تغيرات الحدث في الفترة المعاصرة
فئة : مقالات
في سياق التحوّلات، التي تعرفها كتابة التاريخ، اليوم، نرصد مظاهر تُعبِّر عن تكيّف التاريخ مع التحديات المعاصرة، حيث نشهد عودة قويّة إلى الاهتمام بالحدث، الذي أُقصِيَ لمدة طويلة، وظلّ بعيداً عن التاريخ الأكاديمي. كما أنّ هناك موجةً من البيوغرافيات السياسية والثقافية تجتاح الحقل المعرفي والجامعي، في ظلّ تنامي ظاهرة المصالحة مع الذات في حقل العلوم الإنسانية، بعد خفوت صوت البنيوية، وقد أسهم ذلك، أيضاً، في تحقيق نوع من التقارب مُجدَّداً بين مجالي السرد والتاريخ، بعد طلاق دام لعقود، كما ازدهر التاريخ الشفاهي وتاريخ المهمّشين، وكذا تاريخ الحياة اليومية، بأشكاله المختلفة، مع تزايد الاهتمام بالتاريخ السياسي، وبتاريخ الزمن الراهن، الذي أصبح يفرض نفسه على المؤرخ، ويدعوه لاقتحام ميدانٍ ظلّ لمدّة طويلة محلَّ شكّ وريبة من قبل مؤرّخي الزمن الطويل.
لمقاربة أيّ حدث تاريخي كيفما كان، وجب التعمّق في أسبابه أولاً. هكذا كان المؤرخون التقليديون يتعاملون، إلا أنّه، اليوم، بدأت الأنظار تتّجه نحو دراسة الآثار والنتائج، ما يطرح تحدّيات كبيرة على مستوى أدوات التحليل والمقاربة تجنباً للسقوط في الغائية، أو العودة مجدداً إلى الحتميات التاريخية، أو «الكرونوزوفيات»، التي تَمَّ القطع معها نهائياً مع تطوّر المدارس التاريخية في أوروبا وأمريكا.
لقد انتقلنا، اليوم، في زمن هيمنة وسائل الإعلام في مقاربة الحدث، من الأسباب إلى التركيز على النتائج، التي يخلّفها؛ أي أنّ المقاربة تحوّلت من قمّة الحدث إلى قاعدته، الانتقال من البحث في أسبابه إلى النظر في آثاره. وتبدو تجلّيات هذا التغيير، بالأساس، في كيفية تعامل المفكرين والمؤرخين، مع تحليل الأحداث الكبرى، كحدث أيار/ ماي 1968، وحدث سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفييتي سنة 1991م، وشهدناها، أكثر من أيّ وقتٍ مضى، مع حدث 11 أيلول/ شتنبر 2001، ومع الثورات التي عرفتها المنطقة العربية، فيما اصطُلِحَ عليه بـ "الربيع العربي". فحسب الفيلسوف ميشال دو سيرتو، "ليس الحدث ما يمكن رؤيته، أو معرفته، ولكن ما يصير إليه"، ويرى المؤرخ الفرنسي جاك روفيل، في السياق نفسه، أنّ الحدث "يؤدّي، في الوقت نفسه، دور الذاكرة والخرافة في المتخيّل الجماعي، ما يسمح باستقراء هذا المتخيّل الاجتماعي ذاته"، فإلى أيّ حدٍّ نحن أمام تجديد على مستوى قراءة الحدث؟
تميّزت فترة القرن التاسع عشر بتركيز المؤرّخ على سرد تواريخ الأحداث، كالمعارك، وتاريخ الملوك والوزراء؛ فقد كان الهدف الأساسي جعل الحدث حجر الزاوية في بناء الهوية السياسية للدولة المعاصرة. لقد ركّزت المدرسة الوضعانية الفرنسية، التي هيمنت على التاريخ، خلال هذه الحقبة، على الأحداث السياسية، وعلى تمجيد الفرد، باعتباره صانع البطولات؛ ويُمثل كتاب (تاريخ فرنسا) لأرنست لافيس نموذجاً لهذا النوع من الكتابات، التي بُنِيَت على فكرة الأَسطرة، التي تربط نشأة الدولة القومية الفرنسية ككيان مستقلّ بعهد حكم الملك كلوفيس الأول، استناداً إلى الأدوار الممنوحة للرجل العظيم.
لقد أصبح الحدث، ولاسيّما السياسي منه، الموضوعَ المفضّل لدى روّاد هذه المدرسة التاريخية، وطغى السرد الكرونولوجي على الأبحاث الأكاديمية، حيث يصوغ المؤرخ تصوّراً سببياً سطحياً، يقوم بالأساس على تعداد الأسباب والعوامل المتحكّمة في الحدث، وتتبّع المراحل التي مرّ منها، وفي النهاية يقدّم خلاصة للنتائج التي أسفر عنها الحدث، ليُغلق الموضوع بشكلٍ شبه نهائي، وإلى حين اكتشاف وثائق جديدة، وذلك بطريقة آلية تخلو من أيّ تأمل في مآلات الحدث المفاجِئة.
وهذه الطريقة في البحث ظلّت مُعتمَدة إلى أوائل القرن العشرين، وقد تعرّضت، منذ سنة 1929م، لانتقادات لاذعة من طرف روّاد مؤرخي الحوليات، الذين أزالوا القداسة عن الحدث، وذلك في سياق انبعاث حركية جديدة قطعت، بشكل نهائي، مع كلّ التيارات التي لها صلة بالتاريخ الرنكي التقليدي المهووس بالحدث، وبالوثيقة التاريخية المكتوبة.
نجحت مجلة الحوليات، بفضل جهود مُؤسسيها، في تجديد الكتابة التاريخية، فقد تمكّنت، في ظرف وجيز، من بسط نفوذها، وبدأت بشنّ حملة شعواء على التاريخ الحدثي، الذي تمّ تشبيهه بالصنم المقدّس؛ وبدل هذا النوع من التاريخ المتَّهم، ظهرت إلى الوجود تصوّرات جديدة مختلفة تناغمت مع تحوّلات الفكر الفلسفي الفرنسي. فمع أفول نجم الوجودية، وسطوع فجر البنيوية، انتشرت مفاهيم تكيّفت مع الموضة الجديدة، ولاسيما مع الجيل الثاني لهذه المدرسة الصاعدة، فقد أصبح الحدث فجأةً غير ذي أهمية ضمن المدى الطويل الذي صاغه فرناند بروديل، الذي حاز الصيت الأقوى في الأبحاث التاريخية، التي بدأت تهتم بالبنيات؛ وقد أسهم انفتاح التاريخ، خلال هذه الحقبة الرائدة على باقي التخصصات الاجتماعية الأخرى، ولاسيما الجغرافيا التاريخية، والديموغرافيا التاريخية، والتاريخ الاقتصادي؛ في ازدهاره، وتوسّع أطروحاته.
كرّست مدرسة الحوليات، بأجيالها الثلاثة، أعمالها للتاريخ الاجتماعي، الذي تصير فيه الطبقات، والجماعات، والأصناف، والبلدان، أبطالَ التاريخ، فقد تحوّل التاريخ، مع فرناند بروديل، إلى تاريخ جغرافي أكثر بنيوية، لا يأخذ بعين الاعتبار إلا القوى ذات التطوّر البطيء، التي تنتمي إلى تاريخ الزمن الطويل، وازدهرت بعده سلسلة من الدراسات، التي استلهمت منه مفهوم الحقب الزمنية الطويلة، وهي دراسات تُعَدُّ، إلى اليوم، من أهمّ الأبحاث الجديرة بالاهتمام في كتابة التاريخ.
غَيَّرَ الإيقاع البطيء للتاريخ منظورَ المؤرخين الأكاديميين إلى كثير من الأحداث والقضايا، فالتركيز انصبّ، بالأساس، على دراسة الحقب الطويلة المدى، وهذا ما يُفَسِّرُ النجاحات الباهرة، التي تحقّقت، سواء على مستوى المناهج المتبعة، أم على مستوى المواضيع المطروقة، والتي مثَّلت قطيعة نهائية مع التاريخ الفردي، والتاريخ الكرونولوجي، والتاريخ الرواية.
بدأ هذا التوجّه في البحث يعيش، منذ ثمانينيات القرن العشرين، ارتجاجاتٍ، وانقلابات في المفاهيم، ولاسيما بعد تراجع موجة البنيوية في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، فقد تناول الفيلسوف بول ريكور، في كتابه (الزمن والسرد)، وَهْمَ المدرسة التاريخية الفرنسية الحوليات، التي أبعدت الرواية التاريخية، من خلال إعادة قراءة أطروحة فرناند بروديل من منظور مختلف؛ إذ برهن أنّ كتابة هذا الأخير تستجيب لكلّ قواعد الحكاية في دراماتيكيتها، التي تنقلنا من مركز عالم إلى آخر خلال القرن السادس عشر.
وقد استعمل ريكور مفاهيم من قبيل شبه حدث؛ لتجاوز إشكالية السرد في التاريخ، التي ظلّت مثارَ جدل كبير لعقود من الزمن، ويمكن اعتبار تحليله الخاص في الإبستمولوجيا التاريخية، انطلاقاً من مرجعيّة أطروحة بروديل، نوعاً من تقديم حلول مُساعِدة لمؤرخي الحوليات للخروج من نفق الأزمة، التي تعرّضوا لها في سنوات الثمانينيات.
لم ينتج الرفض للحكائي، وللفرد، وللحدث، بالنسبة إلى مرجعية الحوليات - في نظر ريكور - عن أيّ تأمّل فلسفي عميق، وإنّما نقدهم ناتج عن صراعهم ضدّ التراث الذي خلّفته المدرسة الوضعانية، التي سيطرت على حقل الدراسات التاريخية في فرنسا، خلال القرن التاسع عشر، إلى غاية الثلث الأول من القرن العشرين.