تقديم كتاب "الزّاوية والحزب: الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي"
فئة : قراءات في كتب
"الزّاوية والحزب: الإسلام والسياسة في المجتمع المغربي"
باسم المكيّ
أصدر الباحث المغربي نور الدين الزّاهي سنة 2001 كتابا بعنوان "الزاوية والحزب: الإسلام والسّياسة في المجتمع المغربي". وقد تتالت بعد ذلك، الطبعات لتصل إلى الطبعة الثالثة الصادرة بدار أفريقيا الشّرق- المغرب سنة 2011. نور الدين الزّاهي باحث وأكاديمي مغربي من مواليد سنة 1962 متحصّل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة والعلوم الإنسانية بجامعة الرباط، وحائز على الدكتوراه في علم الاجتماع. وقد نال كتابه هذا، جائزة الأطلس الكبير سنة 2002 من مصلحة التعاون الثقافي للسفارة الفرنسيّة بالمغرب. يشتمل الكتاب على مدخل وثلاثة فصول كبرى؛ وقد احتلّ الفصل الأوّل المعنون بـ"وعي التأسيس والانفصال" الحيّز الأكبر من الكتاب؛ لأنّه امتدّ على مئة وعشرين صفحة؛ أي ما يعادل نصف حجم الكتاب. في حين أنّ الفصل الثاني الذي جاء تحت عنوان "تجلّيات التغيّر في سياق الاستمراريّة" تألّف من أربعين صفحة. ولا يختلف عنه الفصل الثالث الممتدّ على خمسين صفحة تقريبا، وقد عنونه الباحث بـ"تجلّيات الاستمراريّة في المتغيّر".
أكّد المؤلّف منذ فاتحة الكتاب أنّ الزاوية قد أثّرت بعمق في تشكّل الحزب السياسي بالمغرب، إذ اضطلعت هذه المؤسسة بأدوار مختلفة في المجتمع المغربي، وعملت على إعادة هيكلته وتحديد سمات مؤسساته المستقبليّة منذ أواخر القرن التاسع عشر. فقد ظهر نموذجان بارزان للزاوية؛ هما الزاوية الدرقاويّة والزاوية الكتّانيّة. نشطت الزاوية الدرقاويّة في المجال القروي، وشجّعت أغلب فروعها الحركات القرويّة على التمرّد والمقاومة، وحثّت المغاربة على استعادة تراثهم الجهادي، وقد بلغ حجم تأثيرها درجة نقد شرعيّة السلطان السياسيّة والدينيّة. أمّا في المجال الحضريّ، فقد برزت الزاوية الكتّانيّة بمدينة فاس. وعلى الرغم من حداثتها مقارنة بزوايا أخرى كالقادريّة والوزّانيّة، فإنّها استطاعت الانتشار معتمدة على إرث الزاوية الدرقاويّة. وقد اتّخذت من الدروس الدينيّة قناة تواصل مع مريديها، حتّى تنمّي قدرتهم المعنويّة على مواجهة المستعمر. ولئن اختارت الزاوية الدرقاويّة العمل خارج دائرة السلطان، فإنّ الزاوية الكتّانيّة اشتغلت داخل المؤسسة المخزنيّة، وعملت على التغيير ضمن الدائرة السلطانيّة، غير أنّ السلطان عبد الحفيظ قد أجهض مكاسبها السياسيّة ونضالها الدستوري بعد إخلاف عهده معها بإقامة نظام سياسي دستوري مستقلّ عن الاحتلال. وقد أنهى صراعه السياسي معها بقتل زعيمها محمّد كبير الكتّاني تحت غطاء دينيّ سلفيّ.
انطلق المؤلف في الفصل الأوّل من سِيَر المناضلين السياسيّة لرصد تمثّلات النخبة السياسيّة والكشف عن الآليات التي حكمت الانتقال من مؤسسة الزاوية إلى مؤسسة الحزب، غير أنّ هذه السير، في نظره، تشوبها عوائق منهجيّة عدّة أهمّها الانزلاق نحو الإيديولوجيا البيوغرافيّة التي تمجّد الذّات، وتبرّر المواقف وتوظّف الأحداث الماضية لكسب رهانات سياسيّة في الحاضر. كما أنّ الحضور المكثّف لاسم صاحب السيرة يدفع القارئ إلى خلق تماثل بينه وبين تاريخه الأسري وموقعه الديني والسياسي. فضلا عن أنّ السيرة المكتوبة من قبل شخص غير صاحب السيرة يفضي إلى العديد من المزالق من قبيل التزيّد وتأويل الأحداث تأويلا يخدم صاحب السيرة وكاتبها. ومن أجل تجاوز هذه المآزق، اقترح المؤلف القيام بعمليتين: تتمثّل العمليّة الأولى في إعادة بناء كتابات سير المناضلين. أمّا العمليّة الثانيّة، فتكمن في الكشف عن البنية العميقة المحرّكة لهذه الكتابات. وقد أفضت عمليّة النظر في هذه السير إلى تبيّن انقسام النخب الوطنيّة المغربيّة من الظاهرة الاستعماريّة إلى ثلاثة أصناف؛ أوّلها واع بضرورة العمل ضمن دائرة الحماية شأن الحاج عمر عبد الجليل الذي كان يطالب بالإصلاحات تمهيدا للحصول على الاستقلال، وثانيها يمثّل أغلبيّة النخبة المغربيّة، وقد تعامل مع الحماية دون مساءلة حضورها بالمغرب، سواء أكانت فرنسيّة بالجنوب أم إسبانيّة بالشمال. أمّا الصنف الثالث، فقد كان واعيا بعمل النخبة ضمن دائرة الحماية، ولكنّه لجأ إلى تبرير مواقفها وتأويل تصوّراتها شأن عبد الكريم غلاّب الذي علّل لجوء النخبة الوطنيّة المغربيّة إلى المطالبة بالإصلاحات عوض المطالبة بالاستقلال إلى حداثة الحركة الوطنيّة والخوف من ردّة فعل المتعاطفين مع الإدارة الفرنسيّة، فضلا عن أنّ الوضع الدولي كان يصبّ في صالح فرنسا. وقد كان تمثّل النخبة المغربيّة لمؤسسة المخزن متشابها تقريبا. فقد كان الملك عند جميع الأحزاب السياسيّة رمزا للسيادة الوطنيّة، ولذلك حرص الزعماء الوطنيّون على تمتين علاقتهم بصاحب العرش؛ غير أنّنا نلحظ تباينا كبيرا في مواقف النخبة المغربيّة تجاه الزاوية. فلئن كان علاّل الفاسي ومحمّد بلحسن الوزّاني وقدّور الورطاسي قد حمّلوا الزوايا مسؤوليّة تردّي الأوضاع بالمغرب في جلّ المجالات، فإنّ فريقا آخر من النخبة مثل التهامي الوزّاني ومحمّد داود قد رفض الهجمة العنيفة على الزوايا، وعمل على التوفيق بين ممارسة الطقوس الصوفيّة وأداء العمل السياسي. وهكذا يمكن القول، إنّ أيّة قراءة لتمثّلات النخبة المغربيّة على أساس الانسجام لهو ضرب من ضروب التبسيط وإخفاء المسكوت عنه في لحظة تأسيس الوعي الوطني المغربي. فضلا عن أنّ اختزال الحركة الوطنيّة المغربيّة في مرجعيتين شرقيّة وأخرى غربيّة يعتبر أمرا مجانبا للصواب.
من خلال تتبّع السياق الاجتماعي والسياسي، نتبيّن أنّ النخبة المغربيّة لم تستعمل مصطلح الاستعمار إلاّ في سياق حديثها عن الزوايا واتّهامها بالتواطؤ مع الحماية. وهذه مغالطة عملت النخبة المغربيّة على ترسيخها في الأذهان، حتى تُظهر الطرق والزوايا عدوّة للعقل والتقدّم. وفي الحقيقة، فإنّه لا اختلاف بين موقف النخبة والزوايا من الاستعمار والحماية. فإذا كانت الزوايا قد عوّضت المقاومة بالغيب الديني، فإنّ النخبة السياسيّة استبدلتها بالغيب السياسي. ولعلّ النخبة المغربيّة في محاربتها للظاهرة الطرقيّة كانت تحاول منع تحوّل الإسلام الطرقي إلى إسلام جهادي مهدوي يقتحم المدن، وهو ما يفسّر مثلا موقفها السلبي من الحركات القرويّة. لقد أبانت الدراسات السوسيولوجية للزوايا أنّ الإسلام الطرقي عمل على ضرب أهداف الظاهرة الاستعماريّة ومقاومة عمليّة اقتلاع الفرد من وسطه وغرسه في عمقه الباطني لذلك يعدّ الربط بين الاستعمار وما تنشره الزوايا من مظاهر التخلّف ضربا من المغالطة سعت النخبة إلى ترسيخها في الأذهان، وهي مغالطة أملتها عليها مصلحتها المشتركة مع الحماية من جهة، ومع السلطان من جهة أخرى. لقد اتّسم موقف النخبة بالذّكاء والبرغماتية السياسيّة؛ لأنّها أدخلت السلطان في إطار مشروعها السياسي واستغلت "قداسته" لمواجهة إرث الزوايا الضخم. وقد خوّل لها هذا السلوك توطيد أقدامها داخل بنية المجتمع، ولكنّها في المقابل ظلّت تابعة للسلطان. هكذا، حرصت النخبة على الانخراط داخل "إسلام رسميّ" يمثّله الملك وبحثت عن تحييد دور الإسلام الطرقي القابل في كلّ لحظة أن يتحوّل إلى إسلام جهادي.
سعى الباحث في محطّة ثانية إلى تبيّن تجلّيات تغيّر التمثّلات في سياق الاستمرار؛ أي البحث عن تمثّلات النخبة اللاشعوريّة للعمل السيّاسي. وتنقسم هذه التمثّلات إلى مستويين: ففي المستوى الأوّل سعت النخبة إلى استبعاد حركة المقاومة القرويّة من مجال العمل السياسي، وقد أوّلت مثلا تجربة عبد الكريم الخطابي لصالحها وقلّصت من إشعاعها بزعمها أنّ جيل السلاح قد أنهى مهمّته، وأنّ جيل المقاومة السلميّة قد سطع نجمه وصار البديل عن المقاومة المسلّحة، وهي بهذا كرّست فكرة المغرب الجديد وفصلت العمل العسكري عن العمل السياسي، وضمنت مركزية المخزن في العمل السياسي. أمّا المستوى الثاني من تمثّل النخبة للعمل السياسي، فإنّه اهتمّ بالمرتكز اللاشعوري الذي جعل النخبة تربط السياسة بالمدينة لا بالقرية. وقد تكفّل السلطان بالحفاظ على هذه الوحدة في المدينة، وصار الخروج عن سلطته مروقا عن الدين. والحاصل من كلّ هذا، أنّ النخبة استقت شرعيتها من السلطان الذي استمدّ بدوره شرعيته من التصوّر الإسلامي السنيّ.
بعد ذكر الأسس التنظيميّة التي أرستها النخبة المغربيّة مثل المدارس والجمعيّات، انتقد المؤلّف الأطروحات التي تناولت مسألة الحزب المغربي تناولا سطحيّا. فقد رفض أن يصنّف الحزب المغربي ضمن خانة الزوايا، كما تصدّى للقراءات التي تعتبره غير جدير باسم الحزب. ولم يطمئنّ أيضا للرأي الذي ينفي صلة الحزب بالزاوية. لقد أثبتت النخبة كفاءتها بتحويلها الزوايا إلى مدارس ومطالبتها بإصلاح التعليم في جامع القرويين. وعمل النخبة هذا لم يستهدف النسق الثقافي والقيمي الذي يقوم عليه الإسلام الطرقي بقدر ما استهدف قداسة العلماء والأولياء وافتكاك السلطة الرمزية منهم. وقد أثبتت النخبة من خلال العمل الجمعياتي قدرتها التنظيميّة. ففي ظلّ منع الاستعمار لها من حقّ تأسيس مؤسسات حزبيّة وسياسيّة وجدت في الجمعيّات متنفّسا وهيكلا تنظيميّا نهض بدور أساسي في توحيد الصفّ وتعبئة الجماهير. وقد مثّلت هذه التنظيمات الأرضيّة الملائمة في ما بعد لتشكّل التنظيم السياسي بعد أن نالت النخبة الحظوة الرمزية. وقد اتّخذت أوّل نواة سياسيّة سريّة اسم الزاوية ثمّ أسماء أخرى، مثل الطائفة ثمّ استقرّت تسمية الحزب خاصّة في الحزب الوطني. ولئن برّر بلحسن الوزّاني لجوء النخبة إلى مصطلحات الزاوية والطائفة بالحرص على خلق التجانس بين التقليديين والحداثيين، فإنّ المؤلّف تصدى لتبريراته وفنّدها باعتبار أنّ النخبة الوطنيّة على اختلاف ثقافة أفرادها قد خضعت لأساس ثقافي واحد هو الأساس الإسلاميّ. ولم تكن فكرة فصل الديني عن السياسي مطروحة، بل إنّ منطلق مشروع النخبة السياسيّة لم يخرج عن دائرة السلطان الجامع للسلطة الدينيّة والسياسيّة، فضلا عن أنّه لم يخرج عن الدائرة التي رسمتها له الحماية. لقد أتاح ترجمة مصطلح الديمقراطيّة بمصطلح الشورى للنخبة التّموقع السيّاسي، وأخذ مكانة أهل الحلّ والعقد الذين يعتمدهم السلطان في إدارة شؤون البلاد والعباد. ومن هذا المنظور، أضحت عقلانيّة النخبة صوريّة وأداتيّة تختزل الديمقراطيّة في الشورى وإرادة الشعب في الإجماع ولا تختلف إذّاك مطالب النخبة عن مطالب علماء جامع القرويين ولا شيوخ الزوايا. فالأطر التنظيميّة التي لجأت إليها النخبة هي ذاتها التي توختها الزوايا كما أنّ عملها داخل دائرة الحماية والسلطان، إن هو إلاّ اختيار تكتيكيّ غايته تحقيق الحظوة داخل المجتمع والتأثير فيه؛ غير أنّ العلاقة بين النخبة والمجتمع لن تظلّ أحاديّة؛ فالجدليّة تفترض التأثّر والتأثير وقد بدا هذا الأمر واضحا في وعي النخبة وسلوكها، وتأكّد خاصّة من خلال العودة إلى البنية التنظيميّة للزوايا.
وفي معرض البحث عن تجلّيات الاستمراريّة في سياق المتغيّر، سعى المؤلف إلى تبيّن مظاهر توظيف النخبة للموروث الدينيّ في العمل السياسي؛ فقد اعتمدت النخبة قاموسا شديد الصلة بالحقل الدلالي الديني مثل اتّخاذ أسماء حركيّة مقتبسة من أسماء أبطال الإسلام، كما لاحظ توظيف المصطلحات الإسلاميّة من قبيل الجماعة أو الإخوان. فليس من الغريب أن يلقّب علاّل الفاسي بالشيخ أو أن يستخدم بلحسن الوزّاني لقب سيدي بلحسن الوزّاني. ولم ينفصل المعجم الديني عن الفضاء السياسي في المغرب. فقد شكّل المسجد الفضاء الأساسي لإلقاء الخطب السياسيّة والتحفيز على الاحتجاجات. وهكذا، وجدت النخبة في المسجد الإطار المناسب لإضفاء القداسة على عملها السياسي. ولم يكن المستعمر المسؤول الوحيد عن هذا الوضع بمنعه الأحزاب من النشاط، بل إنّ النخبة ذاتها قد اختارت الفضاءات الدينيّة لممارسة العمل السياسي. لقد كانت النخبة باتّخاذها المساجد ومحافظتها على اللباس التقليدي المغربي والتزامها بمظاهر الهويّة الإسلاميّة تسعى إلى احتكار الرأسمال الرمزي في مجتمع ترتكز أسسه بالدرجة الأولى على المرجعيّة الدينيّة.
يتّضح من كلّ ما سلف ذكره، أنّ النخبة الوطنيّة قد ظلّت حبيسة النسق الديني والثقافي الإسلامي وبقيت مشدودة في بنية أفكارها إلى الماضي. ولعلّ هذا يتجلّى خاصّة في طبيعة الآليات التي انتهجتها وفي الهياكل التنظيميّة التي توسّلتها وفي قنواتها الاتّصاليّة وفي فحوى خطابها.
يتأكّد هذا الاستنتاج عند تأمّل آليات الزّعامة وأسس المشيخة التي سلكتها النخبة. وفي هذا السياق، دحض المؤلّف أطروحة "روبير ريزيت" "Robert Rezette"؛ فقد صنّف "ريزيت" الحزب المغربي في خانة حزب الأطر. وقد علّل الزاهي رفضه لهذه الأطروحة بانتفاء شروط الانتخاب والتمثيليّة في الحزب المغربيّ؛ لأنّ علاّل الفاسي على سبيل المثال لم يكن رمزا سياسيا طبقيّا بقدر ما عدّه المغاربة رمزا ثقافيا دينيّا. فهويّة الحزب المغربي محكومة بسياقها الاجتماعي التاريخي والثقافيّ للمجتمع المغربي والإسلاميّ في الوقت نفسه. ويسجّل الدين حضوره بقوّة في المجال السياسي، وهو ما يفضي إلى قيام الزعامة السياسيّة على الطاعة والخضوع. لذلك، خيّر المؤلف تصنيف الحزب المغربي ضمن حزب الزعماء الذي سيتحوّل تدريجيّا إلى حزب الزعيم الواحد. وقد عزّز رأيه بالإشارة إلى أنّ الانشقاق الحاصل في كتلة العمل الوطني سنة 1937 سببه الصراع حول زعامة الحزب لا الصراعات الإيديولوجية الطبقيّة. فطبيعة السياق المُؤطِّر لتمثّلات الزعماء السياسيين وسلوكهم لا يسمح إلاّ بالالتفاف حول زعيم واحد والسياق ذاته ينسحب على الملوك ومشايخ الزوايا. ومثل أنّ الزعامة السياسيّة محكومة بالنسق الثقافي والديني، فهي كذلك غير منفصلة عن سياقها المجتمعي؛ فحتّى الأحزاب الغربيّة الحديثة لم تقطع مع العلاقات الاجتماعية التقليديّة، إذ إنّ كلّ زعيم يستند إلى نسق مرجعي ورموز تاريخيّة، وهو فرد من أفراد المجتمع قبل أن يكون رجل سياسة، غير أنّ ارتباط السياسي بالاجتماعي يزداد عمقا في المجتمعات الكليانيّة الشموليّة. لذلك، يستثمر الزعيم في هذه المجتمعات الوعي الجمعي ويتماهى معه حتّى يصبح رمزا له. وهذا ما يفسّر تشبّه زعماء النخبة الوطنيّة المغربيّة بقيادات الإسلام واستلهامهم أنموذج القيادة النبويّة. فتتماهى حينئذ ذات الزعيم مع الحزب، ويصبح الحزب في ما بعد مغلقا ومقدّسا لا يقبل الاختلاف مع الزعيم.
إنّ الحظوة الرمزيّة التي تمتع بها جيل النخبة لم تكن من إنتاجهم الخاصّ شأنهم في ذلك شأن السلاطين وشيوخ الزوايا، وإنّما استمدوها من الرأسمال الرمزي المبنيّ على جملة من العناصر كالانتماء الحضري. فالمدينة ليست كيانا عمرانيا فحسب، بل هي كيان تاريخي أيضا يؤهل الأفراد للقيادة السياسيّة. وقد استثمر زعماء فاس هذا الإرث للتقرّب من السلطان من ناحية، ولقيادة المغاربة سياسيّا واجتماعيّا من ناحية أخرى. ويعضد الانتساب الأسريّ الانتماء الحضري لترسيخ الحظوة الرمزيّة وحسم الزعامة السياسيّة؛ إذ إنّ كلّ زعيم ينطلق من تراثه الأسري الحافل بشرف النسب والكرامة والاحترام والانتماء إلى الطبقة الأرستقراطيّة لتدعيم جدارته القياديّة، وهو أمر شائع أيضا في النظم الغربيّة الحديثة. لكنّ الانتماء الأسري يتضخّم دوره في تحديد زعيم الحزب المغربي، وكذلك ترؤّس مؤسستي السلطنة والزاوية على حدّ السواء.
ويعدّ عاملا المعرفة والخبرة من العناصر أخرى الحاسمة في تحديد الزعيم السياسي، إذ إنّ الانتماء إلى مؤسسة علميّة دينيّة يكفل للسياسي حظوظا أوفر للقيادة. ولعلّ هذا ما رجّح كفّة علاّل الفاسي على كفّة بلحسن الوزّاني ذي التكوين العصري. إضافة إلى أنّ استثمار المعرفة الدينيّة في الخطاب السياسي يضفي على آراء الزعيم ضربا من القداسة واليقينيّة تمكّنه من احتكار العمل السياسي وإقصاء منافسيه. وتتأكّد هذه الزعامة خاصّة في حالتي تعرّض السياسي للسجن أو النفي، إذ يكسبه النضال حظوة رمزيّة تقرّبه من الجمهور، وتحرّك في الذاكرة الجماعيّة تجربة الرسول وهجرته إلى المدينة كما هو الحال بالنسبة إلى علاّل الفاسي الذي تحوّل إلى رمز سياسي مقاوم لفرنسا بعد العودة من منفاه بالغابون، وأصبح مؤهلا أكثر من غيره للزعامة السياسيّة.
والحاصل مّما تقدّم، أنّ النخبة المغربيّة تحركت في إطار الرضوخ للحماية، وهي لم تنافس السلطان حكمه. أمّا في علاقتها بالزاوية، فقد نافستها المرجعيّة وحاولت سحب السلطة من تحت أقدامها دون أن تخرج النخبة عن النسق الثقافي والديني السائد في الثقافة المغربيّة. ولذلك، استثمر الحزب إرث الزاوية وطوّره ليلفّ حوله المغاربة.
لا يمكن في خاتمة هذا العمل، إلاّ أن نثني على الجهود التي بذلها الباحث للكشف عن البنى الثانويّة في تمثّلات زعماء الأحزاب المغاربة للعمل السياسي، وتبيّن الخيوط الناظمة بين آليات عملهم من جهة، وآليات اشتغال الزوايا من جهة أخرى، إلاّ أنّه من الواجب أن نسوق بعض الملاحظات التي شابت البحث: أوّلها أنّ الباحث لم يراع التوازن بين فصول كتابه؛ وذلك حسب رأينا خلل منهجي يفترض تلافيه. وثانيها أنّ الخاتمة العامّة قد غابت عن العمل، على الرغم من إفراد المؤلف خاتمة خاصّة في كلّ فصل. وثالث الملاحظات تتمثّل في أنّ الباحث نفى منافسة الزوايا لنفوذ السلطان إلاّ عند تخليه عن واجب الجهاد، وهذا الأمر لا يمكن الاطمئنان إليه؛ لأنّ الديني والسياسي في النسق الثقافي الإسلامي متلازمان. لذلك، يتّخذ الصراع المؤسساتي دائما الطابع الديني والسياسي في الآن معا. أمّا آخر ملاحظاتنا، فترتبط بالتساؤل عن مدى تواصل هذا الجدل بين الديني والسياسي في تجربة الأحزاب في المغرب. فهل بقي الحزب المغربي مشدودا إلى أطره القديمة، أم إنّ الأحزاب المغربيّة اليوم قد تخلّصت من البنى القديمة، وحدّت من الربط بين الديني والسياسي؟.