكون سابقاً على مفاهيم الخير[17].

ويرتبط بهذا النقاش أن أسبقية الذات ضرورة تقتضيها كثرة الذوات الذي ينطوي على مبدأ التفريد الذي يميز كلّ ذات عن الأخرى، والذي يسبق مبدأ الوحدة[18] وهو ما يمثل أحد الفروض الأساسية التي لا بد من تبنيها، ونحن في عصر التعددية الثقافية الذي فرضه انبعاث الهويات، والذي نتج بدوره كردّ فعل على قلب الحقائق وافتراض الوحدة سابقة على الكثرة.

[1] - مايكل ج. ساندل، الليبرالية وحدود العدالة، مرجع سابق، ص.ص. 173-174

[2] - المرجع نفسه، ص.ص.169-170.

[3] - تشارلز تايلور، منابع الذات، مرجع سابق، ص 231

[4] - المرجع نفسه، ص. 234

[5] - المرجع نفسه، ص. 245

[6] - المرجع نفسه، ص. 252

[7] - المرجع نفسه، ص. 258

[8] - المرجع نفسه، ص. 265

[9] - المرجع نفسه، ص. 266

[10] - المرجع نفسه، ص. 267

[11] - المرجع نفسه، ص. 269

[12] - مايكل ج. ساندل، الليبرالية وحدود العدالة، مرجع سابق، ص. 134، 172

[13] - المرجع نفسه، ص.ص. 41-45 وص. 54

[14] - المرجع نفسه، ص. 119

[15] - المرجع نفسه، ص.ص. 116-117

[16] - المرجع نفسه، ص. 173

[17] - المرجع نفسه، ص. 179

[18] - المرجع نفسه، ص. 106