تقديم كتاب: تــونـــس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي
فئة : قراءات في كتب
الكتاب الذي بين أيدينا هو بعنوان "تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي"، صدر عن جمعية نادي محمد علي للثقافة العمّاليّة ومركز محمد علي للبحوث والدراسات والتكوين سنة 2012 بمناسبة مرور سنة على "الثورة" التونسيّة، بدعم من مبادرة الشراكة الأميركيّة الشرق أوسطيّة (Mepi)، ومؤسسة فريدريش إيبرت الألمانيّة، ومعهد التعاون الفرنسي، وسفارة فنلندا في تونس.
فهذا الكتاب هو عمل جماعي استشرافي لمستقبل تونس وتجديد مشروعها الحداثي في أفق سنة 2040 في جميع المستويات، ساهم في إنجازه ثلة من الباحثين الأكاديميّين التونسيّين أبرزهم: محمود بن رمضان (عالم اقتصاد)، وعبد القادر الزغل (عالم اجتماع)، وعبد المجيد الشرفي (مختصّ في تاريخ الفكر الإسلامي)، وأحمد ونيس (مختصّ في العلوم السياسية)، وعمر بالهادي (مختصّ في الجغرافيا)، ومصطفى حداد (مهندس)، وأسماء نويرة (مختصّة في العلوم القانونيّة)، وغازي الغرايري (مختصّ في العلوم القانونيّة)، والطاهر بن قيزة (مختصّ في الفلسفة) وغيرهم من الباحثين التونسيين. ويندرج العمل ضمن الدراسات الاستشرافيّة التي ترمي إلى صوغ مجموعة من التنبّؤات المشروطة، والتي تشمل المعالم الرئيسة لأوضاع مجتمع ما أو مجموعة من المجتمعات، وعبر فترة مقبلة تمتدّ قليلا لأبعد من عشرين عاما، وتنطلق من بعض الافتراضات الخاصة حول الماضي والحاضر، ولاستكشاف أثر دخول عناصر مستقبلية في المجتمع. بهذا الشكل، فإنّ استشراف المستقبل لا يستبعد أيضا إمكانيّة استكشاف نوعيّة التغيّرات الأساسية الواجب حدوثها في مجتمع ما وحجمها، حتى يتشكل مستقبله على نحو معين منشود.[1]
ينطلق هذا العمل الاستشرافي من معاينة أكاديميّة لتونس، باعتبارها بلد حضارة متجذّرة في التاريخ، وضعت لنفسها دستوراً منذ قرطاج وبقيت ملتقى تبادل وإبداع. فتونس حسب الأستاذ الحبيب قزة، باعتبارها عاصمة الإسلام المغاربي لم تسقط البتّة في التطرّف، مذكّراً بأنّ عهد الأمان الصادر سنة 1857 قد أدّى إلى ظهور أول دستور في العالم العربي سنة 1861[2]. أمّا المعاينة الثانية، فهي اختراق اتجاه حداثي حقيقي التاريخ التونسي برمّته، كانت تعبيراته مختلفة متنوّعة، فمن وجهة نظر الأستاذ الحبيب قيزة أنّ من بين مظاهر الحداثة التونسيّة الأكثر رمزيّة حدث لقاء محمد علي الحامي بالطاهر الحداد، حيث كان تلاقي نقابي ملتزم مع مفكر عضوي نقطة رئيسة انطلق منها الاتّجاه الحداثي التونسي في صياغته المعاصرة، وقد تركّز أساساً على النضال النقابي من أجل حرّيّة العمّال التونسيّين، وعلى استقلال البلاد وتحرير المرأة.
وأكّد الأستاذ قيزة في تصديره للكتاب أنّ تاريخ تونس الحديثة أيّد هذا التحالف من أجل تحقيق مشروع مجتمعي جديد تشكّل أوّلا مع ظهور الحزب الحرّ الدستوري الجديد سنة 1934، ثم من خلال مؤتمر الحزب في صفاقس سنة 1956، وهو المؤتمر الذي جسّم التحالف بين بورقيبة والحبيب عاشور؛ أي بين السياسي المثقّف والنقابي، حيث كان هذا المؤتمر لحظة تاريخيّة سنحت للتيّار الحداثي، ليضع أسس دولة تونسيّة جديدة متينة ومجتمع تونسي جديد حداثيّ حقّا ينظر إلى المستقبل.[3]
لذا، فإنّ فكرة تجديد المشروع الحداثي التونسي وإعادة الروح إليه جاءت بناء على معاينة بداية تقهقر المشروع الحداثي التونسي منذ السبعينيات، وذلك من خلال رفض الخيار الديمقراطي وإعلان بورقيبة رئيسا مدى الحياة سنة 1975. واستمر التقهقر مع نظام زين العابدين بن علي الذي دعم الخيار السلطوي من خلال وضع يده على جميع موارد البلاد، وأصبحت الرقابة والفساد وتفكيك المؤسّسات أسلوب نظام تعطّلت أفكاره وضاع مساره، لأنّه لا تتوفر له أيّة نظرة مستقبليّة، ولا تلعب فيه التربية وظيفتها، باعتبارها مصعدا اجتماعيّا وتأهيلا حقيقيّا للمواطنة.[4]
بدأ العمل في هذا المشروع الاستشرافي في يناير 2009، حيث تمّ الاشتغال على الجزء الاسترجاعي، وبوصول سنة 2010 تمّ تقديم الجزء الاستشرافي الذي داهمته "الثورة" التونسيّة التي غيرت السياق العام للعمل، لكن الحدث حسب الأستاذ أحمد ونيس في مقدمته للكتاب لم يؤثّر في روح المشروع، بل اختبر وجاهة المبادئ التي وضعت وأكّدها: وجود المأزق والشعور بالخيبة وانعدام المنظور.
لقد تحكّمت ثلاث مراحل تاريخية في هذا العمل الاستشرافي:
·المرحلة الأولى: هاجس التحديث وروح الإصلاح الراسخين في المجتمع ترسّخا عميقا واللذين حظيا بمساندة من النخبة التونسيّة منذ منتصف القرن التاسع عشر. فقد تحقّق التحديث في تلك الفترة بفعل: تحرير العبيد (1846)، وعهد الأمان (1857)، وأوّل دستور تونس (1861)، وتأسيس المعهد الصادقي (1875).
·المرحلة الثانية: ظهور روح التحديث والإصلاح في عشريّات الاستقلال الأولى (1956)، ومنذ ذلك الوقت أصبحت تونس في مقدّمة البلدان التي تدعى في "طريق النمو" لأجل نظامها التربوي وتحريرها للمرأة ومراقبة الولادات وسياسة التخطيط والنمو الشاملين، والأهمّيّة الموكولة إلى المعرفة والتكنولوجيا وروح الانفتاح والتسامح.
·المرحلة الثالثة: تميّزت بتقهقر المشروع الحداثي الذي وافق تردّي الثقافة واختلالات التوازن الحالية.[5]
تمحورت كل بحوث هذا العمل الجماعي الاستشرافي حول محورين أساسيّين ارتكزت عليهما كلّ دراسات الكتاب، وهما: فيم تتمثّل الحداثة التونسيّة؟، وما هو مستقبل تونس في أفق 2040؟. فبالنسبة إلى المحور الأول اعتبر الأستاذ الطاهر بن قيزة، أنّ العمل لم يقتصر على تحديد ملامح ما سمّاه الباحثون بـ "تقهقر المشروع الحداثي التونسي"، بل جنّد نفسه لإبراز القيم التي يتعيّن عليها أن تقود سعي التونسيّين إلى الحرّيّة والديمقراطيّة، وفي هذا السياق يذكر الأستاذ الطاهر بن قيزة أنّ تونس قد نجحت منذ القرن السابع عشر في الارتقاء إلى حداثة خاصة بها سمحت لها أن تمنع التداخل بين الديني والسياسي[6]. فلإدراك معقوليّة السمات المميّزة للمشروع الحداثي التونسي كان من الضروري تحديده، باعتباره امتداداً لسيرورة تكوين الحداثات الرائدة التاريخيّة، مع التمييز في ذلك بين النموذج المثالي، وهو نموذج بناه الباحثون، وتنوّع المؤسّساتيّة السوسيو تاريخيّة الخاصة بهذا النموذج المثالي المميّز. وبهذا المعنى يركّز الطاهر بن قيزة على تبنّي التونسيّين لما يمكن اعتباره نموذجا مثاليّا للحداثة؛ أي مبدأ الوحدة الذي تمّ تطبيقه على الإدارة والسلطة القضائيّة والتعليم والاقتصاد، وقد يسّر ذلك تحقيق إنجازات مهمّة أخرى مميّزة للحداثة بصفة عامة.[7]
كانت الإصلاحات الحداثيّة التي تحقّقت في تونس خلال بداية الاستقلال صادرة عن القمّة، غير أنّ الحبيب بورقيبة الذي كان مهندس هذه الإصلاحات قد اختار منهجا يتميّز عن المنهج الذي توخّاه كمال أتاتورك الذي اختار على حدّ تعبير هشام بن عبد الصمد (أحد الباحثين المشاركين في العمل) "استعمال طريقة خشنة لتعنيف المجتمع عن طريق القانون". فقد كان المنهج البورقيبي يحافظ على التراث الثقافي والروحي العربي - الإسلامي مع تحديثه، ويظهر ذلك بوضوح من خلال خطابه الشهير في أريحا، حيث استخدم عبارة "نحن" (نحن العرب) غير المألوفة في معجمه.[8] فإجمالاً، أظهر التونسي قدرة فائقة على الانفتاح والتكيّف مع قيم الحداثة، وهي القدرة التي تحدّت جميع أشكال النظرة الاجتماعيّة المصاحبة للرؤية الماهويّة Essentialiste التي تثبت الشخصيّة العربيّة الإسلاميّة في صورة موضوعة مسبقا. ومع ذلك وكما يشير عبد المجيد المشرفي (أحد المشاركين في العمل)، فإنّها "مسّت استراتيجيّة التعصير بشكل سريع الميدان الذي كان الدين يستأثر به منذ عهد بعيد، خصوصا حين أقرّ القانون الوضعي عوضا عن الفقه الإسلامي الذي علاوة على تنظيمه لقواعد التعبد كان ينظّم العلاقات الاجتماعيّة".[9]
أمّا المحور الثاني الذي ارتكزت عليه بحوث هذا الكتاب، فهو مستقبل تونس في أفق 2040، حيث طرح الأستاذ الطاهر بن قيزة أنّ تونس يمكنها أن تتطوّر حسب سيناريوهين ممكنين وقابلين للتصوّر: سيناريو "متفائل" مؤسّس على تغيّر يسمح بتحويل تونس إلى مجتمع مؤسّسات ومعرفة ومبدع ومتسامح. وسيناريو "سلبي" مؤسّس على تكريس النزعات التي تدعم ثقافة الانفعال والتبعيّة، حيث تتضخم الفوارق بين الجهات، وتفقد البيئة الطبيعيّة توازنها على المدى الطويل.[10] فالسيناريو المتفائل يستوجب تطوّر تونس الإيجابي من خلال الاندماج في سياق الاقتصاد العالمي، ونجاحها في وضع توازن مجالي يقلّص الفوارق بين جهات الساحل وبقية جهات البلاد. وهذا التطوّر الإيجابي يقتضي مصالحة التونسيين مع تاريخهم بكل ما فيه من تنوّع وتعدّد ورموز ومكتسبات، وليس لكلّ ذلك معنى إلاّ شريطة تدعيم ثقافة المشاريع التي تبرز ثراء تنوّع ماضي تونس التاريخي والثقافي والسياسي. وبفضل اندماج التونسي المبدع مع محيطه المتنوّع مغاربيّا وعربيّا ومتوسّطيّا، يمكن للحداثة التونسيّة أن تتجدد وأن تجد الوسائل الكفيلة لتصبح من جديد مركزا متوسطيّا منفتحا ومبدعا.[11]
فيما يتعلق بالسيناريو السلبي، فإنّ مختلف الدراسات كما جاء في تقديم الأستاذ الطاهر بن قيزة حاولت أن تقدّم صورة عن المشاكل التي يمكن أن تطرح، وذلك بالعمل على تخطّي النظرة التي تعارض بين الحداثة والأصالة والعلمانيّة والتقوى. فحسب هذه النظرة المغلوطة الحداثيّون ملحدون أفسدهم الغرب، والإسلاميّون تقاة يتبعون شرع الله. غير أنّ من بين الأسباب التي تفسّر عودة التديّن في العالم الإسلامي بصورة عامة، وفي تونس بصورة خاصة، تنامي الكبت الجماعي الصادر عن الشعور بالظلم الذي عانى منه العرب منذ أكثر من قرن. بالإضافة إلى ذلك، فالأمّيّة وغياب الثقافة يمثّلان عنصري تراجع يزداد في غيابهما الشرخ المعرفي والتكنولوجي اتساعا.[12] كما يمكن أن يتحقق في تونس سيناريو سلبي يرفض تغير الباراديغم المجتمعي والمعرفي، وذلك في حالة الإبقاء على عدم التوازن بين المناطق والجهات، والمحسوبيّة والفساد مما يعيق المؤسّساتيّة الضروريّة للتطوّر والديمقراطيّة. إنّ الشرخ المعرفي والتكنولوجي سيتأكّد بسبب الأمّيّة وبسبب الفوارق المتنامية بين المناطق الساحليّة والمناطق داخل البلاد. ولكنّ عدم الفصل بين السلطات حسب ذ- قيزة سيساهم في تدعيم الفوارق الجهويّة والاجتماعيّة وبين الرجال والنساء.
يتضمن كتاب "تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي" تسعة محاور؛ فالمحور الأول يتناول فيه عبد القادر الزغل موضوع "النظر في المشروع الحداثي التونسي" من خلال معالجة الديناميات السوسيو تاريخيّة التي أفرزت الحداثة التونسيّة وتمييزها على الحداثات الغربيّة. وتطرّق الطاهر بن قيزة في المحور الثاني إلى "الحداثة التونسيّة: من ماضي البناء إلى مستقبل الإبداع". وعالج عبد المجيد المشرفي في المحور الثالث إشكاليّة "التقييم النقدي للثقافة التونسيّة واستشراف آفاقها".أمّا المحور الرابع، فقد حلّل فيه محمد بن رمضان "التنمية بما هي عمليّة إرساء للمؤسسات". وفي المحور الخامس يفسّر عمر بالهادي "الحركة الحداثيّة والمسألة المجاليّة". أما الثلاثي كريم بن مصطفى، ومصطفى الحداد، وسمير المدّب، فقد عالجوا في المحور السادس "التنمية المستدامة: مقاربة بيئيّة".وكان للعلاقات الدوليّة التونسيّة حضور في الكتاب من خلال تحليل أحمد ونيس في المحور السابع لـ "العلاقات الدوليّة وإشكاليّة الأمن". أمّا المحور الثامن، فكان متعلقا بالإعلام من خلال تطرّق عبد الكريم الحيزاوي لـ "دور وسائل الإعلام في تجديد المشروع الحداثي". وفي المحور التاسع تناول المنجي طرشونة "تحديث نظام العلاقات المهنيّة". وإضافة إلى المحاور، فإنّ الكتاب يتضمن في الأخير ثلاثة ملاحق أنجزها كل من عبد الحميد هنية، وفاطمة بن سليمان، وهشام عبد الصمد تتناول موضوع "الديني والسياسي في المشروع الحداثي التونسي: علاقات الديني بالسياسي".
يمكن القول أخيراً، إنّ الرؤية الاستشرافيّة لتجديد المشروع الحداثي التونسي كما جاء بها كتاب "تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي"، تؤكّد تميّز "الحداثة التونسية" التي ليست نقلا لحداثة مستوردة ومسقطة بطريقة فوقيّة، بل تعبيرا عن تجديد تونسي أصيل لا يعارض بين الزيتونيّين والصادقيّين، ولا بين التقليديّين والحداثيّين، لكنّه يبرز ثراء التراث التونسي، حيث نجد أنّ أولئك الذين اعتبروا من التقليديّين، لأنّهم لا يتقنون إلا لغة واحدة، يمثّلون مع ذلك رموز الحداثة التونسيّة (أبو القاسم الشابي والطاهر حداد)، وبذلك لا يكون الفصل بين السياسي والديني ثمرة علمانيّة يعقوبيّة، بل تمرّس اجتهاد أثمرته تونس منذ عدة قرون قدّم في الأخير مشروعا حداثيا صار المجتمع التونسي يحمله منذ الحرب العالمية الثانية، ويهيكله تحالف عضوي بين النخبة السياسيّة والحركة النقابيّة. وبذلك ساهم هذا التحالف النموذجي في تقديم نموذج حداثي عربي مختلف اختلافا جوهريا عن النموذج الذي طبّقه كمال أتاتورك في تركيا خلال العشرينيات من القرن الماضي.
[1] سعد الدين إبراهيم وآخرون: صور المستقبل العربي، ط1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1982، ص 16
[2] تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي: عمل جماعي، تونس، جمعية نادي محمد علي للثقافة العمالية ومركز محمد علي للبحوث والدراسات والتكوين، دار الجنوب للنشر، 2012، ص 9
[3] المرجع نفسه: ص ص 9-10
[4] تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي: عمل جماعي...، م. س، ص 10
[5] المرجع نفسه، ص ص 14-15
[6] تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي: عمل جماعي...، م.س، ص 23
[7] المرجع نفسه، ص ص 23-24
[8] نفسه، ص 25
[9] تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي: عمل جماعي...، م. س، ص 25
[10] المرجع نفسه، ص 27
[11] نفسه، ص ص 27-28
[12] تونس 2040: مساهمة في تجديد المشروع الحداثي التونسي: عمل جماعي...، م.س، ص ص 30-31