"الخروج من العتمة: خمسون عامًا لاستشراف الأفق" لعبد الحميد المحادين
فئة : قراءات في كتب
تقديم كتاب "الخروج من العتمة: خمسون عامًا لاستشراف الأفق" لعبد الحميد المحادين
كتاب "الخروج من العتمة: خمسون عاما لاستشراف الأفق"لعبد الحميد المحادين، صدر ببيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2003.
بيّن الكاتب منذ مقدمة كتابه، أنّه نتيجة جهد تراكم منذ سنة 1969؛ أي إنّه حصيلة مؤلفات سابقة في موضوع التعليم بالبحرين. وقد قسّم كتابه حسب مراحل التعليم بدءًا بالتأسيس ثم الانفتاح ثم التحديث ثم التوطين. وهذه المراحل استغرقت نصف قرن من الزمان؛ أي إلى حدود سنة 1970.
وقد أقر الباحث بتواضع بوجود مصنفات سبقته إلى دراسة موضوع التعليم الحديث بالبحرين على غرار كتب الشيخة مي بنت محمد آل خليفة.
تطرق الباحث في التمهيد إلى التعليم بالبحرين قبل القرن العشرين، وفي الفصل الأول تطرق إلى مرحلة التأسيس؛ أي تأسيس التعليم النظامي انطلاقًا من تأسيس مدرسة الهداية سنة 1920.
وتحدث في هذا السياق عن عوامل نشأة هذا التعليم الحديث، وكان العامل السياسي أحد العوامل المحوريّة التي أسهمت في قدح شرارة المسعى التحديثي للتعليم البحريني. "فإن كان التعليم مظهرًا من مظاهر السياسة والاقتصاد والاجتماع في أيّ بلد في العالم، فقد كان في البحرين بشكل أوضح وأظهر وأجلى، ولقد تداخلت العلاقات من وجهة سياسيّة وأثّرت في التعليم بشكل أو بآخر".[1]
وركّز في هذا المجال على دور حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آنذاك، لكن كلّ الخصال التي توفّرت في شخصيّة الشيخ عيسى السياسية ليست كافية في نظرنا لتفسير سرّ رعايته للتعليم العصري، وإنّما ينبغي أن نضيف إليها خصلةً لا يكون الحاكم بغيرها رجل دولة ألا وهي الإنصات لنبض الواقع والمجتمع والتفاعل مع تيّاراته ومع عصره. لقد كان الشيخ عيسى مطّلعًا على أنشطة المثقّفين البحرينيّين في زمنه وعلى سعيهم إلى الاستفادة من آراء روّاد الإصلاح في البلدان العربيّة، وخاصّة في مصر وكان "يحاول أن يتفاعل مع هذه التوجّهات الإصلاحيّة".[2]
ومن العوامل التي أسهمت في نشأة التعليم الحديث العامل الثقافي والاجتماعي؛ فالمجتمع البحريني لم يكن معزولاً عن محيطه العربي والإسلامي، ونخبته العلميّة من الأدباء والمثقّفين كانت تتواصل مع الحركات الفكريّة والأدبيّة في البلدان العربيّة خاصّة. ومن تجلّيات هذا التّواصل حضور الصحف والمجلات العربيّة "التي كانت تصل عن طريق الهند بواسطة تجّار اللؤلؤ. وأوّل ما وصل منها كان المقتطف من القاهرة والعروة الوثقى الصادرة عام
وكان تأسيس أندية ثقافية وأدبية بالبحرين من الأحداث البارزة التي نشطت الحركة الثقافية بالبحرين في أوائل القرن العشرين ووجهتها نحو التعريف بالمستجدات الإصلاحيّة والتجديدية في البلدان العربية والإسلامية. ومن أبرز هذه الأندية، نادي إقبال أوال الذي تأسس سنة 1913 على يد مجموعة من شباب المنامة.
ومن النوادي المهمّة أيضاً في تلك الفترة النادي الأدبي الذي تأسس في المحرّق سنة 1920. ومن أهمّ أنشطته التي أسهمت في تأصيل البعد الإصلاحي والتحديثي للحركة الثقافية والتعليمية في البحرين في أوائل القرن العشرين استضافته لعدد من العلماء المصلحين؛ منهم أمين الريحاني وعبد العزيز الثعالبي. وكان دور النادي عنصرًا تكميليًّا يضاف إلى الدور المدرسي الذي تقوم به المدرسة، فهو يوفّر للتلاميذ وسائل المطالعة من كتب ومجلات، ويمكّنهم من الاحتكاك برجال العلم والمعرفة من داخل البحرين وخارجها، ويزرع فيهم حبّ الوطن وخدمته، وهو ما نستخلصه من إحدى شهادات عضو من أعضاء النادي الأدبي هو أحمد العمران.[4]
وقد تطرق الكاتب إلى ظروف انطلاق تأسيس المدرسة النظامية الأولى بالبحرين، وكان ذلك خلال جلسة العمل الأولى لهم التي عقدت برئاسة الشيخ عبد الله بن عيسى بتاريخ 13 ربيع الثاني 1338 الموافق للرابع من يناير 1920. وقد حضر هذه الجلسة 47 من وجهاء البحرين ومن نخبتها المثقّفة. يروي عبد الحميد المحادين أنّ الاجتماع "كان بدار الشيخ عبد الله بن عيسى آل خليفة وبرئاسته. وأثناء الاجتماع دخل مندوب الملك حاملاً مرسومه الكريم لنجله رئيس الجلسة، فتناوله وفضّ أختامه وأمر من يتلوه على مسامع الحاضرين، فتناوله يوسف كانو وهذه صورته:
بسم الله الرحمان الرحيم
من عيسى بن علي الخليفة إلى حضرات الأجلاء الكرام الذوات المجتمعين في ما يرضي رب العالمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد فإني أنهي إليكم ابتهاجي العظيم وشكري الجزيل على اجتماعكم واتفاقكم في سبيل هذا العمل الخيري الجليل سائلاً المولى جل شأنه أن يوفّق الجميع لما فيه رضاه يوم تلقاه إنّه سميع مجيب. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في 13 ربيع الثاني 1338 (ويوافق 4 يناير 1920) فشكر الحاضرون تعطّف الملك المعظّم ودعوا له بدوام التأييد".[5]
هكذا إذن، كانت أحداث التعليم الأولى في عهد الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وهو الذي جعل ابنه عبد الله يمثّله على أرض الميدان من أجل تحقيق مشروع المدرسة الأولى الحديثة فعليًّا، لكنّه كان حاضرًا في المحطات الرئيسة لهذا الحدث التاريخي؛ أي إنشاء أوّل مدرسة حديثة في البحرين. وهذا ما تجلّى في حضوره يوم الاحتفال بوضع الحجر الأوّل لهذه المدرسة يوم الاثنين الرابع من شهر ربيع الأول سنة 1339 هـ (الموافق لـ 15 نونبر 1920).
ونقف في هذا الصدد عند شخصية مهمة هي الشيخ المالكي قاسم بن مهزع الذي تصدّى لبعض علماء الدّين الذين عارضوا إنشاء مدرسة الهداية. فلمّا ظهرت لدى بعض وجهاء البحرين "فكرة تأسيس تعليم حديث في البحرين واجهوا معارضة حادّة، حتّى أنّ الشيخ الصحاف إمام أحد المساجد خطب محذّرًا من التعليم ومدعيًا أنّ التعليم ضدّ الدين بل هو نقيض الدّين... مما جعل الشيخ قاسم بن مهزع يعلن تأييده للتعليم بأن ردّ على الشيخ الصحّاف معتبرًا ما قاله تناقضًا بين الدّين والعلم".[6]
إنّ هذا الموقف الجليل يجعل من القاضي قاسم بن المهزع شخصيةً رياديةً في مجال بروز التعليم النظامي الحديث لما كان يتمتّع به من سلطة دينيّة منحته هيبةً لدى الخاصة والعامة. وقد قدّمت هذه الشخصية مساعدة أساسيّة للقائمين على مشروع إنشاء المدرسة في مقابل أطراف معارضة لها من المؤسسة الدينية. وقد تجلّت هذه المساعدة من خلال محضر الجلسة التمهيدية المؤرخة بـ 19 ربيع الأول سنة 1338 الموافق لـ 5 دجنبر 1919، فقد وجدت "معارضة للمشروع لم يغفلها الحاضرون، بل التفتوا إليها وعلّقوا الجلسة حتّى يزيلوا من أذهان المعترضين ما علق بها من سوء فهم لمشروع التعليم وتوجهاته ولما أوجسوا من نتائجه. وكان لا بدّ لإزالة هذا التوجّس الذي استند أصحابه إلى أسانيد دينية من اللجوء إلى جهة مرجعيّة دينية تدافع عن هذا المشروع وتزيل من ذهن العامّة مخاوفهم وتطمئنهم، ومن غير قاسم المهزع آنذاك لكي يقول كلمته الفاصلة في هذا الأمر، وهو الموثوق من العامة والخاصة، ولقد كانت المعارضة الدينية كفيلة بوأد المشروع في مهده لو تركت على رسلها".[7]
ومن الرواد الأساسيين للتعليم الحديث في البحرين فضلاً عن الشيخ عبد الله بن عيسى آل خليفة والشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة -ذلك أنّ الأوّل كان رئيساً للإدارة الخيرية للتعليم والثاني كان نائباً لرئيس هذه الإدارة - نجد السيد عبد الوهاب بن حجي بن أحمد الزياني (1863-1825م) النائب الثاني لرئيس الإدارة الخيرية للتعليم. وقد كان يشتغل بتجارة اللؤلؤ لكنّه قبل ذلك كان مدرّسًا وإمامًا لأحد المساجد. وربّما يكون وراء استقدام المدير الرابع لمدرسة الهداية الخليفية، وهو عثمان الحوراني إلى البحرين وذلك سنة 1926 على الأرجح[8]. وتذكر عدة وثائق أنّ الشيخ عبد اللطيف الصحاف الذي كان معارضًا لمشروع إنشاء المدرسة النظامية الأولى في البحرين عرّض باسم عبد الوهاب الزياني لكونه العامل النشيط فيه.[9]
ومن الروّاد أيضا يوسف بن عبد الرحمان فخرو (1873م-1952م)، وقد كان أمين صندوق الإدارة الخيرية للتعليم ومحاسبها، وكان من أنشط الأعضاء. و"ذات الوقت كان على علاقة غير ودية مع تشارلس بلجريف الذي كان دائمًا في كتاباته وتقاريره السنوية لا يخفي عدم ارتياحه من يوسف فخرو. وكان لا يترك أيّة مناسبة إلاّ ويشهّر بالإدارة الخيرية بشكل عام وبيوسف فخرو بشكل خاص".[10]
وقد اعتبرت السيدة مريم عبد الله الزياني أوّل مدرّسة بحرينية تلقي دروساً في مدرسة البنات بالمحرق، ولها الأثر في تشجيع الفتيات على الالتحاق بتلك المدرسة.[11]
هذه بعض الإضاءات الخاصة بنشأة التعليم الحديث بمملكة البحرين أردنا التوقف عندها، لأنّها تمثل تباشير الخروج من الظلمة، وترمز إلى بداية طريق المساعي الحثيثة التي بذلت للالتحاق بركب المجتمعات المتقدمة وما من تقدم دون نهضة تعليمية ووعي بأن تحديث التعليم هو أكثر الأدوات فعالية للنمو والتطور في كل مستويات الحياة.
[1]- عبد الحميد المحادين، الخروج من العتمة: خمسون عاما لاستشراف الأفق، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،(2003)، ص 31
[2]- عبد الحميد المحادين، المرجع نفسه، ص 32
[3]- عبد الحميد المحادين، المرجع المذكور، ص 34
[4]- يقول أحمد العمران: "وقد عني الأستاذ العتيقي بنخبة من طلاب المدرسة وعددهم خمسة أو ستّة فألحقنا كأعضاء في النادي الأدبي في المحرق الذي تأسس عام 1920. وكانت تقام فيه الحفلات والندوات الأدبية والاجتماعات الثقافية وتعليم الكبار... واستفدنا من المدرسة نهارًا ومن النادي ليلاً، وكنا ننتفع بمكتبة النادي الأدبي وتبرعنا لتدريس بعض الأميين مستفيدين من قاعات النادي. لقد كانت المحرق مركزًا لنشر العلم والثقافة نهارًا وليلاً"، عبد الحميد سالم المحادين (2007)، من ذاكرة البحرين، بيروت، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ص 7
[5]- عبد الحميد محادين، الخروج من العتمة، ص 40
[6]- عبد الحميد المحادين، من ذاكرة البحرين، ص 157
[7]- عبد الحميد المحادين، الخروج من العتمة، ص 39
[8]- المرجع نفسه، ص 131
[9]- المرجع نفسه، ص 39
[10]- المرجع نفسه، ص 86
[11]- المرجع نفسه، ص 412