تعدد الخطابات عند ابن رشد: فصل المقال نموذجا
فئة : مقالات
تعدد الخطابات عند ابن رشد: فصل المقال نموذجا
يعد كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، من أهم كتب الفيلسوف العربي أبي الوليد محمد بن رشد (520 هـ - 595 هـ)، إن لم يكن من أهم كتب الفلسفة العربية، والإسلامية على الاطلاق.
الكتاب على صغر حجمه، يعد أيقونة للباحثين على اختلاف أديانهم، ومذاهبهم عن نقاط التشابك، والمواءمة بين الفلسفة، وما يتوهم من تعارضها مع الدين بقيمة الجوهرية الترندستالية العميقة.
في مفتتح الكتاب، ينطلق ابن رشد لتأسيس نظريته المواءمة، في جواز ممارسة الفلسفة، بوصفها عملا عقلانيا بحتا، لايتعارض مع جوهر الدين، بل يتماس ويحقق الدعوة القرآنية القائمة على تحكيم العقل، والتفكر في خلق السموات والأرض، كما يبين أن علم المنطق، بوصفه علم تابع للفلسفة، وغير مستقل عنها في هذا التوقيت يشبه علم أصول الفقه إلى حد بعيد، والاعتماد عليه في الاستنباط العقلي للمتفلسف واجب، كما أن علم أصول الفقه واجب للفقهيه، وهو-أي المنطق- آلة من آلات التفكير العلمي، والعقلي، وتحريمها تعنت، وافتئات على النص القرآني.
أما احتجاج الفقهاء الذين حرموا النظر في كتب الفلسفة، بحجة أن الفلاسفة الأوائل كانوا وثنيين، أو لم ينتموا على الأقل لأحد الديانات الإبراهيمية، فقد فند هذا الإدعاء بقوله:
(يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان هذا الغير مشارك لنا، أو غير مشارك في الملة، فإن الآلة التي تصح بها التزكية، ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة المشارك لنا في الملة، أو غير المشارك، إذا كان فيها شروط الصحة، وأعني الغير مشارك في الملة، من نظر في هذه الأشياء من القدماء، من قبل ملة الإسلام، وإذا كان الأمر هكذا، وكان ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية، قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغى أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس صواب نبهنا عليه)1
ويقول في نفس السياق: (فقد تبين من هذا؛ أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم في كتبهم، ومقصدهم، هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها، فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله، وهو باب النظر المؤدي الى معرفته حق المعرفة، وذلك غاية الجهل والبعد عن الله)2
بعد ذلك؛ يحدد ابن رشد مراتب الخطابات المنوط بها الفهم والتلقي، كأساس معرفي ينطلق من خلاله لتوضيح رؤيته. يؤسس هنا ابن لنظريته القائمة على ثلاثة مستويات تصاعدية من الخطاب المعرفي؛
أ- الخطاب الإنشائي، أو الوعظي "خطاب شعبوي".
ب- الخطاب الجدلي "خطاب مزجي".
ج- الخطاب البرهاني التأويلي "خطاب نخبوي".
أما الخطاب الإنشائي، أو الوعظي، أو ما يسميه هو البراهين الخطابية الجمهورية، فهي الخاصة بتفسير ظواهر النصوص للجمهور؛ أي علوم الشريعة التقليدية، من تفسير، وحديث، وأصول فقه، وفقه، وغيرها، وهي العلوم الظاهرية للشريعة، التي لا تتطلب جهدا تأويليا خاصا، بقدر ما تتطلب جهدا تفسيريا للنصوص.
والغريب أن ابن رشد، أبدى تسامحا مع أصحاب هذا الخطاب من الفقهاء، والمحدثين، والمفسرين، برغم تكفيرهم له ولغيره من الفلاسفة، ورأى أن هذا الخطاب "الشعبوي" ضروري ومهم؛ لأنه يناط به حفظ ظاهر الدين، والفقهاء والوعاظ مكلفون بمخاطبة العامة والجمهور، وهم أيضا صمام أمان لحفظ التراتبية الطبقية، والسلام الاجتماعي اللازمين لقيام الأمم.
ولأن العامة أيضا في كل أمة، ومجتمع، بحاجة إلى من يرشدهم بكلام سهل سلسل، تتقبله الذائقة الجمعية، وهوالدور الواقع على كاهل أصحاب الخطاب الإنشائي؛ لأن ابن رشد ينهى أهل البرهان والتأويل عن مخاطبة العامة، بل وحتى مخاطبة الخواص من أصحاب الخطاب الوعظي، أو الجدلي على السواء.
ويؤكد على ذلك النهي أكثر من مرة، في أكثر من موضع من كتابه، بشدة بلغت حد تكفيره، لمن يصرح لهؤلاء بشيء من التأويلات الفلسفية.
فـ(الناس على ثلاثة أصناف؛ صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب، وصنف من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة، وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع، والصناعة، أعني صناعة الحكمة، وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل، فضلا عن الجمهور، ومتى صرح بشئ من هذه التأويلات لمن هو من غير أهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرح له، والمصرح به إلى الكفر)3
(وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر، لمكان دعائه للناس إلى الكفر)4
وكأنه بهذا الطرح المحرم، يؤسس لعلم شديد النخبوية، متناسيا أن طبيعة الفكر تتميز بسيولة لا يمكن السيطرة عليها بفتوى، وإذا ما تم جدلا السيطرة على التصريح بهذه التأويلات، فما الفائدة من علم سري يدور في إطار إنتلجنسيا معرفية مغلقة، لايؤدي فيها التراكم المعرفي الكمي، إلى تغير كيفي في المجتمع، وهو هدف العلم أصلا، أيا ما كان هذا العلم.
و تناسى أيضا في السياق ذاته، أن لغة التكفير، والإقصاء لا تليق به، ولا تتناسب مع أطروحاته الفلسفية العميقة، ولا مع ثقافته الواسعة الهاضمة بلا تعب للمستويات المتعددة لعلوم الشريعة واللغة، بل تتناقض حتى مع ما بسطه في كتبه من نقض لخطاب التكفير، الذي عانى منه هو ومتفلسفي المسلمين، سواء من كان قبله، أو من جاء بعده.
الخطاب المعرفي الثاني في تقسيمه التصاعدي هو الخطاب الجدلي، ويقصد به فرق الكلام الإسلامية المتعددة، التي اعتبرها أرقى درجة في المستوى المعرفي من أهل خطاب الوعظ والإنشاء وظاهر النصوص، ورأى أيضا أن أصحاب هذا المستوى الجدلي، مكلفون بمخاطبة من لا يقتنع سوى بالجدل وإقامة الحجة، وهم على العموم، أرقى درجة من الفقهاء، والوعاظ، والعوام.
لكن يلاحظ في سياق مناقشته لهذا الخطاب، أنه يبدي عدم تسامح جزئي مع آلياته المعرفية المٌشًّكلة له، والتي أدت إلى وجود خلل في بنية الخطاب نفسه المُفسرة للعالم والإنسان، وأن أكثر ما يعتمد عليه أصحاب هذا الخطاب من براهين، ما هي إلا مقدمات سفسطائية لا تفضى إلى يقين، ولا تبنى عليها أسس معرفية متينة، وأغلبها قائم على توليدات لفظية، تتضح هشاشتها المعرفية عند تفكيكها، ولاسيما عند الأشاعرة، وبصورة أقل عند المعتزلة؛ (وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانوا أقل تأويلا، فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن، وتباغض، وحروب، ومزقوا الشرع، وفرقوا الناس كل التفريق، وزائدا إلى هذا كله، أن الطرق التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم، ليسوا فيها مع الجمهور، ولا مع الخواص، لكونها إذا تؤملت، وجدت ناقصة عن شرائط البرهان، بل كثيرا من الأصول التي بنت عليها الآشعرية معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيرا من الضرورات)5
ويقول عن المعتزلة:
(تأويلاتهم لا تقبل النصرة، ولا تتضمن التنبيه على الحق، ولا هي حق)6
أما أبو حامد الغزالي (450 هـ - 505 هـ)، فقد خصه باشتباك معرفي خاص، بوصفه أشعريا متكلما، وفقيها يتأرجح بين المستويات المعرفية الثلاثة، دون الثبات على أي منها، (مع الأشاعرة أشعري، ومع الصوفية صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف)7 وبوصفه المتكلم الذي هاجم الفلسفة في أكثر من موضع، ولا سيما في كتابه تهافت الفلاسفة.
في فصل المقال يفرد ابن رشد مساحة مبتسرة لمناقشة مآخذ الغزالي على الفلاسفة، التي أظن أنها تحولت فيما بعد لكتاب تهافت التهافت.
يبدأ ابن رشد مناقشته ببيان مدى تناقض الغزالي نفسه؛ إذ في مصنفاته هو ما يثبت ما نفاه لاحقا من إبطال تكفير المتأول والمجتهد.
(ولذلك قال أبو حامد، وأبو المعالي، وغيرهما من آئمة النظر، أنه لايقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل، في أمثال هذه الأشياء)8
وإزاء هذا التناقض الواضح للغزالي، يدلف بن رشد لمناقشة المسائل الثلاث الرئيسة في تكفير الغزالي للفلاسفة.
القول بقدم العالم.
والبعث الروحاني.
وعلم الله تعالى للجزيئات.
أما القول بقدم العالم، فيرى ابن رشد أن المقصود بقدم العالم، ليس مرافقة العالم للذات الإلهية، ولا سبقه لها، بل قدم العالم على حركة الزمان نفسه من حيث وجوده، وأن العالم قديم؛ لأنه كان في علم الله الأزلي، وأن الله خلق العالم قبل خلقه للزمان، الذي يعني تحرك الأجسام وصيرورتها، وصنع الأحداث والحركات من خلالها، وهنا يقر ابن رشد بقدم العالم، ويقر أيضا بكون هذا الخلاف هو خلاف لفظي، لا أكثر بين المحدثيين والفلاسفة.
أما المسألة الأخرى التي ناقشها ابن رشد، فهي البعث الجسماني، والعذاب المعنوي، الذي يرى بداية أن متبني هذا الرأي غير كافر بتأويله؛ لأنه مؤمن بالأساس بالبعث والجزاء، وهذا في نظره كاف لامتناع التكفير. أما طبيعة البعث والجزاء، فكانت على الدوام مصدرللتأويل، والآراء فيها غير منحسرة بين الفقهاء، والمتكلمين، والفلاسفة، بل إن الغزالي نفسه له رأي فيها مفاده، أن البعث والجزاء بالروح لا بالجسد.
ويرى أن المجتهد في هذه المسألة، أفضل درجة من المقلد، والمئول فيها أقرب إلى الحقيقة من غير المئول.
المسألة الثالثة، هي القول بعدم علم الله للجزيئات، المنسوب لابن سينا، وهو قول يدحضه ابن رشد ببيان ماهو علم الله تعالى أصلا، الذي يتجاوز ما هو كلي، وما هو جزئي، إذ هو في الأصل علم أزلي محيط بكل شيء، والجزيئات نحن نعلمها حال حدوثها. أما الله تعالى، فقد سبق له معرفتها وأحداثها كلية، ويمتنع في علم الله تعالى ما هو كلي، وما هو جزئي؛ إذ هو شامل.
بعد أن انتهى من مناقشة الغزالي، بدأ في بيان الخطاب البرهاني، وهو خطاب النخبة الفلسفية، الذي يعتمد على التأويل، ولا يقدر عليه إلا الراسخون في العلم، وهم المعنيون بقول الله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)، وأنهم المنوط بهم التفكر في بيان مراد الله الخفي، واستجلائه عبر خطابه الأزلي، القرآن الكريم وإلا فما معني الرسوخ في العلم، إذا كانت هي العلوم الظاهرية، التي يقدر عليها أي دارس لعلوم الشريعة.
أما التأويل، فهو صرف اللفظ عن معناه، وإذا تعارض النص مع العقل، وجب تأويل النص، ليس لصالح العقل فقط، وإنما لأن الخطاب الآزلي هو أصلا نص يخاطب العقل، ويدعو إلى إعماله وتفعيله، وأن المنطق والفلسفة، ما هما إلا وسيلة للتعقل، والتفكر، والاستنباط، وهو ما أمر به الشرع ابتداء.
عند هذه النتيجة الفاصلة، يكون ابن رشد قد وصل إلى غايته من الكتاب، وهي المزواجة، والتصالح، والتوافق بين علوم الشريعة، وعلوم الحكمة، ونفي ما يتوهم من التعارض بينهما.
لكن ما يؤخذ عليه في هذا الكتاب، هو إغفاله لمستوى آخر من المستويات المعرفية، هو المستوى العرفاني، أو خطاب التصوف، ربما لأن هذا الخطاب من وجهة نظره مفارق للنسق العقلية في التفكير، ويعتمد على ما يسميه آلية الحدس، وهي آلية غير منضبطة، ولايمكن إخضاعها لسلطة العقل، وهي فرضية بعيدة؛ لأن غالبية خطاب التصوف نهل من الفلسفة الباطنية اليونانية "الأفلاطونية المحدثة"، وصبغ عليها في محاولات توفيقية مسوغات شرعية، وتبريرات عقائدية، لم تشفع للمتصوفة عند منظومة الفقه والعقيدة المحافظة، التي رأى حراسها في هذه الأفكار خطرا وخروجا عن الدين، ومحاولات التوفيق هذه، ما هي إلا التفاف ومزج ما لايمتزج، لهذا كان الصدام مع التصوف بشكل عام، والتصوف الفلسفي بشكل خاص عنيف، ربما أكثر من الصدام مع الفلاسفة.9
ومما يؤخذ عليه أيضا، جعله التأويل والبرهان خطابا فوقيا، لايجوز التصريح به لأحد، ما جعل من الفلسفة والتفلسف بشكل عام خطابا شديد النخبوية، التراكم الكمي فيه لايؤدي إلى تغير كيفي لا يسهم في تغيير الواقع، ولا يدفع باتجاه الأنساق الحداثية التي تستلزم عملا مباشرا على الأرض ومع الجمهور، وإلا فإن هذا الطرح لسرية خطاب التأويل يصبح بلا فائدة حقيقية للمجتمعات.
الهوامش:
1- كتاب فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، لأبي الوليد محمد بن رشد، طبعة المكتبة المحمودية التجارية، ضبط وتصحيح مصطفى عبد الجواد عمران، الطبعة الثالثة، 1968
2- المرجع السابق ص12
3- المرجع السابق ص30
4- المرجع السابق ص31
5- المرجع السابق 33
6- المرجع السابق ص35
7- المرجع السابق ص27
8- المرجع السابق ص17
9- للدكتور محمد عابد الجابري مقدمة تحليلية في سياق تحقيقه لفصل المقال، يلقى فيها الضوء على تاريخ الفلسفة الإسلامية، وعلاقتها بالدين في المشرق، والمغرب الإسلامي، ويلقى الضوء على الفلسفة الباطنية المستمدة من الأفلاطونية المحدثة، والتي تبنتها قطاعات من المتصوفة، ومن بعض الفرق الشيعية بعد ذلك.
فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، أو وجوب النظر العقلي وحدود التأويل، تقديم واشراف د/ محمد عابد الجابري، تحقيق محمدعبد الواحد العسري، طبعة مركز درسات الوحدة بيروت 1997