تقديم الباطل، تأخير الحقّ: عن تبصّر الذات أخلاقياً
فئة : مقالات
في الحديث عن فكرتيْ (الباطل) و(الحقّ) لا بُدّ من استدراك عدّة أمور والحديث عنها، لكي تكون الصورة أكثر جلاء ووضوحاً، فتؤدي هذه المقالة غرضيتها من ثمَّ:
1- تبدو أطروحة (الصراع على الباطل) أطروحة غير عقلانية، إذا ما قورنت بفكرة (الصراع على الحقّ)، لا سيما إذا تمَّ إخضاعها للتقاليد العريقة لموضوعة الحق، والتأصيلات المعرفية التي حظيت بها فكرة الحق، سواء في المُدونة الدينية أو في المُدونة الفلسفية، فما حظي به الباطل مقابل ما حظي به الحقّ يبدو غير ذي أهمية بالمرة، ولا يرقى إلى حدّ يمكن معه تأسيس مُدوّنـة للباطل.
2- يبدو وكأن (الباطل) -بل هو كذلك في المخيال الإنساني- يمثّل الجانب الشرير عند الإنسان، في حين يمثّل (الحقّ) الجانب الخيّر عند الإنسان، لذا حظي الأول بـِ ذمٍّ متواصل، في حين حظي الثاني بـ مديح متواصل. ولربما كان لهذا أثر واضح في ترسيخ تقاليد عريقة في المُدونتين الدينية والفلسفية عن الحقّ، مقابل مدونة بالكاد تذكر عن الباطل، كما أسلفت في النقطة السابقة.
3- يتمظهر (الحقّ) في الاجتماع الإنساني كمتنٍ أصيل وعظيم الفائدة، في حين يتمظهر (الباطل) كهامشٍ جانبي وعديم الفائدة.
دعونا نقلب الآية:
1- تبدو أطروحة (الصراع على الباطل) أطروحة مُتجاوزة للعقل، أو هي في مرتبة أجلّ وأرقى من مرحلة العقل، أعني انسجامها ليس مع مقتضيات العقل البشري فحسب، فهي لا تكتفي بتفعيل الجدل العقلي بإزاء مشكلة الأفعال الإنسانية، ومحاولة البحث عن مواضعات ذهنية لها، بل ترقى إلى مرتبة الضمير الإنساني أيضاً. وهذا ما يمنحها جلالها ورقيها، وتجاوزها للعقل المُجرَّد، لأنها تتجلّى في فكرة البحث عن أخطاء الذات، ومحاولة التعديل المُستمر عليها، وليس البحث في أخطاء الآخرين، والتعييب عليها دائماً أبداً، على اعتبار أنّ الباطل جزء من كينونة الآخر، في حين أن كينونة الذات كينونةً طاهرة بالمرة، والذي أنتج معادلة (الحق/ الباطل) المعرفية وفقاً للمقتضيات التي أشرتُ إليها في النقاط الثلاث الأُوَل؛ في حين أن أطروحة (الباطل) من ناحية أنه أطروحة تتجاوز المعرفي وتتصل بالضميري، فإنها أكثر رقياً ونُبلاً من معادلة (الحق/ الباطل) بصيغتها التقليدية.
2- تبدو فكرة مُلازمَة الخير للحق، والشرّ للباطل، فكرة مُخاتلة ومخادعة إلى حدّ كبير، فقد يكون هذا الختل وهذا الخداع قد نتج عن الضخّ الكبير لمُعادلة (الحق = الخير / الباطل = الشر)، وتكرار هذه المعادلة -المرة تلو الأخرى- على مدار آلاف مؤلّفة من السنين. وقد يأخذ هذا البُعد الخداعي الذي أشرتُ إليه، صيغة أكثر قابلية للتطبيق الواقعي، إذا ما عرفنا أن فكرة الصِدام -سواء أكان عقلياً أم واقعياً- بين البشر كانت دائماً بفعل الحق، لا بفعل الباطل؛ أي أن التنافر والتنابذ بين بني البشر على المستوى العقلي، وما رافق هذا التنابذ الذهني من تقاتلٍ وسفك للدماء على أرض الواقع، كان بسبب تمثّل الذات لفكرة الحق، وإلصاق تُهمة الباطل بالآخر بشكل أوتوماتيكي. فالصِدام في جوهره الأساسي هو صِدام على الحقّ، لا صِدام على الباطل، مما يجعل من تاريخ الحقّ تاريخاً مُلطخاً بالدماء، حتى وهو يتمسك بأهداب الفضيلة والعفاف.
تبدو فكرة مُلازمَة الخير للحق، والشرّ للباطل، فكرة مُخاتلة ومخادعة إلى حدّ كبير
3- شكّل الباطل أساساً عكسياً للحقّ في المعمار الوجودي للإنسان، بما يجعل منه متناً وليس مجرد هامش؛ فالصراع على الحق مُساوٍ تماماً لفكرة الصراع على الباطل، لكن الأفضلية ستكون للباطل هذه المرة، نظراً للبُعد الأخلاقي الذي تنطوي عليه فكرة الباطل، طالما هي مُتمسكة بمحاسبة الذات قبل محاسبة الآخر، والدخول في مسار تصحيحي لجُملة الأخطاء التي تمر بها الذات. فالرصاصة التي ستُطلق على الآخر بصفته مُجسّداً للباطل والشرّ من ثمّ، وفقاً لاعتبارات معادلة (الحق = الخير / الباطل = الشرّ)، ستصير رصاصة نقدية بحقّ الذات ابتداءً، فالخطأ مُلازم للإنسان وعليه أن يبدأ بتصحيح أخطائه قبل التعييب على أخطاء الآخرين.
مرة ثالثة، دعونا نُعيد ترتيب الأمور بطريقةٍ تليق بـ الباطل كما أطرحه هَهُنا، بعيداً عن مواضعاته القارّة في أذهان النّاس، لناحية اقترانه بالشرّ؛ لذا ينبغي الابتعاد عنه، لأنه يضرّ بمسلكية الإنسان المعرفية ويحطّ من قيمته الأخلاقية.
الباطل كما أطرحه هَهُنا لا يقابل الحقّ كفكرةٍ نِدية، حيث نُعيد إنتاج الأفكار أعلاه، تحديداً التي وردت في بداية مقالتي. وإذا كان لي أن اختصره -بما يستلزمه هذا الاختصار من جدلٍ مُتنامٍ ودؤوب، ليس مني لوحدي بل من الكُلّ، لا سيما مِمّن لديهم اشتغالات معرفية لتطوير الإنسان أخلاقياً-، فإني أقول:
الباطل المُقترح هَهُنا هو بحثٌ دائم ومتواصل عن أخطاء الذات، لغاية الحدّ منها، لذا هو بمثابة الأركيولوجيا الأخلاقية، لناحية تبصّر الذات والتنقيب في داخلها عن كلّ ما من شأنه أن يضرّ بالإنسان، فهو يشتغل على فكرة تطهير الذات، لا على فكرة تطهير الآخر. فالانشغال الكبير الذي يضطلع به هذا الباطل المقترح، هو انشغال داخلي بالدرجة الأولى؛ أي متعلق بالذات أساساً، لناحية تطهيرها من كلّ الشوائب والعوالق والأشنّات التي تعيق مسيرتها الإنسانية. فالكفاح الأساسي في تداعيات الباطل الذي اقترحهُ هو كفاحٌ بإزاء الذات، لذا سيتجلّى على هيئة تحرير لهذه الذات من نواياها السيئة والمؤذيـة تجاه الآخر.
وعليه، فالأخطاء التي سيلاحظها الإنسـان لدى الآخر، سيكون قد لاحظها لدى ذاته أولاً، وعمل على التطهّر منها، بما يمنع اندفاعاته السلبية تجاه الآخر، سواءً في مقام الفكر أو في مقام الواقع. بما يُثبّت الإنسان -كنتيجةٍ لما سبق- في العالَم كنسقٍ اخلاقي. فالحفـر الأخلاقـي داخل الذات، وذلك ليس بالتنقيب عن المعادن النفيسة فيها، بل المعادن الخسيسة بالأحـرى، لغاية الحدّ من انتشارها أولاً، والتخلّص منها ثانياً، حيث يتحوّل الإنسان بالتقادم إلى معدن نفيس، لا هَمَّ له هُنا والآن، إلا الصالح الإنساني، والارتقاء به وهو يتدافع لبناء الحضارة الإنسانية.
الأخطاء التي سيلاحظها الإنسـان لدى الآخر، سيكون قد لاحظها لدى ذاته أولاً، وعمل على التطهّر منها، بما يمنع اندفاعاته السلبية تجاه الآخر
وعليه، فالحفرية التي تشتغل عليها أطروحة الباطل الذي اقترحه هنا، هي حفرية أخلاقيـة داخليـة بالدرجة الأولى، فهي لا تتجّه إلى العالَم الخارجـي إلا كمرحلةٍ لاحقة، ليس لغاية الخصام والصدام معه، بل لأجل التواصل معه تواصلاً حميماً، يُفْضِي إلى جعل الإنساناً إنساناً بكلّ معنى الكلمة؛ أي بجعل الإنسان المُغاير على إطلاقه، الإنسان المُغاير له في الرَحِم الأمومي، الأسرة، المجتمع، الوطن، القومية، الآيديولوجيـة، الطائفـة، العقيدة... شريكاً في المُنجَز الحضاري الخيِّر، سواء في المُدخلات أو المُخرجات.
وأنا إذ اقترح صراعاً على الباطل، بصفته حفرية أخلاقية أساساً، فلأنّي أعي تماماً أن التطوّر الكبير للإنسان في هذا العالَم، ليس ذلك التطوّر المعرفي الذي جعل منه كائناً عاقلاً بلغة الفلاسفة، بل هو التطوّر الأخلاقي، الذي يمكن أن يجعل منه مُنافساً نبيلاً على الإنسانية أساساً. فالحراك الذي يتحرّك به الصراع على الباطل كما اقترحه، هو حراك إنساني بالدرجة الأولى، ولا يجعل من الإنسان أكثر تميّزاً عن الحيوانات، وذلك بأنسنة وحشيته وغرائزه غير العاقلة، بل تجعله مائزاً على المستوى الإنساني، فهو يتحرّك ضمن نسقية (أكثر/ أقل) الإنسانية، لا ضمن نسقية (أكثر إنسانية/ أقل حيوانية)، بما يتحايل تحايلاً عبقرياً على فكرة إراقة الدماء وهدر حيوات الناس، وفرزهم إلى أخيار وأشرار. فهو يشتغل لتطوير ذاته، وذلك بتطهيرها من كل عوالقها، بما يؤدي إلى تخلّصه من عوالق وأشنّات الآخر في الوقت ذاته، فلا يعود ثمة وقت للكراهية والحقد وإراقة الدماء، بل الوقت لمزاحمة الناس مزاحمة إيجابية تصبّ في صالحهم أولاً وأخيراً.
لكن التحقّق في ذلك الصراع الإيجابي لن يتأتّ بسهولة ويُسر، لأن الأنماط العقلية القارة والثابتة والمُنحازة هي لفكرة الحق، لذا ستكون مهمة شاقة وعسيرة -لكنها تليق بالإنسان الخيِّر- أن يشرع المرء بالتأسيس لنسقٍ مُخالف لما اعتاد عليه، ليس لغاية الاختلاف، بل لغاية الانخلاع عن سياقات حطمّت حيواته وحيوات مليارات من البشر، وقادتهم إلى حروب دامية تحت شعار الحق لنا ومعنا. فالشروع في التأسيس لنسقٍ جديد يقارب الذات مقاربة أخلاقية، قبل أن يُقارب الآخر مقاربة معرفية، سيعني التحلّل من أحمال كبيرة أثقلت كاهل الإنسانية جمعاء.