تفاهة الأنا في زمن "السيلفي"
فئة : مقالات
تفاهة الأنا في زمن "السيلفي"
ارتبط مفهوم الأنا بالتحولات العلمية والفكرية في أوروبا خلال القرن الخامس عشر الميلادي؛ إذ بني على أساس صلب أساسه الكوجيطو الديكارتي: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وعبر ممارسة الشك بوصفه الحقيقة البديهية التي لا تحتاج إلى وساطة الحواس والغير، ظلت الأنا محافظة على أرضيتها الصلبة، رغم كل التحولات الفكرية والتقلبات الأيديولوجية والسياسية التي أعقبت الأزمنة الحديثة، بل إن الكوجيطو قد تجاوز ديكارت نفسه نحو مختلف بقاع العالم التي تبنت الفكر الفلسفي، فأصبح حصنا لكل الناس وليس ملكا لأحد في الآن ذاته. أما اليوم، فلم يعد ديكارت مرغوبا فيه بيننا؛ لأن العقل الذي كان أشبه ما يكون بسرير "بروكست"[1] يقطع الشوائب التي تغطي الحقيقة، صار صخرا شفافا يقبل كل شيء في ظل انشطار الأنا وسيطرة التافهين في عصر "السيلفي"، فكيف تشكل نظام التفاهة؟ هل هو نظام نتج عبثيا أم أنتج بشكل مقصود؟ إن كان مقصودا، فما الذي ساهم في إنتاجه؟ ثم ما هو تأثير الشاشة/ السيلفي على ثقافة المجتمعات؟
تحولات الأنا
تشير الأنا، منذ تأسيسها على يد ديكارت، إلى قدرة العقل على سبر أغوار الحقيقة، فأضحت بذلك رمزا للهوية، كما توحي إلى القدرة على الفعل والاختيار؛ فالإنسان هو أصل أفعاله، نظرا لما يحتويه من معاني الحرية والسببية والإرادة. هذا التصور ارتبط بمعظم فلسفات الوعي، باختلاف توجهاتها وتياراتها، غير أن النزعة الفرويدية قد شككت في هذا البعد الجوهري للأنا؛ فهي، حسب فرويد، ليست سوى محفل نفسي يتدخل اللاوعي في تحديد طبيعته، وبعبارة أخرى، يمكن القول إن الأنا لم تعد قادرة على إنتاج أفعال قصدية بقدر ما هي نتاج لدوافع غريزية لا واعية، الشيء الذي ينفي عنها طابعها الجوهري الثابت.[2]
وقد لعبت الثورة الرقمية في مجال الإعلام والتواصل، هي الأخرى، دورا أساسيا في انتقال الأنا من دائرة الفكر إلى مجال الصورة الهشة؛ إذ لم يعد بإمكاننا التعرف على حقيقتها من خلال الاستبطان، كما هو الحال عند رونيه ديكارت؛ فالصورة الهشة أصبحت تشكل امتدادا للأنا، فكانت بذلك سببا في سلب الإنسان حريته، وهو ما عبرت عنه إلزا غودار بقولها: "يوجد إنسان اليوم والغد المرتبط دائما من خلال محموله وحاسوبه بمجموع الشاشات، في قلب شبكة تؤثر امتداداتها في كل ما يصدر عنه في حياته اليومية. تكرس سطوة الأيدولون القوة "الشاشاتية" وتؤكد استلاب الإنسان تجاه هذا الموضوع".[3]
إذن، فقد ترتب عن الكوجيطو الديكارتي انعزال الأنا وتعاليها عن الواقع الحسي، حيث أثبتت حقيقتها وهويتها عبر ممارسة الشك، فرفعت من سلطتها إلى مصاف اليقين المطلق الذي لا يحتاج إلى وساطة الآخر. أما اليوم، بفعل ارتباطها بالشاشة، أصبحت الأنا تبحث عن قيمتها الاعتبارية باستمرار وسط "لايكات" الآخرين. بهذا يمكن القول إن الشك والسؤال لم يعد معطى سابقا عن الوجود، بل هو خاصية ملازمة للأنا، وهي إزاء اللقاء مع الآخر عبر الشاشة، تقول غودار: "إنه شك في الذات، افتقار إلى ثقة في الذات وقد فقدت احترامها لنفسها. وهكذا فبقدر ما أشك في أناي أزداد رغبة في السيلفي. ومع ذلك، بقدر ما أوسيلفي، بقدر ما أشك."[4]
لقد ضرب هذا التحول الجديد في عمق الفكر الديكارتي ـ الذي أزاح سلطة الغيرية معتبرا إياها كيانا لا يرقى إلى مرتبة الوجود البديهي الذي لا يقبل الشك ـ ذلك أن وجود الأنا قد أصبح مرتبطا بنظرة الآخر؛ إذ أضحى الآخر مصدر اطمئنان للأنا بقدر ما هو مصدر قلق لها، وبالتالي فقيمتها لا تخرج عن إطار الجمهور، باعتباره آخرا له سلطة افتراضية قد ترفع من مكانة الأنا، كما قد تزج بها في متاهة الشك، قياسا بعدد "اللايكات" التي تحصل عليها عند كل لقاء افتراضي مع هذا الجمهور.
الشاشة مملكة التفاهة.
عرف الفيلسوف الكندي آلان دونو التافه بوصفه ما يمثل وسطا بين الذكاء والغباء، فيصير متحكما فيمن هم أقل منه ذكاء من جهة، ومتزلفا لمن هم أكثر ذكاء أو سلطة عليه من جهة ثانية. يتضح ذلك من خلال الكلمة الفرنسية (la médiocratie) التي توحي إلى "هذه الدرجة الوسطى بعد رفعها إلى مصاف السلطة"[5]. في نفس السياق، يرى دونو أن سمة التافه تكمن في قدرته على تأسيس علاقات وروابط اجتماعية أساسها مبدأ "الطيور على أشكالها تقع"، حيث تكبر الجماعة بفضل الدعم الذي يتلقاه أفرادها من طرف السلطة.[6]
وقد طرح دونو في كتابه "نظام التفاهة" مفارقة أساسها أن التافه لم يكن مرغوبا فيه قديما، فقد اعتبر ذاك الدخيل الذي تزدريه الجماعة وتنبذه، حيث يكون مضطرا للعيش بشكل منعزل عن الجماعة. وبالمقابل، ففي ظل سيطرة "السيلفي"، بوصفه أعلى أدوات تحكم الشاشة، صار التافه خبيرا ذا سلطة وجمهورا يتحكم فيه ويحتمي به في الآن ذاته. يتمثل ذلك في قول آلان دونو: "لقد تبوأ التافهون موقع السلطة"[7]. من هنا يمكن أن نتساءل عن سبب هذا التحول من سيادة العقل إلى سطوة التفاهة؟
يرى آلان دونو أن نظام التفاهة قد أنتج بشكل مقصود، ساعدت في إنتاجه عدة تحولات على المستويات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تداخلت عدة عوامل في صناعة معالم هذا النظام أهمها خضوع الجامعات ومراكز البحث العلمي لتوصيات مجموعات الضغط والشركات العالمية، الشيء الذي أدى إلى تسليع المعرفة، فنتج عن ذلك ظهور مفهوم الخبير (المتخصص)، باعتباره مساهما في اختفاء الحرفة واستبدالها بالوظيفة، لكننا هنا سنتوقف عند عولمة "الشاشة" بوصفها عاملا رئيسا ساعد على توطيد علاقتنا بالتفاهة وبسط سيطرتها علينا في مختلف المجالات.
يمكن الحديث عن الشاشة من خلال ثورتين رقميتين؛ تتعلق الأولى بظهور التلفزيون. أما الثانية، فترتبط بالانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي مع نهاية العقد الأول من الألفية الثالثة كتيك توك وفيسبوك وإنستغرام.
لقد حرص القائمون على مجال الإعلام قديما على التدقيق في نوعية المذيعين والضيوف معا، وفقا لمجالات تخصصهم (رياضة، غناء، برامج وثائقية...). أما اليوم، فقد أصبح كل من يتمتع بمعايير جسدية أو جمالية معينة، سواء كانت طبيعية أو مصطنعة، بإمكانه اقتحام منازل الناس عبر التلفزيون من خلال التقديم أو المشاركة في برامج لا رابط بينها، فصاروا بذلك ملوكا يتمتعون بسلطة الخطاب يوجهون من خلاله رعاياهم (الجمهور) نحو غايات محددة سلفا من طرف السلطة.[8]
الأمر نفسه ينطبق على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه الأخيرة قد تجاوزت الملك (الفنان، العالم، المغامر...) الذي أنتجه التلفزيون نحو صناعة إمبراطوريات للتافهين بشكل أسرع وأوسع انتشارا. فبفضل التفاعلات الافتراضية تكونت سيكولوجية جماهيرية لا واعية[9] كان لابد لها من رمز (تافه) يوجهها. قد يكون هذا الرمز لاعب كرة قدم أو عارضة أزياء، بل قد نجد أشخاصا عاديين تحولوا، بفعل الحظ، إلى أيقونات لها جمهورها الذي يدافع عنها أمام أيقونات أخرى تتمتع بدورها بنفس السلطة أو أقل/ أعلى درجة منها، تبعا لعدد "اللايكات" التي تتحصل عليها من خلال صورة أو لقاء افتراضي مباشر قابل للاستهلاك، هذا الأمر هو ما تعبر عنه إلزا غودار بقولها: "لا يكفي أن نعيش، يجب أن نباع أيضا، وهكذا يتحول الأيقون السيلفي إلى ألوهية جديدة يجب عبادتها بكل ثمن باسم مجتمع الاستهلاك".[10]
هؤلاء الملوك الجدد (صناع المحتوى) لما أسسوا إمبراطورياتهم، كان لابد لهم من تحصينها بأسوار يصعب اختراقها، [11] لهذا عملوا على إظهار أنفسهم بشكل مستمر عبر الشاشة وهم يحملون الصولجان (مكبر الصوت)، حتى يظهروا بمظهر المهتم لقضايا شعوبهم (الجمهور)، تارة على هيئة خبراء سياسيين أو اقتصاديين، وتارة على شكل فنانين أو محللين نفسانيين. لهذا لا غرابة في أن نجد كتب التنمية الذاتية والمحاسبة أكثر الكتب مبيعا[12] نتيجة سعي الجماهير إلى تأسيس إمبراطوريات خاصة بها تنازع صناع المحتوى (الأيقون) في سلطة الخطاب والتأثير؛ لأن كل نجاح سريع لا يتطلب ذكاء بقدر ما يتطلب شاشة وقدرا معينا من الجمال بغض النظر عن إنسانيته، وهو ما نتج عنه على سبيل المثال "موت الفن" بتعبير ثيودور أدورنو وغيره من المفكرين والفلاسفة، الذين يرون أن سيادة قيم الرأسمالية والموضة ستزيل عن الفن قيمته المتعالية عن كل استهلاك، لتجعل منه مجرد وسيلة للتعبير عن مكانة اجتماعية معينة أو لجلب أكبر عدد من المستهلكين لنوع من أنواع السيارات أو الملابس...إلخ.
إذن فتأثير وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي على التصور الفكري والاقتصادي للمجتمعات بدا واضحا؛ إذ أصبح الناس يتهافتون خلف الشاشات لصنع أمجاد من خلال جمع أكبر عدد من "اللايكات" والمشاهدات، بغض النظر عن فائدة المحتوى الذي يقدمونه؛ فباسم مجتمع الاستهلاك والموضة والتحرر والمغامرات يتسابق صناع المحتوى نحو صناعة أكبر حلوى أو مشاركة خصوصيات العائلة مع الجمهور. وقد نجد آخرين يتسولون افتراضيا بذريعة أنهم يمرون بمشاكل عاطفية، أو إنهم كانوا يتعرضون للتنمر بسبب قامتهم أو لون بشرتهم. كما نجد قنوات إعلامية وصحافية تبحث عن كل ما يتعلق بهؤلاء المؤثرين من طريقة جلوسهم أمام الشاشة، مرورا بمشاكلهم الزوجية، وصولا إلى ما يعجبهم من طعام ولباس. وهذا ما أنتج لنا كيانات افتراضية لا واعية تؤثر في تغيير النمط الثقافي السائد للمجتمعات.
هكذا، سنكون إزاء تجارة جديدة تتعلق بتسويق العواطف وتسليعها افتراضيا؛ فكلما سلط المؤثرون والإعلاميون عدساتهم تجاه مأساة ما، كلما انهالت عليهم التعليقات والمشاهدات. مقابل ذلك، قد يتجاهل هؤلاء مآسي أكبر منها، فيوجهون عواطف مستهلكي الشبكات الاجتماعية والإعلامية نحو قضايا أو حالات إنسانية قابلة للاستهلاك، حيث ينتج عن ذلك نوع من التفاضل بين الناس، إذا ما افترضنا أن الحالات الإنسانية والاجتماعية متعددة والإنسان واحد. هذا ما يمكن أن نستشفه من القول الآتي: "هؤلاء المقاولون المهنيون الذين يضعون مشاريع للتطبيق يظنون كذلك إن مشاهد العنف والصور والتعاليق المؤلمة إلى حد ما هي التي تجذب المشاهد من دون منازع. وقد يختارون أيضا اللقطات التي يكون هدفها شد انتباه الجمهور خاصة".[13] لكن انتقادنا لثقافة "السيلفي" لا ينفي إيماننا بما تقدمه من خدمات لصالح الإنسانية، فرغم هذه الهشاشة التي تتميز بها وسائل التواصل الاجتماعي إلا أنها أصبحت فاعلا أساسيا في حل الكثير من القضايا الاجتماعية والسياسية، كما أنها باتت مجالا لا غنى عنه للتجارة والتواصل في إطار ما أصبح يسمى بـ"العالم قرية صغيرة".
[1] - أسطورة يونانية تتحدث عن رجل يدعى بروكست، كان يأسر المسافرين ويضعهم على سرير، فإن كانت أطراف الأسير أقصر من طول السرير يمددها، وإذا كانت الأطراف أطول يبتر ما زاد منها.
[2] - إلزا غودار، أنا أوسيلفي إذن أنا موجود (تحولات الأنا في العصر الافتراضي)، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 2019، ص 76
[3] ـ إلزا غودار، المصدر نفسه، ص 84
[4] ـ إلزا غودار، المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[5] - آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة وتعليق مشاعل عبد العزيز الهاجري، دار سؤال للنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2020، ص 70. انظرا أيضا مقال حواري مع آلان دونو موسوم بعنوان: "conversations With Alain Deneault"
[6] ـ آلان دونو، المصدر نفسه، ص 78
[7] ـ آلان دونو، المصدر نفسه، ص 69
[8] ـ آلان دونو، المصدر نفسه، ص 52
[9] - سيكولوجية الجماهير مفهوم يعود إلى عالم النفس الاجتماعي غوستاف لوبون، الذي كتب كتابا يحمل نفس العنوان، حاول من خلاله فهم وتفسير سلوكيات الجماهير، فتوصل إلى أن ما يميز الجماهير هو انصهار أفرادها في عاطفة مشتركة، رغم اختلاف ملكاتهم العقلية، بحيث يتصرف الأكثر ذكاء مثلما يتصرف الأقل ذكاء بشكل لا شعوري من قبيل هتافات جماهير كرة القدم...
[10] ـ إلزا غودار، المصدر نفسه، ص 79
[11] - هذه الفكرة تعود إلى الفيلسوف والسياسي الايطالي نيكولا ماكيافيلي، الذي يعتبر أن الوصول إلى السلطة قد يأتي عن طريق الحظ والصدفة، إلا أن تحصين هذه السلطة يتطلب تنويع أساليب الإقناع؛ فتارة يتوجب على الحاكم أن يكون أسدا يدافع عن مملكته بكل قوته، وتارة عليه أن يكون ثعلبا لما يتميز به من مكر وخديعة. وهو ما لخصه ماكيافيلي في كتابه "الأمير" بقوله: "الغاية تبرر الوسيلة"، لهذا يلجأ الكثير من الناس، وصناع المحتوى بشكل خاص، إلى مختلف الطرق، بغض النظر عن مشروعيتها، من أجل تسويق صورهم للجمهور.
[12] ـ آلان دونو، المصدر نفسه، ص 69
[13] ـ دونيس هويسمان، سقراط على الأنترنيت (من أجل فلسفة إعلامية)، ترجمة محمد بوعزي، فكر ونقد، عدد: 55 يناير 2004، ص 143