تقديم كتاب محمّد مجتهد الشبستري: "قراءة بشريّة للدين"
فئة : قراءات في كتب
صدرت عن منشورات الجمل بألمانيا الطبعة العربيّة الأولى لكتاب محمّد مجتهد الشيستري: "قراءة بشريّة للدين" (302 ص)، والمؤلِّف من مواليد مدينة النجف سنة 1958، حيث تلقّى تعليمه بها وتتلمذ على أساتذة معروفين، أمثال: محمّد باقر الصدر، ثمّ انتقل إلى إيران، حيث درس بمدينة "قُم"، وذلك منذ الثمانينيات من القرن العشرين، ولم يعد إلى العراق إلاّ سنة 2007. من أهمّ مُؤلَّفاته: "الإسلام المدني"، "سرّ الإعجاز القرآنيّ"، "المرأة : المفاهيم والحقوق".
لقد تضمّن كتابه "قراءة بشريّة للدّين" مقدّمة وثلاثة عشر فصلا، تعرّض فيها لعديد القضايا المهمّة بالنسبة إلى الفكر الدينيّ منها:
- الهرمنيوطيقا الفلسفيّة والنصوص الدينيّة.
- قراءات للتراث الدينيّ في عصر الحداثة.
- معالم القراءة البشريّة للدين.
- الإيمان والمعرفة الدينيّة التاريخيّة.
- الحريّة والأخلاق.
- الدين وسيادة الشعب.
- الإسلام والديمقراطيّة.
- الفتاوي الدينيّة وفقدان القناعة العقلانيّة.
- السياسة والتعبّد.
لقد بيّن المؤلّف منذ المقدّمة أنّ المقصود بالقراءة البشريّة للدين هو: «أن ننظر للدين بعيون إنسانيّة وبشريّة في حركة الإنسان نحو الله. فبِما أنّنا بشر، فعندما نقرأ الدين برؤية بشريّة، فإنّ ذلك يُتيح لنا فهمًا أفضل للدين من موقع الوضوح في الرؤية» (ص:5). وقد توسّع الشيستري في بيان المراد بهذه القراءة البشريّة للدين في الفصل الثالث من كتابه، وهو عبارة عن حوار أُجْرِيَ مع المؤلّف بمناسبة صدور كتابه "نقد القراءة الرسميّة للدين".
وجليّ أنّ القراءة التي يدعو إليها الشيستري مختلفة تماما عن قراءات أخرى سائدة من نحو ما يسمّيه بـ"القراءة الفقهيّة ـ الحكوميّة"، وأساسها توظيف الأحكام المستخدمة في العبادات، (مثل: الحلال والحرام والمباح والمحظور والصحيح والباطل) في مجال آخر مغاير لبيان وجوه الصلة بين الثالوث: الإسلام والسياسة والحكومة، وخلص إلى القول: «إنّنا في العصر الحاضر لا يمكننا التحدّث بلغة التكليف في باب السياسة والحكومة؛ فالمجتمعات الإسلاميّة قد دخلت عصر الحداثة بالفعل، سواء أرادت أم لم ترد، وأنّ السياسة والحكومة في عصر الحداثة يرتبطان بالعلم والفلسفة وانتخاب الإنسان. ومن هذه الجهة، فإنّ جميع المجتمعات الإسلاميّة، ومنها مجتمعنا الحالي لا يمكنها أن تتحرّك في حقل السياسة والحكومة بمنطق التكليف الشرعيّ». (ص:70)
وتقتضي القراءة البشرية للدين توفّر عدّة خيارات أمام المسلم المعاصر، تستمدّ مرجعياتها من الدين ومن غير الدين. ومن تلك الخيارات يؤسّس نُظمه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة؛ فحقّ الانتخاب مثلا في المجال السياسي، يؤسّس لما سمّاه المؤلّف بـ«القناعة العقلانيّة والباطنيّة للإسلام» (ص:73)، فضلا عن أنّ ذلك الحقّ يتطلّب القبول بحقّ الاختلاف في الرأي وبثقافة الحوار وبتحكّم الإنسان في قدره ومصيره. وهكذا دعا المؤلّف إلى الانتقال من "منطق التكليف" (بمعناه الشرعيّ) إلى "منطق الحق"، ومن ثمّ فإنّ القوانين الاجتماعيّة ينبغي أن تحترم مقالة "حقوق الإنسان" من ناحية، وأنّ تزيل كلّ الموانع الدينيّة التي تحول دون ممارسة تلك الحقوق، ومن أبرز تلك الموانع حسب المؤلّف هي فتاوى القدماء التي ينبغي العدول عنها، إذ الوفاء الحقيقي الإسلام هو القبول بحقوق الإنسان واعتمادها أساسا مكينا في النظام الاجتماعي.
إنّ من شروط تحقّق القراءة البشريّة للدين هو تجاوز ما يُسمّى بـ"القراءة الأرثوذكسيّة للدين"، وهي قراءة مارستها المجتمعات الإسلاميّة في عصور ما قبل عصر الحداثة، واستندت في قراءتها تلك إلى التراث الفلسفيّ اليونانيّ (في عدّة علوم إسلاميّة مثل علم الكلام والفقه). ويشدّد المؤلّف على أنّ التعويل على الفلسفة الظاهراتيّة وعلم اللسانيات، يكشف عن تاريخيّة المعاملات والسياسات التي عرفها المجتمع الإسلاميّ قديما.
والناظر في الفصل الذي خصّصه الشيستري للعلاقة بين الهرمنيوطيقا الفلسفيّة والنصوص الدينيّة يقف على تحليله المعمّق للآليات التي يُتوصّل بها إلى "فهم النص الدينيّ"، وفي طليعة تلك الآليات الهرمنيوطيقا الفلسفيّة التي نظّر لها مفكّرون وفلاسفة أفذاذ، مثل: "دلتاي" و"هيدغير" و"غادامير" و"هيرش" و"ريكور". وأساس هذه الهرمنيوطيقا الفلسفيّة أنّها تتجاوز مختلف تفاسير وتأويلات "الكتاب المقدّس" (la Bible) التي أنتجها القائمون على الكنيسة على اختلاف نزعاتهم وعلماء المسيحيّة الغربيون. والقصد من ذلك التجاوز هو الخلوص إلى معان جديدة للنصّ الديني ينتجها قارئ ذلك النص بما يحمله من ثقافة ومعرفة وشواغل وبما يخضع له من ضغوط التاريخ وإكراهاته. وهكذا، «فإنّ المعنى يمثّل حقيقة أوسع من مقصود المؤلّف، لأنّ "الآفاق التاريخيّة" لأفراد البشر متفاوتة، بمعنى إنّ كلّ شخص يعيش تجربة خاصة عن ذاته وعن العالم تختلف مع تجارب الآخرين. ومن جهة أخرى، فإنّ فهم النص إنّما يتحقّق مع "تلاقي الأفق التاريخيّ للفهم" مع الأفق التاريخيّ لظهور النصّ وذلك يسهم بدوره في تباين المعاني، وفي ذات الوقت يفتح الطريق أمام نقد هذه المعاني المتفاوتة». (ص:15)
وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ الهرمنيوطيقا الفلسفيّة قادرة على تقديم فهم عقلانيّ للكتاب والسُنَّة يُمكن أن يستفيد منه أهل الاجتهاد والعلماء المسلمون؛ ومن شأن ذلك أن يسدّ الباب أمام انتشار الفتاوى الدينيّة غير المعقولة. فالقراءة المعاصرة للنصّ الديني لا يمكن أن تُنجز إلاّ في إطار وجود نظريّة فلسفيّة هرمنيوطيقيّة تؤمن بتعدّد معاني النصّ الواحد، وما يترتّب على ذلك من تعدّد إمكانات القراءات واختلافها. ففي المسيحيّة مثلا، ظهرت ثلاث قراءات للكتاب المقدّس نجمت عنها ثلاثة أنساق في علم اللاّهوت المسيحيّ، هي: اللاهوت التاريخيّ واللاهوت الوجوديّ ولاهوت التحرير. وينبّه الشيستري في الوقت نفسه إلى أنّ تعدّد القراءات لا يعني التحرّر من كلّ الضوابط والمعايير الموظّفة في عمليّة كلّ قراءة، بل لا بدّ من الالتزام بمقتضيات الهرمنيوطيقيّة وأسسها الفلسفيّة، مثل معقوليّة القراءة وقبول كلّ قراءة مبدأ النقد والمراجعة. فلا مجال إذن للكلام على قراءة دوغمائيّة للنصّ الدينيّ ترفض مقالة "التعدّديّة المعرفيّة" داخل دين من الأديان، بل إنّ هذه التعدديّة هي بمثابة "طريق نجاة" للأديان المعاصرة.
وبغضّ النظر عن الانتقادات التي يوجّهها المعترضون على استخدام الهرمنيوطيقا الفلسفيّة في مجال الأديان، وخاصة منهم الوضعانيّون المنطقيّون، فإنّ الذي ثبت لدى المؤلّف هو قدرة الهرمنيوطيقا الدينيّة الجديدة على بيان «أنّ العقائد والأحكام الجزميّة الموجودة في التراث الدينيّ بشكل عامّ هي تاريخيّة وزمانيّة بذاتها وتمثّل حجابا سميكا يغطّي وجه "الخطاب الديني" وينبغي إماطة اللثام عن هذه الحقيقة، ليعيش المؤمنون في أجواء نورها وحركتها، وفي الواقع فإنّ هذه الحقيقة يجب العمل دائما على "تجديدها" و"ترميمها" كيما تبقى حيّة وفاعلة في واقع الإنسان والمجتمع البشري، ويجب استخدام هذه الآليات والوسائل في غربلة عناصر التراث وتنقية عمليّة "الوحي الجديد"». (ص:35)
إنّ ما عرضنا له في هذا التقديم من عيّنات عن مضمون كتاب "قراءة بشريّة للدين"، يؤكّد عندنا قيمته المعرفيّة وجدّة مقاربته لقضايا الفكر الديني، سواء في نصوصه المقدّسة أو في مختلف علومه. وفضلا عن ذلك اتسمت مواقف المؤلّف من القضايا التي يطرحها في هذا الكتاب بكثير من الرصانة العلميّة البعيدة عن موقفيْ التمجيد أو التحامل، بل كان يحاور تلك القضايا بروح علميّة عالية من دون أن يؤثّر ذلك على التزامه الدينيّ.